الابتداع ؛ كتشبيه النجوم في الظلام ببياض الشّيب في سواد الشباب ، وبالأنوار مؤتلفة بين النبات الشديد الخضرة. فالتأويل فيه : أنه تخيّل ما ليس بمتلون متلوّنا.
ويحتمل وجها آخر ، وهو : أن يتأوّل بأنه أراد معنى قولهم : إن سواد الظلام يزيد النجوم حسنا. فإنه لما كان وقوف العاقل على عوار الباطل يزيد الحقّ نبلا في نفسه ، وحسنا في مرآة عقله ، جعل هذا الأصل من المعقول مثالا للمشاهد المبصر هناك ، غير أنه لا يخرج ـ مع هذا ـ عن كونه على خلاف الظاهر ، لأن الظاهر أن يمثّل المعقول في ذلك بالمحسوس ، كما فعل البحتريّ في قوله :
وقد زادها إفراط حسن : جوارها |
|
خلائق أصفار من المجد خيّب (١) |
وحسن دراريّ الكواكب أن ترى |
|
طوالع في داج من الليل غيهب |
ومن التشبيه التخييليّ : قول أبي طالب الرّقّيّ :
ولقد ذكرتك والظلام كأنه |
|
يوم النّوى وفؤاد من لم يعشق (٢) |
فإنه لما كانت أيام المكاره توصف بالسواد توسّعا ؛ فيقال : اسودّ النهار في عينيّ ، وأظلمت الدنيا عليّ ، وكان الغزل يدّعي القسوة على من لم يعشق ، والقلب القاسي يوصف بالسواد توسّعا ـ تخيّل يوم النّوى وفؤاد من لم يعشق شيئين لهما سواد ، وجعلهما أعرف به ، وأشهر من الظلام ؛ فشبّهه بهما. وكذلك قول ابن بابك :
وأرض كأخلاق الكرام قطعتها |
|
وقد كحل الليل السّماك فأبصرا (٣) |
فإن الأخلاق لما كانت توصف بالسّعة والضّيق تشبيها لها بالأماكن الواسعة والضيّقة : تخيّل أخلاق الكرام شيئا له سعة ، وجعل أصلا فيها ، فشبّه الأرض الواسعة بها. وكذا قول التّنوخي : [علي بن محمد]
فانهض بنار إلى فحم كأنهما |
|
في العين ظلم ، وإنصاف قد اتّفقا (٤) |
فإنه لما كان يقال في الحق : إنه منير واضح ؛ فيستعار له صفة الأجسام المنيرة ، وفي الظلم خلاف ذلك ـ تخيّلهما شيئين لهما إنارة وإظلام ، فشبّه النار والفحم بهما مجتمعين.
__________________
(١) البيتان من الطويل ، وهما في أسرار البلاغة ص ٢٠٠.
(٢) البيت من الطويل ، وهو في أسرار البلاغة ص ١٩٨ ، ١٩٩ ، والمفتاح ص ١٤٦.
(٣) البيت من الطويل ، وهو في أسرار البلاغة ص ٢٠١.
(٤) البيت من البسيط ، وهو في أسرار البلاغة ص ٢٠٠ ، ٢٠١.