العقائد الاسلامية - ج ٢

مركز المصطفى للدراسات الإسلامية

العقائد الاسلامية - ج ٢

المؤلف:

مركز المصطفى للدراسات الإسلامية


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز المصطفى للدراسات الإسلامية
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-119-2 /
ISBN الدورة:
964-319-117-6

الصفحات: ٤٣٧

ـ الاِقتصاد للشيخ الطوسي ص ٣٩

ولا يجوز عليه تعالى الرؤية بالبصر ، لاَن من شرط صحة الرؤية أن يكون المرئي نفسه أو محله مقابلاً للرائي بحاسة ، أو في حكم المقابل ، والمقابلة يستحيل عليه لاَنه ليس بجسم ، ومقابلة محله أيضاً يستحيل عليه لاَنه ليس بعرض على ما بيناه.

ولاَنه لو كان مرئياً لرأيناه مع صحة حواسنا وارتفاع الموانع المعقولة ووجوده ، لاَن المرئي إذا وجد وارتفعت الموانع المعقولة وجب أن نراه ، وإنما لا نراه إما لبعد مفرط أو قرب مفرط أو لحائل بيننا وبينه أو للطافة أو صغر ، وكل ذلك لا يجوز عليه تعالى لاَنه من صفات الاَجسام والجواهر.

وبمثل ذلك بعينه يعلم أنه لا يدرك بشيء من الحواس الباقية ، فلا وجه للتطويل بذكره ، والحاسة السادسة غير معقولة ، ولو كانت معقولة لكان حكمها حكم هذه الحواس مع اختلافها واتفاقها في هذا الحكم.

وأيضاً قوله تعالى : لا تدركه الاَبصار وهو يدرك الاَبصار ، دليل على استحالة رؤيته ، لاَنه تمدح بنفي الاِدراك عن نفسه ، وكل تمدح تعلق بنفي فإثباته لا يكون إلا نقصاً ، كقوله : لا تأخذه سنة ولا نوم ، وقوله تعالى : ما اتخذ الله من ولد ، وقوله تعالى : ولم تكن له صاحبة ولا ولداً ، وقوله تعالى : لا يظلم الناس شيئاً ، وغير ذلك مما تعلق المدح بالنفي ، فكان إثباته نقصاً. والآية فيها مدح بلا خلاف وإن اختلفوا في جهة المدح ، والاِدراك في الآية بمعنى الرؤية ، لاَنه نفى عن نفسه ما أثبته لنفسه بقوله : وهو يدرك الاَبصار.

وقوله : وجوه يومئذ ناضرة ، إلى ربها ناظرة ، لا يعارض هذه الآية ، لاَن النظر المذكور في الآية معناه الاِنتظار ، فكأنه قال : لثواب ربها منتظرة.

ومثله قوله : وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة ، أي منتظرة. وليس النظر بمعنى الرؤية في شيء من كلام العرب ، ألا ترى أنهم يقولون : نظرت إلى الهلال فلم أره ،

٣٠١

فيثبتون النظر وينفون الرؤية ، ولو كان معناه الرؤية لكان ذلك مناقضة ، ويقولون : ما زلت أنظر إليه حتى رأيته ، ولا يقولون : ما زلت أراه حتى رأيته. ولو سلم أن النظر بمعنى الرؤية لجاز أن يكون معناه : إلى ثواب ربها رائية ، وثواب الله يصح رؤيته.

ويحتمل أن تكون إلى في الآية واحد الآلاء ، لاَنه يقال إلى وإلي وألي ، وإنما لم تنون لمكان الاِضافة ، فتكون إلى في الآية إسماً لا حرفاً ، فتسقط بذلك شبهة المخالف.

وقول موسى عليه‌السلام : رب أرني أنظر اليك ، يحتمل أن يكون سأل الرؤية لقومه على ما حكاه الله عز وجل في قوله : فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة ، فسأل الله تعالى ذلك ليرد الجواب من جهته فيكون أبلغ.

ويحتمل أن يكون سأل العلم الضروري الذي تزول معه الخواطر والشبهات ، أو إظهار آية من آيات الساعة التي يحصل عندها العلم الذي لا شك فيه ، وللاَنبياء أن يسألوا تخفيف البلوى في التكليف ، كما سأل ابراهيم عليه‌السلامفقال : رب أرني كيف تحيي الموتى ، قال أو لم تؤمن ، قال بلى ولكن ليطمئن قلبي ، وكل ذلك لا ينافي الآية التي ذكرناها. انتهى. ويؤيد الوجه الاَخير الذى ذكره الشيخ الطوسي رحمه‌الله تركيب الآية : أرني أنظر اليك ، ولم يقل أنظرك ، فهو يريد أن يريه شيئاً يجعله كأنه يشاهد اللّه تعالى.

ـ تفسير التبيان ج ٤ ص ٢٢٣

قوله تعالى : لا تدركه الاَبصار وهو يدرك الاَبصار وهو اللطيف الخبير ـ ١٠٣

في هذه الآية دلالة واضحة على أنه تعالى لا يرى بالاَبصار ، لاَنه تمدح بنفي الاِدراك عن نفسه ، وكلما كان نفيه مدحاً غير متفضل به فإثباته لا يكون إلا نقصاً ، والنقص لا يليق به تعالى. فإذا ثبت أنه لا يجوز إدراكه ولا رؤيته.

وهذه الجملة تحتاج إلى بيان أشياء : أحدها ، أنه تعالى تمدح بالآية. والثاني أن الاِدراك هو الرؤية. والثالث أن كلما كان نفيه مدحاً لا يكون إثباته إلا نقصاً.

٣٠٢

والذي يدل على تمدحه شيئان :

أحدهما ، إجماع الاَمة فإنه لا خلاف بينهم في أنه تعالى تمدح بهذه الآية ، فقولنا تمدح بنفي الاِدراك عن نفسه لاستحالته عليه ، وقال المخالف تمدح لاَنه قادر على منع الاَبصار من رؤيته. فالاِجماع حاصل على أن فيها مدحة.

والثاني ، أن جميع الاَوصاف التي وصف بها نفسه قبل هذه الآية وبعدها مدحة ، فلا يجوز أن يتخلل ذلك ما ليس بمدحة. والذي يدل على أن الاِدراك يفيد الرؤية أن أهل اللغة لا يفرقون بين قولهم : أدركت ببصري شخصاً ، وآنست ، وأحسست ببصري. وأنه يراد بذلك أجمع الرؤية. فلو جاز الخلاف في الاِدراك لجاز الخلاف فيما عداه من الاَقسام.

فأما الاِدراك في اللغة ، فقد يكون بمعنى اللحوق كقولهم : أدرك قتادة الحسن. ويكون بمعنى النضج ، كقولهم أدركت الثمرة ، وأدركت القدر ، وإدرك الغلام إذا بلغ حال الرجال.

وأيضاً فإن الاِدراك إذا أضيف إلى واحد من الحواس أفاد ما تلك الحاسة آلة فيه. ألا ترى أنهم يقولون : أدركته بأذني يريدون سمعته ، وأدركته بأنفي يريدون شممته ، وأدركته بفمي يريدون ذقته. وكذلك إذا قالوا : أدركته ببصري يريدون رأيته. وأما قولهم أدركت حرارة الميل ببصري فغير معروف ولا مسموع ، ومع هذا ليس بمطلق بل هو مقيد ، لاَن قولهم حرارة الميل تقييد لاَن الحرارة تدرك بكل محل فيه حياة ، ولو قال أدركت الميل ببصري لما استفيد به إلا الرؤية.

وقولهم إن الاِدراك هو الاِحاطة باطل ، لاَنه لو كان كذلك لقالوا : أدرك الجراب بالدقيق وأدرك الحب بالماء وأدرك السور بالمدينة لاِحاطة جميع ذلك بما فيه ، والاَمر بخلاف ذلك. وقوله : حتى إذا أدركه الغرق ، فليس المراد به الاِحاطة بل المعنى حتى إذا لحقه الغرق ، كما يقولون أدركت فلاناً إذا لحقته ، ومثله : فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون ، أي لملحوقون.

٣٠٣

والذي يدل على أن المدح إذا كان متعلقاً بنفي فإثباته لا يكون إلا نقصاً ، قوله : لا تأخذه سنة ولا نوم ، وقوله : ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إلَه ، لما كان مدحاً متعلقاً بنفي فلو ثبت في حال لكان نقصاً.

فإن قيل : كيف يتمدح بنفي الرؤية ومع هذا يشاركه فيها ما ليس بممدوح من المعدومات والضمائر.

قلنا : إنما كان ذلك مدحاً بشرط كونه مدركاً للاَبصار ، وبذلك تميز من جميع الموجودات ، لاَنه ليس في الموجودات ما يدرك ولا يدرك.

فإن قيل : ولم إذا كان يدرك ولا يدرك يجب أن يكون ممدوحاً.

قلنا : قد ثبت أن الآية مدحة بما دللنا عليه ، ولابد فيها من وجه مدحة فلا يخلو من أحد وجهين : إما أن يكون وجه المدحة أنه يستحيل رؤيته مع كونه رائياً ، أو ما قالوه من أنه يقدر على منع الاَبصار من رؤيته بأن لا يفعل فيها الاِدراك ، وما قالوه باطل لقيام الدلالة على أن الاِدراك ليس بمعنى الاِحاطة ، فإذا بطل ذلك لم يبق إلا ما قلناه ، وإلا خرجت الآية من كونها مدحة. وقد قيل : إن وجه المدحة في ذلك أن من حق المرئي أن يكون مقابلاً أو في حكم المقابل ، وذلك يدل على مدحته ، وهذا دليل من أصل المسألة لا يمكن أن يكون جواباً في الآية.

فإن قيل : إنه تعالى نفى أن تكون الاَبصار تدركه فمن أين أن المبصرين لا يدركونه؟

قلنا : الاَبصار لا تدرك شيئاً البتة فلا اختصاص لها به دون غيره ، وأيضاً فإن العادة أن يضاف الاِدراك إلى الاَبصار ويراد به ذووا الاَبصار ، كما يقولون : بطشت يدي وسمعت أذني وتكلم لساني ، ويراد به أجمع ذووا الجارحة.

فإن قيل : إنه تعالى نفى أن جميع المبصرين لا يدركونه ، فمن أين أن البعض لا يدركونه وهم المؤمنون؟

قلنا : إذا كان تمدحه في استحالة الرؤية عليه لما قدمناه ، فلا اختصاص لذلك براء دون رائي ، ولك أن تستدل بأن تقول : هو تعالى نفى الاِدراك عن نفسه نفياً عاماً كما

٣٠٤

أنه أثبت لنفسه ذلك عاماً ، فلو جاز أن يخص ذلك بوقت دون وقت لجاز مثله في كونه مدركاً. وإذا ثبت نفي إدراكه على كل حال ، فكل من قال بذلك قال الرؤية مستحيلة عليه. ومن أجاز الرؤية لم ينفها نفياً عاماً فالقول بنفيها عموماً ، مع جواز الرؤية عليه قول خارج عن الاِجماع.

فإن عورضت هذه الآية بقوله : وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ، فإنا نبين أنه لا تعارض بينهما وأنه ليس في هذه الآية مايدل على جواز الرؤية إذا انتهينا إليها إنشاء الله.

ـ تفسير التبيان ج ١ ص ٢٢٨

وقال قوم : إن النظر إذا كان معه إلى لا يحتمل إلا الرؤية. وحملوا قوله : إلى ربها ناظرة على ذلك وقالوا لا يحتمل التأمل. وذلك غلط لاَنهم يقولون : إنما أنظر إلى الله ثم إليك بمعنى أتوقع فضل الله ثم فضلك. وقال الطريح بن إسماعيل :

وإذا نظرت إليك من ملك

والبحر دونك جرتني نعماء

وقال جميل بن معمر :

إني إليك لما وعدت لناظر

نظر الفقير إلى الغني الموسر

وقال آخر :

وجوه يوم بدر ناظرات

إلى الرحمان تأتي بالفلاح

وأتوا بـ ( إلى ) على معنى نظر الاِنتظار.

والصحيح أن النظر لا يفيد الرؤية وإنما حقيقته تحديق الجارحة الصحيحة نحو المرئي طلباً لرؤيته ، ولو أفاد الرؤية لما جعل غاية لنفسه ، ألا تراهم يقولون : ما زلت أنظر إليه ( حتى رأيته ) ولا يقولون ما زلت أراه حتى رأيته ، ولاَنهم يثبتون النظر وينفون الرؤية فيقولون : نظرت إليه فلم أره ، ولا يقولون رأيته فلم أره.

ـ تفسير التبيان ج ١٠ ص ١٩٧

ثم قسم تعالى أهل الآخرة فقال ( وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ) أي مشرقة مضيئة ، فالنضرة الصورة الحسنة التي تملاَ القلب سروراً عند الرؤية ، نضر وجهه

٣٠٥

ينضر نضرة ونضارة فهو ناضر. والنضرة مثل البهجة والطلاقة ، وضده العبوس والبسور ، فوجوه المؤمنين المستحقين للثواب بهذه الصفة بما جعل الله عليها من النور علامة للخلق ، والملائكة على أنهم مؤمنون مستحقون الثواب.

وقوله : إلى ربها ناظرة ، معناه منتظرة نعمة ربها وثوابه أن يصل إليهم.

وقيل ( ناضرة ) أي مشرفة ( إلى ) ثواب ربها ( ناظرة ) وليس في ذلك تنغيص ، لاَن الاِنتظار إنما يكون فيه تنغيص إذا كان لا يوثق بوصوله إلى المنتظر أو هو محتاج إليه في الحال ، والمؤمنون بخلاف ذلك ، لاَنهم في الحال مستغنون منعمون ، وهم أيضاً واثقون أنهم يصلون إلى الثواب المنتظر.

والنظر هو تقليب الحدقة الصحية نحو المرئي طلباً للرؤية ، ويكون النظر بمعنى الاِنتظار ، كما قال تعالى ( وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة ، أي منتظرة ، وقال الشاعر :

وجوه يوم بدر ناظرات

إلى الرحمن تأتي بالفلاح

أي منتظرة للرحمة التي تنزل عليهم.

وقد يقول القائل : إنما عيني ممدودة إلى الله وإلى فلان ، وأنظر إليه أي أنتظر خيره ونفعه وأؤمل ذلك من جهته ، وقوله : ولا ينظر إليهم يوم القيامة ، معناه لا ينيلهم رحمته.

ويكون النظر بمعنى المقابلة ، ومنه المناظرة في الجدل ، ومنه نظر الرحمة أي قابله بالرحمة ، ويقال : دور بني فلان تتناظر أي تتقابل ، وهو وينظر إلى فلان أي يؤمله وينتظر خيره ، وليس النظر بمعنى الرؤية أصلاً ، بدلالة أنهم يقولون : نظرت إلى الهلال فلم أره ، فلو كان بمعنى الرؤية لكان متناقضاً ، ولاَنهم يجعلون الرؤية غاية للنظر يقولون : ما زلت أنظر إليه حتى رأيته ، ولا يجعل الشيء غاية لنفسه لا يقال : بما زلت أراه حتى رأيته ، ويعلم الناظر ناظراً ضرورة ، ولا يعلم كونه رائياً بل يسأل بعد ذلك هل رأيت أم لا.

٣٠٦

ودخول ( إلى ) في الآية لا يدل على أن المراد بالنظر الرؤية ، ولا تعليقه بالوجوه يدل على ذلك ، لاَنا أنشدنا البيت وفيه تعليق النظر بالوجه وتعديه بحرف ( إلى ) والمراد به الاِنتظار ، وقال جميل بن معمر :

وإذا نظرت إليك من ملك

والبحر دونك جدتني نعما

والمراد به الاِنتظار والتأميل.

وأيضاً ، فإنه في مقابلة قوله في صفة أهل النار : تظن أن يفعل بها فاقرة ، فالمؤمنون يؤمنون بتجديد الكرامة وينتظرون الثواب ، والكفار يظنون الفاقرة ، وكله راجع إلى فعل القلب.

ولو سلمنا أن النظر يعد الرؤية لجاز أن يكون المراد أنها رؤية ثواب ربها ، لاَن الثواب الذي هو أنواع اللذات من المأكول والمشروب والمنكوح تصح رؤيته.

ويجوز أيضاً أن يكون إلى واحد إلاء وفي واحدها لغات ( ألا ) مثل قفا و ( ألي ) مثل معي و ( ألي ) مثل حدي و ( أل ) مثل حسا ، فإذا أضيف إلى غيره سقط التنوين ، ولا يكون ( إلى ) حرفاً في الآية. وكل ذلك يبطل قول من أجاز الرؤية على الله تعالى.

وليس لاَحد أن يقول : إن الوجه الاَخير يخالف الاِجماع ، أعني إجماع المفسرين ، وذلك لاَنا لا نسلم لهم ذلك ، بل قد قال مجاهد وأبو صالح والحسن وسعيد بن جبير والضحاك : إن المراد نظر الثواب. وروي مثله عن علي عليه‌السلام.

وقد فرق أهل اللغة بين نظر الغضبان ونظر الراضي ، يقولون : نظر غضبان ، ونظر راض ، ونظر عداوة ونظر مودة ، قال الشاعر :

تخبرني العينان ما الصدر كاتم

ولا حن بالبعضاء والنظر الشزر

والرؤية ليست كذلك فإنهم لا يضيفونها ، فدل على أن النظر غير الرؤية ، والمرئي هو المدرك ، والرؤية هي الاِدراك بالبصر ، والرائي هو المدرك ، ولا تصح الرؤية وهي الاِدراك إلا على الاَجسام أو الجوهر أو الاَلوان. ومن شرط المرئي أن يكون هو أو محله مقابلاً أو في حكم المقابل ، وذلك يستحيل عليه تعالى ، فكيف تجيز الرؤية عليه تعالى!

٣٠٧

أمير المؤمنين عليه‌السلاميدفع الشبهات

ـ كتاب التوحيد للصدوق ص ٢٥٤ ـ ٢٦٩

حدثنا أحمد بن الحسن القطان قال : حدثنا أحمد بن يحيى ، عن بكر بن عبدالله بن حبيب قال : حدثني أحمد بن يعقوب بن مطر قال : حدثنا محمد بن الحسن ابن عبدالعزيز الاَحدب الجند بنيسابور قال : وجدت في كتاب أبي بخطه : حدثنا طلحة بن يزيد ، عن عبيد الله بن عبيد عن أبي معمر السعداني أن رجلاً أتى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلامفقال : يا أمير المؤمنين إني قد شككت في كتاب الله المنزل ، قال له عليه‌السلام : ثكلتك أمك وكيف شككت في كتاب الله المنزل؟

قال : لاَني وجدت الكتاب يكذب بعضه بعضاً فكيف لا أشك فيه.

فقال علي بن أبي طالب عليه‌السلام : إن كتاب الله ليصدق بعضه بعضاً ولا يكذب بعضه بعضاً ، ولكنك لم ترزق عقلاً تنتفع به ، فهات ما شككت فيه من كتاب الله عز وجل.

قال له الرجل : إني وجدت الله يقول : فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا ، وقال أيضاً : نسوا الله فنسيهم ، وقال : وما كان ربك نسياً ، فمرة يخبر أنه ينسى ، ومرة يخبر أنه لا ينسى ، فأنى ذلك يا أمير المؤمنين!

قال : هات ما شككت فيه أيضاً.

قال : وأجد الله يقول : يوم يقوم الروح والملائكة صفاً لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صواباً ، وقال واستنطقوا فقالوا والله ربنا ما كنا مشركين ، وقال : يوم القيمة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضاً ، وقال : إن ذلك لحق تخاصم أهل النار ، وقال : لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد ، وقال : نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون ، فمرة يخبر أنهم يتكلمون ومرة يخبر أنهم لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صواباً ، ومرة يخبر أن الخلق لا ينطقون ويقول عن مقالتهم : والله ربنا ما كنا مشركين : ومرة يخبر أنهم يختصمون ، فأنى ذلك يا أمير المؤمنين ، وكيف لا أشك فيما تسمع .....

٣٠٨

قال : هات ويحك ما شككت فيه.

قال : وأجد الله عز وجل يقول : وجوه يومئذ ناضرة ، إلى ربها ناظرة ، ويقول : لا تدركه الاَبصار وهو يدرك الاَبصار وهو اللطيف الخبير ، ويقول : ولقد رآه نزلة أخرى ، عند سدرة المنتهى ، ويقول : يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولاً ، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علماً ، ومن أدركته الاَبصار فقد أحاط به العلم ، فأنى ذلك يا أمير المؤمنين وكيف لا أشك فيما تسمع؟ ....

فقال عليه‌السلام : وأما قوله عز وجل : وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ، وقوله : لا تدركه الاَبصار وهو يدرك الاَبصار ، وقوله : ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى ، وقوله : يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولاً يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علماً ، فأما قوله : وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظره ، فإن ذلك في موضع ينتهي فيه أولياء الله عز وجل بعدما يفرغ من الحساب إلى نهر يسمى الحيوان فيغتسلون فيه ويشربون منه فتنضر وجوههم إشراقاً فيذهب عنهم كل قذى ووعث ، ثم يؤمرون بدخول الجنة ، فمن هذا المقام ينظرون إلى ربهم كيف يثيبهم ، ومنه يدخلون الجنة ، فذلك قوله عز وجل من تسليم الملائكة عليهم : سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين ، فعند ذلك أيقنوا بدخول الجنة والنظر إلى ما وعدهم ربهم فذلك قوله : إلى ربها ناظرة ، وإنما ( عنى ) بالنظر إليه النظر إلى ثوابه يعني لا تحيط به الاَوهام. وهو يدرك الاَبصار ، يعني يحيط بها وهو اللطيف الخبير ، وذلك مدح امتدح به ربنا نفسه تبارك وتعالى وتقدس علواً كبيرا ، وقد سأل موسى عليه‌السلاموجرى على لسانه من حمد الله عزوجل : رب أرني أنظر إليك ، فكانت مسألته تلك أمراً عظيماً ، فقال الله تبارك وتعالى : لن تراني .. فانظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني ، فأبدى الله سبحان بعض آياته وتجلى ربنا للجبل فتقطع الجبل فصار رميماً وخر موسى صعقاً ، يعني ميتاً ، ثم أحياه الله وبعثه وتاب عليه ، فقال : سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين ، يعني أول مؤمن آمن بك منهم أنه لن يراك.

٣٠٩

وأما قوله : ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى ، يعني محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله كان عند سدرة المنتهى حيث لا يتجاوزها خلق من خلق الله ، وقوله في آخر الآية : ما زاغ البصر وما طغى لقد رأى من آيات ربه الكبرى ، رأى جبرئيل عليه‌السلامفي صورته مرتين هذه المرة ومرة أخرى ، وذلك أن خلق جبرئيل عظيم فهو من الروحانيين الذين لا يدرك خلقهم وصفتهم إلا الله رب العالمين. ورواه الطبرسي في الاِحتجاج ج ١ ص ٣٥٨ ـ ٣٦٢ ورواه المجلسي في بحار الاَنوار ج ٤ ص ٣٢

ـ شرح الاَسماء الحسنى ج ١ ص ١٨٥

( يا من يَرى ولا يُرى )

طال التشاجر بين الاَشاعرة والمعتزلة في مسألة الرؤية فذهب الاَشاعرة إلى أن الله تعالى يرى في الآخرة وينكشف انكشاف البدر المرئي ولكن بلا مقابلة وجهة ومكان ، خلافاً للمعتزلة حيث نفوها ، وللمشبهة والكرامية فإنهم وإن جوزوا رؤيته تعالى ولكن في الجهة والمكان وعلى سبيل المقابلة ، لاعتقادهم جسميته تعالى عما يقول الظالمون علواً كبيرا.

وحرر بعض متأخري الاَشاعرة حل النزاع بأنه لا نزاع للنافين في جواز الاِنكشاف التام العلمي ، ولا للمثبتين في امتناع ارتسام صورة المرئي في العين ، أو اتصال الشعاع الخارج من العين بالمرئي.

وإنما محل النزاع أنا إذا عرفنا الشمس مثلاً بحد أو رسم كان نوعاً من المعرفة ، ثم إذا أبصرناها وغمضنا العين كان نوعاً آخر من المعرفة فوق الاَول ، ثم إذا فتحنا العين حصل نوع آخر من الاِدراك فوق الاَولين ، نسميها الرؤية ولا يتعلق في الدنيا إلا بما هو في جهة ومكان ، فمثل هذه الحالة الاِدراكية هل يصح أن تقع بدون المقابلة والجهة ، وأن تتعلق بذات الله تعالى منزها عن الجهة والمكان أم لا.

واحتج الاَشاعرة بحجة عقلية كلامية لا نطيل الكلام بذكرها ، وأدلة نقلية منها قوله تعالى حكاية عن موسى عليه‌السلام : رب أرني أنظر إليك ....

٣١٠

ومنها ، قوله تعالى لا تدركه الاَبصار وهو يدرك الاَبصار وهو اللطيف الخبير.

ومنها ، هذا الاِسم الشريف الذي هو نظير هذه الآية.

وبالجملة كل الآيات والسنن التنزيهية تدل عليه نصاً وظاهراً ومنطوقاً ومفهوماً ، والحق أن مراد محققي الاَشاعرة من الرؤية هو الشهود بنوره لنوره والاِنكشاف البالغ حد العيان ، أيدته الاَذواق وصدقه قاطع البرهان ، بدليل قولهم بلا مقابلة وجهة ومكان ، وكذا قولهم في تحرير محل النزاع ، فمثل تلك الحالة الاِدراكية أعدل شاهد على ذلك ، إذ ليس مرادهم ما هو ظاهره حتى يقال حصول مثل تلك الحالة وعدم حصول مقابله ولا جهة ، ومع هذا تكون رؤية لا تعقلاً ، بل مرادهم أنه كما أن تلك الحالة ممتازة عن التعقل والتخيل والاِحساس بالحس المشترك ومشاهدة وشهود للبصر ، كذلك سيحصل لنا حالة عيانية ممتازة عنها وعلم حضوري بالنسبة إليه تعالى ، هو شهود لا على المشاعر الجامع لجميعها بنحو أعلى ، خذ الغايات ودع المباديَ أي المبادي الطبيعية المحدودة ، كما ذكرنا في كونه سميعاً بصيراً أن المشاهدة التي يترتب على قوانا يترتب على ذاته النورية بنحو أنور فإنه سميع بصير بذاته لا بالسمع والبصر ، فهذا مرادهم ، وإلا فكما لا يليق بالعلماء التكلم في مسموعيته أو مشموميته مثلاً إذ ليس من سنخ المسموعات أو المشمومات ، كذلك لا يليق بهم التكلم في مبصريته إذ ليس من سنخ المبصرات لاَن المبصر بالذات هو الضوء واللون عند التحقيق ، وإن كانت الجواهر الفردة عند المتكلم مبصرة بالذات.

فإذا عرفت هذا ، فاعلم أن أرباب القشور منهم حرفوا الكلم عن مواضعه فلم يتفوهوا بما هو مخ القول ، وعموا وصموا عما هو لب الحق ، إذ كان المراد هو الشهود ، والمعتزلة أيضاً لا ينكرونه ، وإنما أنكروا الرؤية الظاهرية التي بالجارحة كما مر في محل النزاع أنه لا نزاع للنافين في جواز الاِنكشاف التام العلمي بأن يكون المراد بالعلمي العلم الحضوري ، ولكن لا على سبيل الاِكتناه ، كما قيل إن العارفين المتألهين يشاهدونه ولكن لا بالكنه بل على سبيل الفناء الذي هو قرة عين العرفاء والعلماء ، بأن يرى كل فعل وصفة ووجود مستهلكة في فعله وصفته ووجوده تعالى.

٣١١

ولا يجوز للمؤمن إنكار ذلك الشهود لاَن إنكاره إنكار الكتب السماوية والسنن النبوية والآثار الولوية ، بل هو غاية إرسال المرسلين وإرشاد الاَئمة الهادين وسير السايرين وسلوك السالكين ، ولولاه لم يكن سماء ولا أرض ولا بسيط ولا مركب ، كما قال تعالى : ما خلقت الجن والاِنس إلا ليعبدون ، أي ليعرفون ، وفي الحديث القدسي : فخلقت الخلق لاَعرف ، فالكتاب المجيد الذي هو تنزيل من حكيم حميد مشحون منه قال تعالى من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت. يا أيتها النفس المطمئنه ارجعي إلى ربك. شهد الله أنه لا إلَه إلا هو والملائكة وأولوا العلم. والشهادة بالوحدانية فرع الشهادة بالوجود وشهوده ، وهكذا كل آية مشتملة على ما دل على الشهود حتى لفظ الاِيمان باعتبار بعض درجاته العالية ....

قال سيد الاَولياء عليه‌السلام : لم أعبد رباً لم أره. ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله فيه أو قبله أو معه.

وقال ابنه سيد الشهداء عليه‌السلام : عميت عين لا تراك.

وقال أيضاً : تعرفت بكل شيء فما جهلك شيء. تعرفت إليّ في كل شيء فرأيتك ظاهراً في كل شيء ، فأنت الظاهر لكل شيء.

وليكف هذا اليسير من الكثير لاَن كل أشراك مقالاتهم وحبايل تحريراتهم لاصطياد هذا الصيد العديم المثال ، فتمام سهام قصودهم واقعة على هذا الغرض الرفيع المنال ، وحيث حملنا الرؤية على الشهود فلا تخصيص له بالآخرة ، فإن أبناء اليقين لموتهم الاِرادي قبل موتهم الطبيعي وفنائهم عن ذواتهم قامت قيامتهم ورأوا ما رأوا ، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى :

روى الشيخ الصدوق رحمه‌الله عن أبي بصير قال قلت لاَبي عبدالله عليه‌السلام : أخبرني عن الله تعالى هل يراه المؤمنون يوم القيمة قال : نعم وقد رأوه قبل يوم القيامة ، فقلت متى؟ قال : حين قال ألست بربكم قالوا بلى. ثم سكت ساعة ثم قال : وإن المؤمنين يرونه في الدنيا قبل يوم القيامة. ألست تراه في وقتك هذا قال أبو بصير فقلت : جعلت

٣١٢

فداك فأحدث بهذا عنك؟ فقال : لا فإنك إذا حدثت به فأنكره منكر جاهل بمعنى ما تقول ثم قدر أن هذا تشبيه كفر ، وليست الرؤية بالقلب كالرؤية بالعين تعالى عما يصفه المشبهون والملحدون.

وقال سيد الموقنين ومولى المكاشفين : لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً ....

وقوله عليه‌السلامما ازددت يقيناً ، لعل المراد منه نفي الزيادة الكمية لا الكيفية ، ومن ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : إن العيش عيش الآخرة. ونعم ما قال العارف عبدالرحمن الجامي قدس‌سره السامي:

تا بود باقى بقاياى وجودكى

شود صاف از كدر جام شهود

تا بود پيوند جان وتن بجاى

كى شود مقصود كل برقع گشاى

تا بود قالب غبار چشم جان

كى توان ديدن رخ جانان عيان

ثم إن الشهود الحاصل لاَهل الله في الدنيا ليس لهم بما هم بأبدانهم فرشيون دنيويون ، بل بما هم بقلوبهم عرشيون أخرويون ، فيصدق أن الرؤية والشهود مطلقاً مخصوصة بالآخرة.

ويمكن أيضاً التوفيق بين المذهبين بأن الرؤية وإن كانت بمعنى الشهود لا يمكن في الدنيا والآخرة بالنسبة إلى كنه ذاته ، احتجب عن العقول كما احتجب عن الاَبصار ، ويمكن بالنسبة إلى وجهه : أينما تولوا فثم وجه الله.

بل هاهنا نظر آخر فيه حصر النظر على وجهه الكريم كما قال المعصوم عليه‌السلامبنقل القاضي سعيد القمي : لا أرى إلا وجهك ولا أسمع إلا صوتك ، يا من يخلق ولا يخلق ، يا من يهدي ولا يهدى ، يا من يحيي ولا يحيى ، يا من يسأل ولا يسأل. هذا الاِسم الشريف مأخوذ من الآية الشريفة وهي : لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.

وقد تمسك الاَشاعرة بها في كثير من المواضع ، منها أنهم قالوا بنفي اللمية الغائية والداعي وجواز الترجيح من غير مرجح ، فإذا سئل عنهم ما المخصص لاَحداث العالم في وقت مخصوص دون ساير الاَوقات مع تشابهها ، وما المرجح للاِمساك في

٣١٣

أوقات غير متناهية ، كما هو مذهبهم من التعطيل والاِفاضة في وقت؟ مع كونه تعالى علة تامة غير محتاج إلى شرط أو آلة أو معاون أو حالة منتظرة ، وبالجملة ما به يتم فاعليته؟ قالوا : لا يسئل عما يفعل ، والتزموا القدرة الخرافية.

ومنها ، أنهم حيث قالوا بالتحسين والتقبيح الشرعيين دون العقليين قالوا بنفي العلاقة اللزومية بين الاَعمال الحسنة ودخول الجنة وبين الاَعمال القبيحة ودخول النار ، بحيث جوزوا أن يدخل الله السعيد في النار خالداً والشقي في الجنة أبداً ، فإذا قيل عليهم إن هذا ظلم صريح ، قالوا : لا يسأل عما يفعل .... إلخ.

واحتج المعتزلة أيضاً بحجج عقلية ونقلية كثيرة ، نذكر بعضها ونترك أكثرها ، لاَن من أنس بالقواعد العقلية وحافظ على تنزيه الله من سمات المحدثات وصفات الاَجسام قدر على إقامة حجج كثيرة وإبطال ما هو ظاهر الاَشاعرة من الرؤية.

فمنها ، أنه فيما عندنا من المبصرات يجب الرؤية عند تحقق شروط ثمانية ككون الحاسة سليمة وكون الشيء جايز الرؤية وكون الشيء مقابلاً أو في حكم المقابل وعدم كون المرئي في غاية القرب وغاية البعد وغاية اللطافة وغاية الصغر وأن لا يكون بين الرائي والمرئي حجاب ، إذ لو لم تجب الرؤية عند حصول الشرائط جاز أن يكون بحضرتنا جبال وأشخاص لا نراها ، والستة الاَخيرة لا يمكن اعتبارها في رؤيته تعالى لتنزهه عن الجهة والحيز ، بقي سلامة الحاسة وجواز الرؤية ، وسلامة الحاسة حاصلة فلو جاز الرؤية وجب أن تراه في الدنيا والجنة دائماً ، والاَول منتف بالضرورة والثاني بالاِجماع والنصوص القاطعة الدالة على اشتغالهم بغير ذلك من اللذات.

تفسيرهم الموافق لمذهبنا

روى السيوطي في الدر المنثور ج ٣ ص ٣٧ عدداً من الروايات التي توافق مذهبنا ومذهب عائشة ، قال :

ـ وأخرج عبد ابن حميد وأبوالشيخ عن قتادة : لا تدركه الاَبصار ، قال هو أجلُّ من ذلك وأعظم من أن تدركه الاَبصار.

٣١٤

ـ وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله : لا تدركه الاَبصار وهو يدرك الاَبصار ، يقول لا يراه شيء وهو يرى الخلائق.

ـ تفسير الطبري ج ٩ ص ٣٨

معاوية عن علي ( بن طلحة ) عن ابن عباس قوله تعالى : سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين ، يقول أنا أول من يؤمن أنه لا يراك شيء من خلقك. انتهى.

وقد تقدم استدلال عائشة بالآية على عدم إمكان الرؤية ، قال الرازي في المطالب العالية ج ١ جزء ١ ص ٨٧ : إن عائشه رضي الله عنه قالت : من حدثكم أن محمداً رأى ربه فقد أعظم الفرية ، ثم قرأت : لا تدركه الاَبصار.

محاولاتهم تأويل الآية وإبطال معناها

ـ رد النووي على عائشة في شرح مسلم ـ هامش الساري ج ٢ ص ٩٣ فقال : فأما إحتجاج عائشة بقول الله تعالى لا تدركه الاَبصار. فجوابه ظاهر فإن الاِدراك هو الاِحاطة والله تعالى لايحاط به! وإذا ورد النص بنفي الاِحاطة فلما يلزم منه نفي الرؤية بغير إحاطة. انتهى. ولكن المنفي هنا هو إدراك البصر ، وهو أعم من الرؤية الجزئية والاِحاطة!

ـ وقال الجويني في لمع الاَدلة ص ١٠١ ـ ١٠٥

مذهب أهل الحق أن الباري تعالى مرئي ، ويجوز أن يراه الراؤون بالاَبصار ....

والدليل على جواز الرؤية عقلاً : أن الرب سبحانه وتعالى موجود ، وكل موجود مرئي. وبيان ذلك : أنا نرى الجواهر والاَلوان ، فإن رئي الجوهر لكونه جوهراً لزم ألا يرى الجوهر ، وإن رئيا لوجودهما لزم أن يرى كل موجود ، والباري سبحانه وتعالى : موجود فصح أن يرى.

فإن قالوا : إنما يرى ما يرى لحدوثه والرب تعالى أزلي قديم الذات فلا يرى ، فالجواب من وجهين : أحدهما أن نقول كلامكم هذا نقض عليكم لجواز رؤية الطعوم والروائح والعلوم ونحوها فإنها حوادث ، وعندكم يستحيل أن ترى.

٣١٥

ثم الجواب الحقيقي أن نقول : الحدوث ينبيء عن موجود مسبوق بعدم والعدم السابق لا يصحح الرؤية ، فانحصر التصحيح في الوجود ، فدل على أن كل موجود صح أن يرى.

ويستدل على جواز الرؤية وأنها ستكون في الجنان وعداً من الله صدقاً وقولاً منه حقاً بقوله تعالى : وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة. والنظر إذا عدي بإلى اقتضى رؤية البصر. وإن عارضونا بقوله تعالى : لا تدركه الاَبصار. قلنا : فمن أصحابنا من قال الرب تعالى يرى ولا يدرك فإن الاِدراك ينبيء عن الاِحاطة ودرك الغاية ، والرب مقدس عن الغاية والنهاية. فإن عارضونا بقوله تعالى في جواب موسى عليه‌السلام : لن تراني ، فزعموا أن لن تقتضي النفي على التأييد .....

قلنا : هذه الآية من أوضح الاَدلة على جواز الرؤية! فإنها لو كانت مستحيلة لكان معتقد جوازها ضالاً أو كافراً ، وكيف يعتقد ما لا يجوز على الله تعالى من اصطفاه الله تعالى لرسالته واجتباه لنبوته وخصصه بتكريمه وشرفه بتكليمه وجعله أفضل أهل زمانه وأيده ببرهانه ، ويجوز على الاَنبياء الريب في أمر يتعلق بعلم الغيب ، أما ما يتعلق بوصف الباري عز وعلا فلا يجوز الريب عليهم ، فيجب حمل الآية على أن ما اعتقد موسى عليه‌السلامجوازه جائز ، لكن ظن أن ما اعتقد جوازه ناجزاً فيرجع النفي في الجواب إلى السؤال. وما سأل موسى عليه‌السلامربه رؤية في الدنيا لينصرف النفي إليها ، والجواب نزل على قضية الخطاب. انتهى. وقد تقدم أن موسى عليه‌السلاملم يطلب رؤية ذات اللّه تعالى ، بل طلب أن يريه شيئاً من آياته كأنه ينظر إليه.

ـ وروى السيوطي في الدر المنثور ج ٣ ص ٣٧

وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن إسماعيل بن علية ، في قوله : لا تدركه الاَبصار ، قال : هذا في الدنيا!

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن عكرمة عن ابن عباس قال : إن النبى صلى الله عليه وسلم رأى ربه ، فقال له رجل عند ذلك أليس قال الله : لا تدركه

٣١٦

الاَبصار! فقال له عكرمة : ألست ترى السماء؟ قال : بلى ، قال فكلها ترى! ( يقصد بما أن الله تعالى كبير فإنا نرى جزءً منه فقط! )

وأخرج الترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه واللالكائي في السنة عن ابن عباس قال : رأى محمد ربه ، قال عكرمة فقلت له : أليس الله يقول لا تدركه الاَبصار! وهو يدرك الاَبصار قال : لا أم لك ، ذاك نوره الذي هو نوره إذا تجلى بنوره لا يدركه شيء ، وفي لفظ : إنما ذلك إذا تجلى بكيفيته لم يقم له بصر. انتهى. وهو يقصد أن ذات اللّه تعالى ترى ولكن نوره لاتدركه الاَبصار!!

ثم أكد السيوطي رأي عكرمة فنقل في ج ٣ ص ٣٧ قول ابن جريح في تفسير الآية أن الاَبصار لا تدرك الله تعالى كله لكبر حجمه! قال :

وأخرج ابن المنذر عن ابن جريح في قوله : لا تدركه الاَبصار ، قال : قالت امرأة استشفع لي يا رسول الله على ربك. قال : هل تدرين على من تستشفعين ، إنه ملأ كرسيه السموات والاَرض ثم جلس عليه فما يفضل منه من كل أربع أصابع ، ثم قال : إن له أطيطاً كأطيط الرحل الجديد فذلك قوله : لا تدركه الاَبصار ، ينقطع به بصره قبل أن يبلغ أرجاء السماء. زعموا أن أول من يعلم بقيام الساعة الجن تذهب فإذا أرجاؤها قد سقطت لا تجد منفذاً تذهب في المشرق والمغرب واليمن والشام. انتهى.

وأعجب منه روايتهم التي تفسر الاَبصار التي لا تدركه بأنها أبصار العقول ، ومع ذلك تدركه أبصار العيون!! قال : وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ واللالكائي من طريق عبدالرحمن بن مهدي قال سمعت أبا الحصين يحيى بن الحصين قاريَ أهل مكة يقول : لا تدركه الاَبصار قال أبصار العقول. انتهى.

وقد تقدم في أول الباب عن ( إمام الاَئمة ) ابن خزيمة حملته الشديدة على عائشة وتفسيره للآية بأن جميع الاَبصار لا تدركه ولكن البصر الواحد يدركه! قال في كتاب التوحيد ص ٢٢٦

لاَن قوله : لا تدركه الاَبصار ، قد يحتمل معنيين على مذهب من يثبت رؤية النبي

٣١٧

صلى الله عليه وسلم خالقه عز وجل ، قد يحتمل بأن يكون معنى قوله : لا تدركه الاَبصار ، على ما قال ترجمان القرآن لمولاه عكرمة ذاك نوره الذي هو نوره إذا تجلى بنوره لا يدركه شيء. والمعنى الثاني أي لا تدركه الاَبصار أبصار الناس لاَن الاَعم والاَظهر من لغة العرب أن الاَبصار إنما تقع على أبصار جماعة ، لا أحسب غريباً يجيء من طريق اللغة أن يقال لبصر امريء واحد أبصار وإنما يقال لبصر امريء واحد بصر ، لا ولا سمعنا غريباً يقال لعين امريء واحد بصران فكيف أبصار ، ولو قلنا : إن الاَبصار ترى ربنا في الدنيا لكنا قد قلنا الباطل والبهتان ، فأما من قال إن النبي صلى الله عليه وسلم قد رأى ربه دون سائر الخلق فلم يقل إن الاَبصار قد رأت ربها في الدنيا فكيف يكون ـ يا ذوي الحجا ـ من ينفي أن النبي صلى الله عليه وسلم محمداً قد رأى ربه دون سائر الخلق مثبتاً أن الاَبصار قد رأت ربها ، فتفهموا يا ذوي الحجا هذه النكتة تعلموا أن ابن عباس رضي الله عنهما وأباذر وأنس بن مالك ومن وافقهم لم يعظموا الفرية على الله ، لا ولا خالفوا حرفاً من كتاب الله في هذه المسألة! انتهى.

وقد علق على ذلك محقق كتابه وهو الشيخ محمد الهراس من علماء الاَزهر ، فقال:

عجباً لاِمام الاَئمة كيف خانه علمه فتوهم أن المنفي هو إدراك الاَبصار له إذا اجتمعت فإذا انفرد واحد منها أمكن أن يراه! فهل إذا قال قائل لا آكل الرمان ، يكون معنى هذا أنه لا يأكل الحبات منه ولكن يأكل الحبة! يرحم الله ابن خزيمة فلقد كبا ولكل جواد كبوة.

ـ وقد كان الطبري من أعقلهم في تفسير الآية حيث اعترف بأنه لا مجال للهروب منها ولابد من الاِعتراف بأنها تنفي إمكان الرؤية مطلقاً ، وأن الاَخبار المروية في رؤيته تعالى تنافيها ، ولكن لابد لنا من قبول الاَخبار وطرح الآية! قال في تفسيره ج ٧ ص ٢٠٠ ـ ٢٠٣ :

قالوا فإن قال لنا قائل : وما أنكرتم أن يكون معنى قوله : لا تدركه الاَبصار ، لا تراه الاَبصار؟ قلنا له : أنكرنا ذلك لاَن الله جل ثناؤه أخبر في كتابه أن وجوهاً في القيامة

٣١٨

إليه ناظرة ، وأن رسول الله ( ص ) أخبر أمته أنهم سيرون ربهم يوم القيامة كما يرى القمر ليلة البدر ....

وقال آخرون .. لا تدركه الاَبصار وهو يدرك الاَبصار ، إلا أنه جائز أن يكون معنى الآية لا تدركه أبصار الظالمين في الدنيا والآخرة ، وتدركه أبصار المؤمنين وأولياء الله. قالوا وجائز أن يكون معناها لا تدركه الاَبصار بالنهاية والاِحاطة وأما الرؤية فبلى. وقال آخرون : الآية على العموم ولن يدرك الله بصر أحد في الدنيا والآخرة ، ولكن الله يحدث لاَوليائه يوم القيامة حاسة سادسة سوى حواسهم الخمس فيرونه بها .... والصواب من القول في ذلك : عذرنا ما تظاهرت به الاَخبار عن رسول الله ( ص ) أنه قال إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر. انتهى.

ولم يبين الطبري ولا غيره كيف صار هذا هو الصواب ، وهل كلما عارض صريح القرآن خبر أخذنا به وخصصنا به القرآن وقلنا : عذرنا الاَخبار المناقضة للقرآن!

ـ قال القسطلاني في إرشاد الساري ج ١٠ ص ٣٦٤

قوله تعالى في سورة الاَنعام : لا تدركه الاَبصار ، وأجاب المثبتون بأن معنى الآية لا تحيط به الاَبصار أو لا تدركه الاَبصار ، وإنما يدركه المبصرون! أو لا تدركه في الدنيا لضعف تركيبها في الدنيا ، فإذا كان في الآخرة خلق الله تعالى فيهم قوة يقدرون بها على الرؤية. انتهى.

ولكنهم بهذه المواصفات الجديدة للعين ونظام الرؤية ، خرجوا عن موضوع البحث ، بل هربوا منه ، وفي نفس الوقت ردوا أحاديثهم في الرؤية التي ظاهرها رؤيته تعالى في الدنيا والآخرة بالعين المتعارفة المجردة ، في أحسن صورة ، وكما يرى القمر ليلة البدر على حد زعمهم!

ـ وقال الشوكاني في فتح القدير ج ٢ ص ١٨٥

في قوله : لا تدركه الاَبصار .... التقدير لا تدركه كل الاَبصار بل بعضها ، وهي أبصار المؤمنين! ....

٣١٩

ـ وقال التلمساني في نفح الطيب ج ٧ ص ٢٩٦

سئل النصيبي عن الرؤية بمجلس عضد الدولة فأنكرها محتجاً بأن كل شيء يرى بالعين فهو في مقابلتها ، فقال له القاضي ابن الطيب : لا يرى بالعين ، قال له الملك : فبماذا يرى؟ قال : بالاِدراك الذي يحدثه الله في العين .. وهذا الاَجهر عينه قائمة ولا يرى بها شيئاً! انتهى.

ـ وقال في نفح الطيب ج ٨ ص ٣٤

حكاية أبي بكر بن الطيب مع رؤساء بعض المعتزلة ، وذلك أنه اجتمع معه في مجلس الخليفة ، فناظره في مسألة رؤية الباري فقال رئيسهم : ما الدليل أيها القاضي على جواز رؤية الله تعالى؟ قال : قوله تعالى : لا تدركه الاَبصار! فنظر بعض المعتزلة إلى بعض وقالوا : جنَّ القاضي ، وذلك أن هذه الآية هي معظم ما احتجوا على مذهبهم ، وهو ساكت ، ثم قال لهم : أتقولون إن من لسان العرب قولك : الحائط لا يبصر قالوا : لا .. قال : فلا يصح إذن نفي الصفة عما من شأنه صحة إثباتها له؟ قالوا نعم ، قال : فكذلك قوله تعالى ( لا تدركه الاَبصار ) لولا جواز إدراك الاَبصار له لم يصح نفيه عنه. انتهى. ولابدّ أنهم أجابوه إن الذي يصحح النفي هو توهم جواز الرؤية لا جوازها وإمكانها!

وهكذا يحرِّم إخواننا التأويل ، ولكنهم إذا وصلوا إلى آيات نفي الرؤية وأحاديثها هجموا عليها بمعاول التأويل والمغالطات بلا رحمة ولا ضابطة ، حتى يجعلوا من النفي إثباتاً ، وقد يجعلون من الكفر إيماناً!

* *

تفسير آية : ما كذب الفؤاد ما رأى

قال الله تعالى : والنجم إذا هوى. ما ضل صاحبكم وما غوى. وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحي يوحى. علمه شديد القوى. ذو مرة فاستوى. وهو بالاَفق

٣٢٠