لا يكتفي الباحث في هذا القسم من الدراسات التاريخية بتفسير الأحداث وتعليلها في نظرة تجزيئية للماضي؛ بل يسعى للإحاطة بصيرورة التاريخ وحلقاته المتصاعدة واتجاهاته المتحرّكة ، فيقف على الأسس العامة التي تحكم تطوّر المجتمعات والقوانين المنظّمة للتحوّلات والتغيّرات في حياة الشعوب والحضارات في الماضي والحاضر والمستقبل.
كما يهتمّ بالاتجاه العام الذي تتجه نحوه الحياة الإنسانية ، ويحاول استكشاف الآفاق النهائية لمسيرة الإنسانية ومنتهاها.
واختلف الدارسون في تحديد مؤسّس هذا النوع من الدراسات ، فالباحثون الغربيّون وعلى خلفية المركزية الأوربية ينسبون فلسفة التاريخ إلى المؤرّخ الإيطالي فيكو ( ١٦٦٨ ـ ١٧٤٤ م ) الذي قسّم التاريخ البشري إلى ثلاثة أدوار : ( الدور الإلهي ، الدور البطولي ، الدور البشري ).
ولكن الباحثين العرب والمسلمين يرون أن الفضل يعود إلى ابن خلدون في استكشاف وتأسيس فلسفة التاريخ ، فهو أوّل من قال بالأدوار التاريخية لحركة المجتمع في نظريته الأطوار الثلاثة : ( البداوة ، العمران ، الاضمحلال ).
وهناك من الدّارسين من يرى أنّ بذور التفكير الفلسفي التاريخي أبعد غوراً من ذلك ، فيثمّن جهود المسعودي قائلاً : ـ ونذهب نحن أبعد من ذلك فنعتبر المسعودي من روّاد فلسفة التاريخ ، ولا مبالغة في ذلك ألبتة ، إذ نجد في مصنّفه ما يشي بالرؤية البيولوجية للتاريخ ، حيث يتحدث عن نشأة الدول وشبابها وهرمها ، وعلل جميع ذلك ، ودعوته إلى ضرورة معرفة المؤرّخ كيف تدخل الآفات على الملك وتزول الدول وتبيد الشرائع والملل والآفات الخارجية المفترضة لذلك ، لقد وقف بحقّ على ما أسماه فلاسفة التاريخ المحدثون بـ ـ الظروف الموضوعية ـ التي هي نتاج عوامل داخلية وأخرى خارجية تتضافر معها لإحداث حركية التاريخ وصيرورته ، هذا فضلاً عن تحوّل هذه الصيرورة لسائر الظواهر المادية والروحية التي توّحدت في خيال المسعودي وتأطّرت في ذهنه تأطيراً عقلانياً ـ (١).
__________________
١ ـ محمود إسماعيل ، إشكالية تفسير التاريخ عند المؤرخين المسلمين الأوائل ، مجلة عالم الفكر ، العدد ٢٩ ، أبريل / ٢٠٠١ م ، المجلس الوطني للثقافة في الكويت ، ص ٤٦.