العقائد الاسلامية - ج ٢

مركز المصطفى للدراسات الإسلامية

العقائد الاسلامية - ج ٢

المؤلف:

مركز المصطفى للدراسات الإسلامية


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز المصطفى للدراسات الإسلامية
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-119-2 /
ISBN الدورة:
964-319-117-6

الصفحات: ٤٣٧

فقطعة ارتفعت في السماء ، وقطعة غاصت تحت الاَرض ، وقطعة تفتت فهذا الذر من ذلك الغبار ، غبار الجبل.

ـ تفسير العياشي ج ٢ ص ٢٦

عن أبي بصير عن أبي جعفر وأبي عبدالله عليهما‌السلامقال : لما سأل موسى ربه تبارك وتعالى : قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني ، قال : فلما صعد موسى على الجبل فتحت أبواب السماء وأقبلت الملائكة أفواجاً في أيديهم العمد وفي رأسها النور ، يمرون به فوجاً بعد فوج يقولون : يابن عمران أثبت فقد سألت عظيماً ، قال : فلم يزل موسى واقفاً حتى تجلى ربنا جل جلاله ، فجعل الجبل دكاً وخر موسى صعقاً ، فلما أن رد الله إليه روحه أفاق قال : سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين.

قال ابن أبي عمير : وحدثني عدة من أصحابنا أن النار أحاطت به ، حتى لا يهرب من هول ما رأى.

ـ وقال الشريف المرتضى في أماليه ج ٤ ص ١٢٥

فإن قيل : كيف يجوز منه عليه الصلاة والسلام مع علمه باستحالة الرؤية عليه تعالى أن يسأل فيها لقومه ، ولئن جاز ذلك ليجوزن أن يسأل لقومه سائر ما يستحيل عليه تعالى من كونه جسماً وما أشبهه متى شكوا فيه.

قلنا : إنما صح ما ذكرناه في الرؤية ولم يصح فيما سألت عنه لاَنه مع الشك في جواز الرؤية التي لا يقتضي كونه جسماً يمكن معرفة السمع وأنه تعالى حكيم صادق في إخباره ، فيصح أن يعرفوا بالجواب الوارد من جهته تعالى استحالة ما شكوا في صحته وجوازه ، ومع الشك في كونه جسماً لا يصح معرفة السمع فلا يقع بجوابه انتفاع ولا علم..

وقد قال بعض من تكلم في هذه الآية قد كان جائزاً أن يسأل موسى عليه‌السلاملقومه ما يعلم استحالته وإن كانت دلالة السمع لا تثبت قبل معرفته متى كان المعلوم أن في

٣٦١

ذلك صلاحاً للمكلفين في الدين ، وإن ورود الجواب يكون لطفاً لهم في النظر في الاَدلة وإصابة الحق منها ، غير أن من أجاب بذلك شرط أن يتبين في مسألة علمه باستحالة ما سأل عنه وأن غرضه في السؤال ورود الجواب ليكون لطفاً..

والجواب الثاني في الآية أن يكون موسى عليه‌السلامإنما سأل ربه أن يعلمه نفسه ضرورةً بإظهار بعض أعلام الآخرة التي تضطره إلى المعرفة فتزول عنه الدواعي والشكوك والشبهات ويستغني عن الاِستدلال فتخف المحنة عليه بذلك ، كما سأل إبراهيم عليه‌السلامربه تعالى أن يريه كيف يحيى الموتى طلباً للتخفيف عليه بذلك ، وإن كان قد عرف ذلك قبل أن يراه ، والسؤال إن وقع بلفظ الرؤية فإن الرؤية تفيد العلم كما تفيد الاِدراك بالبصر ، وذلك أظهر من أن يستدل عليه أو يستشهد به ، فقال له جل وعز : لن تراني ، أي لن تعلمني على هذا الوجه الذي التمسته مني ، ثم أكد تعالى ذلك بأن أظهر في الجبل من آياته وعجائبه ما دل به على أن إظهار ما تقوم به المعرفة الضرورية في الدنيا مع التكليف وبيانه لا يجوز ، وأن الحكمة تمنع منه.

والوجه الاَول أولى لما ذكرناه من الوجوه ولاَنه لا يخلو موسى عليه‌السلاممن أن يكون شاكاً في أن المعرفة ضرورية لا يصح حصولها في الدنيا أو عالماً بذلك ، فإن كان شاكاً فهذا مما لا يجوز على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لاَن الشك فيما يرجع إلى أصول الديانات وقواعد التكليف لا يجوز عليهم سلام الله عليهم ، لا سيما وقد يجوز أن يعلم ذلك على الحقيقة بعض أمتهم فيزيد عليهم في المعرفة ، وهذا أبلغ في التنفير عنهم من كل شيء يمنع منه فيهم. وإن كان عالماً فلا وجه لسؤاله إلا أن يقال إنه سأل لقومه ، فيعود إلى معنى الجواب الاَول.

والجواب الثالث في الآية ، ما حكي عن بعض من تكلم في هذه الآية من أهل التوحيد وهو أن قال : يجوز أن يكون موسى عليه‌السلامفي وقت مسألته ذلك كان شاكاً في جواز الرؤية على الله تعالى فسأل ذلك ليعلم هل يجوز عليه أم لا ، قال وليس شكه في ذلك بمانع من أن يعرف الله تعالى بصفاته بل يجري مجرى شكه في جواز الرؤية على بعض ما لا يرى من الاَعراض في أنه غير مخل بما يحتاج إليه في معرفته تعالى.

٣٦٢

قال : ولا يمتنع أن يكون غلطه في ذلك ذنباً صغيراً وتكون التوبة الواقعة منه لاَجل ذلك.

وهذا الجواب يبعد من قبل أن الشك في جواز الرؤية التي لا تقتضي تشبيهاً ، وإن كان لا يمنع من معرفته تعالى بصفاته فإن الشك في ذلك لا يجوز على الاَنبياء عليهم‌السلام من حيث يجوز من بعض من بعثوا إليه أن يعرف ذلك على الحقيقة فيكون النبي صلى الله عليه شاكاً فيه وغيره عارفاً به مع رجوعه إلى المعرفة بالله تعالى وما يجوز عليه وما لا يجوز عليه ، وهذا أقوى في التنفير وأزيد على كل ما وجب أن يجنبه الاَنبياء عليهم‌السلام.

فإن قيل : فعن أي شيء كانت توبة موسى عليه‌السلامعلى الجوابين المتقدمين؟

قلنا : أما من ذهب إلى أن المسألة كانت لقومه ، فإنه يقول إنما تاب لاَنه أقدم على أن سأل على لسان قومه ما لم يؤذن له فيه ، وليس للاَنبياء ذلك لاَنه لا يؤمن أن يكون الصلاح في المنع منه فيكون ترك إجابتهم إليه منفراً عنهم. ومن ذهب إلى أنه سأل المعرفة الضرورية يقول إنه تاب من حيث سأل معرفة لا يقتضيها التكليف. وعلى جميع الاَحوال تكون التوبة من ذنب صغير لا يستحق عليه العقاب ولا الذم.

والاَولى أن يقال في توبته عليه الصلاة والسلام : إنه ليس في الآية ما يقتضي أن تكون التوبة وقعت من المسألة أو من أمر يرجع إليها ، وقد يجوز أن يكون ذلك منه إما لذنب صغير تقدم تلك الحال أو تقدم النبوة ، فلا يرجع إلى سؤال الله تعالى الرؤيا أو ما أظهره من التوبة على سبيل الرجوع إلى الله تعالى وإظهار الاِنقطاع إليه والتقرب منه وإن لم يكن هناك ذنب صغير ، وقد يجوز أيضاً أن يكون الغرض في ذلك مضافاً إلى ما قلناه تعليماً وتوقيفاً على ما نستعمله وندعوه به عند الشدائد ونزول الاَهوال وتنبيه القوم المخطئين خاصة على التوبة مما التمسوه من الرؤية المستحيلة عليه تعالى ، فإن الاَنبياء عليهم‌السلام وإن لم يقع منهم القبيح عندنا فقد يقع من غيرهم ويحتاج من رفع ذلك عنه إلى التوبة من الاِستقالة ..

٣٦٣

فأما قوله تعالى : فلما تجلى ربه للجبل ، فإن التجلى هاهنا هو التعريف والاِعلام والاِظهار لما يقتضي المعرفة ، كقولهم هذا كلام جلي أي واضح ظاهر ، وكقول الشاعر :

تجلى لنا بالمشرفية والقنا

وقد كان عن وقع الاَسنة نائيا

أراد أن تدبيره دل عليه حتى علم أنه المدبر له وإن كان نائياً فأقام ما أظهره من دلالة فعله على مقام مشاهدته وعبر عنه بأنه تجلى منه.

وفي قوله تعالى ( للجبل ) وجهان ، أحدهما ، أن يكون المراد لاَهل الجبل ومن كان عند الجبل فحذف كما قال تعالى : واسأل القرية ، وما بكت عليهم السماء والاَرض ، وقد علمنا أنه بما أظهره من الآيات إنما دل من كان عند الجبل على أن رؤيته تعالى غير جائزة. والوجه الآخر ، أن يكون المعنى للجبل أي بالجبل ، فأقام اللام مقام الباء كما قال تعالى : آمنتم له قبل أن آذن لكم ، أي به ، وكما تقول : أخذتك لجرمك أي بجرمك ، ولما كانت الآية الدالة على منع ما سأل إنما حلت الجبل وظهرت فيه جاز أن يضاف التجلي إليه.

وقد استدل بهذه الآية كثير من العلماء الموحدين على أنه تعالى لا يرى بالاَبصار من حيث نفي الرؤية نفياً عاماً بقوله تعالى : لن تراني ، ثم أكد ذلك بأن علق الرؤية باستقرار الجبل الذي علمنا أنه لم يستقر ، وهذه طريقة للعرب معروفة في تبعيد الشيء لاَنهم يعلقونه بما يعلم أنه لا يكون كقولهم : لا كلمتك ما أضاء الفجر وطلعت الشمس ، وكقول الشاعر :

إذا شاب الغراب رجوت أهلي

وصار القير كاللبن الحليب

ـ بحار الاَنوار ج ٣ ص ٤٥ : أورد رواية الصدوق الاَولى عن الاَمالي والتوحيد وقال :

بيان : إعلم أن المنكرين للرؤية والمثبتين لها كليهما استدلوا بما ورد في تلك القصة على مطلوبهم ، فأما المثبتون فاحتجوا بها بوجهين :

الاَول : أن موسى عليه‌السلامسأل الرؤية ولو امتنع كونه تعالى مرئياً لما سأل ، لاَنه حينئذ

٣٦٤

إما أن يعلم امتناعه أو يجهله فإن علمه فالعاقل لا يطلب المحال لاَنه عبث ، وإن جهله فالجاهل بما لا يجوز على الله تعالى ويمتنع لا يكون نبياً كليماً.

وأجيب عنه بوجوه : الاَول : ما ورد في هذا الخبر من أن السؤال إنما كان بسبب قومه لا لنفسه ، لاَنه كان عالماً بامتناعها ، وهذا أظهر الوجوه واختاره السيد الاَجل المرتضى في كتابي تنزيه الاَنبياء وغرر الفوائد ، وأيده بوجوه :

منها ، حكاية طلب الرؤية من بني إسرائيل في مواضع كقوله تعالى : فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم. وقوله تعالى : وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون. ومنها ، أن موسى عليه‌السلامأضاف ذلك إلى السفهاء ، قال الله تعالى : فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا. وإضافة ذلك إلى السفهاء تدل على أنه كان بسببهم ومن أجلهم حيث سألوا ما لا يجوز عليه تعالى.

فإن قيل : فلم أضاف السؤال إلى نفسه ووقع الجواب مختصاً به.

قلنا : لا يمتنع وقوع الاِضافة على هذا الوجه ، مع أن السؤال كان لاَجل الغير إذا كانت هناك دلالة تؤمن من اللبس ، فلهذا يقول أحدنا إذا شفع في حاجة غيره للمشفوع إليه : أسألك أن تفعل بي كذا وتجيبني إلى ذلك ، ويحسن أن يقول المشفوع إليه : قد أجبتك وشفعتك ، وما جرى مجرى ذلك ، على أنه قد ذكر في الخبر ما يغني عن هذا الجواب.

وأما ما يورد في هذا المقام من أن السؤال إذا كان للغير ، فأي جرم كان لموسى حتى تاب منه؟

فأجاب رحمه‌الله بحمل التوبة على معناها اللغوي أي الرجوع ، أي كنت قطعت النظر عما كنت أعرفه من عدم جواز رؤيتك ، وسألت ذلك للقوم فلما انقضت المصلحة في ذلك تركت هذا السؤال ورجعت إلى معرفتي بعدم جواز رؤيتك وما تقتضيه من عدم السؤال.

٣٦٥

وأجاب السيد قدس الله روحه عنه بأنه يجوز أن يكون التوبة لاَمر آخر غير هذا الطلب ، أو يكون ما أظهره من التوبة على سبيل الرجوع إلى الله تعالى ، وإظهار الاِنقطاع إليه والتقرب منه وإن لم يكن هناك ذنب.

والحاصل أن الغرض من ذلك إنشاء التذلل والخضوع ، ويجوز أن يضاف إلى ذلك تنبيه القوم المخطئين على التوبة مما التمسوه من الرؤية المستحيلة عليه. بل أقول يحتمل أن تكون التوبة من قبلهم كما كان السؤال كذلك.

الثاني : أنه عليه‌السلاملم يسأل الرؤية بل تجوز بها عن العلم الضروري لاَنه لازمها ، وإطلاق اسم الملزوم على اللازم شائع سيما استعمال رأى بمعنى علم وأرى بمعنى أعلم ، والحاصل أنه سأله أن يعلمه نفسه ضرورة بإظهار بعض أعلام الآخرة التي تضطره إلى المعرفة ، فتزول عنه الدواعي والشكوك ، ويستغني عن الاِستدلال كما سأل إبراهيم عليه‌السلام : رب أرني كيف تحيي الموتى.

الثالث : أن في الكلام مضافاً محذوفاً أي أرني آية من آياتك أنظر إلى آيتك ، وحاصله يرجع إلى الثاني.

الرابع : أنه عليه‌السلامسأل الرؤية مع علمه بامتناعها لزيادة الطمأنينة بتعاضد دليل العقل والسمع ، كما في طلب إبراهيم عليه‌السلام ، وحاصله يرجع إلى منع أن العاقل لا يطلب المحال الذي علم استحالته إذ يمكن أن يكون الطلب لغرض آخر غير حصول المطلوب ، فلا يلزم العبث لجواز ترتب غرض آخر عليه ، والعبث ما لا فائدة فيه أصلاً ، ولعل في هذا السؤال فوائد عظيمة سوى ما ذكر أيضاً ولا يلزمنا تعيين الفائدة بل على المستدل أن يدل على انتفائها مطلقاً ، ونحن من وراء المنع ، ومما يستغرب من الاَشاعرة أنهم أجمعوا على أن الطلب غير الاِرادة ، واحتجوا عليه بأن الآمر ربما أمر عبده بأمر وهو لا يريده ، بل يريد نقيضه ، ثم يقولون هاهنا : بأن طلب ما علم استحالته لا يتأتى من العاقل.

الثاني من وجهي احتجاجهم : هو أنه تعالى علق الرؤية على استقرار الجبل وهو

٣٦٦

أمر ممكن في نفسه ، والمعلق على الممكن ممكن ، لاَن معنى التعليق أن المعلق يقع على تقدير وقوع المعلق عليه ، والمحال لا يقع على شيء من التقادير.

ويمكن الجواب عنه بوجوه ، أوجهها أن يقال : التعليق إما أن يكون الغرض منه بيان وقت المعلق وتحديد وقوعه بزمان وشرط ، ومن البينِّ أن ما نحن فيه ليس من هذا القبيل. وإما أن يكون المطلوب فيه مجرد بيان تحقق الملازمة وعلاقة الاِستلزام بأن يكون لاِفادة النسبة التي بين الشرط والجزاء مع قطع النظر عن وقوع شيء من الطرفين وعدم وقوعه ، ولا يخفى على ذي لب أن لا علاقة بين استقرار الجبل ورؤيته تعالى في نفس الاَمر ولا ملازمة. على أن إفادة مثل هذا الحكم وهو تحقق علاقة اللزوم بين هاتين القضيتين لا يليق بسياق مقاصد القرآن الحكيم مع ما فيه من بعده عن مقام سؤال الكليم ، فإن المناسب لما طلب من الرؤية بيان وقوعه ولا وقوعه ، لا مجرد إفادة العلاقة بين الاَمرين فالصواب حينئذ أن يقال : المقصود من هذا التعليق بيان أن الجزاء لا يقع أصلاً بتعليقه على ما لا يقع ، ثم هذا التعليق إن كان مستلزماً للعلاقة بين الشرط والجزاء فواجب أن يكون إمكان الجزاء مستتبعاً لاِمكان الشرط ، لاَن ماله هذه العلاقة مع المحال لا يكون ممكناً على ما هو المشهور من أن مستلزم المحال محال ، وإلا فلا وجه لوجوب إمكان الجزاء. والاَول وإن كان شائع الاِرادة من اللفظ إلا أن الثاني أيضاً مذهب معروف للعرب كثير الدوران بينهم ، وهو عمدة البلاغة ودعامتها ، ومن ذلك قول الشاعر :

إذا شاب الغراب أتيت أهلي

وصار القار كاللبن الحليب

ومعلوم أن مشيب الغراب وصيرورة القار كالحليب لا ملازمة بينهما وبين إتيان الشاعر أهله. ونظيره في الكتاب الكريم كثير كتعليق خروج أهل النار منها على ولوج الجمل في سم الخياط ، وبعيد من العاقل أن يدعي علاقة بينهما ، وإذا كان ذلك التعليق أمراً شائعاً كثير الوقوع في كلامهم فلا ترجيح للاِحتمال الاَول بل الترجيح معنا ، فإن البلاغة في ذلك ، وأما إذا تحققت العلاقة في الواقع بينهما وعلق عليه

٣٦٧

لمكان تلك العلاقة فليس له ذلك الموقع من حسن القبول ، ألا ترى أن المتمني لوصال حبيبه الميت لو قال : إذا رجع الموتى إلى الدنيا أمكن لي زيارة الحبيب ، لم يكن كقول الصب المتحسر على مفارقة الاَحباء : متى أقبل الاَمس الدابر وحيي الميت الغابر طمعت في اللقاء.

وأيضاً لا يخفى على ذي فطرة أن التزام تحقق علاقة لزوم بين استقرار الجبل في تلك الحال وبين رؤيته تعالى بحيث لو فرض وقوع ذلك الاِستقرار امتنع أن لا تقع رؤيته تعالى ، مستبعد جداً يكاد يجزم العقل ببطلانه ، فإذن المقصود من ذلك الكلام مجرد بيان انتفائه بتعليقه على أمر غير واقع ، ويكفي في ذلك عدم وقوع المعلق عليه ، ولا يستدعي امتناع المعلق امتناعه. ولو سلم فنقول : إن المعلق عليه هو الاِستقرار لا مطلقاً بل في المستقبل وعقيب النظر ، بدلالة الفاء وإن ، وذلك لاَنه إذا دخلت الفاء على إن تفيد اشتراط التعقيب لا تعقيب الاِشتراط ، فالشرط هاهنا وقوع الاِستقرار عقيب النظر ، والنظر ملزوم لوقوع حركة الجبل عقيبه ، فوقوع السكون عقيبه محال لاستحالة وقوع الشيء عقيب ما يستعقب منافي ذلك الشيء ويستلزم وقوعه عقيبه.

وأما أن النظر لا يستلزم اندكاك الجبل وتزلزله ولا علاقة بينه وبينه وإنما هو مصاحبة اتفاقية فممنوع ، ولعل النظر ملزوم للحركة كما أن استقرار الجبل ملزوم لرؤيته تعالى ، وتحقق العلاقة بين النظر والحركة ليس بأبعد من تحقق العلاقة بين الاِستقرار والرؤية.

ولنقتصر على ذلك فإن إطناب الكلام في كل من الدلائل والاَجوبة يوجب الخروج عما هو المقصود من الكتاب.

وأما المنكرون فاحتجوا بقوله تعالى : لن تراني ، إن كلمة لن تفيد إما تأبيد النفي في المستقبل ، كما صرح به الزمخشري في أنموذجه ، فيكون نصاً في أن موسى عليه‌السلاملا يراه أبداً ، أو تأكيده على ما صرح به في الكشاف ، فيكون ظاهراً في ذلك لاَن المتبادر في مثله عموم الاَوقات ، وإذا لم يره موسى لم يره غيره إجماعاً.

٣٦٨

وإن نوقش في كونها للتأكيد أو للتأبيد فكفاك شاهداً استدلال أئمتنا عليهم‌السلام بها على نفي الرؤية مطلقاً ، لاَنهم أفصح الفصحاء طراً باتفاق الفريقين ، مع أنا لكثرة براهيننا لا نحتاج إلى الاِكثار في دلالة هذه الآية على المطلوب.

وقال في هامشه : قال الرضي في تلخيصه : هذه استعارة على أحد وجهي التأويل وهو أن يكون المعنى : فلما حقق تعالى بمعرفته لحاضري الجبل الآيات التي أحدثها في العلم بحقيقته عوارض الشبه وخوالج الريب ، وكأن معرفته سبحانه تجلت لهم من غطاء أو برزت لهم من حجاب.

ـ شرح الاَسماء الحسنى ج ١ ص ١٨٥ ـ ١٩١

واحتج الاَشاعرة بحجة عقلية كلامية لا نطيل الكلام بذكرها ، وأدلة نقلية منها قوله تعالى حكاية عن موسى عليه‌السلام : رب أرني أنظر اليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني.

والاِحتجاج به من وجهين ، أحدهما ، أن موسى سأل الرؤية فلو استحالت كان سؤاله عليه‌السلامإما عبثاً إن علم المحالية وإما جهلاً إن لم يعلم ، وكلاهما محالان على النبي ولاسيما أنه كليم الله ، كيف والنبي يدعو إلى العقايد الحقة والاَعمال الصالحة. وثانيهما ، أنه تعالى علق الرؤية على استقرار الجبل ، وهو أمر ممكن في نفسه فكذا ما علق عليه.

واعترض على الاَول ، بأن سؤال موسى عليه‌السلامعن لسان قومه بدليل قوله تعالى : لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ، وقوله تعالى : أفتهلكنا بما فعل السفهاء.

وأجيب بأنه مع مخالفته للظاهر حيث لم يقل أرهم ينظروا إليك ، وهو فاسد ، أما أولاً فلاَنهم لما قالوا أرنا الله جهرة زجرهم بأخذ الصاعقة فلم يحتج إلى سؤال الرؤية وليس أخذ الصاعقة دليلاً لهم لجواز أن يكون ذلك لقصدهم إعجاز موسى عليه‌السلامعن إتيان ما طلبوه عناداً ، أو لعدم قابليتهم بما هم منهمكون في الدنيا ، ولذا قال الاَشاعرة : المؤمنون يرونه تعالى في الآخرة.

٣٦٩

وأما ثانياً ، فلاَن تجويز الرؤية باطل عند المعتزلة فلا يجوز لموسى عليه‌السلامتأخير رد الرؤية وتقرير الباطل ، ألا ترى أنهم لما قالوا إجعل لنا إلَهاً كما لهم آلهة ، رد عليهم من ساعة بقوله : إنكم قوم تجهلون.

وعلى الوجه الثاني بأنها علقت على الاِستقرار عقيب النظر بدليل الفاء وكلمة إن ، وهو حالة الاِندكاك ، ولا نسلم إمكان الاِستقرار حينئذ. والجواب : أن الاِستقرار حال الحركة ممكن لا بشرط الحركة كما أن قيام زيد ممكن حال قعوده لا بشرط قعوده.

أنواع التجلي الاِلَهي

ـ شرح الاَسماء الحسنى ج ٢ ص ٥

بيان ذلك : أن لله تعالى تجليات : تجل ذاتي هو تجلي ذاته بذاته على ذاته ، إذ لم يكن إسم ولا رسم.

وتجل صفاتي ، هو تجلي ذاته في أسمائه الحسنى وصفاته العليا على وجه يستتبع تجليه في صور أسمائه وصفاته ، أعني الاَعيان الثابتة اللازمة للاَسماء والصفات لزوماً غير متأخر في الوجود ، بل هي هناك موجودة بوجود الاَسماء الموجودة بوجود المسمى جل شأنه.

وهذا التجلي يسمى بالمرتبة الواحدية ، كما أن الاَول يسمى بالمرتبة الاَحدية.

وتجل أفعالي ، هو تجلي ذاته بفعله ، وهو الوجود الاِنبساطي على كل ماهية ماهية من الدراة البيضاء إلى ذرة الهباء ، في كل من الجبروت والملكوت والناسوت بحسبه. وهذا مسمى بالرحمة الفعلية ، كما أن الثاني مسمى بالرحمة الصفتية ، وهذا بالفيض المقدس وذاك بالفيض الاَقدس.

وصبح الاَزل يمكن أن يراد به الثاني ، كما يمكن أن يراد به الثالث.

وبيان النطق الحقيقي للصباح سواء كان صباح عالم الصورة أو صباح عالم المعنى : أن النطق الظاهري اللفظي إنما يكون نطقاً لكونه وجوداً كاشفاً عن وجود

٣٧٠

ذهني وهو عن وجود عيني ، لا لكون خصوصية الصوت معتبرة فيه حتى لو لم يكن صوتاً لم يكن نطقاً ، وإنما هذه بالمواضعة للتسهيل. كما أن كاشفيته عن وجود آخر ذهني بالمواضعة ودلالته بالوضع لا بالطبع ، ولو كان بالطبع لاَكد نطقيته كما في الوجودات الذهنية بالنسبة إلى الوجودات العينية ، ولذا تسمى العقول المدركة للكليات نواطق والنفس ناطقة وقيل شعراً :

إن الكلام لفي الفؤاد وإنما

جعل اللسان على الفؤاد دليلا

والاَشاعرة ذهبوا إلى الكلمات النفسية ، ولكن لاوجه للتخصيص ، فإذن إن كان بدل الكيفيات المسموعة الموضوعة أشياء أخرى موضوعة ، بحيث يكون حضور الاَشياء الدالة منشأ لحضور الاَشياء المدلولة في الذهن ، كان حالها حينئذ حالها.

تفسير عرفاني لعدم إمكان رؤية الله تعالى

ـ شرح الاَسماء الحسنى ج ١ ص ٢١٠

( يا من لا تدرك الاَفهام جلاله ، يا من لا تنال الاَوهام كنهه )

كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : إن الله احتجب عن العقول كما احتجب عن الاَبصار ، وإن الملأ الأعلى يطلبونه كما تطلبونه أنتم. ولذلك يطلق على الذات باعتبار الحضرة الاَحدية غيب الغيوب والغيب المطلق والغيب المكنون والغيب المصون والمنقطع الوحداني ومنقطع الاِشارات والتجلي الذاتي والكنز المخفي والعماء ، وغير ذلك.

وإنما لا يدرك كنه الذات لما تقرر أنه إذا جاوز الشيء حده انعكس ضده فإذا كان ظهوره في قصيا مراتب الظهور أنتج غاية الخفاء وانعكس عكس الجلاء.

وأيضاً لما كان قهاراً للكل فلم يبق أحد في سطوع نوره حتى يراه ، بل يتلاشى ويضمحل بتأجج نار محياه.

وأيضاً هو تعالى بكل شيء محيط ، والمحيط لا يصير محاطاً ....

٣٧١

الله تعالى يتجلى بخلقه

ـ شرح الاَسماء الحسنى ج ١ ص ١٥٠

( يا من في الآفاق آياته )

أي في النواحي من عوالم الوجود علاماته ، والاِسم مأخوذ من الآية أعني قوله تعالى : سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم ، وفي التعبير بالآيات إشارة إلى أن عالم الآفاق كتاب تكويني له كالكتاب التدويني ، كما قال الاِمام الغزالي : العالم كله تصنيف الله ، وقيل بالفارسية :

بنزد آنكه جانش در تجلى است

همه عالم كتاب حق تعالى است

عرض اعراب وجوهر چون حروفست

مراتب همچو آيات وقوفست

از هر عالمى چون سورة خاص

يكى زان فاتحه وآن ديگر اخلاص

وفي الاِكتفاء بالآفاق في الاِسم إشارة إلى تطابق الكتاب الآفاقي والكتاب الاَنفسي وأن كلاً منهما تام فيه جميع ما في الآخر.

قال ابن جمهور : الكتب ثلاثة : الآفاقي والقرآني والاَنفسي ، فمن قرأ الكتاب القرآني الجمعي على الوجه الذي ينبغي فكمن قرأ الكتاب الآفاقي بأسره إجمالاً وتفصيلاً ، ومن قرأ الكتاب الآفاقي على الوجه المذكور فكمن قرأ الكتاب الاَنفسي إجمالاً وتفصيلاً ، ولهذا اكتفى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بواحد منهما في معرفته تعالى بقوله : من عرف نفسه فقد عرف ربه ، لاَنه كان عارفاً بأن من يعرف نفسه على ما ينبغي ويطالع كتابه على ما هو عليه في نفسه يعرف ربه على ما ينبغي ، وإليه الاِشارة بقوله تعالى : إقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا.

وكذلك من طالع الكتاب القرآني على وجه التطبيق تجلى له الحق تعالى في صور ألفاظه وتركيبه وآياته وكلماته تجلياً معنوياً ، كما أشار إليه أمير المؤمنين عليه‌السلامبقوله : لقد تجلى لعباده في كلامه ولكن لا يبصرون.

ومن طالع الكتاب الآفاقي على ما هو عليه تجلى له الحق تعالى في صور مظاهرة

٣٧٢

الاَسمائية وملابسه الفعلية الكونية المسماة بالحروف والكلمات والآيات ، المعبر عنها بالموجودات العلوية والسفلية والمخلوقات الروحانية والجسمانية على الاِطلاق والتعيين تجلياً شهودياً عيانياً ، لاَنه ليس في الوجود سوى الله وصفاته وأسمائه وأفعاله ، فالكل هو وبه ومنه وإليه.

ومن طالع الكتاب الاَنفسي الصغير الاِنساني وطبقه بالكتاب الآفاقي تجلى له الحق تعالى في الصورة الاِنسانية الكاملة والنشأة الحقيقية الجامعة ، تجلياً ذاتياً شهودياً عيانياً بحسب ما يشاهده في كل عين من حروفه وكلماته وآياته ، المعبر عنها بالقوى والاَعضاء والجوارح.

فكل من طالع كتابه الخاص به وشاهد نفسه المجردة وبساطتها وجوهريتها ووحدتها وبقاءها ودوامها وإحاطتها بعالمها ، عرف الحق وشاهده وعرف أنه محيط بالاَشياء وصورها ومعانيها عاليها وسافلها شريفها وخسيسها ، مع تجرده ووحدته وتنزهه وبقائه ودوامه من غير تغير في ذاته وحقيقته.

قالوا : وكذلك الحق إذا أراد أن يشاهد نفسه في المرآة الكاملة الذاتية الجامعة يشاهدها في الاِنسان الكامل بالفعل ، وفي غير الكامل بالقوة لاَنه مظهر الذات الجامعة لا غير .... ومن هذا قيل : أراد الله أن يظهر ذاته الجامعة في صورة جامعة فأظهرها في صورة الاِنسان ، وأراد أن يظهر الاَسماء والصفات والاَفعال في صورة كاملة مفصلة فأظهرها في صورة العالم.

أقول : في هذا التقسيم لكتب الكون تأملات فكرية وروحية مفيدة ، ولا شك في صحة القول بأن الله تعالى قد تجلى بخلقه بمعنى من معاني التجلي ، ولكن قولهم بأنه تعالى خلق الاِنسان ليكون مظهراً تتجلى به ذاته ، وخلق الكون ليكون مظهراً لاَسمائه ، كلام جميل لو وجد عليه دليل. وإلا فمن أين للعرفاني والفيلسوف أن يعرف لماذا خلق الله هذا المخلوق أو ذاك؟ إن الدليل على ذلك منحصر بإخباره تعالى عن أهدافه عن طريق أنبيائه وأوصيائهم ، وما ربما يجزم به العقل .. وما سوى ذلك فهو ظنون من عقولنا واحتمالات ، لا يمكننا أن ننسبها إلى الله تعالى!

٣٧٣

كما نلاحظ أن بعض الفلاسفة والمتصوفين والعرفانيين يميلون إلى قبول أحاديث التشبيه بلا تحقيق في سندها ، ويحاولون الاِستشهاد بها على أفكارهم ، بل قد يبنون عليها نظرياتهم ، مع أن الحديث لا وجود له! أو له وجود في المصادر لكن ورد عن الاَئمة عليهم‌السلام أو عن علماء الجرح والتعديل تكذيبه ، كما رأيت في حديث ( خلق الله آدم على صورته )! وهذا البلاء عام في مصادر الفلسفة والعرفان والتصوف عند السنة والشيعة!

تفسيرهم الموافق لمذهبنا

ـ قال النويري في نهاية الاِرب ج ٧ جزء ١٣ ص ٢١١

واختلف العلماء في معنى التجلي ، قال ابن عباس : ظهر نوره للجبل .... فقام موسى يسبح الله تعالى ويقول : آمنت أنك ربي وصدقت أنه لا يراك أحد.

ـ وأورد السيوطي في الدر المنثور ج ٣ ص ١١٨ ـ١٢٣ بضع عشرة رواية في بعضها تصريح بعدم إمكان الرؤية في الدنيا ، وليس فيها ذكر خنصر الله تعالى ولا أصابعه ، وفي بعضها أن الله تعالى تجلى بأن أظهر خنصر يده! وفي بعضها اتهامات لموسى عليه‌السلامبما اتهمه اليهود ، وتأثر واضح بأساطير الاِسرائيليات .. ونذكر منها هنا الروايات الموافقة لمذهبنا ، وشبه الموافقة .. قال السيوطي :

وأخرج ابن أبي حاتم وأبوالشيخ عن ابن عباس ، وخر موسى صعقا ، قال : غشى عليه إلا أن روحه في جسده ، فلما أفاق قال لعظم ما رأى : سبحانك تنزيهاً لله من أن يراه. تبت إليك ، رجعت عن الاَمر الذي كنت عليه. وأنا أول المؤمنين ، يقول : أول المصدقين الآن أنه لا يراك أحد.

وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس : وأنا أول المؤمنين ، يقول : أنا أول من يؤمن أنه لا يراك شيء من خلقك.

وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : فلما تجلى ربه للجبل ، قال : كشف بعض الحجب.

٣٧٤

وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبوالشيخ عن قتادة في قوله : وخر موسى صعقاً ، أي ميتاً. فلما أفاق ، قال : فلما رد الله عليه روحه ونفسه قال : سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين ، أنه لن تراك نفس فتحيا.

وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبوالشيخ عن مجاهد في قوله : تبت إليك ، قال من سؤالي إياك الرؤية ، وأنا أول المؤمنين ، قال : أول قومي إيماناً.

وأخرج عبد بن حميد وأبوالشيخ عن أبي العالية في قوله : وأنا أول المؤمنين ، قال : قد كان إذن قبله مؤمنون ، ولكن يقول أنا أول من آمن بأنه لا يراك أحد من خلقك إلى يوم القيامة.

وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الاَصول وأبو نعيم في الحلية عن ابن عباس قال : تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية ، رب أرني أنظر إليك ، قال قال الله عز وجل : يا موسى إنه لا يراني حي إلا مات ، ولا يابس إلا تدهده ، ولا رطب إلا تفرق ، وإنما يراني أهل الجنة الذين لا تموت أعينهم ولا تبلى أجسادهم.

عبد بن حميد عن مجاهد قال : لن تراني ولكن أنظر إلى الجبل ، فإنه أكبر منك وأشد خلقاً قال ، فلما تجلى ربه للجبل فنظر إلى الجبل لا يتمالك ، وأقبل الجبل يندك على أوله ، فلما رأى موسى ما يصنع الجبل ، خر موسى صعقا.

وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أوحى الله إلى موسى بن عمران أني مكلمك على جبل طور سينا ، صار من مقام موسى إلى الجبل طور سينا أربع فراسخ في أربع فراسخ رعد وبرق وصواعق فكانت ليلة قر ، فجاء موسى حتى وقف بين يدي صخرة جبل طور سينا فإذا هو بشجرة خضراء الماء يقطر منها وتكاد النار تلفح من جوفها ، فوقف موسى متعجباً فنودي من جوف الشجرة ياميشا فوقف موسى مستمعاً للصوت ، فقال موسى من هذا الصوت العبراني يكلمني؟ فقال الله له : يا موسى إني لست بعبراني إني أنا الله رب العالمين ، فكلم الله موسى في ذلك المقام بسبعين لغة ليس منها لغة إلا وهي مخالفة للغة

٣٧٥

الاَخرى ، وكتب له التوراة في ذلك المقام ، فقال موسى : إلَهي أرني أنظر اليك ، قال : يا موسى إنه لا يراني أحد إلا مات ، فقال موسى : إلَهي أرني أنظر إليك وأموت ، فأجاب موسى جبل طور سينا : يا موسى بن عمران لقد سألت أمراً عظيماً لقد ارتعدت السموات السبع ومن فيهن والاَرضون السبع ومن فيهن ، وزالت الجبال واضطربت البحار لعظم ما سألت يا ابن عمران ، فقال موسى وأعاد الكلام : رب أرني أنظر اليك ، فقال : يا موسى أنظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فإنك تراني ، فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً وخر موسى صعقاً ، مقدار جمعة فلما أفاق موسى مسح التراب عن وجهه وهو يقول : سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين ، فكان موسى بعد مقامه لا يراه أحد إلا مات ، واتخذ موسى على وجهه البرقع فجعل يكلم الناس بقفاه ، فبينا موسى ذات يوم في الصحراء فإذا هو بثلاثة نفر يحفرون قبراً حتى انتهوا إلى الضريح ، فجاء موسى حتى أشرف عليهم فقال لهم لمن تحفرون هذا القبر ، قالوا له لرجل كأنه أنت أو مثلك وفي طولك أو نحوك ، فلو نزلت فقدرنا عليك هذا الضريح فنزل موسى فتمدد في الضريح فأمر الله الاَرض فانطبقت عليه! انتهى.

وهذه واحدة من تهم اليهود لنبيهم موسى على نبينا وآله وعليه السلام ، وهو يدل على أن وجوده كان ثقيلاً عليهم ، حتى زعموا أن الله تعالى أراحهم منه بهذه الطريقة!!

تفسيرهم الذي فيه تجسيم

ـ مسند أحمد ج ٣ ص ١٢٥ :

عن ثابت عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى فلما تجلى ربه للجبل ، قال قال : هكذا ، يعنى أنه أخرج طرف الخنصر! قال أبي أرانا معاذ ، قال فقال له حميد الطويل : ما تريد إلى هذا يا أبا محمد! قال فضرب صدره ضربة شديدة وقال : من أنت يا حميد وما أنت يا حميد! يحدثني به أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم فتقول أنت : ما تريد إليه!

٣٧٦

ـ مسند أحمد ج ٣ ص ٢٠٩

عن ثابت عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله عز وجل : فلما تجلى ربه للجبل ، قال : فأومأ بخنصره ، قال فساخ.

ـ ميزان الاِعتدال ج ١ ص ٥٩٣

عن ثابت عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ : فلما تجلى ربه للجبل. قال : أخرج طرف خنصره وضرب على إبهامه ، فساخ الجبل. فقال حميد الطويل لثابت : تحدث بمثل هذا قال : فضرب في صدر حميد وقال : يقوله أنس ، ويقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكتمه أنا! رواه جماعة عن حماد ، وصححه الترمذي.

ـ مستدرك الحاكم ج ١ ص ٢٥

... عن ثابت عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال في هذه الآية فلما تجلى ربه للجبل جعله : بدا منه قدر هذا ..... عن ثابت عن أنس رضي الله عنه قال قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : قال رب أرني أنظر إليك ، قال فأخرج من النور مثل هذا وأشار بيده إلى نصف أنملة الخنصر فضرب بها صدر حماد ، قال فساخ الجبل. هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.

ـ مستدرك الحاكم ج ٢ ص ٣٢٠

عن ثابت عنه ( أنس ) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في قوله عز وجل : فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً ، قال حماد : هكذا ووضع الاِبهام على مفصل الخنصر الاَيمن ، قال فقال حميد لثابت : تحدث بمثل هذا! قال فضرب ثابت صدر حميد ضربة بيده وقال : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يحدث به وأنا لا أحدث به ، هذا حديث صحيح على شرط مسلم.

ـ مستدرك الحاكم ج ٢ ص ٥٧٦

عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن موسى بن عمران لما كلمه ربه أحب أن ينظر إليه فقال : رب أرني أنظر اليك ، قال لن تراني ولكن أنظر إلى الجبل فإن

٣٧٧

استقر مكانه فسوف تراني ، فحف حول الجبل الملائكة وحف حول الملائكة بنار ، وحف حول النار بملائكة وحف حول الملائكة بنار ، ثم تجلى ربه للجبل ، ثم تجلى منه مثل الخنصر فجعل الجبل دكاً وخر موسى صعقاً ما شاء الله ، ثم إنه أفاق فقال : سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين ، يعني أول من آمن من بني إسرائيل. هذا حديث صحيح الاِسناد ولم يخرجاه.

عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله تلا هذه الآية : فلما تجلى للجبل جعله دكاً ، أشار حماد ووضع إبهامه على مفصل الخنصر ، قال فساخ الجبل. هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.

ـ بقية روايات السيوطي في الدر المنثور ج ٣ ص ١١٨ ـ ١٢٣

وأخرج أحمد وعبد بن حميد والترمذي وصححه ، وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن عدي في الكامل وأبو الشيخ والحاكم وصححه ، وابن مردويه والبيهقي في كتاب الرؤية من طرق عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية : فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً ، قال هكذا وأشار بإصبعيه ووضع طرف إبهامه على أنملة الخنصر ، وفي لفظ على المفصل الاَعلى من الخنصر ، فساخ الجبل وخر موسى صعقا. وفي لفظ فساخ الجبل في الاَرض فهو يهوي فيها إلى يوم القيامة.

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في الرؤية عن ابن عباس : فلما تجلى ربه للجبل ، قال : ما تجلى منه إلا قدر الخنصر ، جعله دكاً ، قال تراباً وخر موسى صعقاً ، قال مغشياً عليه.

وأخرج الطبراني في الاَوسط عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لما تجلى الله لموسى تطاير سبعة أجبال ، ففي الحجاز منها خمسة وفي اليمن اثنان ، في الحجاز أحد وثبير وحراء وثور وورقان ، وفي اليمن حصور وصير.

وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : لما تجلى ربه للجبل جعله دكاً ، قال : أخرج خنصره!

٣٧٨

من هو قيس بن ثابت راوي حديث خنصر الله تعالى

الظاهر أن عمدة السند عند إخواننا في الحديث المرفوع إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، هو ثابت بن قيس غلام بني أمية ، ولذلك نعرض شيئاً من ترجمته من مصادر الجرح والتعديل ، ونلاحظ أن حميداً الطويل الذي هو غلام كابلي من منطقة ثابت قد استنكر على ثابت أن يروي هذا الحديث الذي فيه تجسيم ، وأن الذهبي على عادته في مدح المجسمين وصف ثابتاً بالصادق ، مع أن عدداً من العلماء جرحوه أو وصفوه بالوهم والخلط ، قال ابن حبان في كتاب المجروحين ج ١ ص ٢٠٦ :

ثابت بن قيس أبو الغصن من أهل المدينة مولى عثمان بن عفان ، روى عنه ابن مهدي وابن أبي أويس ، وكان قليل الحديث كثير الوهم فيما يرويه ، لا يحتج بخبره إذا لم يتابعه غيره عليه ، سمعت الحنبلي يقول : سمعت أحمد بن زهير يقول : سئل يحيى بن معين عن ثابت بن قيس أبي الغصن فقال : ضعيف.

ـ وقال ابن حجر في تهذيب التهذيب ج ٢ ص ١٣

٢٠ ـ ي د س. البخاري في جزء رفع اليدين وأبي داود والنسائي. ثابت بن قيس ثابت بن قيس الغفاري مولاهم أبوالغصن المدني. رأى أبا سعيد الخدري وروى عن أنس ونافع بن جبير بن مطعم وسعيد المقبري وأبيه أبي سعيد وخارجة بن زيد بن ثابت وجماعة.

وعنه ، ابن مهدي ، وزيد بن الحباب ، وإسماعيل ابن أبي أويس ، والقعنبي ، وخالد بن مخلد ، وغيرهم ....

قال أبوطالب عن أحمد : ثقة ، وقال عباس عن ابن معين : ليس به بأس ، وقال في موضع آخر حديثه ليس بذاك وهو صالح ، وقال النسائي : ليس به بأس.

وقال ابن سعد مات سنة (١٦٨) وهو يومئذ ابن مائة سنة وكان قديماً قد رأى الناس وروى عنهم ، وهو شيخ قليل الحديث.

وقال ابن أبي عدي هو ممن يكتب حديثه.

٣٧٩

قلت : وقال الآجري عن أبي داود : ليس حديثه بذاك ، وقال مسعود الشحري عن الحاكم : ليس بحافظ ولا ضابط. وقال ابن حبان في الضعفاء : كان قليل الحديث كثير الوهم فيما يرويه لا يحتج بخبره إذا لم يتابعه عليه غيره. وأعداده في الثقات.

ـ وترجم له الذهبي في ميزان الاِعتدال ج١ ص٣٦٦ وقال في سير أعلام النبلاء ج ٧ ص ٢٥

أبوالغصن ، هو الشيخ العالم الصادق المعمر بقية المشيخة أبوالغصن ثابت ابن قيس الغفاري ، مولاهم المدني : عداده في صغار التابعين.

يروي عن : أنس بن مالك ، وسعيد بن المسيب ، ونافع بن جبير ....

قال يحيى بن معين والنسائي : ليس به بأس. وقال ابن معين أيضاً في رواية عباس : هو صالح ، ليس حديثه بذاك ، وروى أحمد بن أبي خيثمة عن يحيى : ضعيف. قال ابن حبان : هو من موالي عثمان بن عفان. وكان قليل الحديث ، كثير الوهم فيما يروي ، لا يحتج بخبره إذا لم يتابعه غيره عليه. وقال ابن عدي : يكتب حديثه. انتهى.

ومن الملاحظ في كتب الجرح والتعديل وعموم مصادر اخواننا أن أسهم رواة أحاديث التشبيه والتجسيم ارتفعت مع العصور ، حتى بلغت أوجها على يد المجسمين من أمثال الذهبي ، وأن الوهابيين أهتموا بتعظيمهم ونشر كتبهم في أنحاء العالم الاِسلامي!!

* *

تفسير قوله تعالى : يوم يكشف عن ساق

قال تعالى : أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة إن لكم لما تحكمون. سلهم أيهم بذلك زعيم. أم لهم شركاء فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين. يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون. خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون. فذرني ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون. وأملي لهم إن كيدي متين. القلم ٣٩ ـ ٤٥

٣٨٠