يقول اليعقوبي : ـ إنّه لما انقضى
كتابنا الأوّل اختصرنا فيه ابتداء كون الدنيا وأخبار الأوائل من الأمم المتقدّمة
من العلماء والرواة وأصحاب السير والأخبار والتأريخات ، ولم نذهب إلى التفرّد
بكتاب نصنِّفه ونتكلّف منه ما قد سبقنا إليه غيرنا ، لكن قد ذهبنا إلى جمع المقالات
والروايات؛ لأنّنا قد وجدناهم قد اختلفوا في أحاديثهم وأخبارهم ... وزاد بعضهم
ونقّص بعض ، فأردنا أن نجمع ما انتهى إلينا مما جاء به كلّ امرئ منهم ـ .
القسم الثاني : التاريخ النقدي
لم تتوقّف البحوث التاريخية عند الأفق
الأوّل من التدوين والنقل؛ بل تطورت وظهرت اتجاهات لا تكتفي بمجرّد سرد الأحداث؛
بل تخطّت ذلك إلى تمحيص الأخبار وتعليل الوقائع ، واستبدال التسلسل الزمني
بالتسلسل السببـي والعلّي ، وهذا ما يُعبّر عنه بالتاريخ النقدي أو التاريخ العلمي.
ولا يخفى أنّ هذا الأخير يعتمد أساساً
على التاريخ النقلي ، فهو مادّته الأساسية ومستنده فيما يفرزه من نتائج.
وهذا النزوع إلى التاريخ النقدي والعلمي
نجد ملامحه بدأت تتضح مع المسعودي ، حيث نراه طرق باب التنظير في هذا المجال ،
وسعى إلى تقديم رؤية حضارية للتاريخ ، وأبرز في عرضه للأحداث التاريخية الأسباب
والعلل المباشرة والعامة .
كما نلمح هذه النزعة عند ابن خلدون في
تعريفه للتاريخ : ـ في ظاهره لا يزيد على إخبار عن الأيام والدول والسوابق من
القرون الأُوَل ، تنمو فيها الأقوال وتضرب فيها الأمثال وتعرف بها الأندية إذا
غصّها الاحتفال وتؤدّي لنا شأن الخليقة كيف تتقلّب بها الأحوال ، وفي باطنه نَظَرٌ
وتحقيق وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق ، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق ، فهو
لذلك أصيل في الحكمة ، عريق وجدير بأن يعدّ في علومها وخليق ـ .
__________________