شرح الأخبار في فضائل الأئمة الأطهار - ج ١

القاضي النعمان بن محمّد التميميّ المغربي

شرح الأخبار في فضائل الأئمة الأطهار - ج ١

المؤلف:

القاضي النعمان بن محمّد التميميّ المغربي


المحقق: السيد محمّد الحسيني الجلالي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٦

[ غزوة خيبر ]

ثم كان يوم خيبر فمما يؤثر من علي صلوات الله عليه فيه.

[٢٨٣] إنه قال : لما غزا رسول الله صلوات الله عليه وآله خيبر تلقّانا أهلها ـ من اليهود ـ بمثل الجبال من الخيل والسلاح ، وهم أمنع دارا وأكثرها عددا ، كل ينادي للبراز الى اللقاء ، فلم يبرز إليهم من المسلمين أحد إلا قتلوه حتى احمرت الحدق ، ودعيت الى النزال وهمت (١) كل امرئ نفسه ، فأنهضني رسول الله صلوات الله عليه وآله الى برازهم ، فلم يبرز إليّ أحد منهم إلا قتلته ولم يثبت لي فارس منهم إلا طعنته ثم شددت عليهم شدة الليث على فريسته ، فأدخلتهم جوف مدينتهم يكسع بعضهم بعضا.

( الكسع : أن تضرب بيدك أو برجلك دبر كل شيء ، وإذا اتبع قوم أدبار قوم بالسيف ، قيل : كسعوهم ).

ووردت باب المدينة ، فوجدته مسدودا عليهم ، فاقتلعته بيدي ، ودخلت عليهم مدينتهم وحدي ، أقتل من يظهر لي من رجالها وأسبي من أجد فيها من نسائها ، فاستفتحها وحدي لم يكن لي معاون فيها إلا الله وحده.

__________________

(١) وفي نسخة الاصل : وهم.

٣٠١

وأما أصحاب السير (١) ، فذكروا أن رسول الله صلوات الله عليه وآله لما سار الى خيبر ، وأعطى الراية عليا صلوات الله عليه ، قالوا : وكان رأيته يومئذ بيضاء.

قالوا : وبعث رسول الله صلوات الله عليه وآله أبا بكر برايته الى بعض حصون خيبر ، فقاتل ، ورجع ولم يك فتح ، وقد جهد ، ثم بعث من الغد عمر بن الخطاب ، فقاتل ، ورجع ، ولم يك فتح وقد جهد. فقال رسول الله صلوات الله عليه وآله : لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح الله على يديه ليس بفرار (٢). فدعا عليا صلوات الله عليه وهو أرمد. فتفل في عينيه ، ثم قال : خذ هذه الراية ، فامض بها حتى يفتح الله عز وجل على يديك. فخرج بها حتى أتى الحصن فمركز الراية في رضم من الحجارة تحت الحصن.

( الرضم : الواحدة منه رضمة : وهي حجارة مجتمعة ليست بثابتة في الأرض وتكون في بطون الأودية. والجمع الرضم والرضام ).

واطلع إليه يهودي من رأس الحصن ، فقال : من أنت؟؟ قال : أنا علي بن أبي طالب. قال اليهودي : علوتم (٣) وما أنزل على موسى ، فما رجع حتى فتح الله على يديه خيبر.

وقال بعضهم (٤) : إنه لما دنا من الحصن خرج إليه قوم ، فقاتلهم ،

__________________

(١) السيرة النبوية لابن هشام ٣ / ٢١٦ : عن ابن إسحاق عن بريدة الأسلمي عن أبيه عن سلمة ، قال : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أبا بكر ، الحديث.

(٢) وفي نسخة الاصل : كرّار غير فرّار.

(٣) وفي الإرشاد للمفيد ص ٦٧ : غلبتم.

(٤) الواقدي في كتاب المغازي ٢ / ٦٥٥ عن أبي رافع وأحمد بن إسماعيل في الاربعين المنتفى الحديث ٥٧.

٣٠٢

فضربه رجل من اليهود فطرح ترسه بين يديه ، فتناول علي صلوات الله عليه بابا كان عند الحصن فتترس به ، فلم يزل في يده وهو يقاتل حتى فتح الله عز وجل علي يديه ، ثم ألقاه من يده حين فرغ منهم.

قال صاحب الحديث (١) فلقد جئت في نفر معي سبعة أنا ثامنهم نجهد على أن نقلب ذلك الباب فما نقدر [ أن ] نقلبه.

فهذه أحد بواهر علي صلوات الله عليه ومما يبين أن الله عز وجل أيده بملائكة ، والأخبار بذلك عنه كثيرة. وقد ذكرنا بعضها فيما تقدم.

__________________

(١) وهو أبو رافع مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كما رواه عبد الله بن الحسن ( سيرة ابن هشام ٣ / ٢١٦ ).

٣٠٣

[ فتح مكة ]

وأما ما كان منه في فتح مكة.

[٢٨٤] فما رواه محمد بن سلام باسناده عنه ، أنه قال صلوات الله عليه : إن رسول الله صلوات الله عليه وآله لما توجه لفتح مكة أحبّ أن يعذر إليهم وأن يدعوهم الى الله عز وجل آخرا كما دعاهم أولا ، فكتب إليهم كتابا يحذرهم وينذرهم عذاب ربهم ويعدهم من الله الصفح عنهم ونسخ فيه لهم من أول سورة براءة (١) ليقرأ عليهم ، ثم ندب أبا بكر إليه ليوجهه بها به.

فهبط عليه جبرائيل عليه‌السلام ، فقال : يا محمّد إنه لا يؤدي عنك إلا رجل منك ، فأنبأني رسول الله صلوات الله عليه وآله بذلك. ووجهني في طلب أبي بكر بعد أن أنفذه بالصحيفة ، فأخذتها منه وأتيت أهل مكة ـ وأهلها يومئذ ليس منهم أحد (٢) إلا وقد وترته بحميم له ـ. فلو قدر أن يجعل على كل جبل مني إربا لفعل ، ولو أن يبذل ماله ونفسه وولده وأهله ، فأبلغتهم رسالة النبيّ صلوات الله عليه وآله ، فأقرأتهم كتابه. وكل يلقاني بالتهديد والوعيد ويبدي لي البغضاء ويظهر لي الشحناء من

__________________

(١) وفي كتاب الاختصاص للمفيد ص ١٦٢ : ونسخ لهم في آخر سورة براءة.

(٢) وفي نسخة ـ ب ـ : رجل.

٣٠٤

رجالهم ونسائهم فلم يرعبني ذلك حتى أنفذت ما وجهني إليه رسول الله صلوات الله عليه وآله.

وكان الذي حمل عليه نفسه عليه‌السلام من التقحّم على أهل مكة ، وقد قتل من ساداتهم وحماتهم ووجوه رجالهم من قد قتل من أعظم الجهاد والإقدام بالنفس على التلف ، فتقدم على ذلك مؤثرا لطاعة الله وطاعة رسوله محتسبا له نفسه.

فأما قول جبرائيل عليه‌السلام لرسول الله صلوات الله عليه وآله : لا يؤدي عنك إلا رجل منك ، وفي بعض الروايات لا يؤدي عنك إلا أنت أو علي ، فقد تقدم ذكر ما في ذلك من البيان على إمامة علي صلوات الله عليه. ولما توجه رسول الله صلوات الله عليه وآله بجموع المسلمين ـ وقد أعزهم الله سبحانه وكثرهم ـ الى مكة نظر أهلها من ذلك الى ما ليس لهم به قوام فاستكانوا وخضعوا ، وسألوا الصفح عنهم والدخول في السلم ، أقبل رسول الله صلوات الله عليه وآله يوم دخول مكة في عساكر لم تر العرب مثلها عددا وعدّة قد تكفروا في السلاح ما يتبين منهم إلا الحدق. وجعل الأنصار في الميمنة ورايتهم مع سعد بن عبادة ، والمهاجرين في الميسرة ورايتهم مع الزبير بن العوام ، وقال لكل واحد منهما ادخلوا من موضع كذا وكذا ، وكان هو صلوات الله عليه وآله في جمهور خواص المهاجرين والأنصار وسائر الناس ، ومع كل قوم من قبائل العرب عدد عظيم. فسمع عمر بن الخطاب سعد بن عبادة يقول وبيده الراية ـ وهو يريد دخول مكة ـ :

اليوم يوم الملحمة

اليوم هتك الحرمة (١)

__________________

(١) وفي إعلام الورى للطبرسي. ص ١٩٨ والإرشاد للمفيد ٧١ والمناقب لابن شهرآشوب ١ / ٢٠٨

٣٠٥

فجاء عمر الى رسول الله صلوات الله عليه وآله ، فأخبره بقوله. فقال : يا رسول الله صلوات الله عليه وآله إني أخاف أن يكون له في قريش صولة. فدعا رسول الله صلوات الله عليه وآله عليا صلوات الله عليه ، وقال له : اذهب فخذ الراية منه ، وكن أنت الذي تدخل بها ، ففعل.

وكان علي صلوات الله عليه وآله موضع حربه وموضع سلمه ، وكذلك قال له في غير موطن : يا علي حربك حربي وسلمك سلمي.

وفرق رسول الله صلوات الله عليه وآله المسلمين يوم دخول مكة كتائب ، وقدم على كل كتيبة منهم رجلا ، وأمره ان يدخل بهم من موضع سماه له ، فدخلوا على ذلك آمنين كما وعد الله عز وجل وهو لا يخلف الميعاد وأمر رسول الله صلوات الله عليه وآله امراء الكتائب ألا يقاتلوا إلا من قاتلهم خلا نفر سماهم لهم أمر بقتلهم ولو وجدوا تحت أستار الكعبة لعظم جرائم كانت لهم ، فترك كثير منهم من لقيه ممن كانت بينه وبينهم معرفة وله به عناية ، واستأمن بعضهم لبعض ، وجسروا على رسول الله صلوات الله عليه وآله بردّ أمره فيهم ، وكان منهم عبد الله بن سعد أخو بني عامر بن لؤي ، وكان أعظمهم جرما وكان رسول الله أشد عليه حنقا. وكان أول من بدأ باسمه ممن ندر يومئذ دمه ، وقال : اقتلوه ولو وجدتموه تحت أستار الكعبة. وذلك إنه كان أسلم ، فاستكتبه رسول الله صلوات الله عليه ، وكان يكتب له الوحي ، فيملي عليه رسول الله صلوات الله عليه وآله : غفور رحيم ، فيكتب : عزيز حكيم ، وأشباه ذلك ، فارتدّ كافرا ولحق بمشركي قريش ، وقال : قد أنزلت قرآنا كثيرا وأتيته

__________________

هكذا :

اليوم يوم الملحمة

اليوم تسبى الحرمة

٣٠٦

عن نفسي ، ففيه نزلت : « ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله » (١).

فجاء عثمان بن عفان فأتى به مستورا حتى أدخله على رسول الله صلوات الله عليه وآله ، فسأله فيه ، فأعرض رسول الله صلوات الله عليه وآله عنه مرارا ، وسكت لا يجيبه بشيء ، فألحّ عليه عثمان ، فخلى سبيله ، ثم قال ـ لمن حضره من المسلمين ـ : لقد صمت طويلا لعل أحدكم يقوم إليه فيضرب عنقه كمثل ما أمرت فما فعلتم؟ قالوا : يا رسول الله ، فلو كنت أشرت إلينا بمثل ذلك. فقال : إن النبيّ لا يقتل بالإشارة.

ولقى علي صلوات الله عليه الحويرث بن ثقيف وكان ممن نذر رسول الله صلوات الله عليه وآله دمه يومئذ ، وكان الحويرث يثق بعلي صلوات الله عليه. فقال له علي صلوات الله عليه : يا عدوّ الله أنت هاهنا؟ فقال الحويرث : ابق عليّ يا ابن أبي طالب.

فقال : لا بقيت إن أبقيت عليك. وقتله.

ودخل علي صلوات الله عليه على اخته أم هاني بنت أبي طالب ، فأصاب عندها رجلين (٢) ممن نذر رسول الله صلوات الله عليه وآله دمهما من بني مخزوم قد استجارا بها لصهر كان بينهما فلما رآهما علي صلوات الله عليه أخذ سيفه وقام إليهما ليقتلهما ، فقامت أم هاني دونهما ، وقالت : يا أخي إني قد أجرتهما ، قال : إن رسول الله صلوات الله عليه وآله قد أمر

__________________

(١) ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ ) سورة الأنعام : الآية ٩٣.

(٢) قال الواقدي في المغازي ٢ / ٨٢٩ : وهما : عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي والحارث بن هشام. أما ابن هشام فقد قال في السيرة ٤ / ٤٠ هما : الحارث وزهير بن أبي أميّة بن المغيرة.

٣٠٧

بقتلهما ، ولو كانا تحت أستار الكعبة. فقبضت على يده ـ وكانت ايدة شديدة ـ فلوتها حتى انتزعت السيف من يده ، فأمسكته ، وأمرت بهما ، فدخلا بيتا وغلقت عليهما ، ومضت الى رسول الله صلوات الله عليه وآله ، فلما رآها رحّب بها وسألها عن حالها. فأخبرته الخبر. فضحك. وقال : قد أجرنا من أجرت يا أم هاني. فأرسل الى علي صلوات الله عليه فأتاه ، فضحك إليه ، وقال : غلبتك أم هاني؟ فقال : يا رسول الله والذي بعثك بالحقّ نبيّا لا قدرت على أن أمسك السيف حتى خلّصته من يدي ، فضحك رسول الله ، وقال : لو أن أبا طالب ولد الناس كلهم لكانوا أشداء أقوياء.

وأخذ علي صلوات الله عليه يومئذ مفتاح الكعبة. فجاء به رسول الله صلوات الله عليه وآله وقال : يا رسول الله هذا مفتاح الكعبة ، فإن رأيت أن تعطيناه لتجمع لنا السقاية والحجابة ، فافعل. فقال : يا علي اعطيكم ما هو أفضل من ذلك ما أعطانا الله من فضله وهذا يوم بر ووفاء ، وانما اعطيكم ما يزدرون لا ما ترزءون. فادفع المفتاح الى عثمان بن طلحة. فدفعه إليه. وقال : رضينا ما رضيته لنفسك وإنا معك يا رسول الله.

٣٠٨

[ غزوة بني جذيمة ]

ولما فتح رسول الله صلوات الله عليه وآله واستقرّ قرار أهلها بعث رسول الله صلوات الله عليه وآله قوما يدعون العرب الى الله والى رسوله ليدخلوا فيما دخل فيه أهل مكة ، وكان فيمن بعثه خالد بن الوليد ، ولم يأمرهم بقتال أحد ، فأتى بني جذيمة بن عامر بن عبد مناة ومعه كتيبة ، فلما رأوه أخذوا السلاح. فقال لهم خالد : ضعوا السلاح فإن الناس قد أسلموا ووضعت الحرب أوزارها ، وإنما أرسلنا رسول الله صلوات الله عليه وآله لندعو الناس الى الإسلام ولم يأمرنا بقتال أحد. فوضعوا سلاحهم خلا رجل منهم يقال له : جحدم فإنه قال : ويحكم فإنه خالد. والله ما بعد وضع السلاح إلا الأسر وما بعد الأسر إلا ضرب الأعناق. فقاموا بأجمعهم عليه وقالوا : يا جحدم أتريد أن تسفك دماءنا ، إن الناس قد أسلموا ووضعوا السلاح. فقال : والله لا أضع سلاحي ، فغلبوا عليه ، وانتزعوا السلاح من يده ، فلما وضعوا سلاحهم ، أمر بهم خالد فكتفوا ثم عرضهم على السيف فقتل منهم جماعة ، وبلغ رسول الله صلوات الله عليه وآله الخبر. فقام قائما ، ورفع يديه الى السماء ، وقال : اللهمّ إني أبرأ إليك مما صنع خالد. ثم دعا عليا صلوات الله عليه ، وقال : يا علي اخرج الى هؤلاء القوم فانظر في أمرهم واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك. ودفع إليه مالا ، وقال له : اعقل لهم من قتل

٣٠٩

منهم وارجع إليهم ثمن ما اخذ منهم وانصفهم ، فخرج علي صلوات الله عليه فودى إليهم عقل الدماء وثمن ما اصيب من الأموال حتى أنه ليعطيهم ثمن ميلغة الكلب (١) حتى إذا لم يبق لهم شيء من دم ولا مال إلا وفاه إليهم ، قال : هل بقى لكم شيء؟؟ قالوا : لا. قال : فإنه قد بقيت معي بقية من المال الذي وجهه معي رسول الله صلوات الله عليه وآله فخذوها احتياطا لرسول الله صلوات الله عليه وآله ودفع إليهم مالا كان قد بقى بعد الذي دفعه إليهم ، فأخذوه ، وشكروه ، ودعوا له بخبر.

ثم أتى النبيّ صلوات الله عليه وآله ، فأخبره بالخبر. فقال : أحسنت يا علي وأصبت أصاب الله بك المراشد ، ثم توجه الى القبلة قائما رافعا يديه الى السماء ـ حتى أنه ليرى ما تحت منكبيه ـ يقول : اللهمّ إني أبرأ إليك مما صنع خالد ـ ثلاث مرات ـ.

وإنما فعل ذلك بهم خالد لأنهم كانوا قتلوا عمّه الفاكهة بن المغيرة في الجاهلية ، وبلغ رسول الله صلوات الله عليه وآله أن خالد بن الوليد فخر على بعض أصحابه بما أنفقه في سبيل الله. فقال له رسول الله صلوات الله عليه وآله : دع عنك أصحابي يا خالد فو الله لو كان لك احد ذهبا ثم أنفقته في سبيل الله ما أدركت غدوة رجل من أصحابي ولا روحته.

فهذا ما ساقه أصحاب السير (٢) مما كان من أمر علي صلوات الله عليه في فتح مكة.

__________________

(١) ميلغة الكلب : مسقاة تصنع من خشب ليلغ فيها الكلب.

(٢) سيرة ابن هشام ٤ / ٥٥.

٣١٠

[ غزوة حنين ]

فأما ما كان منه صلوات الله عليه في يوم حنين ، فإن رسول الله صلوات الله عليه وآله لما افتتح مكة وسمعت بذلك هوازن اتقوا على أنفسهم ، فجمعهم مالك بن عوف النصري وكان سيدهم يومئذ وكان فيهم دريد بن الصمة [ الجشمي ] شيخا كبيرا قد خرف (١) ، فأخرجوه لمعرفته في الحرب وليأخذوا من رأيه (٢) واجتمعوا على تقديم مالك بن عوف ، فجمعهم ونزل بهم أوطاس وكان مالك بن عوف قد أمرهم فساقوا معهم الأهل والمال ، وكان دريد قد كفّ بصره وصار كالفرخ على بعير يقاد به ، فلما نزلوا ، قال : أين نزلتم؟؟ قالوا : بأوطاس. قال : نعم مجال الخيل ، لا حزن ضرس ولا سهل دهس.

[ ضبط الغريب ]

( الحزن : الوعر. والضرس : ما خشن من الاكام والأخاشيب. والدهس والدهاس : المكان اللين من الارض الذي يغيب فيه قوائم الدواب ).

__________________

(١) وهو يومئذ ابن ستين ومائة سنة. المغازي ٢ / ٨٨٦.

(٢) أقول : في العبارة نوعا من التناقض فانه يؤخذ من رأيه تناقض قد خرف. والظاهر أن كلمة قد حرف تصحيف كما هو ظاهر من كتب السير ففي المغازي ٢ / ٨٨٦ : وكان شيخا مجربا. وكذلك في سيرة ابن هشام ٤ / ٦٠.

٣١١

مالي أسمع رغاء البعير ونهاق الحمير وثغاء الشاة وبكاء الصغير. قالوا : لأن مالكا أمر الناس بالمجيء بالأهل والمال. قال : ادعوه لي. فدعوه. فقال : يا مالك قد أصبحت رئيس قومك ، وهذا يوم كائن لما بعده من الأيام ، فلم سقت مع الناس نساءهم وأموالهم. قال : أردت أن أجعل خلف كل رجل منهم أهله وماله يقاتل عنهم. قال دريد : وهل يرد بذلك المنهزمة إن كانت والله لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه ، وإن كانت عليك فضحت في أهلك وقومك ، فأرجع الأهل والمال الى ممتنع بلادهم وعلياء قومهم. ثم الق عدوك على متون الحيل ، فإن كانت لك لحق بك وراءك (١) ، وإن كانت عليك كنت قد احرزت أهلك ومالك. فكره مالك أن يكون لدريد في ذلك أمر ، فلاطفه في القول ، وقال لهوازن : هذا شيخ قد كبر وكبر عقله. فأحسّ ذلك منه دريد. فقال شعرا :

يا ليتني فيها جذع

أخب فيها وأضع (٢)

وكان ذلك مما هيّئه الله ويسّره من أموالهم ليفيئه على رسوله صلوات الله عليه وآله ، فسار رسول الله صلوات الله عليه وآله إليهم في اثنى عشر ألف مقاتل ، وذلك أنه قدم مكة في عشرة آلاف وخرج معه منها ألفان ، فلما قرب من المشركين وهم بحنين تفرقوا له وكمنوا له في واد على طريقه إليهم سبقوه إليه ـ وفيه شعاب ومضايق ـ ، فلما صار المسلمون فيه وقد أعجبتهم ـ كما قال الله

__________________

(١) وفي نسخة الأصل : قومك.

(٢) وأضاف ابن هشام ٤ / ٦١ والقمي في تفسيره ١ / ٢٨٦ :

أقود وطفاء الزمع

كأنها شاة صدع

الجذع : الشاب الحدث ، ويريد به منا قوة الشباب ، الوطفاء : الطويلة الشعر. والشاة : الوعل.

صدع : متوسط بين العظيم والحقير.

٣١٢

عز وجل ـ كثرتهم (١) لم يشعروا إلا بكتائب المشركين قد خرجت إليهم من تلك الشعاب والمضايق ، وشدوا عليهم شدة رجل واحد ، فانشمروا راجعين لا يلوي أحد منهم على أحد.

( قوله : انشمروا : أي انقبضوا ، ومنه تشمير الثوب ).

وثبت رسول الله صلوات الله عليه وآله في خمسة من بني عبد المطلب. وعلي صلوات الله عليه شاهر سيفه ، يحميه ويضرب دونه ، والعباس آخذ بلجام بغلة رسول الله صلوات الله عليه وآله وكان يومئذ راكبا على بغلة ، وقال رسول الله صلوات الله عليه وآله للعباس ـ وكان رجلا صيتا ـ : ناد بالناس وعرّفهم مكاني ، وقد أمعن الناس في الهزيمة كما أخبر الله عز وجل بقوله : « وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ، ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ » (٢) يعني الذين ثبتوا مع رسول الله صلوات الله عليه وآله ، فظهر من المنافقين يومئذ ما يسرّونه ، فأخرج أبو سفيان أزلاما من كنانته فضرب بها ، وقال : إني أرى أنها هزيمة لا يردها إلا البحر. وقال آخرون منهم (٣) : اليوم بطل السحر. وهمّ شيبة ابن عثمان بن أبي طلحة بأن يقتل رسول الله صلوات الله عليه وآله ، وقال : اليوم أدرك ثأر أبي ، وكان أبوه قتل ببدر ، قال : فتغشى فؤادي شيء لم أملك معه نفسي ، فعلمت أنه ممنوع مني. ونظر علي صلوات الله عليه وهو يجالد بين يدي رسول الله صلوات الله عليه وآله ويذب عنه الى صاحب لواء المشركين وهو من هوازن على جمل والراية معه وهو يطعن بها في المسلمين وقد تضايقوا في وعرهم

__________________

(١) التوبة : ٢٥.

(٢) التوبة : ٢٥ ـ ٢٦.

(٣) وهم : كلدة وجبلة ابنا الحنبل.

٣١٣

منهزمين. فأهوى علي صلوات الله عليه الى صاحب الراية (١) من خلفه فضرب عرقوبي جمله بالسيف فحلهما (٢) فوقع الجمل على عجزه ، وسقط صاحب الراية عنه فعلاه بالسيف فقتله ، فصار حدا والجمل حدا بين المسلمين والمشركين. ونادى العباس ـ بأعلى صوته ـ يا معشر المسلمين ، يا معشر المهاجرين والأنصار يا أصحاب الشجرة ويا أهل بيعة الرضوان هلمّوا الى نبيكم ، فهذا هو!. فجعلوا ينادون من كل جانب : لبيك لبيك!. ولم يكونوا ظنوا إلا أن رسول الله صلوات الله عليه وآله قد قتل ، أو رجع فيمن رجع ، فجعل الرجل منهم يريد أن يصل إليه بفرسه أو على بعيره فلا يقدر لضيق المكان وازدحام الناس ، فيأخذ سلاحه ثم يرمي بنفسه عن مركبه ويدعه ويأتي رسول الله صلوات الله عليه وآله ولما اصيب صاحب لواء المشركين ولم يقدروا على أن يقيموا غيره مكانه انحلّ نظامهم واضطربوا وضرب الله عز وجل في وجوههم وأيّد رسوله بجنود لم تروها كما أخبر سبحانه ، فما رجع آخر الناس من الهزيمة إلا والأسارى بين يدي رسول الله مكتوفين والغنائم قد حيزت ، وكان من علي صلوات الله عليه يومئذ من البلاء ما لم يكن لأحد مثله ، وقامت الأنصار فيه لما انصرفوا مقاما حسنا.

[ مقتل دريد ]

ولحق يومئذ ربيعة بن رفيع دريد بن الصمة وهو على جمل في شجار.

( والشجار : خشب الهودج فاذا غشي صار هودجا ).

__________________

(١) وهو أبو جرول وكانت يرتجز :

أنا أبو جرول لا براح

حتى نبيح القوم أو نباح

فضربه علي صلوات الله عليه وهو يقول :

قد علم القوم لدى الصباح

إني في الهيجاء ذو نصاح

(٢) وفي الأصل : فقدهما.

٣١٤

فتوهم انه امرأة ، فأخذ بخطام الجمل وأناخه ، فإذا هو بشيخ كالفرخ ، فأخذ السيف وتقدم إليه ليقتله. فقال له دريد : ما ذا تريد؟؟ قال : أقتلك! ، قال : ومن أنت؟؟ قال : أنا ربيعة بن رفيع السلمي ، فضربه بسيفه فلم يصنع السيف فيه شيئا. فقال له دريد : بئسما أسلحتك امّك! خذ سيفي فهو في مؤخر الرحل في الشجار ، ثم اضرب به فارفع عن العظام واخفض عن الدماغ فإني كنت كذلك أضرب الرجل ، ثم اذا أتيت امّك فأخبرها إنك قتلت دريد بن الصمة وكثيرا ما منعت من نسائكم ، فقتله ثم أخبر أمه!. فقالت له : ويلك والله لقد أعتق من امّهاتك ثلاثا من الأسر.

[ الغنائم ]

وأصاب رسول الله صلوات الله عليه وآله من سبي هوازن ستة هوازن ستة آلاف من الذراري والنساء ، ومن الإبل والشاة ما لا يدرى عدته. فقسم رسول الله كثيرا من سبيهم ، ثم وفد منهم على رسول الله صلوات الله عليه وآله وقد أسلموا. فقالوا : يا رسول الله ، إنا ونساءنا أهل مال وعيال وعشيرة ، وقد أصابنا من البلاء ما لم يخف عليك فامنن علينا بفضلك فإنما نساءنا عماتك وخالاتك وحواضنك اللواتي كن يكفلنك ( يعنون : إنه كان صلوات الله عليه وآله استرضع فيهم ) ، وقالوا : يا رسول الله لو كنا ملحنا ( أي : أرضعنا ) الحارث بن أبي شمّر أو النعمان بن المنذر ثم نزل بنا مثل الذي نزل لرجونا عطفه وعايدته علينا وأنت خير المكفولين. فقال لهم رسول الله صلوات الله عليه وآله أبناؤكم ونساؤكم أحبّ إليكم أم أموالكم؟ قالوا : يا رسول الله إن خيّرتنا بين أموالنا ونسائنا ، فنساؤنا وأبناؤنا أحبّ إلينا. فقال لهم رسول الله صلوات الله عليه وآله : أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم ، فإذا أنا صلّيت الظهر بالناس ـ وكان ذلك بمكة ـ فقوموا وقولوا : إنا نستشفع برسول الله الى المسلمين وبالمسلمين الى

٣١٥

رسول الله في أبنائنا ونسائنا ، فسأعطيكم ذلك وأسأل لكم.

فلما صلّى رسول الله صلوات الله عليه وآله بالناس الظهر بمكة ، قاموا ، فتكلموا بالذي أمرهم به. فقال صلوات الله عليه وآله : أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم. قال المهاجرون : وما كان لنا فهو لرسول الله صلوات الله عليه وآله ، وقالت الأنصار : ما كان لنا فهو لرسول الله صلوات الله عليه وآله. فقال الأقرع بن حابس : أما أنا وبنو تميم ، فلا. وقال عيينة بن حصن : أما أنا وبنو فزارة ، فلا. وقال عباس بن مرداس : أما أنا وبنو سليم ، فلا. فقالت بنو سليم : بل ما كان لنا فهو لرسول الله صلوات الله عليه وآله. فقال رسول الله صلوات الله عليه وآله : أما من تمسك منهم بحقه من أهل السبي ، فله بكل نسمة منه سنة فرائض ( يعني من الغنيمة ) فرد الناس عليهم أبناءهم ونساءهم. وقسّم رسول الله صلوات الله عليه وآله المال على الناس. ونادى مناديه أدّوا الخياط والمخيط.

وكان عقيل بن أبي طالب قد دخل يومئذ على امرأته (١) وسيفه متلطخ بالدم. فقالت له : قد عرفت أنك قد قاتلت ، فما ذا أصبت من الغنيمة. فقال : دونك هذه الابرة تخيطي بها ، فاقتلع ابرة من ثوبه ، فدفعها إليها ، ثم سمع منادي رسول الله صلوات الله عليه وآله وهو يقول : أدّوا الخياط والمخيط فإن الغلول يكون على أهله عارا وشنارا يوم القيامة. فقال عقيل لامرأته : لا أرى ابرتك إلا وقد فاتتك ، فأخذها ورمى بها في المغنم.

[ عطاء المؤلّفة قلوبهم ]

وأعطى رسول الله صلوات الله عليه وآله المؤلّفة قلوبهم من الغنائم ما يستميلهم بذلك في الإسلام ، أعطى كل واحد منهم مائة من الإبل. قالوا : وقد

__________________

(١) وهي فاطمة بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة.

٣١٦

كان ممن أعطاه ذلك أبو سفيان ابن حرب ومعاوية ابنه ، وحكيم بن حزام ، والحارث بن الحارث بن كلدة ، والحارث بن هشام ، وسهيل بن عمرو ، وخويطب بن عبد العزى ، والعلاء بن حارثة ، وعيينة بن حصن ، والأقرع بن حابس ، ومالك بن عوف ، وصفوان بن أميّة فهؤلاء أكابر المؤلّفة قلوبهم يومئذ وأعطى آخرين منهم دون ذلك.

[ إسلام مالك بن عوف ]

وسأل رسول الله صلوات الله عليه وآله عن مالك بن عوف ـ سيد هوازن يومئذ ـ ما فعل؟؟ فقالوا : لحق بالطائف وتحصّن بها مع ثقيف يا رسول الله. قال : فأخبروه أنه إن أتاني مسلما رددت إليه أهله وماله وأعطيته مائة من الإبل. فاخبر بذلك. فخرج من الطائف متسلّلا عن ثقيف لئلاّ يعلموا به فيحبسوه. وأتى رسول الله صلوات الله عليه ، فردّ عليه أهله وماله وزاده مائة من الإبل ، وأسلم وحسن إسلامه.

وتكلّم الناس فيما أعطاه رسول الله صلوات الله عليه وآله المؤلّفة قلوبهم على ضعف إسلامهم. فقيل إن قائلا قال : أعطيت عيينة بن حصن والأقرع بن حابس مائة من الإبل وتركت جعيل بن سراقة. فقال صلوات الله عليه : أما والذي نفسي بيده لجعيل بن سراقة خير من طلاع الأرض كلهم مثل عيينة والأقرع ولكن تألفتهما على الإسلام ووكلت جعيلا الى إسلامه.

( الطلاع : ما طلعت عليه الشمس من الأرض. يقال منه لو كان لي طلاع الأرض مالا لافتديت به من هول المطلع ).

وبلغه صلوات الله عليه وآله مثل ذلك من الأنصار ، فجمعهم ، ثم قال : يا معشر الأنصار ما مقالة بلغني عنكم أوجدة أوجدتموها في أنفسكم لما اعطيته

٣١٧

المؤلّفة قلوبهم. أفلم تكونوا (١) ضلالا فهداكم الله وعالة فأغناكم الله وأعداء فألّف بين قلوبكم؟؟ قالوا : لله ولرسوله المنّ والفضل. قال : ألا تجيبون يا معشر الأنصار؟؟ قالوا بما ذا نجيبك يا رسول الله؟؟ قال : أما والله لو شئتم لقلتم فصدقتم ، أتيتنا مكذوبا فصدقناك ، ومخذولا فنصرناك ، وطريدا فآويناك ، فوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا ، تألفت بها قوما ليسلموا ووكلتكم الى إسلامكم ، ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعون برسول الله الى منازلكم ، فو الذي نفس محمد بيده لو لا الهجرة لكنت رجلا من الأنصار ، ولو سلك الناس شعبا وسلك الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار. اللهمّ ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار.

( اللعاعة : بقلة ناعمة شبهها صلوات الله عليه وآله وضربها مثلا بنعيم الدنيا ، كما قال ـ في موضع آخر ـ : الدنيا حلوة خضرة ).

فهذه أخبار أهل السير من العامة وثقات أصحاب الحديث منهم عندهم يخبرون أن معاوية من المؤلّفة قلوبهم ويخبرون عن فضل علي صلوات الله عليه. ثم معاوية بعد ذلك ينافس عليا صلوات الله عليه في الإمامة ويدّعيها معه!!!.

[٢٨٥] ورووا أيضا في ذلك أن رجلا وقف ورسول الله صلوات الله عليه وآله يقسم غنائم حنين يومئذ ، وقد أعطى المؤلّفة ما أعطاهم. فقال : يا محمد قد رأيت ما صنعت منذ اليوم ، فلم أراك عدلت ، فغضب رسول الله صلوات الله عليه وآله. فقال : ويحك إذا لم يكن العدل عندي فعند من يكون؟؟ مضى الرجل. فقال رسول الله صلوات الله عليه وآله : يخرج من ضيضىء هذا! قوم يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من

__________________

(١) وفي نسخة ـ ب ـ : آثكم.

٣١٨

الدين كما يمرق السهم من الرمية ( يعني الخوارج ) وذكر أمرهم ، وسيأتي بتمامه في موضعه إن شاء الله تعالى.

فهذه غزوات رسول الله صلوات الله عليه وآله التي قاتل فيها المشركين لم يكن لأحد فيها من العناء والصبر والجلد والفضيلة مثل الذي كان لعلي صلوات الله عليه ، ثم علمت العرب أنه لا طاقة لها بحرب رسول الله صلوات الله عليه وآله ، فجعلت وفودها تفد عليه مسلمين مؤمنين به. وخرج صلوات الله عليه وآله الى تبوك واستخلف عليا صلوات الله عليه ، وقد ذكرت ما كان منه إليه عند ما ذكر الناس من تخلّفه ، وقوله له : أنت مني بمنزلة هارون من موسى ، ولم يتخلّف علي صلوات الله عليه عن رسول الله صلوات الله عليه وآله في غزوة غيرها. ولم يكن فيها قتال وإنما وادع رسول الله صلوات الله عليه وآله فيها أهل تبوك على إعطائهم الجزية ، فكتب بذلك لهم عهدا ، وانصرف الى المدينة.

٣١٩

[ سرايا الرسول ]

فأما ما أخرجه رسول الله صلوات الله عليه وآله من السرايا فانه لم يبق أحد من أصحابه إلا أخرجه في سرية وأمر عليه غيره غير علي صلوات الله عليه فانه لم يؤمر عليه أحد قط إبانة لفضله واستحقاقه الإمامة من بعده. وغزاه غزوتين ـ غزوة اليمن وغزوة بني عبد الله بن سعيد من أهل فدك ـ فأرضى الله ورسوله فيهما. وكان آخر بعث بعثه رسول الله صلوات الله عليه وآله بعث اسامة بن زيد بن حارثة ، وقد نعيت نفسه إليه صلوات الله عليه وآله وأمره أن يوطيء الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين ، وأوعب معه جميع المهاجرين الأولين لم يبق منهم أحدا غير علي صلوات الله عليه إلا وقد أمره بالنفور مع اسامة بن زيد.

فاعتلّ صلوات الله عليه وآله العلّة التي قبض فيها وقد برّر أسامة بأصحابه.

وكان آخر ما عهده أن قال : نفذوا جيش اسامة ولا يتخلف أحد ممن أنفذه معه أراد أن يصفو الأمر لعلي صلوات الله عليه وألا يعارض أحد فيه ، فتثاقلوا الى أن قبض رسول الله صلوات الله عليه وآله ، وكان من أمرهم ما قد كان.

فهذه جملة ما جاء في السير عن العامة في فضل جهاد علي صلوات الله عليه. ونحن نذكر نكتا بعد ذلك مما روي في مثله.

٣٢٠