العقائد الاسلامية - ج ٢

مركز المصطفى للدراسات الإسلامية

العقائد الاسلامية - ج ٢

المؤلف:

مركز المصطفى للدراسات الإسلامية


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز المصطفى للدراسات الإسلامية
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-119-2 /
ISBN الدورة:
964-319-117-6

الصفحات: ٤٣٧

قال فقال : نفعك الله به وثبتك يا هشام ، قال هشام فوالله ما قهرني أحد في التوحيد حتى قمت مقامي هذا.

ـ علي بن إبراهيم ، عن العباس بن معروف ، عن عبدالرحمن بن أبي نجران قال : كتبت إلى أبي جعفر عليه‌السلامأو قلت له : جعلني الله فداك نعبد الرحمن الرحيم الواحد الاَحد الصمد؟ قال : فقال : إن من عبد الاِسم دون المسمى بالاَسماء أشرك وكفر وجحد ولم يعبد شيئاً بل أعبد الله الواحد الاَحد الصمد المسمى بهذه الاَسماء دون الاَسماء أن الاَسماء صفات وصف بها نفسه.

ـ الكافي ج ١ ص ١٠٣

علي بن محمد ، عن سهل بن زياد ، وعن غيره ، عن محمد بن سليمان ، عن علي بن إبراهيم ، عن عبدالله بن سنان ، عن أبي عبدالله عليه‌السلامقال : قال : إن الله عظيم رفيع لا يقدر العباد على صفته ، ولا يبلغون كنه عظمته ، لا تدركه الاَبصار وهو يدرك الاَبصار وهو اللطيف الخبير ، ولا يوصف بكيف ولا أين وحيث ، وكيف أصفه بالكيف وهو الذي كيف الكيف حتى صار كيفاً فعرفت الكيف بما كيف لنا من الكيف ، أم كيف أصفه بأين وهو الذي أين الاَين حتى صار أيناً فعرفت الاَين بما أين لنا من الاَين ، أم كيف أصفه بحيث وهو الذي حيث الحيث حتى صار حيثاً فعرفت الحيث بما حيث لنا من الحيث ، فالله تبارك وتعالى داخل في كل مكان وخارج من كل شيء ، لا تدركه الاَبصار وهو يدرك الاَبصار. لا إلَه إلا هو العلي العظيم ، وهو اللطيف الخبير.

الاِمام الكاظم عليه‌السلاميرد على تجسيد النصارى

ـ وقال الصدوق في كتابه التوحيد ص ٣٠

حدثنا أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني رضي الله عنه قال : حدثنا علي بن إبراهيم بن هاشم ، عن أبيه ، عن القاسم بن يحيى ، عن جده الحسن بن راشد ، عن يعقوب بن جعفر قال : سمعت أبا إبراهيم موسى بن جعفر عليهما‌السلاموهو يكلم راهباً من النصارى ،

١٦١

فقال له في بعض ما ناظره : إن الله تبارك وتعالى أجل وأعظم من أن يحد بيد أو رجل أو حركة أو سكون ، أو يوصف بطول أو قصر ، أو تبلغه الاَوهام ، أو تحيط به صفة العقول. أنزل مواعظه ووعده ووعيده ، أمر بلا شفة ولا لسان ، ولكن كما شاء أن يقول له كن ، فكان خبراً كما أراد في اللوح.

ويبين أن الله تعالى غني عن النزول والحركة

ـ قال الصدوق في كتابه التوحيد ص ١٨٣

حدثنا علي بن أحمد بن محمد بن عمران الدقاق رحمه‌الله قال : حدثنا محمد بن عبد الله الكوفي قال : حدثنا محمد بن إسماعيل البرمكي ، عن علي بن العباس ، عن الحسن بن راشد ، عن يعقوب بن جعفر الجعفري ، عن أبي إبراهيم موسى بن جعفر عليهما‌السلامقال : ذكر عنده قوم يزعمون أن الله تبارك وتعالى ينزل إلى السماء الدنيا ، فقال : إن الله تبارك وتعالى لا ينزل ، ولا يحتاج إلى أن ينزل ، إنما منظره في القرب والبعد سواء ، لم يبعد منه قريب ، ولم يقرب منه بعيد ، ولم يحتج بل يحتاج إليه ، وهو ذو الطَّول ، لا إلَه إلا هو العزيز الحكيم. أما قول الواصفين : إنه تبارك وتعالى ينزل ، فإنما يقول ذلك من ينسبه إلى نقص أو زيادة ، وكل متحرك محتاج إلى من يحركه أو يتحرك به ، فظن بالله الظنون فهلك ، فاحذروا في صفاته من أن تقفوا له على حد ، فتحدوه بنقص أو زيادة أو تحرك أو زوال أو نهوض أو قعود ، فإن الله جل عن صفة الواصفين ونعت الناعتين وتوهم المتوهمين.

الاِمام الرضا عليه‌السلاميعلم تلاميذه الدفاع عن التوحيد

ـ توحيد الصدوق ص ١٠٧

حدثنا جعفر بن محمد بن مسرور رحمه‌الله قال : حدثنا محمد بن جعفر بن بطة قال : حدثني عدة من أصحابنا ، عن محمد بن عيسى بن عبيد قال قال لي أبو الحسن عليه‌السلام : ما تقول إذا قيل لك أخبرني عن الله عز وجل شيء هو أم لا؟ قال فقلت له : قد أثبت

١٦٢

الله عز وجل نفسه شيئاً حيث يقول : قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم ، فأقول : إنه شيء لا كالاَشياء ، إذ في نفي الشيئية عنه إبطاله ونفيه.

قال لي : صدقت وأصبت.

ثم قال لي الرضا عليه‌السلام : للناس في التوحيد ثلاثة مذاهب : نفي ، وتشبيه ، وإثبات بغير تشبيه ، فمذهب النفي لا يجوز ، ومذهب التشبيه لا يجوز ، لاَن الله تبارك وتعالى لا يشبهه شيء ، والسبيل في الطريقة الثالثة : إثبات بلا تشبيه.

ـ توحيد الصدوق ص ٩٨

حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رضي الله عنه قال : حدثنا محمد بن الحسن الصفار ، عن سهل بن زياد ، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع ، عن محمد ابن زيد قال : جئت إلى الرضا عليه‌السلامأسأله عن التوحيد فأملى عليّ :

الحمد لله فاطر الاَشياء إنشاء ، ومبتدعها ابتداء بقدرته وحكمته ، لا من شيء فيبطل الاِختراع ، ولا لعلة فلا يصح الاِبتداع. خلق ما شاء كيف شاء ، متوحداً بذلك لاِظهار حكمته وحقيقة ربوبيته ، لا تضبطه العقول ، ولا تبلغه الاَوهام ، ولا تدركه الاَبصار ، ولا يحيط به مقدار ، عجزت دونه العبارة ، وكلت دونه الاَبصار ، وضل فيه تصاريف الصفات ، احتجب بغير حجاب محجوب ، واستتر بغير ستر مستور ، عرف بغير رؤية ، ووصف بغير صورة ، ونعت بغير جسم ، لا إلَه إلا الله الكبير المتعال.

ورواه في علل الشرائع ج ١ ص ٩

ويكشف حقيقة جديدة في الاِسراء والمعراج

ـ التوحيد للصدوق ص ١١٣

حدثنا علي بن أحمد بن محمد بن عمران الدقاق رضي الله عنه قال : حدثنا محمد بن أبي عبد الله الكوفي ، عن محمد بن إسماعيل البرمكي ، عن الحسين بن الحسن ، عن بكر بن صالح ، عن الحسين بن سعيد ، عن إبراهيم بن محمد الخزاز ، ومحمد بن

١٦٣

الحسين ، قالا : دخلنا على أبي الحسن الرضا عليه‌السلامفحكينا له ما روي أن محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله رأى ربه في هيئة الشاب الموفق في سن أبناء ثلاثين سنة ، رجلاه في خضرة ، وقلت : إن هشام بن سالم وصاحب الطاق والميثمي يقولون : إنه أجوف إلى السرة والباقي صمد ، فخر ساجداً ثم قال : سبحانك ما عرفوك ولا وحدوك ، فمن أجل ذلك وصفوك ، سبحانك لو عرفوك لوصفوك بما وصفت به نفسك ، سبحانك كيف طاوعتهم أنفسهم أن شبهوك بغيرك. إلهي لا أصفك إلا بما وصفت به نفسك ، ولا أشبهك بخلقك ، أنت أهل لكل خير ، فلا تجعلني من القوم الظالمين.

ثم التفت إلينا فقال : ما توهمتم من شيء فتوهموا الله غيره ، ثم قال : نحن آل محمد النمط الاَوسط ، الذي لا يدركنا الغالي ولا يسبقنا التالي. يا محمد إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حين نظر إلى عظمة ربه كان في هيئة الشاب الموفق وسن أبناء ثلاثين سنة..

يا محمد عظم ربي وجل أن يكون في صفة المخلوقين.

قال قلت : جعلت فداك من كانت رجلاه في خضرة؟ قال : ذاك محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله كان إذا نظر إلى ربه بقلبه جعله في نور مثل نور الحجب حتى يستبين له ما في الحجب! إن نور الله منه اخضرَّ ما اخضر ، ومنه احمرَّ ما احمر ، ومنه أبيضَّ ما أبيض ، ومنه غير ذلك. يا محمد ما شهد به الكتاب والسنة فنحن القائلون به.

ـ ورواه المجلسي في بحار الاَنوار ج ٤ ص ٤١ وقال :

بيان : قوله عليه‌السلام : النمط الوسطى وفي الكافي الاَوسط قال الجزري : في حديث علي : خير هذه الاَمة النمط الاَوسط ، النمط : الطريقة من الطرائق والضروب ، يقال : ليس هذا من ذلك النمط أي من ذلك الضرب ، والنمط : الجماعة من الناس أمرهم واحد. انتهى.

قوله عليه‌السلام : لا يدركنا الغالي في أكثر النسخ بالغين المعجمة ، وفي بعضها بالعين المهملة ، وعلى التقديرين المراد به من يتجاوز الحد في الاَمور ، أي لا يدركنا ولا يلحقنا في سلوك طريق النجاة من يغلو فينا أوفي كل شيء ، والتالي أي التابع لنا لا

١٦٤

يصل إلى النجاة إلا بالاَخذ عنا ، فلا يسبقنا بأن يصل إلى المطلوب لا بالتوصل بنا.

وفي الكافي : إن نور الله منه أخضر ، ومنه أحمر ، ومنه أبيض ، ومنه غير ذلك. وسيأتي في باب العرش في خبر أبي الطفيل إن الله خلق العرش من أنوار مختلفة ، فمن ذلك النور نور أخضر اخضرت منه الخضرة ، ونور أصفر اصفرت منه الصفرة ، ونور أحمر احمرت منه الحمرة ، ونور أبيض وهو نور الاَنوار ومنه ضوء النهار.

ثم اعلم أنه يمكن إبقاء الحجب والاَنوار على ظواهرها بأن يكون المراد بالحجب أجساماً لطيفة مثل العرش والكرسي يسكنها الملائكة الروحانيون ، كما يظهر من بعض الدعوات والاَخبار ، أي أفاض عليه شبيه نور الحجب ليمكن له رؤية الحجب كنور الشمس بالنسبة إلى عالمنا.

ويحتمل التأويل أيضاً بأن يكون المراد بها الوجوه التي يمكن الوصول إليها في معرفة ذاته تعالى وصفاته إذ لا سبيل لاَحد إلى الكنه ، وهي تختلف باختلاف درجات العارفين قرباً وبعداً ، فالمراد بنور الحجب قابلية تلك المعارف وتسميتها بالحجب ، إما لاَنها وسائط بين العارف والرب تعالى كالحجاب ، أو لاَنها موانع عن أن يسند إليه تعالى ما لا يليق به ، أو لاَنها لما لم تكن موصلة إلى الكنه فكأنها حجب ، إذ الناظر خلف الحجاب لا تتبين له حقيقة الشيء كما هي.

وقيل : إن المراد بها العقول فإنها حجب نور الاَنوار ، ووسائط النفوس الكاملة ، والنفس إذا استكملت ناسبت نوريتها نورية تلك الاَنوار ، فاستحقت الاِتصال بها والاِستفادة منها ، فالمراد بجعله في نور الحجب جعله في نور العلم والكمال مثل نور الحجب ، حتى يناسب جوهر ذاته جوهر ذاتهم فيستبين له ما في ذواتهم ، ولا يخفى فساده على أصولنا بوجوه شتى.

وأما تأويل ألوان الاَنوار فقد قيل فيه وجوه :

الاَول : أنها كناية عن تفاوت مراتب تلك الاَنوار بحسب القرب والبعد من نور الاَنوار ، فالاَبيض هو الاَقرب ، والاَخضر هو الاَبعد ، كأنه ممزوج بضرب من الظلمة ،

١٦٥

والاَحمر هو المتوسط بينهما ، ثم ما بين كل اثنين ألوان أخرى كألوان الصبح والشفق المختلفة في الاَلوان لقربها وبعدها من نور الشمس.

الثاني : أنها كناية عن صفاته المقدسة ، فالاَخضر قدرته على إيجاد الممكنات وإفاضة الاَرواح التي هي عيون الحياة ومنابع الخضرة ، والاَحمر غضبه وقهره على الجميع بالاِعدام والتعذيب ، والاَبيض رحمته ولطفه على عباده كما قال تعالى : وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله.

الثالث : ما استفدته من الوالد العلامة قدس الله روحه وذكر أنه مما أفيض عليه من أنوار الكشف واليقين ، وبيانه يتوقف على تمهيد مقدمة وهي : أن لكل شيء مثالاً في عالم الرؤيا والمكاشفة ، وتظهر تلك الصور والاَمثال على النفوس مختلفة باختلاف مراتبها في النقص والكمال ، فبعضها أقرب إلى ذي الصورة ، وبعضها أبعد ، وشأن المعبر أن ينتقل منها إلى ذواتها ، فإذا عرفت هذا فالنور الاَصفر عبارة عن العبادة ونورها كما هو المجرب في الرؤيا ، فإنه كثيراً ما يرى الرائي الصفرة في المنام فيتيسر له بعد ذلك عبادة يفرح بها ، وكما هو المعاين في جباه المتهجدين ، وقد ورد في الخبر في شأنهم أنه ألبسهم الله من نوره لما خلوا به. والنور الاَبيض العلم لاَنه منشأ للظهور ، وقد جرب في المنام أيضاً. والنور الاَحمر المحبة كما هو المشاهد في وجوه المحبين عند طغيان المحبة ، وقد جرب في الاَحلام أيضاً. والنور الاَخضر المعرفة ، كما تشهد به الرؤيا ويناسبه هذا الخبر ، لاَنه عليه‌السلامفي مقام غاية العرفان كانت رجلاه في خضرة.

ولعلهم عليهم‌السلام إنما عبروا عن تلك المعاني على تقدير كونها مرادة بهذه التعبيرات ، لقصور أفهامنا عن محض الحقيقة كما تعرض على النفوس الناقصة في الرؤيا هذه الصور ، ولاَنا في منام طويل من الغفلة عن الحقائق ، كما قال عليه‌السلام : الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا.

وهذه التأويلات غاية ما تصل إليه أفهامنا القاصرة ، والله أعلم بمراد حججه وأوليائه عليهم‌السلام. انتهى.

١٦٦

ملاحظة : إذا شرح لنا عالم الفيزياء مثلاً بعض قوانين الضوء وتحدث عن تغير تركيب الاَجسام وطاقاتها إذا تحركت بسرعة الضوء أو بأسرع منه ، فإننا نتعجب لذلك ونحترم آراءه ..

أما النبي والاِمام المعصوم فإن حديثهما أولى بالاِحترام والثقة من عالم الفيزياء ، ومن كل علماء الاَرض ، لاَنهما يتحدثان عن الفيزياء كما أخبرهما عنها خالقها تبارك وتعالى. فحديث الاِمام الرضا عليه‌السلامعن المعراج وعن أصل الاَنوار والاَلوان إنما هو عن جده المصطفى سيد البشر صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي أوحى إليه الله تعالى وعرج به مرات متعددة كما في الاَحاديث الشريفة ، فأراه ملكوت السماوات والاَرض.

وأحاديث المعراج فيها أحاديث صحيحة ومهمة ، وهي تحتاج إلى دراسة من علماء الطبيعة ، لعلهم يكتشفون منها حقائق جديدة عن الكون والطبيعة.

ولا نعني بذلك رفض التفسيرات العقلية والاِشراقية كالتي أوردها المجلسي رحمه‌الله ولكنها تبقى تفسيراً لجانب ، أو احتمالات .. ونعم ما ختم به المحدث المجلسي رحمه‌الله كلامه فقال ( وهذه التأويلات غاية ما تصل إليه أفهامنا القاصرة ، والله أعلم بمراد حججه وأوليائه عليهم‌السلام ).

الاِمام الرضا عليه‌السلاميعلم بني العباس التوحيد

ـ توحيد الصدوق ص ٣٤

حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رضي الله عنه قال : حدثنا محمد بن عمر والكاتب ، عن محمد بن زياد القلزمي ، عن محمد بن أبي زياد الجدي صاحب الصلاة بجدة قال : حدثني محمد بن يحيى بن عمر بن علي بن أبي طالب عليه‌السلامقال : سمعت أبا الحسن الرضا عليه‌السلاميتكلم بهذا الكلام عند المأمون في التوحيد ، قال ابن أبي زياد : ورواه لي أيضاً أحمد بن عبدالله العلوي مولى لهم وخالاً لبعضهم ، عن القاسم بن أيوب العلوي ، أن المأمون لما أراد أن يستعمل الرضا عليه‌السلامعلى هذا الاَمر

١٦٧

جمع بني هاشم فقال : إني أريد أن أستعمل الرضا على هذا الاَمر من بعدي ، فحسده بنو هاشم وقالوا : أتولي رجلاً جاهلاً ليس له بصر بتدبير الخلافة ، فابعث إليه رجلاً يأتنا فترى من جهله ما يستدل به عليه ، فبعث إليه فأتاه فقال له بنو هاشم : يا أبا الحسن إصعد المنبر وانصب لنا علماً نعبد الله عليه ، فصعد عليه‌السلامالمنبر ، فقعد ملياً لا يتكلم مطرقاً ، ثم انتفض انتفاضة واستوى قائماً ، وحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه وأهل بيته. ثم قال :

أول عبادة الله معرفته ، وأصل معرفة الله توحيده ، ونظام توحيد الله نفي الصفات عنه ، لشهادة العقول أن كل موصوف مخلوق ، وشهادة كل مخلوق أن له خالقاً ليس بصفة ولا موصوف ، وشهادة كل صفة وموصوف بالاِقتران ، وشهادة الاِقتران بالحدث ، وشهادة الحدث بالاِمتناع من الاَزل الممتنع من الحدث ، فليس الله عرف من عرف بالتشبيه ذاته ، ولا إياه وحد من اكتنهه ، ولا حقيقة أصاب من مثله ، ولا به صدق من نهاه ، ولا صمد صمده من أشار إليه ، ولا إياه عنى من شبهه ، ولا له تذلل من بعضه ، ولا إياه أراد من توهمه.

كل معروف بنفسه مصنوع ، وكل قائم في سواه معلول ، بصنع الله يستدل عليه ، وبالعقول تعتقد معرفته ، وبالفطرة تثبت حجته. خلق الله حجاباً بينه وبينهم ، ومباينته إياهم مفارقته إنيتهم ، وابتداؤه إياهم دليلهم على أن لا ابتداء له ، لعجز كل مبتدأ عن ابتداء غيره ، وأَدْوه إياهم دليل على أن لا أداة فيه ، لشهادة الاَدوات بفاقة المتأدين ، وأسماؤه تعبير ، وأفعاله تفهيم ، وذاته حقيقة ، وكنهه تفريق بينه وبين خلقه ، وغبوره تحديد لما سواه.

فقد جهل الله من استوصفه ، وقد تعداه من اشتمله ، وقد أخطأه من اكتنهه ، ومن قال كيف فقد شبهه ، ومن قال لم فقد علله ، ومن قال متى فقد وقته ، ومن قال فيم فقد ضمنه ، ومن قال إلى م فقد نهاه ، ومن قال حتى م فقد غياه ، ومن غياه فقد غاياه ، ومن غاياه فقد جزأه ، ومن جزأه فقد وصفه ، ومن وصفه فقد ألحد فيه ، لا

١٦٨

يتغير الله بانغيار المخلوق ، كما لا يتحدد بتحديد المحدود ، أحد لا بتأويل عدد ، ظاهر لا بتأويل المباشرة ، متجل لا باستهلال رؤية ، باطن لا بمزايلة ، مبائن لا بمسافة ، قريب لا بمداناة ، لطيف لا بتجسم ، موجود لا بعد عدم ، فاعل لا باضطرار ، مقدر لا بجول فكرة ، مدبر لا بحركة ، مريد لا بهمامة ، شاء لا بهمة ، مدرك لا بمجسة ، سميع لا بآلة ، بصير لا بأداة.

لا تصحبه الاَوقات ، ولا تضمنه الاَماكن ، ولا تأخذه السنات ، ولا تحده الصفات ، ولا تقيده الاَدوات.

سبق الاَوقات كونه ، والعدم وجوده ، والاِبتداء أزله.

بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له ، وبتجهيره الجواهر عرف أن لا جوهر له ، وبمضادته بين الاَشياء عرف أن لا ضد له ، وبمقارنته بين الاَمور عرف أن لا قرين له ، ضاد النور بالظلمة ، والجلاية بالبهم ، والجسو بالبلل ، والصرد بالحرور ، مؤلف بين متعادياتها ، مفرق بين متدانياتها ، دالة بتفريقها على مفرقها ، وبتأليفها على مؤلفها ، ذلك قوله عز وجل : ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون ، ففرق بها بين قبل وبعد ليعلم أن لا قبل له ولا بعد ، شاهدة بغرائزها أن لا غريزة لمغرزها ، دالة بتفاوتها أن لا تفاوت لمفاوتها ، مخبرة بتوقيتها أن لا وقت لموقتها ، حجب بعضها عن بعض ليعلم أن لا حجاب بينه وبينها غيرها ، له معنى الربوبية إذ لا مربوب ، وحقيقة الاِلَهية إذ لا مألوه ، ومعنى العالم ولا معلوم ، ومعنى الخالق ولا مخلوق ، وتأويل السمع ولا مسموع.

ليس منذ خلق استحق معنى الخالق ، ولا بإحداثه البرايا استفاد معنى البارئية ، كيف ولا تغيبه مذ ، ولا تدنيه قد ، ولا تحجبه لعل ، ولا توقته متى ، ولا تشمله حين ، ولا تقارنه مع ، إنما تحد الاَدوات أنفسها ، وتشير الآلة إلى نظائرها ، وفي الاَشياء يوجد فعالها ، منعتها منذ القدمة ، وحمتها قد الاَزلية ، وجبتها لولا التكملة ، افترقت فدلت على مفرقها ، وتباينت فأعربت من مباينها ، لما تجلى صانعها للعقول ، وبها

١٦٩

احتجب عن الرؤية ، وإليها تحاكم الاَوهام ، وفيها أثبت غيره ، ومنها أنيط الدليل ، وبها عرفها الاِقرار.

وبالعقول يعتقد التصديق بالله ، وبالاِقرار يكمل الاِيمان به ، ولا ديانة إلا بعد المعرفة ، ولا معرفة إلا بالاِخلاص ، ولا إخلاص مع التشبيه ، ولا نفي مع إثبات الصفات للتشبية ، فكل ما في الخلق لا يوجد في خالقه ، وكل ما يمكن فيه يمتنع من صانعه ، لا تجري عليه الحركة والسكون ، وكيف يجري عليه ما هو أجراه ، أو يعود إليه ما هو ابتداه ، إذا لتفاوتت ذاته ، ولتجزأ كنهه ، ولامتنع من الاَزل معناه ، ولما كان للبارئ معنى غير المبروء.

ولو حد له وراء إذاً حد له أمام ، ولو التمس له التمام إذاً لزمه النقصان ، كيف يستحق الاَزل من لا يمتنع من الحدث ، وكيف ينشئ الاَشياء من لا يمتنع من الاِنشاء ، إذاً لقامت فيه آية المصنوع ، ولتحول دليلاً بعدما كان مدلولاً عليه.

ليس في محال القول حجة ، ولا في المسألة عنه جواب ، ولا في معناه له تعظيم ، ولا في إبانته عن الخلق ضيم ، إلا بامتناع الاَزلي أن يثنى ، وما لا بدأ له أن يبدى ، لا إلَه إلا الله العلي العظيم ، كذب العادلون بالله وضلوا ضلالاً بعيداً ، وخسروا خسراناً مبينا. وصلى الله على محمد النبي وآله الطيبين الطاهرين.

نماذج من كلمات علماء مذهب أهل البيت عليهم‌السلام

ـ الاِعتقادات ص ٣ ٩ للصدوق المتوفى سنة ٣٨١

إعلم أن اعتقادنا في التوحيد : أن الله تعالى واحد أحد ليس كمثله شيء ، قديم لم يزل ولا يزال ، سميعاً بصيراً عليماً حكمياً حياً قيوماً عزيزاً قدوساً عالماً قادراً غنياً ، لا يوصف بجوهر ولا جسم ولا صورة ولا عرض ولا خط ولا سطح ولا ثقل ولا خفة ولا سكون ولا حركة ولا مكان ولا زمان ، وأنه تعالى متعال من جميع صفات خلقه ، خارج عن الحدين حد الاِبطال وحد التشبيه. وأنه تعالى شيء لا كالاَشياء ، صمد ، لم

١٧٠

يلد فيورث ولم يولد فيشارك ولم يكن له كفواً أحد ، ولا نِدَّ له ولا ضد ولا شبه ، ولا صاحبة ولا مثل ولا نظير ولا شريك له ، لا تدركه الاَبصار وهو يدرك الاَبصار ولا الاَوهام وهو يدركها ، لا تأخذه سنة ولا نوم وهو اللطيف الخبير ، خالق كل شيء ، لا إلَه إلا هو ، له الخلق والاَمر ، تبارك الله رب العالمين.

ومن قال بالتشبيه فهو مشرك ، ومن نسب إلى الاِمامية غير ما وصف في التوحيد فهو كاذب ، وكل خبر يخالف ما ذكرت في التوحيد فهو موضوع مخترع ، وكل حديث لا يوافق كتاب الله فهو باطل ، وإن وجد في كتب علمائنا فهو مدلس.

والاَخبار التي يتوهمها الجهال تشبيهاً لله تعالى بخلقه فمعانيها محمولة على ما في القرآن من نظائرها ، لاَن ما في القرآن : كل شيء هالك إلا وجهه ، ومعنى الوجه الدين ، والوجه الذي يؤتى الله منه ويتوجه به إليه.

وفي القرآن : يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود وهم سالمون ، والساق وجه الاَمر وشدته.

وفي القرآن : أن تقول نفس يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله ، والجنب الطاعة.

وفي القرآن : ونفخت فيه من روحي ، وهو روح مخلوقة جعل الله منها في آدم وعيسى ، وإنما قال روحي كما قال : نبيي وعبدي وجنتي أي : مخلوقي ، وناري وسمائي وأرضي. وفي القرآن : بل يداه مبسوطتان ، يعني نعمة الدنيا ونعمة الآخرة.

وفي القرآن : والسماء بنيناها بأيد ، والاَيد القوة ، ومنه قوله تعالى : واذكر عبدنا داوود ذا الاَيد ، يعني ذا القوة.

وفي القرآن : يا إبليس ما منعك أن تسجد لماخلقت بيدي ، يعني بقدرتي وقوتي.

وفي القرآن : والاَرض جميعاً قبضته يوم القيامة ، يعني ملكه ولايملكها معه أحد.

وفي القرآن : والسماوات مطويات بيمينه ، يعني بقدرته.

وفي القرآن : وجاء ربك والملك صفاً صفاً ، يعني وجاء أمر ربك.

١٧١

وفي القرآن : كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ، يعني عن ثواب ربهم.

وفي القرآن : هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة ، أي عذاب الله.

وفي القرآن : وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ، يعني مشرقة تنظر ثواب ربها.

وفي القرآن : ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى ، وغضب الله عقابه ، ورضاه ثوابه.

وفي القرآن : تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك ، أي تعلم غيبي ولا أعلم غيبك.

وفي القرآن ، ويحذركم الله نفساً ، يعني إنتقامه.

وفي القرآن : إن الله وملائكته يصلون على النبي.

وفيه : هو الذي يصلي عليكم وملائكته ، والصلاة من الله رحمة ومن الملائكة استغفار وتذكية ومن الناس دعاء.

وفي القرآن : ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين.

وفي القرآن : يخادعون الله وهو خادعهم.

وفيه : الله يستهزيَ بهم.

وفي القرآن : سخر الله منهم.

وفيه : نسوا الله فنسيهم.

ومعنى ذلك كله أنه عز وجل يجازيهم جزاء المكر وجزاء المخادعة وجزاء الاِستهزاء وجزاء النسيان وهو أن ينسيهم أنفسهم كما قال عز وجل : ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم ، لاَنه عز وجل في الحقيقة لا يمكر ولا يخادع ولا يستهزيَ ولا يسخر ولا ينسى ، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

وليس يرد في الاَخبار التي يشنع بها أهل الخلاف والاِلحاد إلا بمثل هذه الاَلفاظ ومعانيها معاني ألفاظ القرآن.

١٧٢

ـ الكافي ص ٣٨ ، لاَبي الصلاح الحلبي المتوفى سنة ٤٤٧

... وثبوت كونه تعالى قديماً مقتض لكونه سبحانه غنياً تستحيل عليه الحاجة ، ( لاَن ) الحاجة لا تكون إلا لاجتلاب نفع أو دفع ضرر ، من حيث علمنا استحالة الحاجة على من يستحيل عليه الضرر والنفع كالموات والجماد. والنفع والضرر لا يجوزان إلا على من يلذ ويألم ، لاَن الحي إنما ينتفع بما يلذ به أو يسر له ، ويستضر بما يألم به أو يغتم لاَجله ، واللذة والاَلم لا يجوزان إلا على ذي شهوة ونفور ، إذ معنى ملتذ أنه أدرك ما يشتهيه ، ومعنى متألم أنه أدرك ما ينفر عنه ، ومعنى مسرور أنه اعتقد أو ظن وصول نفع إليه أو إلى من يجري مجراه واندفاع ضرر ، ومعنى مغتم أنه اعتقد أو ظن وصول ضرر اليه أو إلى من يجري مجراه أو فوت نفع ، فعاد معنى السرور والغم إلى النفع والضرر.

إذا تقرر هذا وكانت الشهوة والنفار معاني تفتقر إلى محل استحال تخصيصها. وكونه تعالى لا يشبه شيئاً يحيل إدراكه سبحانه بشيء من الحواس ، لاختصاص الاِدراك المعقول بالجواهر وأجناس من الاَعراض ، وليس هو من الجنسين ، فاستحال إدراكه تعالى.

ولاَنه لو كان مما يصح أن يدرك بشيء من الحواس لوجب أن ندركه الآن ، لاَنا على الصفة التي معها يجب أن يدرك كلما يصح إدراكه بشرط ارتفاع الموانع ، وهو سبحانه موجود والموانع مستحيلة عليه ، لاَنها اللطافة والرقة وتفاوت البعد والقرب والحجاب والكون في غير جهة المقابلة ، وذلك أجمع من صفات المتحيزات ، وقد دللنا على كونه سبحانه بخلافها ، فلو كان مما يصح أن يدرك لاَدركناه الآن ، ولو أدركناه لعلمناه ضرورة ، من حيث كان العلم بالمدرك من كمال العقل ، وفي عدم العلم به سبحانه ضرورة دليل على عدم إدراكه ....

وثبوت كونه تعالى لا يشبه شيئاً يحيل عليه التنقل والاِختصاص بالحياة والمجاورة ، لاَن ذلك من أحكام المتحيزات وليس بمتحيز. ويحيل عليه سبحانه

١٧٣

الحلول وإيجاب الاَحوال والاَحكام ، لاَن ذلك من خواص الاَعراض ، فتسقط لذلك مذاهب الثنوية والمجوس والصابئين وعباد الاَصنام والمنجمين والنصارى والغلاة ، لاِثبات هؤلاء أجمع إلَهية الاَجسام ، أو كونها مؤثرة ما يستحيل من الجسم تأثيره ، على ما سلف بيانه.

ـ كشف المراد للعلامة الحلي ص٣٢٠ : المتوفى سنة ٧٢٦

المسألة العشرون : في أنه تعالى ليس بمرئي.

أقول : وجوب الوجود يقتضي نفي الرؤية أيضاً. واعلم أن أكثر العقلاء ذهبوا إلى امتناع رؤيته تعالى ، والمجسمة جوزوا رؤيته لاعتقادهم أنه تعالى جسم ولو اعتقدوا تجرده لم يجوزوا رؤيته عندهم. والاَشاعرة خالفوا العقلاء كافة هنا وزعموا أنه تعالى مع تجرده يصح رؤيته.

والدليل على امتناع الرؤية أن وجوب الوجود يقتضي تجرده ونفي الجهة والحيز عنه ، فتنتفي الرؤية عنه بالضرورة ، لاَن كل مرئي فهو في جهة يشار إليه بأنه هناك أو هنا ، ويكون مقابلاً أو في حكم المقابل ، ولما انتفى هذا المعنى عنه تعالى انتفت الرؤية .... أقول : لما استدل على نفي الرؤية شرع في الجواب عن الاِحتجاج ، والاَشاعرة قد احتجوا بوجوه أجاب المصنف رحمه‌الله عنها.

الاَول ، إن موسى عليه‌السلامسئل الرؤية ولو كانت ممتنعة لم يصح عنه السؤال.

والجواب : أن السؤال كان من موسى عليه‌السلاملقومه ليبين لهم امتناع الرؤية لقوله تعالى : لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة ، وقوله : أفتهلكنا بما فعل السفهاء منا ....

الوجه الثاني لهم ، أنه تعالى حكى عن أهل الجنة النظر اليه فقال : إلى ربها ناظرة ، والنظر المقرون بحرف إلى يفيد الرؤية ، لاَنه حقيقة في تقليب الحدقة نحو المطلوب التماساً للرؤية ، وهذا متعذر في حقه تعالى لانتفاء الجهة ، عنه فيتعين أن يكون

١٧٤

المراد منه المجاز ، وهي الرؤية التي هي معلولة النظر الحقيقي ، واستعمال لفظ السبب في المسبب من أحسن وجوه المجاز.

والجواب : المنع من إرادة هذا المجاز ، فإن النظر وإن اقترن به حرف إلى لا يفيد الرؤية ، ولهذا يقال نظرت إلى الهلال فلم أره ، وإذا لم يتعين هذا المعنى للاِرادة أمكن حمل الآية على غيره ، وهو أن يقال إن إلى واحد إلاء ويكون معنى ناظرة أي منتظرة ، أو نقول إن المضاف هنا محذوف وتقديره إلى ثواب ربها ناظرة.

لا يقال : الاِنتظار سبب الغم والآية سيقت لبيان النعم.

لاَنا نقول : سياق الآية يدل على تقدم حال أهل الثواب والعقاب على استقرارهم في الجنة والنار بقوله : وجوه يومئذ ناظرة ، بدليل قوله تعالى : ووجوه يومئذ باسرة تظن أن يفعل بها فاقرة ، فإن في حال استقرار أهل النار في النار قد فعل بها فاقرة فلا يبقى للظن معنى. وإذا كان كذلك فانتظار النعمة بعد البشارة بها لا يكون سبباً للغم بل سبباً للفرح والسرور ونضارة الوجه كمن يعلم وصول نفع إليه يقيناً في وقت ، فإنه يسر بذلك وإن لم يحضر الوقت ، كما أن انتظار العقاب بعد الاَنذار بوروده يوجب الغم ويقتضي بسارة الوجه.

قال : وتعليق الرؤية باستقرار المتحرك لا يدل على الاِمكان.

أقول : هذا جواب عن الوجه الثالث للاَشعرية وتقرير احتجاجهم أن الله سبحانه وتعالى علق الرؤية في سؤال موسى عليه‌السلامعلى استقرار الجبل ، والاِستقرار ممكن لاَن كل جسم فسكونه ممكن ، والمعلق على الممكن ممكن.

والجواب : أنه تعالى علق الرؤية على الاِستقرار لا مطلقاً بل على استقرار الجبل حال حركته ، واستقرار الجبل حال الحركة محال ، فلا يدل على إمكان المعلق.

قال : واشتراك المعلولات لا يدل على اشتراك العلل مع منع التعليل والحصر.

أقول : هذا جواب عن شبهة الاَشاعرة من طريق العقل استدلوا بها على جواز رؤيته تعالى ، وتقريرها أن الجسم والعرض قد اشتركا في صحة الرؤية ، وهذا حكم

١٧٥

مشترك يستدعي علة مشتركة ، ولا مشترك بينهما إلا الحدوث أو الوجود ، والحدوث لا يصلح للعلية لاَنه مركب من قيد عدمي فيكون عدمياً ، فلم يبق إلا الوجود فكل موجود يصح رؤيته وأنه تعالى موجود.

وهذا الدليل ضعيف جداً لوجوه :

الاَول : المنع من رؤية الجسم ، بل المرئي هو اللون أو الضوء لا غير.

الثاني ، لا نسلم اشتراكهما في صحة الرؤية ، فإن رؤية الجوهر مخالفة لرؤية العرض.

الثالث ، لا نسلم أن الصحة ثبوتية بل هي أمر عدمي ، لاَن جنس صحة الرؤية وهو الاِمكان عدمي ، فلا يفتقر إلى العلة.

الرابع ، لا نسلم أن المعلول المشترك يستدعي علة مشتركة ، فإنه يجوز اشتراك العلل المختلفة في المعلولات المتساوية.

الخامس ، لا نسلم الحصر في الحدوث والوجود ، وعدم العلم لا يدل على العدم ، مع أنا نتبرع قسماً آخر وهو الاِمكان ، وجاز التعليل به وإن كان عدمياً ، لاَن صحة الرؤية عدمية.

السادس ، لا نسلم أن الحدوث لا يصلح للعلية ، وقد بينا أن صحة الرؤية عدمية ، على أنا نمنع من كون الحدوث عدمياً ، لاَنه عبارة عن الوجود المسبوق بالغير لا المسبوق بالعدم.

السابع ، لم لا يجوز أن تكون العلة هي الوجود بشرط الاِمكان أو بشرط الحدوث ، والشروط يجوز أن تكون عدمية.

الثامن ، المنع من كون الوجود مشتركاً ، لاَن وجود كل شيء نفس حقيقته ، ولو سلم كون الوجود الممكن مشتركاً ، لكن وجود الله تعالى مخالف لغيره من الوجودات ، لاَنه نفس حقيقته ، ولا يلزم من كون وجود بعض الماهيات علة لشيء كون ما يخالفه علة لذلك الشيء.

١٧٦

التاسع ، المنع من وجود الحكم عند وجود المقتضي ، فإنه جاز وجود مانع في حقه تعالى ، أما ذاته أو صفة من صفاته ، أو نقول الحكم يتوقف على شرط كالمقابلة هنا وهي تمتنع في حقه تعالى ، فلا يلزم وجود الحكم فيه.

ـ الرسالة السعدية للعلامة الحلي ص ٣٩

والدليل على المذهب الاَول : العقل ، والنقل.

أما العقل ، فإن الضرورة قاضية : بأن كل مرئي ، فإنه لابد وأن يكون مقابلاً للرائي ، أو في حكم المقابل كالمرئي في المرايا. وكل مقابل أو في حكمه فهو في جهة ، والله تعالى ليس في جهة فلا يكون مرئياً.

ولاَنه لو كان مرئياً لرأيناه الآن ، لوجود العلة المقتضية للرؤية وهي حصول الشرايط وانتفاء الموانع وسلامة الحاسة.

وأما النقل ، فقوله تعالى : لن تراني ، ولو كانت صحيحة ويراه بعض المؤمنين ، لكان موسى عليه‌السلامأولى بالرؤية.

وقوله تعالى : لا تدركه الاَبصار وهو يدرك الاَبصار ، تمدح بنفي الرؤية فيكون ثبوتها نقصاً ، والنقص على الله تعالى محال.

ولاَن الخصم يسلم أن معرفة الله تعالى ليست حاصلة إلا بصفاته وآثاره دون حقيقته ، فكيف تصح رؤيته والاِحاطة بكنه حقيقته ، تعالى الله عن ذلك.

* *

١٧٧

الفصل الخامس

من أين نشأت المشكلة عند إخواننا السنة

العامل الاَول : ميل العوام إلى التشبيه والتجسيم

للذهن البشري حالة ابتدائية طفولية يتصور فيها كثيراً من الاَمور تصوراً خاطئاً ، حتى إذا تعمق في الفكر والتجربة .. تصححت نظرته! ولعل أكثر الناس يتصورون الله تعالى في طفولتهم بصور من محيطهم ، فيتخيله أحدهم كأبيه مثلاً ، أو كإنسان صاحب صفات حسنة .... وهذا أمر طبيعي ، بل قد يكون فطرياً ، فقد ورد أن النملة تتصور أن لربها قرنين كقرنيها ( نحوه في بحار الاَنوار ج ٦٩ ص ٢٩٣ )

ولكن هذه الحالة الطفولية إذا استمرت مع الاِنسان ولم تتطور ، فإنها تتحول إلى حالة عامية مستعصية ، ولذا ترى أصحابها يميلون إلى الاِعتقاد بأن الله تعالى جسم ، ويروون عنه القصص والخيالات!

وقد كانت هذه ( العامية ) سائدة في مجتمع اليهود الذي انحرف عن رسالات أنبيائه ، وكذا في مجتمع العرب الوثني ، وصارت أرضية لتقبل نظريات الرؤية والتشبيه والتجسيم من اليهود ، وترويجها بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والتنظير لها! حتى أن بعض

١٧٨

الحنابلة والاَشعريين كابن عقيل والذهبي ادعيا أن الاِسلام دين عوامي يتبنى منهج العوامية!

قال الذهبي في سيره ج ١٩ ص ٤٤٨ : قال ابن عقيل في الفنون : الاَصلح لاعتقاد العوام ظواهر الآي ، لاَنهم يأنسون بالاِثبات ، فمتى محونا ذلك من قلوبهم زالت الحشمة. قال : فتهافتهم في التشبيه أحب إلينا من إغراقهم في التنزيه ، لاَن التشبيه يغمسهم في الاِثبات فيخافون ويرجون ، والتنزيه يرمي بهم إلى النفي ، فلا طمع ولا مخافة في النفي. ومن تدبر الشريعة رآها غامسة للمكلفين في التشبيه بالاَلفاظ الظاهرة التي لا يعطي ظاهرها سواه كقول الاَعرابي : أو يضحك ربنا؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم : نعم ، فلم يكفهر لقوله وتركه وما وقع له! انتهى.

وقد تبنى الذهبي هذا الاِتجاه الخطير وأشاد بأهله! وبلغ به الاَمر أنه نقل كلام أبي حاتم بن خاموش الذي كفر فيه كل المسلمين ما عدا الحنابلة ولم يعلق عليه ، قال في سيره ج ١٨ ص ٥٠٧ :

قال ابن طاهر : وسمعت أبا إسماعيل يقول : قصدت أبا الحسن الخرقاني الصوفي ، ثم عزمت على الرجوع ، فوقع في نفسي أن أقصد أبا حاتم بن خاموش الحافظ بالري وألتقيه ، وكان مقدم أهل السنة بالري ، وذلك أن السلطان محمود بن سبكتكين لما دخل الري ، وقتل بها الباطنية منع الكل من الوعظ غير أبي حاتم ، وكان من دخل الري يعرض عليه اعتقاده فإن رضيه أذن له في الكلام على الناس وإلا فمنعه ، قال : فلما قربت من الري كان معي رجل في الطريق من أهلها فسألني عن مذهبي فقلت : حنبلي ، فقال : مذهب ما سمعت به وهذه بدعة وأخذ بثوبي ، وقال : لا أفارقك إلى الشيخ أبي حاتم ، فقلت خيرة ، فذهب بي إلى داره ، وكان له ذلك اليوم مجلس عظيم ، فقال : هذا سألته عن مذهبه ، فذكر مذهباً لم أسمع به قط. قال : وما قال؟ فقال قال : أنا حنبلي. فقال : دعه ، فكل من لم يكن حنبلياً فليس بمسلم. فقلت في نفسي : الرجل كما وصف لي ، ولزمته أياماً وانصرفت. انتهى.

١٧٩

وقال الناشر عما وجده في المخطوطة : ( في حاشية الاَصل بخط مغاير ما نصه : أخطأ هذا القائل قطعاً والمقول له في تصويبه ذلك وكذلك المادح له ، بل لو قيل : إن قائل هذه المقالة يكفر بها لم يبعد ، لاَنه نفى الاِسلام عن عالم عظيم من هذه الاَمة ليسوا بحنابلة ، بل هم الجمهور الاَعظم ، ولقد بالغ المصنف في هذا الكتاب في تعظيم رؤوس التجسيم ، وسياق مناقبهم ، والتغافل عن بدعهم ، بل يعدها سنة. ويهضم جانب أهل التنزيه ، ويعرض بهم أو يصرح ، ويتغافل عن محاسنهم العظيمة وآثارهم في الدين ، كما فعل في ترجمة إمام الحرمين والغزالي ، والله حسيبه ، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ). انتهى.

وقد كان العوام الرعاع في كل جيل يتعصبون للقول بالتشبيه ولمن يقول به ، ويؤيدونه ضد خصومه بأساليب خشنة عدوانية! فقد روى ابن بطوطة في رحلته ج ١ ص ٩٠ إحدى مشاهداته فقال :

( وكان بدمشق من كبار الفقهاء الحنابلة تقي الدين بن تيمية كبير الشام ، يتكلم في الفنون إلا أن في عقله شيئاً .. وكنت إذ ذاك بدمشق فحضرته يوم الجمعه وهو يعظ الناس على منبر الجامع ويذكرهم فكان من جملة كلامه أن قال : إن الله ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي هذا ، ونزل ربعة من ربع المنبر ، فعارضه فقيه مالكي يعرف بابن الزهراء وأنكر ما تكلم به ، فقامت العامة إلى هذا الفقيه وضربوه بالاَيدي والنعال ضرباً كثيراً ، حتى سقطت عمامته وظهر على رأسه شاشية حرير ) انتهى.

وبقى هذا السلوك العوامي لاَصحاب الرؤية والتجسيم ، إرثاً موروثاً من قرون الاِسلام الاَولى! بل زاد عليه الاَشعريون والمجسمة والدولة في ابتكار أساليب القمع والاِرهاب للذين يخالفونهم ، كما عرفت في موقفهم من التأويل والمتأولة ، وكما فعلوا مع الطبري المؤرخ لاَنه لم يوافقهم على أن الله تعالى يجلس على عرشه ، فيفضل منه أربع أصابع ليجلس عليها الاَنبياء إلى جنبه! قال الحموي في معجم الاَدباء ج ٩ جزء ١٨ ص ٥٧ في ترجمة الطبري :

١٨٠