القواعد الفقهيّة - ج ٥

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي

القواعد الفقهيّة - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي


المحقق: مهدي المهريزي
الموضوع : الفقه
الناشر: نشر الهادي
المطبعة: مؤسسة الهادي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-400-030-7

الصفحات: ٣٩٢

الشبهة الموضوعيّة التحريميّة.

وأمّا كون جهة السؤال احتمال تنجّسهم بالنجاسات الخارجيّة لعدم اجتنابهم عنها وكثرة استعمالهم لحم الخنزير والخمر وسائر المسكرات المائعة بالأصالة.

ففيه : أنّ هذا الاحتمال لا يكون مختصا بهم ، بل يأتي في حقّ كلّ من لا يجتنب عن النجاسات جميعا أو بعضها ، سواء كان عدم اجتنابه عنها عن قلّة المبالاة في الدين ، أو من جهة عدم القول بنجاسته في مذهبه ، وذلك لاختلاف الفتاوى في المذاهب في بعض النجاسات.

هذا ، مضافا إلى أنّ ظاهر الرواية هو السؤال عن سؤرهما من حيث كونهما يهوديّا ونصرانيّا ، والجواب أيضا كذلك ، فلا طريق ولا مجال لإنكار ظهور الرواية في نجاسة الكتابي.

وأمّا الرواية الثانية ، فقوله عليه‌السلام : « فإن صافحك بيده فاغسل يدك ، فلا ينبغي أن يشكّ في ظهورها في نجاستهم ».

وأمّا احتمال أن يكون الأمر بالغسل من جهة النجاسة العرضيّة ، فقد رفعناه من أنّ الظاهر وجوب الغسل ـ بعد الفراغ من أنّه في صورة رطوبة إحدى اليدين أو كلتيهما من جهة ارتكاز اعتبار الرطوبة في أذهان العرف في مقام تأثير النجس أو تأثّر المتنجّس ـ كاشف عن تنجّسه بواسطة المصافحة بيده المرطوبة أو يدك المرطوبة ، فيدلّ على نجاسة الكافر ولم تكن نجاسة عرضيّة في البين.

وأمّا الرواية الثالثة ـ أي صحيحة محمّد بن مسلم ـ فظاهرها أنّ كلّ واحدة من الجمل الثلاث التي ذكرها جملة مستقلّة في قبال الآخر ، فقوله عليه‌السلام : « لا تأكلوا في آنيتهم » مطلق ، بل المراد هو الذي لا يشرب فيه الخمر ، وأيضا ليس من طعامهم الذي يطبخونه ، فليس نجاسته بواسطة شرب الخمر أو وجود لحم الخنزير فيه ، بل المنع من جهة نجاستهم التي سرت إلى الكأس والآنية التي لهم ويستعملونها.

٣٤١

وأمّا الرواية الرابعة ـ أي رواية الكاهلي ـ فقوله عليه‌السلام : « أمّا أنا فلا أواكل المجوسيّ » وإن كان من الممكن أن يكون تنزيها منه عليه‌السلام لا من جهة حرمته فلا يدلّ على حرمة المؤاكلة معهم كي يستكشف منها نجاستهم ، لكن قوله عليه‌السلام فيما بعد ذلك « وأكره أن أحرّم عليكم شيئا تصنعونه في بلادكم » فيه إشعار بأنّ الحكم الواقعي وإن كان هي الحرمة ، ولكن أنا أكره إظهاره لأجل إنّكم تصنعون خلافه في بلادكم ، فيشير بهذه العبارة إلى عدم التحريم ، وكراهته لأجل الخوف والتقيّة ، وعلى كلّ حال إن لم تكن ظاهرة في ما قلنا ليست ظاهرة في طهارتهم كما توهّم.

وأمّا الخامسة ـ أي صحيحة عليّ بن جعفر ـ فقوله عليه‌السلام : « لا يأكل المسلم مع المجوسي في قصعة واحدة » فلها كمال الظهور في نجاسة المجوسي ، ولكن الاستدلال بها موقوف على عدم القول بالفصل بين المجوسي وبين اليهودي والنصراني ، وعلى هذا النمط سياق روايته الأخرى.

ثمَّ إنّ بعضهم استدلّ على نجاسة أهل الكتاب بقوله تعالى ( كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ) (١) باعتبار أنّ المراد من الرجس هي النجاسة ، ولا شكّ أنّ المراد من الذين لا يؤمنون في الكتاب العزيز هم مطلق الكفّار الذين لم يؤمنوا بالنبي وأنكروا رسالته ونبوّته ، سواء كانوا من أهل الكتاب أو من غيرهم ، فظاهر الآية أنّ الله تبارك وتعالى جعل النجاسة على الكفّار ، فهم نجسون.

ولكن يظهر من تفسير الآية ـ كما ذكره المفسرون ـ أنّ المراد من الرجس هنا العذاب والعقاب ، وعلى كلّ حال إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال ، لانهدام الظهور.

هذا ، مضافا إلى عدم ظهور لفظة الرجس في حدّ نفسها في النجاسة الخبثيّة.

ثمَّ إنّه قد استدلّ لنجاستهم بروايات أخر كثيرة متفرّقة في أبواب الفقه ، كصحيحة عليّ بن جعفر ، عن أخيه موسى عليه‌السلام قال : سألته عن النصراني يغتسل مع المسلم في‌

__________________

(١) الأنعام (٦) : ١٢٥.

٣٤٢

الحمّام فقال : « إذا علم أنّه نصرانيّ اغتسل بغير ماء الحمام ، إلاّ أن يغتسل وحده على الحوض فيغسله ثمَّ يغتسل » وسألته عن اليهودي والنصراني يدخل يده في الماء أيتوضّأ منه للصلاة؟ قال عليه‌السلام : « لا ، إلاّ أن يضطرّ إليه ». (١)

وحمل الشيخ (٢) الاضطرار هاهنا على التقيّة ، لأن لا يقال : إنّ الاضطرار لا يوجب جواز الوضوء بالماء النجس ، بل ينتقل إلى التيمّم ، ولا شكّ في أنّ ظاهر هذه الرواية نجاسة أهل الكتاب.

وكمفهوم رواية سماعة قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن طعام أهل الكتاب ما يحلّ منه؟ قال عليه‌السلام : « الحبوب » (٣) وأمثال ذلك ممّا يدلّ على لزوم التجنّب عنهم ، وعدم الأكل من طعامهم ، والركون إليهم من الأخبار الكثيرة المتفرّقة في أبواب الفقه ، فلا يحتاج إلى التطويل وفيما ذكرنا غنى وكفاية.

وخلاصة الكلام : أنّ الأخبار المذكورة وإن كان من الممكن المناقشة في ظهور بعضها في نجاستهم ، ولكن لا يمكن إنكار ظهور بعضها الآخر.

نعم هناك أخبار أخر ظاهرة في عدم نجاستهم‌ وجواز الأكل من طعامهم وفي آنيتهم ربما تكون أظهر دلالة من الأخبار المتقدّمة ، وأكثر عددا منها. وبعبارة أخرى : هي على الطهارة أدلّ من دلالة ما تقدّم على النّجاسة.

منها : صحيحة إسماعيل بن جابر ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ما تقول في طعام أهل الكتاب؟ فقال : « لا تأكله » ثمَّ سكت هنيئة ثمَّ قال : « لا تأكله » ، ثمَّ سكت هنيئة‌

__________________

(١) « تهذيب الأحكام » ج ١ ، ص ٢٢٣ ، ح ٦٤٠ ، باب المياه وأحكامها ، ح ٢٣ ، « وسائل الشيعة » ج ٢ ، ص ١٠٢٠ ، أبواب النجاسات ، باب ١٤ ، ح ٩.

(٢) « تهذيب الأحكام » ج ١ ، ص ٢٢٣ ، ذيل ح ٦٤٠.

(٣) « الكافي » ج ٦ ، ص ٢٦٣ ، باب طعام أهل الذمّة ومؤاكلتهم وآنيتهم ، ح ٢ ، « تهذيب الأحكام » ج ٩ ، ص ٨٨ ، ح ٣٧٥ ، باب الذبائح والأطعمة ، ح ١١٠ ، « وسائل الشيعة » ج ١٦ ، ص ٣٨١ ، أبواب الأطعمة المحرّمة ، باب ٥١ ، ح ٢.

٣٤٣

ثمَّ قال : « لا تأكله ولا تتركه تقول إنّه حرام ، ولكن تتركه تنزّها عنه ، إنّ في آنيتهم الخمر ولحم الخنزير » (١). ودلالة هذه الرواية على عدم النجاسة وجواز مؤاكلتهم واضحة بل صريحة ، وأنّ نهيه عليه‌السلام تنزيهي لا تحريمي.

وقال الفقيه النبيه الهمداني قدس‌سره في مصباح الفقيه (٢) إنّ هذه الرواية تصلح قرينة بمدلولها اللفظي على صرف الأخبار الظاهرة في الحرمة أو النجاسة عن ظاهرها.

ومراده أنّ النواهي الموجودة في تلك الأخبار تكون أيضا تنزيهيّة ، وأشار شيخنا الأعظم قدس‌سره (٣) في طهارته إلى ظهورها في التقيّة.

أقول : ما ذكره قدس‌سره في غاية المتانة ، لأنّ آثار التقيّة بادية عليها ، فإنّه عليه‌السلام بعد ما بيّن الحكم الواقعي للسائل سكت هنيئة وتأمّل في طريق التخلّص عن شرّ مخالفتهم في هذه الفتوى ، فعلّل عليه‌السلام نهيه بذلك التعليل تقيّة ، فينبغي أن نعدّ هذه الرواية من أدلّة النجاسة ، لا الطهارة.

منها : صحيح العيص ، سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن مؤاكلة اليهود والنصارى والمجوس؟

فقال عليه‌السلام : « إن كان من طعامك وتوضّأ فلا بأس » (٤).

ويمكن أن يقال في توجيه هذه الرواية أنّ المؤاكلة أعمّ من المساورة بل غيرها ، لأنّ معنى المؤاكلة أن يكون معه مائدة واحدة وإن كان يأكل في ظرف مستقلّ ومختصّ به فلا تدلّ على طهارتهم. أمّا التقييد بالتوضّؤ فيمكن أن يكون لأجل النظافة‌

__________________

(١) « الكافي » ج ٦ ، ص ٢٦٤ ، باب طعام أهل الذمّة ومؤاكلتهم وآنيتهم ، ح ٩ ، « تهذيب الأحكام » ج ٩ ، ص ٨٧ ، ح ٣٦٨ ، باب الذبائح والأطعمة ، ح ١٠٣ ، « المحاسن » ص ٤٥٤ ، ح ٣٧٧ ، « وسائل الشيعة » ج ١٦ ، ص ٣٨٥ ، أبواب الأطعمة المحرّمة ، باب ٥٤ ، ح ٤.

(٢) « مصباح الفقيه » ج ١ ، ص ٥٦٠.

(٣) « كتاب الطهارة » ص ٣٠٩.

(٤) « الكافي » ج ٦ ، ص ٢٦٣ ، باب طعام أهل الذمّة ومؤاكلتهم وآنيتهم ، ح ٣ ، « وسائل الشيعة » ج ١٦ ، ص ٣٨٣ ، أبواب الأطعمة المحرّمة ، باب ٥٣ ، ح ١.

٣٤٤

لكي يرغب الجلوس معه على مائدة واحدة.

ولكن الإنصاف أنّ هذا التوجيه خلاف ظاهر الرواية ، وأمّا التقييد والاشتراط بكونه من طعامه فلا ينافي طهارتهم ، لأنّ المراد منه أن لا يكون الطعام ممّا حرّم الله أكله كلحم الخنزير مثلا.

منها : صحيح إبراهيم بن أبي محمود قال : قلت للرّضا عليه‌السلام : الجارية النصرانية تخدمك وأنت تعلم أنّها نصرانيّة لا تتوضّأ ولا تغتسل من جنابة؟ قال عليه‌السلام : « لا بأس ، تغسل يديها » (١).

منها : صحيحه الآخر قال : قلت للرضا عليه‌السلام : الخيّاط أو القصّار يكون يهوديّا أو نصرانيّا وأنت تعلم أنّه يبول ولا يتوضّأ ، ما تقول في عمله؟ قال عليه‌السلام : « لا بأس » (٢).

ويمكن المناقشة في دلالة هاتين الصحيحتين على طهارتهم.

أمّا في الأولى : فلأنّها قضيّة خارجيّة وجهها غير معلوم ، فلعلّ تلك الجارية مأمورة بالخدمة من طرف سلطان الجور من دون إذنه ، بل وبدون رضاه عليه‌السلام ، ومن الممكن أن يكون الإمام عليه‌السلام يجتنب عمّا يلاقي بدنها مع الرطوبة ، ومن الممكن أنّها كانت تخدمه عليه‌السلام في غير المطاعم والمشارب والملابس ، كلّ ذلك مع احتمال أنّ الإمام عليه‌السلام كان مضطرّا في معاشرتها ، فليس كونها كذلك دليلا على إمضائه عليه‌السلام طهارتها وتقريره عليه‌السلام لها.

وأمّا قوله عليه‌السلام « لا بأس تغسل يديها » فلأجل أنّ المحذور في نظر الراوي كان عدم اغتسالها عن الجنابة وعدم التوضّأ عن النجاسات ـ أي الاستنجاء ـ فأجابه عليه‌السلام بذلك الجواب بأنّ ذلك المحذور يرتفع بأن تغسل يديها.

__________________

(١) « تهذيب الأحكام » ج ١ ، ص ٣٩٩ ، ح ١٢٤٥ ، باب الحيض والاستحاضة والنفاس ، ح ٦٨ ، « وسائل الشيعة » ج ٢ ، ص ١٠٢٠ ، أبواب النجاسات ، باب ١٤ ، ح ١١.

(٢) « تهذيب الأحكام » ج ٦ ، ص ٣٨٥ ، ح ١١٤٢ ، باب المكاسب ، ح ٢٦٣ ، « الوافي » ج ٦ ، ص ٢٠٩ ، ح ٤١٢٨ ، باب التطهير من مسّ الحيوانات ، ح ٢٥.

٣٤٥

وأمّا في الثانية : فلأنّ السؤال في الحقيقة عن حكم الشكّ خصوصا في الخيّاط ، لأنّه في الخيّاط من الممكن بل هو الغالب عدم ملاقاة الثوب مع بدن الخياط مع رطوبة أحدهما.

وأمّا القصّار وإن كان يلاقي بدنه الثوب لا محالة ، لكن السؤال عن تنجّسه بواسطة عدم التوضّأ عن بوله ، فكأنّه عدم نجاسته الذاتيّة كان مفروغا عند السائل ويسأل عن تنجّس الثوب الذي يغسله بواسطة وصول النجاسة العرضيّة من طرف بوله وعدم التوضّأ إلى ذلك الثوب ، ومعلوم أنّ وصول تلك النجاسة العرضيّة إلى الثوب الذي يغسله مشكوك ، ولذلك لو كان القصّار مسلما لا يتوضّأ عن بوله لا نحكم بنجاسة الثوب الذي يغسله وإن كان غسله بالماء القليل.

نعم يأتي إشكال آخر ، وهو أنّه عليه‌السلام لما ذا لم يردعه عن اعتقاده بطهارة الكتابي ، بل قرّره على ذلك بقوله عليه‌السلام « لا بأس ».

ويمكن أن يجاب عنه : بأنّ تقريره عليه‌السلام له لعلّه من جهة التقيّة ، وذلك من جهة أنّ تلك الأعصار كانت أعصار تقيّة لغلبة سلاطين الجور ، فكان الحكم الواقعي يخفى على أغلب الرواة ، ومع ذلك لا يردعهم الإمام عليه‌السلام إمّا خوفا على نفسه ، وإمّا خوفا عليهم ، ولذلك ترى أنّ إبراهيم بن أبي محمود يسأل عن النجاسة العرضيّة لجهله بالنجاسة الذاتيّة ، والإمام عليه‌السلام لا يردعه عن ذلك خوفا عليه أو لجهة أخرى.

منها : حسنة الكاهلي قال : سئل الصادق عليه‌السلام وأنا عنده عن قوم مسلمين وحضرهم رجل مجوسي ، أيدعونه إلى طعامهم؟ قال : « أما أنا فلا أدعوه ولا أؤاكله ، وإنّي لأكره أن أحرّم عليكم شيئا تصنعونه في بلادكم » (١).

وقد تقدّم الكلام في هذه الرواية وأنّها أظهر في نجاستهم من ظهورها في الطهارة ، وأنّ عدم بيان الحكم الواقعي لهم من جهة الخوف عليهم لكثرة البانين على طهارتهم‌

__________________

(١) « الكافي » ج ٦ ، ص ٢٦٣ ، باب طعام أهل الذمّة ومؤاكلتهم وآنيتهم ، ح ٤ ، « وسائل الشيعة » ج ٢ ، ص ١٠١٨ ، أبواب النجاسات ، باب ١٤ ، ح ٢.

٣٤٦

في بلادهم.

منها : صحيح معاوية بن عمّار قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الثياب السابريّة يعملها المجوس وهم أخباث ، وهم يشربون الخمر ، ونسائهم على تلك الحال ألبسها ولا أغسلها وأصلّي فيها؟ قال : « نعم ». قال معاوية : فقطعت له قميصا وخططته وفتلت أزرارا ورداء من السابري ، ثمَّ بعثت بها إليه في يوم جمعة حين ارتفع النهار ، فكأنّه عرف ما أريد فخرج بها إلى الجمعة (١).

والخدشة في هذه الصحيحة بنفس ما حدّثنا به صحيحة إبراهيم بن أبي محمود الثانية ، فلا نعيد فالسؤال عن النجاسة العرضيّة وهي مشكوكة ، بل هاهنا تنجّسه من قبل النجاسة أيضا مشكوكة ، فلا تقرير في البين.

منها : صحيح ابن سنان قال : سأل أبي أبا عبد الله عليه‌السلام وأنا حاضر : أنّي أعير الذمّي ثوبي وأنا أعلم أنّه يشرب الخمر ، ويأكل لحم الخنزير فيردّه عليّ فاغسله قبل أن أصلّي فيه؟ فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : « صلّ فيه ولا تغسله من أجل ذلك ، فإنّك أعرته إيّاه وهو طاهر ، ولم تستيقن أنّه نجّسه ، فلا بأس أن تصلّي فيه حتّى تستيقن أنّه نجّسه » (٢).

وهذه الصحيحة أيضا كما ترى سؤال عن النجاسة العرضيّة في مورد الشكّ ، فلا دلالة لها في ما هو محلّ البحث. نعم هذا التعليل يكون دليلا على حجّية الاستصحاب وأجنبيّ عن محل بحثنا.

منها : رواية زكريّا بن إبراهيم قال : دخلت على أبي عبد الله عليه‌السلام فقلت : إنّي رجل‌

__________________

(١) « تهذيب الأحكام » ج ٢ ، ص ٣٦٢ ، ح ١٤٩٧ ، باب ما يجوز الصلاة فيه ... ، ح ٢٩ ، وسائل الشيعة » ج ٢ ، ص ١٠٩٣ ، أبواب النجاسات ، باب ٧٣ ، ح ١.

(٢) « تهذيب الأحكام » ج ٢ ، ص ٣٦١ ، ح ١٤٩٥ ، باب ما يجوز الصلاة فيه ... ، ح ٢٧ ، « الاستبصار » ج ١ ، ص ٣٩٢ ، ح ١٤٩٧ ، باب الصلاة في الثوب الذي يعار ... ، ح ١ ، « وسائل الشيعة » ج ٢ ، ص ١٠٩٥ ، أبواب النجاسات ، باب ٧٤ ، ح ١.

٣٤٧

من أهل الكتاب وإنّي أسلمت وبقي أهلي كلّهم على النصرانيّة وأنا معهم في بيت واحد لم أفارقهم ، فآكل من طعامهم؟ فقال عليه‌السلام لي : « يأكلون لحم الخنزير؟ » فقلت : لا ، ولكنّهم يشربون الخمر ، فقال لي : « كل معهم واشرب » (١).

وأنت خبير بأنّ قوله عليه‌السلام « كل معهم واشرب » مع اعتراف السائل بأنّهم يشربون الخمر ظاهر في التقيّة ، لأنّ الخمر طاهر عندهم بخلاف لحم الخنزير ، ولذلك سئل عليه‌السلام عن أكلهم لحم الخنزير ، فلو كان جوابه أنّهم يأكلون ، لم يكن مورد التقيّة.

ولكن السائل حيث نفى ذلك واعترف بأنّهم يشربون الخمر والخمر عندهم طاهر حكم بجواز الأكل والشرب معهم تقيّة ، إذ المنع عن الأكل والشرب معهم لا بدّ وأن يكون لأحد أمرين : إمّا لنجاستهم ذاتا ، أو لكون الخمر نجسا ، فإذا شربوا يتنجّسون. وكلاهما مخالفان للتقيّة ، لأنهم لا يقولون بنجاسة أهل الكتاب ولا بنجاسة الخمر ، فلو كان عليه‌السلام بصدد بيان الحكم الواقعي فلا بدّ له من الحكم بعدم جواز الأكل والشرب معهم ، لا الجواز ، فمعلوم أنّ حكمه بجواز الأكل والشرب معهم ليس حكما واقعيّا ، فلا يستكشف من حكمه هذا طهارتهم.

منها : موثّق عمّار ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام عن الرجل هل يتوضّأ من كوز أو إناء غيره إذا شرب منه على أنّه يهوديّ؟ فقال : « نعم ». فقلت : من ذلك الماء الذي يشرب منه؟ قال عليه‌السلام : « نعم » (٢).

ولكن يمكن أن يقال : لعلّ حكمه عليه‌السلام بجواز التوضي عن ذلك الماء الذي شرب منه اليهودي مبني على عدم انفعال ماء القليل بملاقاة النجاسة ، فيكون سياق هذه‌

__________________

(١) « تهذيب الأحكام » ج ٩ ، ص ٨٧ ، ح ٣٦٩ ، باب الذبائح والأطعمة ، ح ١٠٤ ، « المحاسن » ص ٤٥٣ ، ح ٣٧٣ ، « وسائل الشيعة » ج ١٦ ، ص ٣٨٥ ، أبواب الأطعمة المحرّمة ، باب ٥٤ ، ح ٥.

(٢) « تهذيب الأحكام » ج ١ ، ص ٢٢٣ ، ح ٦٤١ ، باب المياه وأحكامها ، ح ٢٤ ، « الاستبصار » ج ١ ، ص ١٨ ، ح ٣٨ ، باب استعمال أسئار الكفّار ، ح ٣ ، « وسائل الشيعة » ج ١ ، ص ١٦٥ ، أبواب الأسئار ، باب ٣ ، ح ٣.

٣٤٨

الموثقة سياق الروايات التي تدلّ على عدم انفعال ماء القليل بملاقاة النجس أو النجاسة.

وأمّا الرواية الواردة (١) في تغسيل النصراني للرجل المسلم إذا لم يكن مماثلا للميّت المسلم أو ذات محرم مسلمة ، وكذلك تغسيل النصرانيّة للمرأة المسلمة إن لم يكن مماثلة مسلمة أو محرم عن الرجال.

ففيها أوّلا : يمكن أن تكون هذه الرواية أيضا من الروايات التي تدلّ على عدم انفعال ماء القليل بملاقاة النجاسة.

وثانيا : أنّه يمكن تغسيله بصبّ الماء من إبريق ـ مثلا ـ من دون ملاقاة بدنه لبدن الميّت.

وثالثا : يمكن أن يكون تغسيله بالماء الكثير.

وخلاصة الكلام : أنّ هذه الروايات جميعها لا يخلو من المناقشات في دلالتها على طهارة أهل الكتاب ، ولو سلّمنا ظهور بعضها أو جميعها في ذلك وخلوها عن المناقشات فأيضا لا يصحّ الاستدلال بها ، بل لا بدّ من طرحها وعدم الاعتناء بها.

بيان ذلك : أنّ عمدة الدليل على حجّية خبر الواحد هو بناء العقلاء ، والأخبار التي تدلّ على ذلك يكون مفادها هو إمضاء ذلك البناء. وذكرنا المسألة مشروحا مفصّلا في كتابنا « منتهى الأصول ». (٢) ولا شكّ في أنّ بناء العقلاء على حجّية خبر موثوق الصدور ، وأمّا إذا لم يثقوا بصدوره فلا يرون حجيّته ، وإن كان الراوي إماميّا ثقة عدلا.

نعم أحد أسباب الوثوق بالصدور كون الراوي ثقة إن لم يعارضه جهة أخرى ،

__________________

(١) « تهذيب الأحكام » ج ١ ، ص ٣٤٠ ، ح ٩٩٧ ، باب تلقين المحتضرين وتوجيههم عند الوفاة ، ح ١٦٥ ، « وسائل الشيعة » ج ٢ ، ص ٧٠٤ ، أبواب غسل الميّت ، باب ١٩ ، ح ١.

(٢) « منتهى الأصول » ج ٢ ، ص ١١٣.

٣٤٩

ولا شكّ في أنّ إعراض قدماء الأصحاب عن رواية وعدم العمل بها مع كونها بمرأى منهم ومضبوطة في كتبهم ، ووصلت إلينا بواسطتهم ، ومع تعبّدهم بالعمل بالأخبار وعدم الاعتناء بالاستحسانات والظنون التي ليس على حجّيتها دليل عقلي أو نقلي.

حتّى أنّ جماعة منهم ـ رضوان الله تعالى عليهم ـ كانت فتاويهم بعين ألفاظ الرواية حذرا من أن يكون ظاهر لفظ فتواه غير ما هو ظاهر ألفاظ الرواية ، ولذا اشتهر عنهم أنّ عند إعواز النصوص يرجع إلى فتاوى عليّ بن بابويه قدس‌سره وذلك لأنّ فتاواه كانت بعين ألفاظ الرواية.

فمع هذا التعبّد الشديد بالعمل بالروايات الموثوق صدورها إن أعرضوا عن العمل برواية مع عدم إجمالها وظهورها وصحّة سندها ، فيستكشف من إعراضهم وعدم عملهم بها أنّهم رأوا خللا في صدورها ، أو جهة صدورها ، فيوجب إعراضهم عنها عدم حصول الوثوق بصدورها أو جهة صدورها.

وهذا بعد تماميّة ظهورها وعدم إجمالها فتسقط عن الحجيّة التي موضوعها الوثوق بصدورها ، وجهة صدورها ، بعد تماميّة ظهور الرواية ، لأنّ الحجّية متوقّفة على هذه الأمور الثلاثة : الوثوق بصدورها ، والوثوق بجهة صدورها ، وعدم خلل في ظهورها.

وإلى هذا يرجع ما اشتهر في ألسنتهم في مورد إعراض الأصحاب عن خبر أنّه « كلّما ازداد صحّة ازداد وهنا » وهذا معنى أنّ الإعراض كاسر للسند القوي ، وأنّ عمل الأصحاب جابر للسند الضعيف.

إذا عرفت ذلك ، فنقول :

إنّ إجماع علماء الإماميّة وفقهائهم ـ رضوان الله تعالى عليهم ـ إلاّ الشاذّ ممّن لا يعتنى بخلافهم ، كابن الجنيد (١) من الصدر الأوّل إلى زماننا هذا على نجاسة أهل الكتاب ، حتّى‌

__________________

(١) نقله عنه في « كشف اللثام » ج ١ ، ص ٤٦.

٣٥٠

أنّها صارت شعارا للإماميّة ـ رضوان الله تعالى عليهم ـ ويعرفها نساؤهم وصبيانهم ، بل هم ـ أي أهل الكتاب ـ يعرفون هذه الفتوى منهم.

فمع هذا الإعراض لا يبقى وثوق بصدور هذه الروايات ، أو وإن كانت صادرة فليست لبيان حكم الله الواقعي ، بل صدرت تقيّة وخوفا من اشتهارهم بمذهب خاصّ وطريقة مخصوصة على خلاف سائر الفقهاء ، ولخوف الأئمّة عليهم‌السلام من أن يكون لهم ولأصحابهم مسلك خاصّ في الفقه وفتاوى مخصوصة بهم عليهم‌السلام ولذلك كانوا يلقون الخلاف بين أصحابهم كي لا يتميّزون ولا يعدّون طائفة خاصّة منسوبين إليهم عليهم‌السلام.

والسرّ في ذلك : عدم خوف الفقهاء من التفرّد في الفتوى ، لأنّ سلاطين الوقت قد علموا بأنّهم لا يدّعون الإمامة والخلافة ، ولم يكونوا في معرض هذا الأمر ، ومراجعة الناس إليهم كان صرف تقليد لهم في المسائل الشرعيّة والأحكام الدينيّة ، بخلاف الأئمّة عليهم‌السلام فإنّهم كانوا في معرض هذا الأمر ، ورجوع الناس إليهم لم يكن بعنوان تعلّم الحكم الشرعي والمسألة الفقهيّة فقط ، بل كان بعنوان أنّهم أئمّة معصومون مفترضوا الطاعة ، ولذلك كانوا يخافون من التفرّد في الفتوى ، والتميّز عن فتاوى سائر الفقهاء.

إذا عرفت ذلك ، فنقول : في كلّ مورد كان أصحابنا القدماء متّفقين على فتوى مخالفا لفتاوي سائر الفقهاء ، وصدرت عنهم عليهم‌السلام أخبار موافقة لفتاوي سائر الفقهاء ، فليست تلك الأخبار حجّة وإن كانت معلوم الصدور ، فضلا عمّا لا يكون كذلك ، لأنّ أصالة جهة الصدور أصل عقلائي ، والدليل على حجّيتها بناء العقلاء ، إذ بناء العقلاء على أنّ كلّ متكلّم إذا تكلّم بكلام يكون بصدد بيان مراده ومقصوده ، وتشخيص مراده من كلامه يكون بأصل عقلائي آخر ، وهو أصالة الظهور.

ولكن في مثل المقام لا تجري ذلك الأصل العقلائي ، أي : أصالة جهة الصدور ، وذلك من جهة أنّه بعد ما علم أنّ المتكلّم يخاف من التفرّد والتميّز ، فلو تكلّم بكلام‌

٣٥١

موافق لهم مع أنّ أصحابه كلّهم يفتون بخلافهم ، فلا تجري أصالة جهة الصدور ، لعدم بناء العقلاء في مثل هذا المورد.

بل يحصل القطع غالبا بعدم كونه لبيان حكم الله الواقعي وإن لم يحصل القطع لشخص ، فأصالة جهة الصدور لا تجري قطعا ، وبدون جريانها لا حجّية لتلك الروايات قطعا ، لما ذكرنا أنّ حجّية الأخبار غير القطعيّة متوقّفة على جريان هذه الأصول العقلائيّة الثلاثة : أصالة الصدور ، وأصالة الظهور ، وأصالة جهة الصدور.

وليس المقام من ترجيح أحد المتعارضين بمخالفة العامّة كي يقال بأنّ هذا الترجيح بعد ثبوت التعارض واستقراره ، وثبوت التعارض واستقراره بعد فقد الجمع الدلالي ـ أي العرفي ـ وعدم إمكانه.

وفيما نحن فيه الجمع الدلالي العرفي ممكن بحمل الأخبار التي مفادها نجاستهم والنهي عن مؤاكلتهم وأكل طعامهم وشرب سؤرهم وغير ذلك على الكراهة ، وأخبار الطهارة على الجواز ، فيرتفع التعارض من البين.

وذلك لما قلنا من سقوط أخبار الطهارة عن الحجّية ، وإن لم تكن أخبار النجاسة في البين أصلا ، بل كان الصادر منهم عليهم‌السلام أخبار الطهارة فقط ، لعدم جريان أصالة جهة الصدور في نفسه ، وإن لم يكن معارض في البين.

وبعبارة أخرى : إنّ الخبر تارة يكون بنفسه ظاهرا في التّقية وإن لم يكن له معارض ، وذلك من جهة ظهور أمارات التقيّة عليه ، وأخرى لا يكون كذلك ، بل ليس في البين شي‌ء إلاّ صرف مطابقة مضمونه لفتاويهم ، وهذا الأخير هو الذي يكون من المرجّحات عند التعارض ، وإعمال المرجّحات والترجيح بها وجوبا أو استحبابا كما ادّعاه بعضهم بعد فقد الجمع الدلالي العرفي ، ومع إمكانه ووجوده لا يبقى تعارض في البين كي يحتاج إلى إعمال المرجّحات ، بل ينعدم موضوع الترجيح.

وأمّا الأوّل فموجب لسقوط الحجّية. وإن لم يكن معارض له أصلا ، وذلك لما قلنا إنّ الحجّية متوقّفة على الأصول العقلائيّة الثلاثة التي منها أصالة جهة الصدور ، ومع‌

٣٥٢

تلك القرائن على كون صدوره تقيّة لا يجري ذلك الأصل العقلائي.

ولا نقول إنّ تلك الأمارات والظنون حجج شرعيّة على أنّ هذا الخبر صدر تقيّة كي تقول بأنّ تلك الأمارات والظنون المدّعاة في المقام ليست إلاّ ظنون غير معتبرة ، فلا يثبت بها صدوره تقيّة ، بل نقول مع وجود تلك الأمارات التي عمدتها اتّفاق الأصحاب على الإفتاء بخلافها والإعراض عنها وعدم العمل بها مع صحّة سند بعضها وظهورها في الطهارة ، لا يبقى مجال لجريان أصالة جهة الصدور ، وأنّها لبيان حكم الله الواقعي لأنّها أصل عقلائي ولا بناء للعقلاء في مثل المورد ، وإن كان إعراضهم عن الخبر في حدّ نفسه ليس حجّة شرعيّة على صدوره تقيّة.

فما ذكره الفقيه النبيه الهمداني قدس‌سره (١) في هذا المقام وقال : فإعراض الأصحاب عنه بالنسبة إليه أمارة ظنيّة لا دليل على اعتبارها ، واضح البطلان ، ثمَّ هو يعترف بأنّه إن أثرت وهنا في الرّواية من حيث السند ـ إلى آخر ما أفاد ـ سقطت عن الحجيّة ولكن لا يؤثّر فيما هو موضوع أصالة الصدور ، لأنّه ليس موضوعه الظنّ الشخصي بالصدور ، بل يكفي وثاقة الراوي.

وهذا الكلام عنه وإن كان في حدّ نفسه لا يخلو عن مناقشة ، ولكن الإشكال عليه من جهة أخرى ، وهو أنّ كلامنا الآن في عدم جريان أصالة جهة الصدور مع وجود أمارة التقيّة والظنّ بذلك ، وإن كانت تلك الأمارة وذلك الظنّ غير معتبر في حدّ نفسها.

ولا نقول أيضا بأنّها نقطع بعدم صدور هذه الأخبار لبيان حكم الله الواقعي كي تقول بأنّ القطع حجّة في حقّ نفس القاطع لا غيره ، بل نقول بعدم جريان ذلك الأصل العقلائي والحجيّة متوقّفة عليه.

وأمّا ما أفاده أخيراً بعد كلام طويل وقال : فالحقّ أنّ المسألة في غاية الإشكال. ولو قيل بنجاستهم بالذات ، والعفو عنها عند عموم الابتلاء أو شدّة الحاجة إلى‌

__________________

(١) « مصباح الفقيه » ج ١ ، ص ٥٦١.

٣٥٣

معاشرتهم ومساورتهم ، أو معاشرة من يعاشرهم ، لمكان الحرج والضرورة كما يؤيّده أدلّة نفي الحرج ، لم يكن بعيدا إلى آخر ما قال وأفاد قدس‌سره.

ففيه أوّلا : ما عرفت أنّ المسألة لا إشكال فيها. وأمّا قوله بالعفو لأدلّة الحرج فقد بيّنّا في قاعدة الحرج من هذا الكتاب أنّ لقاعدة الحرج والضرر حكومة واقعيّة على أدلّة الأحكام الواقعيّة ، بمعنى رفع الحكم الحرجي والضرري واقعا ، فالدليل يدلّ على ثبوت حكم واقعي لموضوع من الموضوعات ، بعمومه أو إطلاقه يشمل أيّ حكم كان ، حرجيا أو غير حرجي ، ولكن القاعدة مفادها ارتفاع ذلك الحكم عن صفحة التشريع إن كان حرجيّا بالنسبة إلى أيّ شخص من الأشخاص.

مثلا مفاد قوله تعالى ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ ) (١) هو وجوب الوضوء على كلّ واحد من أفراد المؤمنين ، سواء كان حرجيّا في حقّ شخص أو لم يكن ، ولكن قاعدة الحرج توجب رفع الوجوب الحرجيّ عن كلّ شخص كان الوجوب حرجيّا في حقّه ، ولكن النفي بلسان نفي المحمول ، والمحمول على الوضوء هو الوجوب ، فالنتيجة أنّ الوجوب الحرجيّ لم يجعل في الدين ، ولكن الحرج حرج شخصيّ.

وبعبارة أخرى : مفاد القاعدة أنّ الحكم الحرجي في حقّ أي شخص كان ليس بمجعول في الدين ، فلا بدّ وأن يكون شخص ذلك الحكم المرفوع حرجيّا ، فيمكن أن يكون حرجيّا في حقّ شخص دون شخص آخر ، وفي وقت دون وقت آخر ، فليس كونه حرجيّا نوعا موجبا لارتفاعه عن كلّ شخص ، وإن لم يكن حرجيّا في حقّه.

نعم قد يكون الحرج منشأ لجعل حكم ، ولكن ذلك لا يثبت بدليل الحرج ، بل يحتاج إلى دليل آخر.

إذا عرفت ذلك ، فنقول : إذا كان ترك المؤاكلة أو المساورة معهم حرجيّا بالنسبة‌

__________________

(١) المائدة (٥) : ٦.

٣٥٤

إلى شخص ، فيرتفع حرمتهما عن ذلك الشخص دون الآخرين الذين ليس تركهما لهم حرجيّا ، وهذا ليس تفصيلا في المسألة ، بل هذه القاعدة تجري في جميع الأحكام الشرعيّة إلاّ في الأحكام التي يكون موضوعها حرجيّا دائما ، مثل الجهاد مثلا.

وأمّا إنّ أراد بارتفاع الحرمة وعدم لزوم الاجتناب عنهم ارتفاعها مطلقا ، ولو لم يكن بالنسبة إليه حرجيّا للحرج النوعي ، فيحتاج إلى دليل يدلّ على ذلك ، وليس شي‌ء هاهنا ومن هذا القبيل ، بل يجب الاجتناب عمّا لاقى بدنهم بالرطوبة إلاّ أن يكون الاجتناب بالنسبة إلى خصوص شخص حرجيّا ، وهذا لا اختصاص له بالكافر ، بل إذا كان الاجتناب عن أيّ نجس بالنسبة إلى أيّ شخص حرجيّا بالخصوص فلا يجب الاجتناب ، بناء على جريان القاعدة في المحرّمات أيضا مثل الواجبات ، على إشكال في ذلك خصوصا في الكبائر.

فالتمسّك بقاعدة الحرج لإثبات طهارتهم ، أو العفو عن لزوم ترتيب آثار النجاسة مع ملاقاتهم بالرطوبة ، أو استعمال ما لاقاهم بالرطوبة فيما يشترط فيه الطهارة كالأكل والشرب إذا كان الملاقي لهم من المأكولات والمشروبات ، أو الصلاة فيه إذا كان من الثياب مثلا لا وجه له أصلا ، وقاعدة الحرج أجنبيّة عن هذا المقام.

وأمّا الاستدلال لطهارة أهل الكتاب بآية ( الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ ) (١) بأن يقال : قوله تعالى ( طَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ ) مطلق يشمل ما باشروه بالرطوبة وما لم يباشروه ، فإذا كان ما باشروه مع الرطوبة حلالا فلا بدّ من القول بطهارتهم ، وإلاّ لو كانوا نجسين فما باشروه مع الرطوبة يصير نجسا فيكون أكله حراما لحرمة أكل النجس ، فحلّيته مطلقا تكون ملازمة مع طهارتهم.

__________________

(١) « المائدة (٥) : ٥.

٣٥٥

وفي هذا الاستدلال جهات من الإشكال :

الأوّل : أنّ الطعام حسب نقل أهل اللغة إمّا خصوص البرّ ، أو مع الشعير ، أو الحبوب جميعا ، أو بإضافة البقول ، فهذه الكلمة وإن كانت في أصل اللغة تستعمل في كلّ ما يطعم به ، ولكن عند العرف تستعمل في المذكورات ، فتكون من قبيل المنقول العرفي كلفظ الدابة والغائط ، والمناط في باب تشخيص الظهورات هو الفهم العرفي ، والمعاني المذكورة أجنبيّة عن الاستدلال ، إذ مبناه على كون الطعام يشمل مطلق ما يطعم به من المطبوخ وغير المطبوخ كي يكون شاملا لما يباشره الكتابي مع الرطوبة في مقام الأكل أو الطبخ.

الثاني : تفسيره بالحبوب المروي عن الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام في أخبار كثيرة (١).

الثالث : أنّ المراد بالحلّية هي أن طعامهم من حيث انتسابه إليهم وكونه ملكا لهم ليس محرّما عليكم ، فالآية في مقام دفع توهّم الحظر ، كما أنّ قوله تعالى ( وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ) (٢) أيضا في المقام دفع توهّم الحظر ، فكأنّهم كانوا يحتملون حرمة المبايعة والمعاملة معهم ، وأنّ أجناسهم من حيث الانتساب إليهم حرام عليهم مع أنّها من الطّيبات ، فلا ينافي هذا المعنى كونها محرّمة من جهة حرمتها في نفسه كلحم الخنزير مثلا ، أو من جهة نجاستها لملاقاتها لبدنهم مع الرطوبة ، أو لملاقاتها لنجاسة أخرى. ومن هنا نعرف فائدة ذكر حلّية طعام أهل الكتاب مع أنّه من الطيبات.

وأمّا الاستدلال لطهارتهم بأصالة الطهارة في الشبهات الحكميّة ، فهو مع هذا الإجماع القوي والاتّفاق الذي قلّما يتّفق في موارد الشبهات الحكميّة مثله ، وتلك الأخبار التي مرّت عليك والآية الشريف ، ة ( إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ ) (٣) لا يخلو عن غرابة.

__________________

(١) انظر : « وسائل الشيعة » ج ١٦ ، ص ٢٨٣ ، أبواب الذبائح ، باب ٢٦ ، ح ١ و ٦ ، وص ٢٩١ ، باب ٢٧ ، ح ٤٦.

(٢) المائدة (٥) : ٥.

(٣) التوبة (٩) : ٢٨.

٣٥٦

ثمَّ إنّه بعد الفراغ عن دلالة الأدلّة المتقدّمة على نجاستهم ، فالظاهر شمول هذا الحكم لجميع أجزاء بدنهم ، سواء كانت ممّا تحلّه الحياة أو لم تكن ، كالكلب والخنزير.

وذلك من جهة أنّ الدليل إذا دلّ على نجاسة الكتابي أو بعناوين اليهود والنصارى والمجوس أو المشرك ، فظاهره أنّ بدن هؤلاء نجس ، لأنّ النجاسة الخبثيّة من عوارض الجسم ، ولو كان معروضها خصوص عضو ، أو كان بعض الأجزاء أو الأعضاء خارجا عنه. ولم يكن معروضا للنجاسة لكان عليه البيان ، وإذ ليس فاللفظ يشمل البدن بجميع أعضائه وأجزائه ، سواء كانت ممّا تحلّه الحياة أو لم تكن.

هذا ، مضافا إلى إطلاق معقد الإجماع على نجاستهم وعدم تفريقهم بين القسمين.

وأمّا ما يقال من مخالفة السيّد لهذا الإجماع المدّعى في المقام ، لأنّه يقول هناك بعدم نجاسة شعر الخنزير.

ففيه أوّلاً : لا ملازمة بين المقامين ، لأنّه من الممكن أن يكون شعر الخنزير طاهرا ويكون شعر الكافر نجسا ، كما أنّ شعر الكلب نجس.

وثانياً : قوله بطهارة شعر الخنزير لوجود رواية على جواز جعله حبلا والاستقاء به ، وهو مخصوص بمورده ، مع أنّ هذا الاستنباط لا يخلو عن إشكال ، إذ لا ملازمة لا عقلا ولا شرعا ولا عرفا بين جواز جعله حبلا مع طهارته.

وثالثاً : مخالفته لا يضرّ بتحقّق الإجماع.

وأمّا استشكال صاحب المعالم (١) في نجاسة ما لا تحلّه الحياة من أجزاء بدن الكافر وأعضائه ، بأنّ قياس الكافر على الكلب والخنزير ليس في محلّه ، لأنّ الحكم في الكلب والخنزير على المسمّى وعلى هذين العنوانين ، فيشمل جميع أجزائهما. وأمّا في الكافر فليس الأمر كذلك ، لأنّ دلالة الآية ضعيفة ، والأخبار لا تدلّ على نجاسة هذا العنوان ، فلا دليل على نجاسة أجزائه التي لا تحلّها الحياة ، والإجماع دليل لبّي لا إطلاق له.

__________________

(١) « المعالم » ص ٢٩٩.

٣٥٧

ولكن قد عرفت دلالة الآية والأخبار على العناوين المذكورة ، مضافا إلى إطلاق معقد الإجماع.

وأمّا أولاد الكفّار غير البالغين فبناء الأصحاب على نجاستهم ، ويظهر عن كلام جماعة أنّهم ادّعوا الإجماع عليه.

واستدلّوا على ذلك بأمور :

الأوّل : الإجماع.

الثاني : السيرة المستمرّة من المتديّنين الملتزمين بالعمل بأحكام الدين على معاملة آبائهم.

والإنصاف أنّ هذه السيرة ممّا لا يمكن أن ينكر وجودها وتحقّقها ، بل البحث عن نجاستهم وعدم نجاستهم مخصوص بالكتب العلميّة ، وإلاّ فالمرتكز في أذهان المسلمين أنّ حالهم حال آبائهم في النجاسة وعدمها ، ولا يخطر ببالهم خلاف هذا.

الثالث : التبعيّة في النجاسة والطهارة.

وفيه : أنّ التبعيّة في الحكم يحتاج إلى دليل ، وإلاّ لا وجه لإسراء الحكم من موضوع إلى موضوع آخر بناء على عدم صدق عنوان الكافر على أولادهم ، وإلاّ لو صدق لا تصل النوبة إلى الاستدلال بالتبعيّة ، بل يشملهم أدلّة نجاسة الكفّار مثل شمولها لآبائهم ، من دون احتياج إلى التبعيّة.

وأمّا التمسّك على تبعيّتهم لآبائهم بالسيرة ، فهذا عدول عن هذا الدليل إلى دليل آخر.

الرابع : أنّهم كفّار فيشملهم أدلّة نجاسة الكفّار من الآيات والروايات والإجماع والسيرة.

وتوضيح هذا المطلب يحتاج إلى بيان معنى الكافر ، والمشرك ، واليهود ،

٣٥٨

والنصارى ، والمجوس ، أي العناوين الواردة في الآيات والروايات ومعاقد الإجماعات ، فنقول :

إن كان الكفر بمعنى صرف عدم الاعتقاد بنبوّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما جاء به ، وبعبارة أخرى : عدم الاعتقاد بأصول دين الإسلام ، كي يكون التقابل بينه وبين الإسلام تقابل السلب والإيجاب ، فأولاد الكفّار كافرون لأنّهم لا يعتقدون بالعقائد الإسلاميّة ، مميّزهم وغير مميّزهم.

وأمّا إن كان بمعنى عدم الاعتقاد في الموضوع القابل ، كي يكون التقابل بينهما تقابل العدم والملكة ـ وهو الصحيح ـ فلا يمكن أن يقال بكفر الطفل غير المميّز ، لعدم قابليّته لهذا الاعتقاد.

اللهمّ إلاّ أن يقال بصحّة إطلاقه على الطفل المميّز القابل لهذا الاعتقاد ، وثبوت الحكم في سائر الأطفال بعدم القول بالفصل.

الخامس : استصحاب نجاسته حينما كان في بطن أمّه ، خصوصا قبل ولوج الروح فيه ، لأنّه قبل ولوج الروح هو يعدّ جزء أجزاء أمّه كسائر ما في احشائها من أعضائها الباطنيّة.

وفيه : أوّلا : كونه جزءا منها بحيث يكون نجسا كسائر أعضائها الباطنيّة مشكل ، وعلى تقدير كونه كذلك فاستصحاب بقائها أيضا لا يخلو من إشكال ، للشكّ في بقاء الموضوع بعد الولادة والانفصال.

السّادس : الروايات :

منها : صحيحة ابن سنان ، سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن أولاد المشركين يموتون قبل أن يبلغوا الحنث؟ قال عليه‌السلام : « كفّار ، والله أعلم بما كانوا عاملين يدخلون مداخل آبائهم » (١). فصرّح عليه‌السلام بأنّهم كفّار.

__________________

(١) « الفقيه » ج ٣ ، ص ٤٩١ ، باب حال من يموت من أطفال المشركين والكفّار ، ح ٤٧٤٠.

٣٥٩

وأمّا الإشكال على دلالة هذه الرّواية بأنّها واردة في مقام بيان حالهم بعد الموت ، وأنّهم يعاقبون أم لا؟ فلا دخل لها بنجاستهم في حال الحياة.

فعجيب ، لأنّ جهة الاستدلال بهذه الرواية ليست باعتبار أنّهم يعاقبون بعد الموت أم لا كي يرد هذا الإشكال ، بل جهة الاستدلال بها هي حكمه عليه‌السلام بأنّهم كفّار ، ولا شكّ في أنّ كفرهم ليس باعتبار كونهم بعد الموت كذلك ، وذلك لوضوح أنّ من ليس بكافر حال الحياة لا يصير كافرا بعد الموت.

فالإنصاف : أنّ الرواية تدلّ على أنّهم كفّار في حال الحياة ، فقهرا يترتّب على هذا العنوان حكمه ، أي النجاسة. فظاهر الرواية أنّ كونهم كافرين حكم ظاهري ، لعدم العلم بحالهم والله يعلم بما كانوا يعملون بعد بلوغهم ، وظاهر حالهم أنّهم يدخلون مداخل آبائهم في اعتقاداتهم ، كما هو المعهود من أغلب الطوائف والأمم.

منها : خبر حفص بن غياث ، سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل من أهل الحرب إذا أسلم في دار الحرب ، فظهر عليه المسلمون بعد ذلك؟ فقال عليه‌السلام : « إسلامه إسلام لنفسه ولولده الصغار ، وهم أحرار وولده ومتاعه ورقيقه له ، فأمّا الولد الكبار فهم في‌ء للمسلمين ، إلاّ أن يكونوا أسلموا قبل ذلك » (١).

وهذه الرواية وإن دلّت على تبعيّة ولد الصغار لآبائهم في الإسلام ، ولكن إسراء تبعيّتهم في الإسلام إلى تبعيّتهم في الكفر يكون قياسا رديئا ، لأنّ من الممكن أن يكون الإسلام لشرافته يؤثّر في إسلام أولاده الصغار ، وأمّا الكفر حيث ليس له شرافة يقف على نفسه ولا يستتبع أولاده كما أن ولادة الطفل لو صار في حال إسلام أحد أبويه يستتبعه في الطهارة ، فهذه الرواية أجنبيّة عن محلّ بحثنا.

وأمّا استدلال الإيضاح (٢) في محكي مفتاح الكرامة لكفرهم بقوله تعالى : ( وَلا

__________________

(١) « تهذيب الأحكام » ج ٦ ، ص ١٥١ ، ح ٢٦٢ ، باب المشرك يسلم في دار الحرب ... ، ح ١ ، « وسائل الشيعة » ج ١١ ، ص ٨٩ ، أبواب جهاد العدو وما يناسبه ، باب ٤٣ ، ح ١.

(٢) « إيضاح الفوائد » ج ١ ، ص ٣٦٤.

٣٦٠