شرح الأخبار في فضائل الأئمة الأطهار - ج ١

القاضي النعمان بن محمّد التميميّ المغربي

شرح الأخبار في فضائل الأئمة الأطهار - ج ١

المؤلف:

القاضي النعمان بن محمّد التميميّ المغربي


المحقق: السيد محمّد الحسيني الجلالي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٦

فقال عثمان لحاجبه : يا وثاب عليّ بالشرط (١) ، فجاء بهم. فقال : فرقوا بين هؤلاء ـ يعني عمارا والذين كانوا حوله ـ ففرقوا بينهم ، ثم اقيمت الصلاة.

فتقدم عثمان ليصلي بالناس فلما كبر ، قامت امرأة في حجرتها. فقالت : أيها الناس اسمعوا ، ثم تكلمت ، فذكرت رسول الله صلوات الله عليه وآله وما بعثه الله به ، ثم قالت. ضيعتم أمر الله وخالفتم عهده ونحوا من هذا. ثم صمتت.

ثم تكلمت اخرى ، بمثل ذلك ، فاذا هما عائشة وحفصة.

فلما سلّم عثمان ، وأقبل على الناس. فقال : إن هاتين لفتانتان (٢) يفتنان الناس ، والله لتنتهيان عن سبّي أو لأسبكما ما حلّ لي السب ، فاني بأصلكما لعالم.

فقال له سعد بن أبي وقاص : أتقول هذا لحبائب رسول الله صلوات الله عليه وآله؟؟ فقال له عثمان : وما أنت وذا؟

ثم أقبل عثمان على سعد عامدا عليه [ ليضربه ].

قال : وانسلّ سعد وخرج ، وأتبعه عثمان ، فلقيه علي عليه‌السلام [ عند باب المسجد ] فقال : أين تريد؟؟ قال : اريد هذا الكذا وكذا ـ يعني سعدا ـ فقال له علي عليه‌السلام : أيها الرجل ، دع هذا عنك.

فأقبل عليه عثمان بالكلام ، فلم يزل الكلام بينهما الى أن غضب عثمان. فقال لعلي صلوات الله عليه : ألست المتخلّف عن رسول الله صلوات الله عليه وآله يوم تبوك؟ فقال له علي صلوات الله عليه : ما تخلّفت عنه ، ولكنه خلّفني رسول الله صلوات الله عليه في أهله ، وأنت

__________________

(١) وفي الاصل : بالشرطة.

(٢) وفي الاصل : إن هاتين فتاتين.

٣٤١

تعلم ذلك ومن حضر. ولكن ألست الفار عن رسول الله صلوات الله عليه يوم احد؟ وهمّ كل واحد منهما بصاحبه ، فقام الناس وحجزوا بينهما.

قال : فلما رأيت ما حدث بالناس خرجت من المدينة. فأتيت الكوفة ، فوجدتهم قد وقع بينهم اختلاف وردّوا سعيد بن العاص ولم يدعوه يدخل إليهم ، فلما رأيت ذلك رجعت الى أهلي باليمن.

[٣١١] وبآخر عن محمد بن علي بن الحسين صلوات الله عليهم أجمعين أنه قال : أرسل إليّ سعيد بن عبد الملك بن مروان ، فأتيته ، فأقبل يسألني ، فرأيته رجلا قد لقي أهل العلم وحادثهم ، فاذا هو ليس في يده شيء من أمر عثمان إلا أنه يقول : خرجت عائشة تطلب بدمه.

فقلت له : أي رجل كان فيكم مروان بن الحكم؟

فقال : ذاك سيدنا وأفضلنا.

قلت : فأي رجل ترون علي بن الحسين عليه‌السلام؟

قال : صدوقا مرضيا.

قلت : فأني أشهد على علي بن الحسين عليه‌السلام أنه حدّثني إنه سمع مروان بن الحكم يقول : انطلقت أنا وعبد الرحمن بن عوف (١) الى

__________________

(١) هكذا في الاصل وفي نسخة ب ، ولكن الشيخ المفيد نقل في كتاب الجمل ص ٧٦ : جاءها مروان بن الحكم وسعيد بن العاص. ومن المؤكد أنه لم يكن عبد الرحمن بن عوف لانه توفى سنة ٣١ أو ٣٢ للهجرة وأن عثمان قتل في سنة ٣٥ أي بينهما ٣ أو ٤ سنين كما ذكره العسقلاني في الإصابة ٢ / ٤٦٣ الرقم ٤٤٨ قال : ( قال ابن إسحاق : قتل على رأس إحدى عشرة سنة وأحد عشر شهرا واثنين وعشرين يوما من خلافته فيكون ذلك في ثاني وعشرين ذي الحجة سنة خمس وثلاثين ).

وقال البلاذري في أنساب الأشراف ٥ / ١٠٤ : لما اشتد الأمر على عثمان أمر مروان بن الحكم وعبد الرحمن بن عتاب بن أسيد. وقال ابن سعد في طبقاته : أتاها مروان وزيد بن ثابت وعبد الرحمن بن عتاب. ومن المحتمل أن المؤلف أراد ذكر عبد الرحمن بن عتاب والتصحيف من الناسخ.

٣٤٢

عائشة ، وهي تريد الحج ، وعثمان قد حصر. فقلت لها : قد ترين أن هذا الرجل قد حصر ، فلو أقمت فنظرت في شأنه وأصلحت أمره!

فقالت : قد غربت غرائري (١) ، وأدنيت ركائبي ، وفرضت الحج على نفسي ، فلست بالتي اقيم ، فجهدنا (٢) عليها ، فأبت ، فقمت من عندها ، وأنا أقول ـ وذكر بيتا من شعر تمثل به (٣) ـ.

فقال : فقالت : أيها الرجل المتمثل بالشعر ارجع ، فرجعت ، فقالت : لعلّك ترى أني إنما قلت هذا الذي قلت وأنا أشك في عثمان ، وددت والله ، أنه مخيط عليه في بعض غرائري هذه حتى أكون التي أقذفه في أليم (٤) ثم ارتحلت حتى نزلت ماء يقال له : الصلصل (٥).

وبعث الناس عبد الله بن العباس على الموسم وعثمان محصور ، فمضى حتى نزل ذلك الماء.

فقيل لها : هذا ابن عباس قد بعث به الناس على الموسم ، فأرسلت إليه. فقالت : بابن عباس إن الله عزّ وجلّ أعطاك لسانا وعلما ، فاناشدك الله أن تخذل الناس عن قتل هذا الطاغية عثمان غدا ، ثم انطلقت الى مكة.

فلما أن قضت منسكها (٦) وانقضى أمر الموسم بلغها أن عثمان قد

__________________

(١) الغرارة : بكسر المعجمة : الجوالق.

(٢) وفي نسخة الأصل : فألححنا.

(٣) وفي أنساب الأشراف قال مروان :

وحرق قيس عليّ البلا

د حتى إذا اضطرمت أجذما

(٤) أليم : البحر.

(٥) وفي كتاب الجمل ص ٧٧ : الصلعاء. والصلصل موضع بنواحي المدينة على سبعة أميال منها.

(٦) نسك ومناسك جمع منسك بفتح السين وكسرها ومعناه التعبد. وسميت جميع أعمال الحج بالمناسك. ( النهاية ٥ / ٤٨ ).

٣٤٣

قتل ، وأن طلحة بن عبيد الله بويع قالت : ( إيها ذا الإصبع ، فلما بلغها بعد ذلك أن عليا بويع قالت : ) (١) وددت أن هذه ـ تعني السماء وأشارت إليها ـ وقعت على هذه ـ وأشارت الى الأرض ـ.

قال أبو جعفر صلوات الله عليه : فهذا حديث مروان وسماعي إياه من علي بن الحسين.

قال : فما خرجت من البيت حتى ترك سعيد بن عبد الملك ما كان في يديه من أمر عثمان.

[٣١٢] وبآخر ، عن الزبير أنه قيل له ان عثمان محصور : وإنه قد منع الماء! فقال : « وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ » (٢).

[٣١٣] عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، أنه قال : انتهيت الى المدينة أيام حصر عثمان في الدار ، فاذا طلحة بن عبيد الله في مثل الحية السوداء من الرجال ومن السلاح مطيف بدار عثمان ، حتى قتل (٣).

[٣١٤] وبآخر ، عن سعيد بن المسيب [ أنه ] قال : انطلقت بأبي الى المسجد ، فلما دخلنا ، سمعت لغظ (٤) الناس وأصواتهم ، فقال أبي : ما هذا يا بني؟

فقلت : الناس محدقون بدار عثمان.

فقال : من ترى من قريش؟؟

قلت : طلحة بن عبيد الله.

__________________

(١) ما بين الهلالين زيادة من نسخة ـ ب ـ.

(٢) سبأ : ٥٤.

(٣) وفي كتاب الجمل ص ٧٤ : والله إني لأنظر الى طلحة وعثمان محصور وهو على فرس أدهم وبيده الرمح يجول حول الدار وكأني أنظر الى بياض ما وراء الدرع.

(٤) وفي الاصل : لفظ الناس.

٣٤٤

فقال : اذهب بي إليه ، فمضيت به حتى دنا منه. فقال لطلحة : يا أبا محمد ، ألا تنهي الناس عن قتل هذا الرجل؟؟ فقال له طلحة : يا أبا سعيد ، إن لك دارا ، فاذهب ، واجلس في دارك فان نعثلا (١) لم يكن خاف هذا اليوم.

ذكرنا هذه الأخبار مختصرة من أخبار كثيرة لما أردنا من تقديمها قبل خروج طلحة والزبير وعائشة يطلبون بزعمهم بدم عثمان في ظاهر الأمر وهذا كان أمرهم فيه.

[٣١٥] محمد بن سلام ، باسناده عن علي صلوات الله عليه : إنه ذكر المواطن التي امتحن فيها بعد رسول الله صلوات الله عليه وآله.

فقال : وأما ما امتحنت بعد رسول الله صلوات الله عليه وآله [ في سبعة مواطن : فوجدني فيهن ـ من غير تزكية لنفسي ـ بمنّه ونعمته صبورا. أما أولهن : ] (٢) فانه لم يكن لي خاص آنس به ولا أستأنس (٣) إليه ولا أعتمد عليه ولا أتقرب الى الله بطاعته ، وأبتهج به في السراء ، ولا أستريح إليه في الضراء غير رسول الله صلوات الله عليه وآله ، فإنه هو رباني صغيرا ، وبوأني كبيرا ، وكفاني العيلة (٤) وجبرني من اليتم ، وأغناني عن الطلب ، وكفاني المكسب وعال لي النفس والأهل والولد مما خصّني الله عز وجل من الدرجات التي قادتني الى معالي الحظوة عنده فنزل بي من وفاة رسول الله صلوات الله عليه وآله ما لم تكن الجبال لو

__________________

(١) قال ابن الاثير في النهاية ٤ / ١٦٦ والكامل ٣ / ٨٠ في مادة نعثل : ان عائشة سمّت عثمان نعثلا وهو إما رجل يهودي أو الشيخ الأحمق أو رجل طويل اللحية بمصر.

(٢) هذه الزيادة في كتاب الخصال للصدوق ٢ / ٣٧٠.

(٣) وفي الخصال : ولا أستنيم إليه.

(٤) كفاني العجز الاقتصادي.

٣٤٥

حملته تحمله ، ورأيت أهل بيته بين جازع لا يملك جزعه ولا يضبط نفسه ولا يقوى على حمل فادح (١) ما نزل بي قد أذهب الجزع صبره ، وأذهل عقله ، وحال بينه وبين الفهم والإفهام ، وبين القول والاستماع ، وسائر بني عبد المطلب بين معز لهم يأمر بالصبر ، وبين مساعد لهم بالبكاء ، وجازع لهم لجزعهم.

وحملت نفسي على الصبر عند وفاته ، ولزمت الصمت والأخذ فيما أمرني به من تجهيزه ، وغسله وتحنيطه ، وتكفينه ، والصلاة عليه ، ووضعه في حضرته وجمع أمانة الله ، وكتابه ، وعهده الذي حمّلناه الى خلقه ، واستودعناه لهم ، لا يشغلني عن ذلك بادر دمعة [ ولا هائج زفرة ] ولا لاذع حرقة (٢) ولا جليل مصيبة حتى أديت في ذلك الواجب لله ولرسوله عليّ ، وبلغت منه الذي أمرني به رسول الله صلوات الله عليه وآله (٣).

وقد كان رسول الله صلوات الله عليه وآله أمّرني في حياته على جميع امّته ، وأخذ لي على من حضرني منهم البيعة بالسمع والطاعة لأمري ، وأمرهم أن يبلغ الشاهد منهم الغائب ، وكنت المؤدّي إليهم عن رسول الله أمره لا يختلج (٤) في نفسي منازعة أحد من الخلق لي في شيء من الأمر في حياة رسول الله صلوات الله عليه وآله ولا بعد وفاته.

ثم أمرهم رسول الله صلوات الله عليه وآله بتوجيه الجيش الذي وجّه مع اسامة عند الذي حدث به من المرض الذي توفاه الله فيه فلم يدع

__________________

(١) الفادح : الثقيل.

(٢) بادر دمعة : الدمعة التي تبدر بدون اختيار. واللذع ، لذعته النار : أحرقته.

(٣) الموطن الثاني.

(٤) لا يختلج : لا يتحركه شيء من الشك والريبة.

٣٤٦

أحدا من أبناء قريش ولا من الأوس والخزرج ولا من غيرهم من سائر العرب ممن يخاف نقضه بيعتي ومنازعته إياي ، ولا أحدا يراني بعين البغضاء ممن قد وترته بقتل أخيه ، أو أبيه ، أو حميمه إلا وجّهه في جيش اسامة ، لا من المهاجرين ولا من الأنصار وغيرهم من المؤلفة قلوبهم ، والمنافقين لتصفو لي قلوب من بقي معي بحضرته (١) ولئلا يقول لي قائل شيئا مما اكرهه ولا يدفعني دافع عن الولاية ، والقيام بامور رعيته وامته من بعده (٢).

ثم كان آخر ما تكلم به النبيّ صلوات الله عليه وآله في شيء من أمر امته ، أن قال : يمضي جيش اسامة ولا يتخلف عنه أحد ممن انهض معه ، وتقدم في ذلك أشد التقديم ، وأوعز فيه غاية الإيعاز ، وأكد فيه أبلغ التأكيد.

فلم أشعر بعد أن قبض رسول الله صلوات الله عليه وآله إلا برجال من بعث اسامة ، وأهل عسكره قد تركوا مراكزهم ، وخلّوا مواضعهم ، وخالفوا أمر رسول الله صلوات الله عليه وآله فيما أنهضهم إليه ، وأمرهم به رسول الله صلوات الله عليه وآله ، وتقدم إليهم فيه من ملازمة أميرهم والسير معه تحت رايته حتى ينفذ الى (٣) الذي أنفذه إليه ، وخلفوا أميرهم مقيما في عسكره ، وأقبلوا مبادرين الى عهد عهده الله ورسوله ، فنكثوه ، وعقدوا لأنفسهم عقدا ضجت فيه أصواتهم ، واختلف فيه آراؤهم من غير مؤامرة ، ولا مناظرة لأحد منا بني عبد المطلب أو مشاركة

__________________

(١) وفي الاصل : من بقي معه من بحضرته.

(٢) اي الخلافة والامامة.

(٣) في الخصال ٢ / ٣٧٢ : لوجهه.

٣٤٧

في رأي ، أو استقالة لما في أعناقهم من بيعتي ، وفعلوا ذلك وأنا برسول الله صلوات الله عليه وآله مشغول عن سائر الأشياء لأنه كان أهمها إليّ ، وأحق ما بدأ به عنها عندي.

وكانت هذه من الفوادح من أفدح ما يرد على القلب مع الذي أنا فيه من عظيم المحنة ، وفاجع المصيبة ، وفقد من لا خلف لي منه إلا الله عز وجل ، فصبرت منه!!! (١)

ولم يزل القائم (٢) بعد رسول الله صلوات الله عليه وآله يلقاني معتذرا في كل أيامه يلوم غيره ما ركب (٣) به من أخذ حقي [ ونقض بيعتي ] ويسألني تحليله ، فكنت أقول : تنقضي أيامه ثم يرجع إليّ حقي الذي جعله الله لي عفوا [ هينا ] من غير أن أحدث في الإسلام ـ مع قرب عهده في الجاهلية ـ حدثا في طلب حقي بمنازعة لعل قائلا أن يقول فيها : نعم ، وقائلا يقول : لا ، وجماعة من خواص أصحاب رسول الله صلوات الله عليه وآله أعرفهم بالنصح لله ولرسوله والعلم بدينه وكتابه يأتوني عودا وبدءا ، وعلانية وسرا فيدعونني الى أخذ حقي ويبذلون لي أنفسهم في نصرتي ليؤدّوا إليّ حق بيعتي في أعناقهم ، فأقول : رويدا ، وصبرا قليلا! لعل الله أن يأتيني بذلك عفوا (٤) بلا منازعة ولا إراقة دم ، فقد ارتاب (٥) كثير من الناس بعد رسول الله صلوات الله عليه وآله ، وطمع في الأمر بعده من

__________________

(١) وفي الخصال ٢ / ٣٧٢ : وأما الثالثة يا أخا اليهود فإن القائم.

(٢) إشارة الى أبي بكر.

(٣) وفي الخصال : ما ارتكبه من أخذ.

(٤) اي بالطريقة السهلة الميسرة.

(٥) من الريب والاسم الريبة وهو الشك.

٣٤٨

ليس له بأهل ، حتى قام كل قوم : منا أمير ومنكم أمير وما طمعوا في ذلك إلا إذا تولى الأمر غيري.

فلما آتت وفاة هذا القائم ، وانقضت أيامه صير الأمر من بعده لصاحبه ، وكانت هذه اخت تلك محلها من القلوب محلها ، فاجتمع إليّ عدة من أصحاب رسول الله صلوات الله عليه وآله. فقالوا فيها مثل الذي قالوا في اختها ، فلم يعد قولي الثاني قولي الأول ، صبرا واحتسابا خوفا من أن تفنى عصابة ألّفها رسول الله صلوات الله عليه وآله ، باللين مرة ، وبالشدة اخرى حتى لقد كان في تأليفه إياهم إن كان الناس في الكن (١) والشبع والزي واللباس والوطاء والدثار (٢).

ونحن أهل بيت محمد لا سقوف لبيوتنا ولا ستور ولا أبواب إلا الجرائد وما أشبهها ، ولا وطاء لنا ولا دثار علينا ، يتداول الثوب الواحد منها في الصلاة أكثرنا ، ونطوي الأيام والليالي جوعا عامتنا ، وربما أتانا الشيء مما أفاء الله تعالى علينا ، وصيّره لنا خاصة دون غيرنا فيؤثر به رسول الله صلوات الله عليه وآله أرباب النعم والأموال تأليفا منه لهم ، فكنت أحق من لم يفرق هذه العصابة التي ألفها رسول الله صلوات الله عليه وآله ولم يحملها على الخطة التي لا خلاص لها منها [ دون بلوغها ] لأني لو نصبت نفسي ودعوتهم الى نصرتي كانوا مني وفيّ على امور :

إما متبع يقاتل معي ، أو ممتنع يقاتلني ، أو خاذل لي مقصر عن نصرتي بخذلانه ، فيهلك مقاتلي بقتاله ، وخاذلي بتقصيره وخذلانه ، فيحلّ بهم من مخالفتي ما حلّ بقوم موسى ( في مخالفة هارون وقد علموا أن

__________________

(١) ومن المحتمل ، الكزم : شدة الأكل ، والشبع : الامتلاء.

(٢) الدثار ما يتغطى به النائم ، الوطاء : الفراش.

٣٤٩

محلّي من رسول الله صلوات الله عليه وآله محل هارون من موسى ) (١) فرأيت تجرع الغصص (٢) وردّ أنفاس الصعداء أهون عليّ من ذلك ، وكان أمر الله قدرا مقدورا.

ولو لم أتق ذلك وطلبت بحقي لعلم من بحضرتي أني كنت أكثر عددا ، وأعزّ عشيرة ، وأمنع دارا ، وأقوى أمرا ، وأوضح حجة ، وأكثر في الدين مناقب وآثارا ، لسابقتي وقرابتي (٣) ووزارتي فضلا عن استحقاق ذلك بالوصية التي لا مخرج للعباد منها ، والبيعة المتقدمة لي في أعناقهم ممن تناولها.

ولقد قبض رسول الله صلوات الله عليه وآله وولاية الامّة في يديه وفي بيته لا في أيدي من تناولها ولا في أهل بيته بل في أهل بيته الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ، وهم أولو الأمر من بعده من غيرهم في جميع الخصال.

(٤) ثم إن القائم (٥) بعد صاحبه كان يشاورني في موارد الامور ومصادرها ، فيصدرها عن رأيي وأمري ، ولا يكاد أن يخصّ بذلك أحدا غيري ، ولا يطمع في الأمر بعده سواي. فلما آتته منيّته على فجأة بلا

__________________

(١) ما بين الهلالين زيادة من نسخة ـ ب ـ.

(٢) الغصص : الشجى والحزن.

(٣) والعجب من الدكتور صبحي صالح عند نقله قول أمير المؤمنين في هذا الصدد ينقله مع عدم مراعاة الامانة رغم أن الطبعة الاولى للنهج ( الشيخ محمد عبده ) موجودة العبارة بكاملها وهي : واعجباه أتكون الخلافة بالصحابة ولا تكون بالصحابة والقرابة. وقد نقلها الدكتور في النهج الذي ضبطه ص ٥٠٢ باب حكم أمير المؤمنين رقم ١٩٠ : وقال (ع) : واعجباه أتكون الخلافة بالصحابة والقرابة.

(٤) وفي الاختصاص للمفيد : وأما الرابعة ، يا أخا اليهود.

(٥) إشارة الى عمر بن الخطاب.

٣٥٠

مرض كان قبلها ، ولا أمر أمضاه في صحة بدنه لم يشك الناس إلا أني قد استرجعت حقي في عاقبته بالمنزلة التي كنت رجوت والعاقبة التي كنت التمست ، وأنّ الله عزّ وجلّ سيأتيني بذلك على [ أحسن ] ما رجوت وأفضل ما أمّلت.

وكان من فعله الذي ختم به أمره أن سمى خمسة (١) أنا سادسهم لم يسق (٢) واحد منهم معي قط في حال توجب له ولاية الأمر من قرابة ، ولا فضيلة ، ولا سابقة ، ولا لواحد منهم مثل واحدة من مناقبي ، ولا أثر من آثاري ، فصيّرها شورى بيننا ، وصيّر ابنه (٣) فيها حاكما علينا وأمره بضرب أعناق الستة الذين صيّر فيهم إن هم أبوا أن يختاروا واحدا منهم ، وكفى بالصبر على هذه.

فمكث القوم أياما كل يخطبها لنفسه ، وأنا ممسك لا أقول في ذلك شيئا ، فإذا سألوني عن أمري ناظرتهم في أيامي وأيامهم ، وآثاري وآثارهم ، وأوضحت لهم ما جهلوه من وجوه استحقاقي لها دونهم ، وذكرتهم عهد رسول الله صلوات الله عليه وآله فيّ إليهم وتأكيده ما أخذ في من البيعة عليهم ، فإذا سمعوا ذلك مني دعاهم حبّ الإمارة وبسط الأيدي والألسن في الأمر والنهي ، والركون الى الدنيا وزخرفها الى الاقتداء بالماضين قبلهم وتناول ما لم يجعل الله عز وجل لهم ، فإذا خلى بي الواحد بعد الواحد منهم (٤) ، فذكرته أيام الله وما هو قادم عليه وصائر إليه ، التمس مني شرط طائفة من الدنيا اصيّرها له.

__________________

(١) وهم عثمان بن عفان وطلحة بن عبد الله والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف.

(٢) وفي الخصال : يستوني.

(٣) عبد الله بن عمر.

(٤) وفي الخصال : فإذا خلوت بالواحد ذكرته.

٣٥١

فلما لم يجدوا عندي إلا المحجة البيضاء (١) والحمل على كتاب الله جلّ ذكره وسنّة رسول الله صلوات الله عليه وآله ، وإعطاء كلّ امرئ ما جعله الله عزّ وجلّ له. شكك القوم مشكك (٢) فأزالها (٣) الى ابن عفان طمعا في الشحيح معه فيها ، وابن عفان رجل لم يستو به (٤) ، ولا بواحد ممن حضر فضيلة من الفضائل ولا مأثرة من المآثر.

ثم لا أعلم القوم ما أمسوا في يومهم ذلك حتى ظهرت ندامتهم ، ونكصوا على أعقابهم ، وأحال بعضهم على بعض كل يلوم نفسه ويلوم أصحابه.

ثم لم تطل الأيام بالسفير لابن عفان حتى كفره ، ومشى الى أصحابه خاصة ، وأصحاب محمد عامة يستقيلهم من بيعته ويتوب الى الله من [ فتنته ] (٥).

وكانت هذه أكبر من اختيها ، وأفظع ، واخرى أن لا يصبر عليها ، فلم يكن عندي فيها إلا الصبر ، ولقد أتاني الباقون من الستة من يومهم الذي عقدوا فيه لابن عفان ما عقدوه ، وكل راجع عنه ، يسألني خلع ابن عفان ، والقيام في حقي ، ويعطيني صفقته وبيعته على الموت تحت رايتي ، أو يردّ الله إليّ حقي ، وبعد ذلك مرارا كثيرة فيأتوني في ذلك وغيرهم ، فو الله ما منعني منها إلا ما منعني من أختيها قبلها ، ورأيت الإبقاء على من بقى أبهج بي وأسر.

__________________

(١) اي : الدليل القاطع.

(٢) وفي الاختصاص ص ١٦٨ : شد من القوم مستبد فأزالها.

(٣) اشاره الى بيعة عبد الرحمن بن عوف لعثمان.

(٤) وفي الخصال والاختصاص : لم يستو به.

(٥) وفي الاصل : فثنته

٣٥٢

ولو حملت نفسي على ركوب الموت لركبته ، ولقد علم من حضر ، ومن غاب من أصحاب محمد صلوات الله عليه وآله إن الموت عندي بمنزلة الشربة الباردة من الماء في اليوم الحار من ذي العطش الصديّ (١) ولقد كنت عاهدت الله أنا وعمي حمزة وأخي جعفر وابن عمي عبيدة (٢) على ذلك لله ولرسوله ، فتقدموني وبقيت أنتظر أجلي ، فأنزل الله عزّ وجلّ فينا : « مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً » (٣).

وما أسكتني عن ابن عفان إلا أني علمت أن أخلاقه فيما اخبرت عنه ما لا تدعه حتى تستدعي الأقارب فضلا عن الأباعد الى خلعه وقتله ، فصبرت حتى كان ذلك ، ولم أنطق فيه بحرف من لا ، ولا نعم.

ثم أتاني الأمر ـ علم الله ـ وأنا له كاره لمعرفتي بالناس وبما يطمعون فيه مما قد عوّدوه ، وأن ذلك ليس لهم عندي ، فكان ذلك كذلك.

(٤) واتاني فيه من أتاني فلما لم يجدوه عندي وثبوا المرأة عليّ ، وأنا وليّ أمرها ، والوصي عليها ، فحملوها على الجمل ، وشدوها على الرحل ، واقبلوا بها تخبط الفيافي (٥) وتقطع الصحاري ، وتنبحها كلاب الحوأب وتظهر فيها علامات الندم ـ في كل ساعة ، وعند كل حالة ـ في عصبة قد بايعوني ثانية بعد بيعتهم لي في حياة رسول الله صلوات الله عليه وآله أولا ،

__________________

(١) وفي نسخة ـ ب ـ عند ذي العطش الصادي.

(٢) وهو عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب في غزوة بدر كما سيأتي.

(٣) الأحزاب ٢٣.

(٤) وهنا يبدأ الموطن الخامس.

(٥) خبط البعير الارض بيده خبطا : ضربها. والفيافي جمع الفيفي والفيفاء : المغازة التي لا ماء فيها والمكان المستوي.

٣٥٣

حتى أتوا بها بلدة قليلة عقولهم وعارية آراؤهم.

فوقفت من أمرهم على اثنتين (١) ـ كلاهما فيهما المكروه ـ : إن كففت لم يرجعوا ، وإن أقدمت كنت قد صرت الى الذي كرهته ، فقدمت الحجة في الإعذار والإنذار ، ودعوت المرأة الى الرجوع الى بيتها ، والقوم الذين حملوها على الذي حملوها عليه الى الوفاء ببيعتهم والترك لنقضهم عهدا لله وأعطيتهم من نفسي كل الذي قدرت عليه منها ، وناظرت بعضهم فانصرف (٢) ، وذكرته فذكر.

ثم أقبلت على الباقين بمثل ذلك فما ازدادوا إلا جهلا ، وتماديا ، وعتوا وأبوا إلا ما صاروا إليه ، وكانت عليهم الدائرة (٣) والكرة وحلّت بهم الهزيمة والحسرة وفيهم الفناء. وحملت نفسي على التي لم أجد منها بدّا ، ولم يسعني إذ تقلدت الأمر آخرا مثل الذي وسعني فيه أولا من الإغضاء والإمساك.

ورأيت أني إن أمسكت كنت معينا لهم على ما صاروا إليه بإمساكي ، وما طمعوا فيه من تناول الأطراف وسفك الدماء وهلاك الرعية وتحكيم النساء الناقصات العقول على الرجال كعادة بني الأصفر (٤) ومن مضى من ملوك سباء (٥) والامم الخالية. فأصير الى ما

__________________

(١) وفي الأصل : من امورهم على اثنتين.

(٢) إشارة الى الزبير بن العوام ، راجع الحديث رقم ٣٤٢.

(٣) الدبرة : بفتحتين الهزيمة في القتال وهي اسم من الإدبار مختار الصحاح ١٩٧. وفي الاصل الدايرة.

(٤) يعني أهل الروم لأن أباهم كان أصفر اللون.

(٥) وفي كتاب العرب قبل الإسلام ٢ / ٣٤٨ قائمة باسماء ملوك سباء وأحوالهم ، والمرأة هي بلقيس التي أنشأت سدّ مأرب.

٣٥٤

كرهت أولا ، إن أهملت أمر المرأة آخرا (١) ، وما هجمت على الأمر إلا بعد أن قدمت ، وأخرت ، وراجعت ، وأزمعت ، وسايرت ، وراسلت ، وأعذرت ، وأنذرت ، وأعطيت القوم كل شيء التمسوه مما لا يخرج من الدين ، فلما أبوا إلا تلك تقدمت فتمم الله فيهم أمره ، وكان الله عزّ وجلّ عليهم شهيدا.

(٢) ثم تحكيم الحكمين فىّ وفي ابن آكلة الأكباد معاوية وهو طليق ابن طليق ، لم يزالا يعاندان الله ورسوله والمؤمنين مذ بعث الله عزّ وجلّ علينا محمدا صلوات الله عليه وآله الى أن فتح الله علينا مكة ، فأخذت بيعته ، وبيعة أبيه لي في ذلك اليوم في ثلاثة مواطن ، وأبوه بالأمس أول من أخذ بيدي يسلم عليّ بإمرة المؤمنين (٣) ، ويحضني على النهوض في أخذ حقي من الماضين ، وهو في كل ذلك يجدّد لي بيعته كلما أتاني ، ثم قالت هذا (٤) عليّ مما يطعم من أموال المسلمين وتحكم عليّ ليستديم ما يفنى بما يفوته مما يبقى. وأعجب العجب إنه لما رأى الله عزّ وجلّ قد ردّ إليّ حقي ، وأقرّه في معدنه عندي ، فانقطع طمعه أن يصبح في دين الله تعالى راتعا ، وفي أمانته التي حملتها حاكما.

اعتمد على عمرو بن العاص (٥) فاستماله بالطمع ، فمال إليه. ثم أقبل بعد أن أطعمه مصر ، وحرام عليه أن يأخذ من الفيء درهما واحدا

__________________

(١) وفي الاختصاص ص ١٧٠ : فأصير الى ما كرهت أولا وآخرا.

(٢) الموطن السادس.

(٣) إشارة الى أبي سفيان عند بيعة أبي بكر جاء لأمير المؤمنين (ع) وهو يغسل رسول الله (ص) وطلب منه النهوض.

(٤) وفي الاختصاص : ثم يتثاءب عليّ.

(٥) وفي نسخة ـ ب ـ العاصي بن العاص.

٣٥٥

فوق قسمته ، وعلى الراعي إيصال درهم إليه فوق حقه ، والإغضاء له من غير حقه ، وأخذ يخبط البلاد بالظلم فيطؤها بالغشم (١) ، فمن تابعه أرضاه ، ومن خالفه ناواه ثم توجه إليّ ناكثا (٢) عائثا في البلاد شرقا وغربا ويمينا وشمالا ، والأنباء تأتيني والأخبار ترد عليّ.

فأتاني أعور ثقيف (٣) ، فأشار عليّ أن اوّليه الناحية التي هو بها لأداريه ذلك ، وكان في الذي أشار به عليّ الرأي فيأمر الدنيا لو وجدت عند الله مخرجا في توليته ، وأصبت لنفسي فيما أتيت من ذلك عذرا ، فأعملت فكري في ذلك ، وشاورت فيه من أثق به وبنصيحته لله ولرسوله وللمؤمنين (٤) وكان رأيه في ابن آكلة الأكباد (٥) كرأيي فيه ينهاني عن توليته ، وحذرني أن أدخله في أمر المسلمين ، فلم يكن الله ليعلم أني متخذ المضلّين عضدا ، فوجهت إليه أخا بجيلة (٦) وأخا الأشعريين مرة (٧) وكلاهما ركنا الى ديناه ، واتبعا هواه.

فما لم أره يزداد فيما هتك من محارم الله عزّ وجلّ إلا تماديا شاورت من معي من أصحاب محمد صلوات الله عليه وآله البدريين الذين ارتضى الله أمرهم للمسلمين فكلّ (٨) يوافق رأيه [ رأي في ] غزوته ،

__________________

(١) الغشم : الظلم وبابه ضرب ( مختار الصحاح ص ٤٧٥ ).

(٢) وفي الأصل : ناكصا.

(٣) إشاره الى مغيرة بن شعبة الثقفي.

(٤) وفي نسخة ب : للمسلمين.

(٥) ابن آكلة الأكباد هو معاوية وامّه التي أكلت كبد حمزة حقدا وتشفّيا.

(٦) إشارة إلى جرير بن عبد الله البجلي.

(٧) يعني : زياد بن النضر أو أبا موسى الأشعري. ويشير المؤلف الى قضيتهما فيما بعد.

(٨) وفي الأصل : فكلا.

٣٥٦

ومحاربته ، ومنعه مما مدّ إليه يده.

فنهضت إليه بأصحابي انفذ إليه من كل موضوع كتبي ، واوجه إليه من كل ناحية رسلي أدعوه الى الرجوع عما هو فيه والدخول فيما دخل فيه الناس معي ، فمكث يتحكم عليّ الأحكام ويتمنى عليّ الأماني ، ويشترط عليّ شروطا لا يرضاها الله ولا رسوله ولا المسلمون.

فشرط عليّ في بعضها أن أدفع إليه قوما من أصحاب محمد صلوات الله عليه وآله أخيار أبرار فيهم عمار بن ياسر ، رحم الله عمارا! وأين مثل عمار؟ لقد رأيناه مع رسول الله صلوات الله عليه وآله ما يتقدم منا خمسة إلا كان عمار سادسهم ولا أربعة الا كان خامسهم ، فاشترط أن يقتلهم ويصلبهم.

وانتحل دم عثمان. ولعمر الله ما الّب على عثمان ولا حمل الناس على قتله إلا هو ، وأشباهه من أهل بيته أغصان الشجرة الملعونة في القرآن.

فلما لم أجبه إلى ما اشترط من ذلك كرّ عليّ الدنيا مستعليا بطائفة حمر (١) لا عقول لهم ولا بصائر ، فأعطاهم من الدنيا ما استمالهم به ، فحاكمناه الى الله بعد الإعذار والإنذار.

فلما لم يزده ذلك إلا تماديا لقيناه بعادة الله التي عوّدنا من النصر على عدوه وعدونا ، وراية رسول الله صلوات الله عليه وآله معنا ، فلم نزل نقلله ونقلل حزبه حتى قضى الموت إليه وهو معلم برايات أبيه التي لم أزل اقاتلها مع رسول الله صلوات الله عليه وآله في كل موطن (٢).

فلما [ لم ] يجد من القتل [ بدّا إلا الهرب ] ركب فرسه وقلب رأسه لا

__________________

(١) وفي نسخة الأصل : مستغلبا بطغامنا بجمر.

(٢) إشارة الى غزوات رسول الله (ص) وحروبه مع قريش.

٣٥٧

يدري كيف يصنع واستغاث بعمرو بن العاص (١) ، فأشار إليه بإظهار المصاحف ورفعها على الأعلام والدعاء الى ما فيها ، وقال له : إن ابن أبي طالب ومن معه أهل بصيرة ورحمة ، وقد دعوك الى كتاب الله أولا وهم يجيبونك إليه آخرا ، فأطاعه فيما أشار به عليه إذ رأى أنه لا ملجأ (٢) له من القتل والهرب ، فرفع المصاحف يدعو إلى ما فيها بزعمه.

فمالت الى المصاحف قلوب من بقى من أصحابي بعد فناء خيارهم بجدّهم (٣) في قتال أعدائهم على بصائرهم ، وظنوا بابن آكلة الأكباد الوفاء بما دعى إليه ، وأصغوا (٤) الى دعوته ، وأقبلوا إليّ بأجمعهم يسألون إجابته ، فأعلمتهم أن ذلك منه مكر ومن ابن العاص ، وهما الى النكث أقرب منهما إلى الوفاء ، فلم يقبلوا قولي ، ولم يطيعوا أمري ، وأبوا إلا الإجابة ، وأخذ بعضهم يقول لبعض : إن لم يفعل فالحقوه بابن عفان أو فادفعوه الى معاوية.

فجهدت ـ يعلم الله جهدي ـ ولم أدع علم غاية في نفسي وأردت أن يخلوني ورأيي ، فلم يفعلوا ، ودعوتهم إليه فلم يجيبوا لي ما خلا هذا الشيخ وحده وعصبة (٥) من أهل بيته قليلة ـ وأومأ الى مالك الاشتر النخعي ـ فو الله ما منعني من أن أمضي على بصيرتي إلا مخافة أن يقتل هذا وهذا ـ وأومأ بيده الى الحسن والحسين عليهما‌السلام ـ فينقطع نسل رسول الله صلوات الله عليه وآله وذريته (٦) ، وأن يقتل هذا وهذا ـ وأومأ بيده الى محمد بن الحنفية وعبد الله بن جعفر ره ـ فانه لو لا مكاني لكان ذلك.

__________________

(١) وفي نسخة ب : العاصي بن العاص.

(٢) وفي الخصال : لا منجي له.

(٣) وفي الاصل : بخرقهم.

(٤) وفي الاصل : فأسرعوا.

(٥) : جماعة.

(٦) وفي الاصل : وفديته.

٣٥٨

فلذلك صبرت وصرت الى ما أراد القوم (١) مع ما سبق فيه من علم الله عز وجل.

فلما رفعنا عن القوم سيوفنا تحكموا في الأمر بالأهواء ، وتخيروا في الأحكام والآراء ، وتركوا المصاحف وما دعوا إليه من حكم القرآن ودعوا الى التحكيم ، فأبيت أن أحكم في دين الله سبحانه أحدا إذ كان التحكيم في ذلك الخطاء الذي لا أشك فيه.

فلما أبوا إلا ذلك أردت من أصحابي أن يجعلوا الحاكم رجلا من أهل بيتي ممن أرضى رأيه وعقله ، وأثق بدينه ونصحه ومودته ، وأن يكون الحكم بكتاب الله الذي دعوا إليه ، وعلمت أن كتاب الله كله يشهد لي على معاوية ، فأبى عليّ أصحابي ، وأقبلت لا اسمّي رجلا إلا امتنع عليّ ابن هند ، ولا أدعو الى شيء من الحق إلا أدبر عنه ، ولا يسومنا خسفا إلا تابعه أصحابنا عليه.

فلما أبوا إلا ما أراد من ذلك (٢) تبرأت الى الله عزّ وجلّ منهم ، فقلدوا الحكم امرأ كان صبغ في العلم ، ثم خرج منه ، وقد عرفت وعرفوا أولا ميله الى ابن هند ، وأخذه من دنياه ، فحذرته ، وأوصيته ، وتقدمت إليه في أن لا يحكم إلا بكتاب الله الذي دعا القوم إليه ، فخدعه ابن العاص خديعة سارت في شرق الأرض وغربها ، وأظهر المخذوع عليها ندما (٣).

(٤) وكان رسول الله صلوات الله عليه وآله عهد إليّ أن اقاتل في آخر

__________________

(١) من قبول التحكيم.

(٢) وفي الخصال ص ٣٨١ : فلما أبوا إلا غلبتي على التحكيم.

(٣) إشارة الى أبي موسى الأشعري.

(٤) الموطن السابع.

٣٥٩

أيامي قوما من أصحابي يصومون النهار ويقومون الليل ويقرءون القرآن يعرفون بخلافهم إياي ومحاربتهم لي ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، فيهم ذو الثدية ، يختم الله بقتلهم لي السعادة ، فلما انصرفت من ابن هند بعد أمر الحكمين ، أقبل أصحابي بعضهم على بعض باللائمة فيما صاروا إليه من تحكيم الحكمين فلما لم (١) يجدوا لأنفسهم من ذلك مخرجا إلا أن قالوا : كان ينبغي لأميرنا أن لا يتابع ما أخطأنا من رأينا وأن يمضي بحقيقة رأيه على قتل من خالفه منا ، فقد ظلم بمتابعته إيّانا وطاعته في الخطاء لنا ، فقد حلّ لنا دمه. فاجمعوا على ذلك من حالهم ، وخرجوا ناكسين (٢) رءوسهم ينادون بأعلى أصواتهم أن لا حكم إلا لله.

ثم تفرقوا فرقا ، فرقة بالنخيلة ، وفرقة بحروراء ، وفرقة راكبة رءوسها تخبط الأرض حتى عبرت دجلة ، فلم تمر بمسلم إلا امتحنته ، فمن تابعها استحيت ، ومن خالفها قتلت.

فخرجت إلى الاولتين ، واحدة بعد الاخرى ، أدعوهم الى طاعة الله ومتابعة الحق والرجوع إليه ، فأبتا إلا السيف لا يقنعهم غيره.

فلما أعيت الحيلة (٣) فيهما حاكمتهما الى الله ، فقتل الله هذه وهذه [ ولو لا ما فعلوا ] وكانوا لي ركنا قويا وسدّا منيعا (٤) ، فأبى الله إلا ما صاروا إليه ، وكانوا [ قد ] سارعوا في قتل من خالفهم من المسلمين.

ثم كتبت إلى الفرقة الثالثة ، ووجهت إليها رسلا تترى (٥) ، وكانوا من جلّة أصحابي ، وأهل الثقة منهم ، فأبت إلا اتباع اختيها ، والاحتذاء

__________________

(١) وفي نسخة ـ ب ـ : فلم.

(٢) وفي نسخة ـ ب ـ : راكبين.

(٣) فشلت المحاولات السلمية.

(٤) وفي الاصل : وسندا منيعا.

(٥) أبى واحدا بعد واحد.

٣٦٠