القواعد الفقهيّة - ج ٥

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي

القواعد الفقهيّة - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي


المحقق: مهدي المهريزي
الموضوع : الفقه
الناشر: نشر الهادي
المطبعة: مؤسسة الهادي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-400-030-7

الصفحات: ٣٩٢

فيه الربا.

وخلاصة الكلام : أنّ قوله عليه‌السلام « لا يكون الربا إلاّ فيما يكال أو يوزن » مشتمل على عقدين : أحدهما إيجابيّ ، والآخر سلبيّ ، وكلّ واحد منهما متكفّل لبيان حكم على نحو القضيّة الحقيقيّة ، والعقد السلبي مفاده عدم تحقّق الربا في غير المكيل والموزون ، والعقد الإيجابيّ تحقّقه فيهما.

ففي كلّ عصر أو مصر كان متاع من المكيل أو الموزون ، فبيعه بما هو من جنسه أو بما هو من فروعه أو بما هو معه يرجعان إلى أصل واحد ، ويكونان فرعين من جنس واحد بزيادة أحدهما على الآخر في المقدار يكون من الربا المحرّم.

وأمّا العقد السلبي ، فمفاده هو أنّ كلّ متاع لم يكن منهما في أيّ عصر وفي أيّ مصر كان فلا يدخل فيه الربا ، فتحقّق الربا يدور مدار كون المتاع من المكيل أو الموزون في زمان وقوع المعاملة ، ولا أثر لكونه كذلك في زمان قبل وقوع المعاملة أو بعده ، كما أنّ عدم الربا كذلك يدور مدار عدم كونه منهما حال المعاملة ، ولا أثر للعدم قبله أو بعده.

فهذه قاعدة كلّية يجب العمل بها ، إلاّ أن يأتي دليل بالخصوص في مورد من إجماع أو غيره يكون مخصّصا لها.

ثمَّ إنّ الفقهاء ـ رضوان الله تعالى عليهم ـ ذكروا موارد لتخصيص هذه القاعدة.

منها : أنّه لا رباء بين الوالد وولده ، والزوج وزوجته ، والسيّد ومملوكه ، وبين المسلم والحربيّ ، بمعنى أخذ المسلم الفضل منه. وسنتكلّم في هذه الفروع تفصيلا إن شاء الله تعالى.

هذا كلّه فيما إذا علم أنّ الشي‌ء الفلاني كان من المكيل أو الموزون في زمن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فعلى تقدير ثبوت الإجماع المذكور نحكم بدخول الربا فيه إلى يوم القيامة ، وإن لم يكن منهما في الأزمنة المتأخّرة عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

أما لو شكّ في كونه كذلك في زمنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فدليل حرمة الربا وإن كان لا يشمله ـ

١٠١

بناء على تقييده بما إذا كان مكيلا أو موزونا في زمن الرسول ـ فيما إذا لم يكن كذلك في الأزمنة المتأخّرة ، فيكون حرمة مثل تلك المعاملة مشكوكة ، ولا يمكن التمسّك للحرمة بإطلاقات أدّلة حرمة الربا ؛ لكونه من التمسّك بعموم العامّ في الشبهات المصداقيّة لنفس العام ، ومقتضى الأصل العملي هي البراءة بالنسبة إلى الحرمة ، ولكن بالنسبة إلى صحّة المعاملة وتأثيرها في النقل والانتقال ، فمقتضى الأصل عدم النقل والانتقال.

والذي يسهل الخطب أنّ ثبوت مثل هذا الإجماع غير معلوم ، فيكون مقتضى القواعد وجعل الأحكام على نحو القضايا الحقيقيّة هو أنّ موضوع الحرمة والفساد هو كونه مكيلا أو موزونا في وقت وقوع المعاملة.

ثمَّ إنّ ما ذكرنا من صحّة بيع المختلفين في الجنس وإن كانت في أحد العوضين زيادة وزنا أو كيلا أو عددا كمنّ من العدس مثلا بمنّين من الحنطة ، أو قفيز بقفيزين ، أو فرس ببقرين وأمثال ذلك فيما إذا كانت المعاملة نقدا. أمّا لو كانت نسيئة فربما يقال بعدم صحّته ؛ وذلك لقول الصادق عليه‌السلام : « ما كان من طعام مختلف ، أو متاع ، أو شي‌ء من الأشياء يتفاضل ، فلا بأس ببيعه مثلين بمثل يدا بيد ، فأمّا نظرة فلا يصلح » (١).

وصحيح زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « البعير بالبعيرين ، والدابّة بالدابّتين يدا بيد ليس به بأس » (٢) ولغير ما ذكرنا من الأخبار الأخر التي تركنا ذكرها ، وذلك لأنّ سياق كلّها سياق ما ذكرنا.

وأنت خبير بأنّ دلالة هذه الأخبار على ثبوت البأس فيما إذا كانت نسيئة بمفهوم الوصف بل اللقب ، وقد أشكلنا في الأصول (٣) في ثبوت المفهوم في أمثال المقام ، وعلى‌

__________________

(١) « الكافي » ج ٥ ، ص ١٩١ ، باب المعاوضة في الحيوان والثياب ، ح ٦ ؛ « الفقيه » ج ٣ ، ص ٢٧٩ ، باب الربا ، ح ٤٠٠٦ ؛ « تهذيب الأحكام » ج ٧ ، ص ٩٣ ، ح ٣٩٥ ، باب بيع الواحد بالاثنين وأكثر من ذلك ، ح ١ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٤٤٢ ، أبواب الربا ، باب ١٣ ، ح ٢.

(٢) « الفقيه » ج ٣ ، ص ٢٧٩ ، باب الربا ، ح ٤٠٠٧ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٤٤٩ ، أبواب الربا ، باب ١٧ ، ح ١.

(٣) « منتهى الأصول » ج ١ ؛ ص ٤٣٥.

١٠٢

تقدير ثبوت المفهوم لها تكون معارضة بما هو أقوى منها دلالة وجهة ، لموافقة هذه الأخبار لما هو المشهور عند العامّة.

نعم الخبر الأوّل وهو قوله عليه‌السلام : « فأمّا نظرة فلا يصلح » دلالته على عدم جواز النسيئة بالمنطوق ، ولكنّ الكلام في أنّ نفي الصلاح ليس صريحا ولا ظاهرا في الفساد ، بل له كمال المناسبة مع الكراهة فهو أعمّ من الفساد. فالأقوى ما ذهب إليه المشهور من الكراهة دون الفساد.

واستدلّ المشهور على الجواز بعدّة روايات :

منها : ما عن زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « قال لا يكون الربا إلاّ فيما يكال أو يوزن » (١).

ومنها : ما عن عبيد بن زرارة ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : « لا يكون الربا إلاّ فيما يكال أو يوزن » (٢).

ومنها : قوله عليه الصلاة والسّلام : « إذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم » (٣).

وروايات أخر (٤) نترك ذكرها ؛ لأنّ سياق جميعها سياق ما ذكرنا.

ولكنّ الإنصاف أنّ الروايات المتقدّمة التي قلنا إنّ مفادها عدم ثبوت الربا في المختلفين فيما إذا كانت يدا بيد لا مطلقا ، يمكن أن تقيّد هذه المطلقات. إلاّ أن يقال بأنّ مطابقتها لفتوى المشهور من العامّة أسقطها عن الاعتبار ، وكذلك إعراض المشهور‌

__________________

(١) « تهذيب الأحكام » ج ٧ ، ص ١٩ ، باب فضل التجارة وآدابها وغير ذلك ، ح ٨١ ؛ « تفسير العيّاشي » ج ١ ، ص ١٥٢ ، ح ٥٠٤ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٤٣٤ ، أبواب الربا ، باب ٦ ، ح ١.

(٢) « الكافي » ج ٥ ، ص ١٤٦ ، باب الربا ، ح ١٠ ؛ « الفقيه » ج ٣ ، ص ٢٧٥ ، باب الربا ، ح ٣٩٩٦ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٤٣٤ ، أبواب الربا ، باب ٦ ، ح ٣.

(٣) « عوالي اللئالي » ج ٣ ، ص ٢٢١ ، ح ٨٦ ؛ « مستدرك الوسائل » ج ١٣ ، ص ٣٤١ ، أبواب الربا ، باب ١٢ ، ح ٤.

(٤) راجع : « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٤٤٢ ، أبواب الربا ، باب ١٣.

١٠٣

عنها ، حيث أنّهم أفتوا بكراهة بيع المختلفين جنسا نسيئة مع الزيادة في أحدهما ، كالثوب بثوبين ، والفرس بفرسين ، ولا يقول بحرمته إلاّ الشيخ في النهاية (١) والمفيد (٢) وابن أبي عقيل وابن الجنيد (٣).

وحاصل الكلام : أنّه إمّا أن يجمع بين الطائفتين بحمل أخبار المانعة على الكراهة ، أو يرفع اليد عنها ؛ لموافقته للعامّة وإعراض المشهور عنها ، فتأمّل.

والأحسن هو الجمع بينهما بحمل أخبار المانعة على الكراهة ، فإنّه جمع عرفي في أمثال المقام.

وربما يؤيّد هذا الجمع ما في صحيحة محمّد بن مسلم قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الثوبين الرديّين بالثوب المرتفع ، والبعير بالبعيرين ، والدابّة بالدابّتين؟ فقال عليه‌السلام : « كره ذلك عليّ عليه‌السلام فنحن نكرهه ، إلاّ أن يختلف الصنفان » (٤) إلخ.

وهذا بناء على أن يكون الكراهة بمعناها المصطلح ، أي ما هو أحد الأحكام الخمسة ، ولكن يمكن أن يقال : إنّ المراد من الكراهة ها هنا هو معناها اللغوي ، فلا ينافي الحرمة ، خصوصا بضميمة قوله عليه‌السلام : « ولم يكن علىّ عليه‌السلام يكره الحلال » (٥).

هذا كلّه ، مضافا إلى أنّ مورد هذه الرواية ليس من المختلفين في الجنس الذي هو محل الكلام ، نعم ليس المورد من الربويّين ، وإن كانا متّحدين جنسا ؛ لأنّهما ليسا ممّا يكال أو يوزن.

__________________

(١) « النهاية » ص ٣٧٧.

(٢) « المقنعة » ص ٦٠٣.

(٣) نقله عنهما في « مختلف الشيعة » ج ٥ ، ص ١١٧.

(٤) « تهذيب الأحكام » ج ٧ ، ص ١٢٠ ، ح ٥٢١ ، باب بيع الواحد بالاثنين وأكثر من ذلك ، ح ١٢٧ ؛ « الاستبصار » ج ٣ ، ص ١٠١ ، ح ٣٥٣ ، باب بيع ما لا يكال ولا يوزن ... ، ح ٧ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٤٤٩ ، أبواب الربا ، باب ١٦ ، ح ٧.

(٥) « الكافي » ج ٥ ، ص ١٨٨ ، باب المعاوضة في الطعام ، ح ٧ ؛ « تهذيب الأحكام » ج ٧ ، ص ٩٦ ، ح ٤١٢ ، باب بيع الواحد بالاثنين وأكثر من ذلك ، ح ١٨ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٤٤٧ ، أبواب الربا ، باب ١٥ ، ح ١.

١٠٤

هذا كلّه فيما إذا لم يكن العوضان ربويين.

وأمّا إذا كانا واجدين لشرائط الربا ، أي كانا متّحدي الجنس ، وكانا ممّا يكال أو يوزن ، فلا شكّ في جواز بيعهما مثلا بمثل بغير تفاضل نقدا ، ولكنّ الكلام في جواز بيعهما نسيئة ، وإن كان مثلا بمثل وزنا أو كيلا. والمشهور عدم جوازه ، بل ادّعى الإجماع على عدم الجواز.

وذلك كما إذا باع قفيزا من الحنطة الرديئة نقدا بقفيز من الحنطة الجيّدة نسيئة ، أو مطلق الحنطة بمطلقها وإن لم يكن بينهما اختلاف في الجودة والرداءة ، وذلك من جهة أنّ الأجل زيادة حكميّة.

ففي المفروض ـ وإن لم يكن زيادة عينيّة في البين ، ولكن الزيادة الحكميّة موجودة ؛ لأنّ للأجل قسطا من الثمن ـ لا يجوز ، للإجماع ، ولما رواه الصدوق قدس‌سره في الفقيه عن الحلبي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « الفضّة بالفضّة مثل بمثل ، والذهب بالذهب مثل بمثل ليس فيه زيادة ولا نظرة ، الزائد والمستزيد في النار » (١).

ثمَّ إنّه بعد ما عرفت معنى الربا ، وأنّه عبارة عن الزيادة في أحد العوضين إنّ كانا متّحدي الجنس ، وكانا ممّا يكال أو يوزن ، فاعلم :

أنّه وقع الخلاف في أنّه مختصّ بالبيع والقرض ، أم يأتي في سائر المعاوضات؟

قال الشهيد (٢) والمحقّق (٣) الثانيان بثبوته في جميع المعاوضات ، وكلام المحقّق والعلاّمة مختلف في كتبهما ، فالمحقّق في الشرائع (٤) والعلاّمة في القواعد (٥) والإرشاد (٦) قالا‌

__________________

(١) « الفقيه » ج ٣ ، ص ٢٨٨ ، باب الصرف ووجوهه ، ح ٤٠٣٧ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٤٥٦ ، أبواب الصرف ، باب ١ ، ح ١.

(٢) « مسالك الأفهام » ج ٣ ، ص ٣١٧.

(٣) « جامع المقاصد » ج ٤ ، ص ٢٦٦.

(٤) « شرائع الإسلام » ج ٢ ، ص ٣٧.

(٥) « قواعد الأحكام » ج ١ ، ص ١٤٠.

(٦) « إرشاد الأذهان » ج ١ ، ص ٣٧٧.

١٠٥

باختصاصه بالبيع ، وقال المحقّق في كتاب الغصب (١) بثبوت الربا في كلّ معاوضة ، ونسب الأردبيلي (٢) قدس‌سره هذا القول إلى الأكثر.

والعمدة هو ملاحظة أدّلة القولين واختيار ما هو الصواب والأحقّ :

فأما ما يقال : بأنّ الربا هو الزيادة في البيع والقرض فقط ، وأنّ الزيادة في سائر المعاوضات فلا يطلق عليه الربا.

فصرف ادّعاء من دون دليل ؛ وذلك لأنّ الربا في اللغة هي الزيادة ، وعند العرف الذي هو المناط في تشخيص معاني الألفاظ وتعيين مرادات المتكلّمين من ألفاظ كلامهم ، هو زيادة أحد العوضين من متحدي الجنس في المعاملات ، خصوصا إذا كانا من المكيل والموزون ، فمن أين جاء هذا التخصيص والتضييق.

اللهمّ إلاّ أن يدّعى أنّ الشارع وضعه لخصوص الزيادة لأحد العوضين في خصوص باب البيع والقرض.

وأنت خبير بأنّ هذا دعوى بلا بيّنة ولا برهان ، بل معنى الربا في أبواب المعاملات عرفا هو زيادة العوضين على الآخر وزنا أو كيلا إذا كانا متّحدي الجنسين ، فلو صالح منّا من الحنطة الجيّدة ـ مثلا ـ بمنّين من غير الجيّدة يكون من الربا المحرّم ، ويشمله عموم قوله تعالى ( وَحَرَّمَ الرِّبا ).

وأمّا ورود لفظ البيع أو القرض كثيرا ، خصوصا الأوّل منهما في الروايات الواردة في أبواب الربا ، فمن جهة أنّهما المعاملتان الشايعتان في الأسواق وعند الناس رباء.

هذا ، مضافا إلى المطلقات الواردة في طائفة من الروايات ، بحيث يشمل كلّ‌

__________________

(١) « شرائع الإسلام » ج ٣ ، ص ١٨٩.

(٢) « مجمع الفائدة والبرهان » ج ٨ ، ص ٤٥٢.

١٠٦

معاوضة تقع على متّحدي الجنسين بالزيادة :

منها : ما رواه محمّد بن مسلم ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « سألته عن الرجل يدفع إلى الطحّان الطعام فيقاطعه على أن يعطى لكلّ عشرة أرطال اثني عشر دقيقا قال : « لا ». قلت : فالرجل يدفع السمسم إلى العصّار يضمن له لكلّ صاع أرطالا مسمّاة ، قال : « لا » (١).

ومعلوم أنّ هذا ليس بيعا ، بل الأوّل صرف التزام ومقاطعة بأن يعطى بدل عشرة أرطال من الحنطة اثني عشر من الدقيق ، وفي الثاني ضمان وليس من باب البيع أو القرض.

ومنها : أيضا ما رواه محمّد بن مسلم وزرارة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « الحنطة بالدقيق مثلا بمثل ، والسويق بالسويق مثلا بمثل ، والشعير بالحنطة مثلا بمثل لا بأس » (٢).

وبهذا المضمون روايات كثيرة (٣) لا اختصاص لها بالبيع ، ولا ذكر منه فيها ، بل يشمل مطلق المبادلة والمعاوضة.

اللهمّ إلاّ أن يقال : بأنّها منصرفة إلى خصوص البيع ؛ لأنّه هي المعاملة المتعارفة بين الناس والمتداولة فيما بينهم في أمثال المقام.

وأنت خبير بأنّ صرف كثرة الوجود لا يكون من أسباب الانصراف ، بل المبادلة والمعاوضة أعمّ من البيع ويشمل سائر المعاوضات أيضا.

وكذلك يدلّ على عدم اختصاصه بخصوص البيع والقرض الروايات الواردة في‌

__________________

(١) « الكافي » ج ٥ ، ص ١٨٩ ، باب المعاوضة في الطعام ، ح ١١ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٤٤٠ ، أبواب الربا ، باب ٩ ، ح ٣.

(٢) « الكافي » ج ٥ ، ص ١٨٩ ، باب المعاوضة في الطعام ، ح ١٠ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٤٤٠ ، أبواب الربا ، باب ٩ ، ح ٢.

(٣) راجع : « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٤٣٧ ـ ٤٤١ ، باب ٨ ، ٩ و ١٠.

١٠٧

حرمة الربا ، وهي كثيرة :

منها : ما رواه هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « درهم ربا عند الله أشدّ من سبعين زنيّة كلّها بذات محرم » (١).

وأيضا يدلّ على التعميم لكل معاوضة الروايات الكثيرة (٢) الواردة في حكمة تحريم الرباء ، وهي كثيرة :

منها : ما رواه سماعة قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام إنّي رأيت الله تعالى قد ذكر الربا في غير آية وكرّره؟ قال : « أو تدري لم ذاك » قلت : لا ، قال : « لئلاّ يمتنع الناس من اصطناع المعروف » (٣).

ثمَّ إنّه لا يخفى أنّ دلالة هذه الروايات على التعميم منوط بكون الربا عبارة عن الزيادة في أحد العوضين المتجانسين في مطلق المعاوضات ، لا خصوص الزيادة في باب البيع أو القرض ، وممّا ذكرنا ظهر أنّه لا مجال للتمسّك لعدم عمومه واختصاصه بالبيع وحده أو مع القرض فقط بأصالة الحلّ والإباحة ؛ وذلك لحكومة الإطلاقات عليهما.

وأمّا ما ذكره الطبرسي في تفسير آية ( أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا ) بقوله : أي أحلّ الله البيع الذي لا ربا فيه ، وحرّم البيع الذي فيه الربا (٤).

فأوّلا : لا حجّية لتفسيره إنّ لم يكن مستندا إلى الرواية المعتبرة ، مع أنّه خلاف ظاهر الآية ؛ لأنّ ظاهرها الإطلاق وعدم اختصاصه بالبيع.

__________________

(١) « الكافي » ج ٥ ، ص ١٤٤ ، باب الربا ، ح ١ ؛ « الفقيه » ج ٣ ، ص ٢٧٤ ، باب الربا ، ح ٣٩٩٢ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٤٢٢ ، أبواب الربا ، باب ١ ، ح ١.

(٢) راجع : « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٤٢٢ ، أبواب الربا ، باب ١.

(٣) « الكافي » ج ٥ ، ص ١٤٦ ، باب الربا ، ح ٧ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٤٢٣ ، أبواب الربا ، باب ١ ، ح ٣.

(٤) « مجمع البيان » ج ١ ، ص ٣٨٩.

١٠٨

وثانيا : هو في مقام بيان مورد نزول الآية ردّا على ما كانوا يقولون بأنّ الربا مثل البيع ، والعبرة بعموم ألفاظ الآيات لا بخصوصيّة مواردها.

وثالثا : أنّ المطلقات والعمومات التي تدلّ على حرمة الربا في جميع المعاوضات كثيرة لا تنحصر في هذه الآية فقط.

وخلاصة الكلام : أنّ الروايات التي تدلّ على حرمة الربا مطلقا في أيّ معاوضة كانت كثيرة ، فلا بدّ من الحكم بدخوله في جميع المعاوضات التي تقع بين متّحدي الجنسين إذا كانا من المكيل أو الموزون ، إلاّ إذا جاء دليل على التخصيص في مورد.

وأمّا رواية إبراهيم بن عمر اليمانيّ عن أبي عبد الله عليه‌السلام : « قال الربا رباءان : رباء يؤكل ، ورباء لا يؤكل. فأمّا الذي يؤكل فهديّتك إلى الرجل تطلب منه الثواب أفضل منها ، فذلك الربا الذي يؤكل ، وهو قول الله عزّ وجلّ ( وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ ) (١). وأمّا الذي لا يؤكل فهو الذي نهى الله عزّ وجلّ عنه وأوعد عليه النار » (٢).

فإطلاق الربا على الثواب الذي يعطيه الله تبارك وتعالى عوضا عن الصدقة أو الهديّة إلى المؤمن ليس من الربا المعاملي الذي هو محلّ الكلام ، فعلى تقدير القول بالعموم ليس هو مخصّصا للعموم.

ثمَّ إنّ هاهنا فروعا بعضها راجع إلى الشرط الأوّل ، أي اشتراط ثبوت الربا بكون العوضين متّحدي الجنسين ، وبعضها راجع إلى الشرط الثاني ، أي كونهما من المكيل أو الموزون.

__________________

(١) الروم (٣٠) : ٣٩.

(٢) « الكافي » ج ٥ ، ص ١٤٥ ، باب الربا ، ح ٦ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٤٢٩ ، أبواب الربا ، باب ٣ ، ح ١.

١٠٩

أما القسم الأول

فنذكره في ضمن مسائل‌

[ المسألة ] الأولى : ذهب أكثر الأصحاب إلى أنّه لا يجوز بيع الحنطة بالشعير إلاّ مثلا بمثل ، بل هذا القول هو المشهور ، بل لم ينقل الخلاف إلاّ من ابن إدريس (١) ولذلك قال في الجواهر : بل كادت تكون إجماعا ، وحكى الإجماع عن الغنية (٢) ومحكي خلاف الشيخ (٣).

والأقوى هو القول المشهور.

وذلك أوّلا : لما تقدّم من رواية هشام بن سالم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سئل عن الرجل يبيع الرجل الطعام الأكراد ، فلا يكون عنده ما يتمّ له ما باعه ، فيقول له : خذ منّي مكان كلّ قفيز من حنطة قفيزين من شعير ، حتّى تستوفى ما نقص من المكيل ، قال عليه‌السلام : « لا يصلح لأنّ أصل الشعير من الحنطة ، ولكن يردّ عليه الدراهم بحساب ما نقص من الكيل » (٤).

وثانيا : لرواية أبي بصير وغيره عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « الحنطة والشعير رأسا برأس لا يزاد واحد على الآخر » (٥).

وأيضا لرواية الحلبيّ عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال عليه‌السلام : « لا يباع مختومان من‌

__________________

(١) « السرائر » ج ٢ ، ص ٢٥٥.

(٢) « الغنية » ضمن « الجوامع الفقهية » ص ٥٨٨.

(٣) « جواهر الكلام » ج ٢٣ ، ص ٣٤٤.

(٤) « الكافي » ج ٥ ، ص ١٨٧ ، باب المعاوضة في الطعام ، ح ١ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٤٣٨ ، أبواب الربا ، باب ٨ ، ح ١.

(٥) « الكافي » ج ٥ ، ص ١٨٧ ، باب المعاوضة في الطعام ، ح ٢ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٤٣٨ ، أبواب الربا ، باب ٨ ، ح ٣.

١١٠

شعير بمختوم من حنطة ، ولا يباع إلاّ مثلا بمثل ، والتمر مثل ذلك » (١).

وروايات كثيرة بهذا المضمون ، أو ما قريب منه جمعها في الوسائل في الباب الثامن من أبواب الرباء ، (٢) ، إنّ شئت فراجع.

وثالثا : لما ذكره العلاّمة في التذكرة : أنّ معمّر بن عبد الله بعث غلاما له ، ومعه صاع من قمح فقال : اشتر شعيرا ، فجاءه بصاع وبعض صاع ، فقال له : ردّه ، فإنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عن بيع الطعام بالطعام إلاّ مثلا بمثل ، وطعامنا يومئذ الشعير (٣).

وأيضا تقدّم ما رواه الصدوق بإسناده عن عليّ عليه‌السلام قصّة زرع آدم وحوّاء وأنّ كلّ واحد منهما قبض قبضة من الحنطة التي جاء بها جبرئيل عليه‌السلام وقال آدم لحوّاء : لا تزرعي أنت ، فلم تقبل من آدم ، فكلّما زرع آدم من تلك الحنطة جاء حنطة ، وكلّما زرعت حوّاء جاء شعيرا (٤).

والمقصود من نقل هذه الرواية أنّ أصل الحنطة والشعير واحد ، فيكونان فرعين من أصل واحد ، وكلّما كان هكذا فبيعه مع الفرع الآخر من متّحدي الجنس يدخل فيه الربا. وقد ذكرنا فيما تقدّم أنّه عليه‌السلام علّل عدم جواز بيع الحنطة بالشعير إلاّ مثلا بمثل بأنّهما من أصل واحد ، وفي أغلب هذه الروايات هذا التعليل موجود ، وقلنا يلزم الأخذ بهذا التعليل في جميع الموارد والفروع التي من هذا القبيل.

فالاختلاف في الاسم والعنوان لا أثر له مع هذا التعليل ؛ ولذلك ترى أنّه في أغلب الفروع التي مرجعها إلى أصل واحد ، الأسماء والعناوين مختلفة ، ومع ذلك حكم الأصحاب بدخول الربا فيها.

__________________

(١) « الكافي » ج ٥ ، ص ١٨٧ ، باب المعاوضة في الطعام ، ح ٣ ؛ « تهذيب الأحكام » ج ٧ ، ص ٩٤ ، ح ٣٩٩ ، باب بيع الواحد بالاثنين ... ، ح ٥ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٤٣٨ ، أبواب الربا ، باب ٨ ، ح ٤.

(٢) « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٤٣٧.

(٣) « تذكرة الفقهاء » ج ١ ، ص ٤٧٧.

(٤) « علل الشرائع » ج ٢ ، ص ٥٧٤ ، ح ٢ ؛ « مستدرك الوسائل » ج ١٣ ، ص ٣٤٤ ، أبواب الربا ، باب ١٧ ، ح ٢.

١١١

ألا ترى أنّ الأقط مع الدهن فيما إذا أخذا من حليب واحد اسمان وعنوانان مختلفان ، بل يمكن أن يقال هما نوعان ومهيّتان ، ومع ذلك كلّه عدّهما الأصحاب من جنس واحد لرجوعهما إلى أصل واحد ، فكلّ واحد منهما بعض من ذلك الحليب الذي أخذا منه.

فإذا أحطت بما ذكرنا تعرف ما في كلام ابن إدريس (١) ـ أنّه لا خلاف بين المسلمين العامّة والخاصّة ، ولا بين أهل اللغة واللسان في أنّهما مختلفان ، وأنّه لم يذهب إلى الاتّحاد غير شيخنا أبي جعفر والمفيد ومن قلّده في مقالته ـ من العجب والغرابة.

وأمّا استشهاده بفتاوى ابني بابويه ـ أي الصدوقين ـ والمرتضى أعلى الله مقامهم من عدم البأس ببيع الواحد بالاثنين إذا اختلف الجنس ، ففي غير محلّه ؛ من جهة أنّ الدعوى هاهنا أنّهما من جنس واحد باعتبار أنّهما من أصل واحد ، فقياسهما بمختلفي الجنس وإدراجهما فيه لا يجوز.

وأمّا ذهاب ابن أبي عقيل وابن الجنيد (٢) إلى جواز بيعهما بأن يكونا العوضين مع التفاضل ، فلا يضرّ بما ذكرنا ؛ لوضوح الدليل فيما هو خلاف ما أفادا ، فلا ينبغي التأمّل في عدم جواز بيع الحنطة بالشعير مع التفاضل في أحدهما ، بل لا بدّ وأن يكون مثلا بمثل وزنا أو كيلا.

[ المسألة ] الثانية : قال في الشرائع (٣) : ثمرة النخل جنس واحد وإن اختلفت أصنافه ، فلا يجوز بيع منّ من الخستاويّ الذي هو من الصنف الجيّد مثلا بمنّين من الدقل الذي هو من الصنف الرديّ ، وهكذا الأمر في الزاهدي والبرنيّ والدقل ، فلا يجوز بيع مدّ من البرنيّ بمدّين من الدّقل.

__________________

(١) « السرائر » ج ٢ ، ص ٢٥٤.

(٢) نقله عنهما في « السرائر » ج ٢ ، ص ٢٥٥.

(٣) « شرائع الإسلام » ج ٢ ، ص ٣٨.

١١٢

و يدلّ على ذلك روايات :

منها : ما رواه سيف التّمار قال : قلت لأبي بصير : أحبّ أن تسأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل استبدل قوصرتين [١] فيهما بسر مطبوخ بقوصرّة فيها تمر مشقّق ، قال : فسأله أبو بصير عن ذلك فقال عليه‌السلام : « هذا مكروه ». فقال أبو بصير : ولم يكره؟ فقال عليه‌السلام : « إنّ علىّ بن أبي طالب عليه‌السلام كان يكره أنّ يستبدل وسقا من تمر المدينة بوسقين من تمر خيبر ؛ لأنّ تمر المدينة أجودهما ـ أدومهما خ ل ـ ولم يكن عليّ عليه‌السلام يكره الحلال » (١).

ومنها : ما رواه الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال عليه‌السلام : « لا يباع مختومان من شعير بمختوم من حنطة ، ولا يباع إلاّ مثلا بمثل ، والتمر مثل ذلك » (٢).

ومنها : ما رواه سماعة ، قال : سألته عن الطعام والتمر والزبيب؟ فقال عليه‌السلام :

« لا يصلح شي‌ء منه اثنان بواحد ، إلاّ أن يصرفه نوعا إلى نوع آخر ، فإذا صرفته فلا بأس اثنان بواحد أو أكثر من ذلك. » (٣)

ويظهر من هذه الروايات أنّه لا يجوز بيع التمر بالتمر إلاّ مثلا بمثل ، وإن كان العوضان مختلفين صنفا ، كما لو كان أحدهما جيّدا والآخر رديّا ، ثمَّ إنّ ثمرة الكرم أيضا مثل ما ذكرنا في ثمرة النخل ، جميعها جنس واحد ، فالعنب على كثرة أقسامه ـ حتّى قيل أنّ في بعض البلاد خمسة وعشرين قسما منها موجود ، وقد نظم الشيخ الجليل‌

__________________

(١) « القوصرة : وعاء من قصب يعمل للتمر يشدّد ويخفّف. ولعل المراد بالمشقق ما أخرجت نواته ، أو اسم نوع منه. ويحتمل أن يكون تصحيف المشقّة ، قال في النهاية : نهى عن بيع التمر حتى يشقه ، وجاء تفسيره في الحديث الإشقاه أن يحمر أو يصفر. مرآة العقول.

(٢) « الكافي » ج ٥ ، ص ١٨٨ ، باب المعاوضة في الطعام ، ح ٧ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٤٤٧ ، أبواب الربا ، باب ١٥ ، ح ١.

(٣) « الكافي » ج ٥ ، ص ١٨٧ ، باب المعاوضة في الطعام ، ح ٣ ؛ « تهذيب الأحكام » ج ٧ ، ص ٩٤ ، ح ٣٩٩ ، باب بيع الواحد بالاثنين ... ، ح ٥ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٤٣٨ ، أبواب الربا ، باب ٨ ، ح ٤.

(٤) « الفقيه » ج ٣ ، ص ٢٨١ ، باب الربا ، ح ٤٠١٤ ؛ « تهذيب الأحكام » ج ٧ ، ص ٩٥ ، ح ٤٠٦ ، باب بيع الواحد بالاثنين ... ، ح ١٢ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٤٤٣ ، أبواب الربا ، باب ١٣ ، ح ٥.

١١٣

بهاء الدين العامليّ رحمه‌الله تعالى قصيدة في أقسام عنب بلدة هراة ـ فلا يجوز بيع أي قسم منها بلغ ما بلغ في الجودة بالتفاضل بأيّ قسم بلغ ما بلغ في الرداءة.

والذي يستفاد من الأخبار الصادرة عن الأئمّة الأطهار أنّ الشارع بعد ما حكم بدخول الربا في متّحدي الجنسين ، اعتبر في الاتّحاد كونهما من نوع واحد ومهيّة واحدة ، ولم يعتن بالمميّزات الصنفيّة ، نعم ألحق الشارع بمتّحدي الجنس كونهما فرعين لجنس واحد ، أو كون أحدهما فرعا والآخر أصلا كالسمن والأقط أو الحليب والزبد وهكذا. وهذا الحكم يجري في جميع أنواع الفواكه التي من المكيل أو الموزون ، ولا اختصاص له بالنخل والكرم.

مثلا المشمش له أصناف ، بعضها في غاية الجودة ، وبعضها الآخر في غاية الرداءة ، فلا يجوز استبدال منّ الجيدة بمنّين من الرديّ ، وكذلك التفّاح ، وكذلك المخضرات التي من المكيل والموزون ، فلا يجوز تبديل كيلو واحد من الباذنجان الطرحي العراقي بكيلوين من باذنجان الهندي ، ولا وقية واحد من اليقطين الصغير الطريّ الجديد بوقيتين من الكبار الغير الطريّ العتيق الذي يبس وذهب ماؤه.

وأيضا لا يجوز تبديل منّ من بطّيخ گرگاب أصفهان بمنين أو أكثر من البطّيخ العاديّ ، وكذلك الأمر سفرجل أصفهان مع السفرجل العاديّ ، وكذا الحال في سفرجل نطنز مع العادي منه الموجود في سائر البلاد.

وخلاصة الكلام : أنّ المناط في الجميع واحد ، وهو الاختلاف في الصنف والاتّحاد في النوع ، وإن كان أحدهما جيّدا والآخر رديّا ، وعلى هذه المذكورات فقس ما سواها.

المسألة الثالثة : الاختلاف والاتّحاد في الجنس في اللحوم تابع للاختلاف والاتحاد في أصولها ، بمعنى أنّه ينظر إلى الحيوان الذي هذا اللحم منه ، فإن كان في كلا العوضين حيوانا واحدا شخصا أو صنفا أو نوعا فيكون العوضان من متّحدي الجنس.

وأمّا إن كان أحدهما من نوع والآخر من نوع آخر ، مثل أن يكون أحدهما من‌

١١٤

البقر والآخر من الغنم ، فلا يكونان من متّحدي الجنس ، ولا يثبت الربا فيهما ، ويجوز بيعهما متساويا ومتفاضلا ولا اعتبار بوحدة الاسم وإطلاق لفظ اللحم عليهما ؛ لأنّ لفظ اللحم مثل لفظ الحيوان موضوع للمعنى الجنسي لا النوعيّ ، واللحوم المندرجة تحت اسم اللحم حقائق مختلفة ، مثل الحيوانات المندرجة تحت مفهوم الحيوان.

وعلى كلّ حال هذه المسألة ـ أي كون الاختلاف في اللحوم بحسب اختلاف أصولها ـ إجماعيّ لا خلاف فيها.

نعم قد يكون الأصلان في العوضين مختلفين بحسب الاسم ، ولكن متّحدان بحسب الحقيقة ، كالبقر والجاموس في نوع الأبقار ، والعرابي والبخاتي في نوع الإبل ، والماعز والضأن في نوع الغنم ، وهكذا ، وهذه المذكورات ليست من اختلاف الأصول ، بل هي أصناف حقيقة واحدة ، ومثل هذا الاختلاف الاسمي دون الحقيقي في أغلب أصناف الأنواع موجود ، ومع ذلك يثبت الربا فيها إن كانت من المكيل والموزون.

إذا عرفت ما ذكرنا ، ففي هذه المسألة فروع يعرف حكمها مما ذكرنا :

منها : أنّ لحم الطيور يختلف باختلاف نفس الطيور ، وأنّها حقيقة واحدة أو مختلفة ، فإن كان اللحم في العوضين من الطيرين المختلفين بحسب الحقيقة فلا رباء ، وأمّا إن كان من واحد شخصا أو صنفا أو نوعا فيثبت فيه الرباء ، والذكورة والأنوثة في كلّ نوع ليس من الاختلاف في الحقيقة ، فلحم الديك والدجاجة ليسا من المختلفين.

نعم وقع الخلاف في بعض العناوين والأسماء في أنّ الأقسام المندرجة تحت ذلك الاسم أنواع وحقائق مختلفة ، أو أصناف وكلّها من أفراد حقيقة واحدة؟ وذلك كالحمام والغراب والعصفور ، فالعصفور بناء على أن يكون عبارة عن الطيور الصغار فلا شكّ في أنّها أنواع مختلفة ، وكذلك الحمام إذا كان عبارة عمّا هدر فأيضا أنواع‌

١١٥

مختلفة ؛ لأنّ الفواخت غير القماري.

وخلاصة الكلام : أنّه إذا عرف وعلم أنّها حقيقة واحدة أو مختلفة فهو ، وإلاّ فلا بدّ من الإحالة إلى العرف ، وأنّهم هل يرونها حقيقة واحدة أو حقائق مختلفة ، فتأمّل.

ومنها : أنّ لحوم الأسماك هل هي مختلفة مع لحوم سائر الحيوانات أم لا؟

وممّا ذكرنا وتقدّم لا ينبغي أن يشكّ في اختلافها مع سائر اللحوم في ذلك ؛ لاختلاف الأصول ، إذ لا شكّ في اختلاف السمك ـ من أيّ قسم كان ـ مع البقر أو الغنم مثلا.

نعم يحتمل أن يكون لحوم أنواع الأسماك كالشبوط والقطان والبني من حقيقة واحدة ، وأن يكون هذه الأسماء عناوين الأصناف لا الأنواع ، ويحتمل أن يكون حقائق مختلفة.

والأشبه هو الأوّل ؛ وذلك لأنّ الاختلاف بين هذه الأقسام الثلاثة المذكورة ليس أشدّ من الاختلاف بين أصناف الغنم ، كالماعز والضأن ، فلا يجوز بيع البنّي بالقطّان مثلا مع التفاضل ، بناء على أنّهما من الموزون. وأمّا لو كان يباع جزافا ولم يكن من الموزون فهو خارج عن محلّ الكلام.

ومنها : أنّ الجراد مع سائر اللحوم مختلف ، وليس من متّحد الجنس مع كلّ واحد منها ، بل هو جنس بانفراده. وهذا واضح.

ومنها : أنّ الوحشيّ من كلّ نوع ليس من المتّحد في الجنس مع الأهلي منه ؛ وذلك من جهة أنّهما في الحقيقة ليسا من نوع وحقيقة واحدة. وإطلاق الاسم غالبا من جهة الشباهة في الشكل ، وهكذا البرّي والبحري منه. نعم قد يتّفق في بعض أنواعهما وحدة حقيقتهما ، كما أنّه يقال إنّ الجاموس الوحشي مع الأهلي كذلك ، وأيضا يقال في الثور الوحشي والأهلي إنّهما كذلك. والحاصل : أنّ المدار على وحدة الحقيقة.

١١٦

نعم ما ذكرنا من الاختلاف ظاهر في الغنم الوحشي وهي الظّباء مع الغنم الأهلي ، وكذلك الحمر الوحشيّة مع الأهليّة. ولكن الظاهر من جماعة دعوى الإجماع على الاختلاف وعدم الاتّحاد في الجميع.

قال في الجواهر : ولو لا هذا الاتّفاق لأمكن المناقشة في ذلك ؛ أي في هذه الكلّية أي الاختلاف في الجميع (١). وما ذكره متين جدّا.

ومنها : أنّ أعضاء الحيوان ملحق بلحمه أم لا؟ بمعنى أنّ كبد حيوان مثلا أو كرشه أو قلبه أو كليته في حكم لحمه ، فلا يجوز تبديل ما ذكر مع لحم حيوان يكون من جنس ماله هذه المذكورات؟

الظاهر هو الأوّل ؛ لأنّها أجزاء الحيوان ، فإذا كان هذا الحيوان من المتّحد في الجنس مع الحيوان الآخر ، فأجزاؤه أيضا تكون كذلك ، فحال أعضائه حال لحمه.

المسألة الرابعة : قال في الشرائع : الألبان تتبع اللحمان في التجانس والاختلاف (٢). وقال في الجواهر : بلا خلاف أجده فيه ، بل في التذكرة (٣) الإجماع عليه ، فلبن الغنم مخالف للبن البقر ، كما أنّ لبن البقر مخالف للبن الإبل ، والغنم ما عزه وضأنه حيث أنّهما ولحمهما متّحدان ، فلبنهما أيضا كذلك ، وحيث أنّ البقر والجاموس جنس واحد فلبنهما أيضا من الجنس الواحد ، وبناء على أن يكون الوحشيّ من كلّ نوع مخالفا للأهلي منه ، فكذلك لبنهما أيضا (٤).

وما تقدّم منّا من المناقشة في بعض أقسام الوحشي والأهلي ، والاحتمال بل ظهور الاتّحاد يأتي في ألبانهما أيضا ؛ لما تقدّم أنّ الألبان في حكم ذي اللبن.

والعمدة في هذا الحكم هو الإجماع المدّعى في المقام ، وإلاّ فالاستحسانات التي‌

__________________

(١) « جواهر الكلام » ج ٢٣ ، ص ٣٥٧.

(٢) « شرائع الإسلام » ج ٢ ، ص ٣٩.

(٣) « تذكرة الفقهاء » ج ١ ، ص ٤٧٩.

(٤) « جواهر الكلام » ج ٢٣ ، ص ٣٥٧.

١١٧

ذكروها لا اعتبار بها ، فإنّ دين الله لا يصاب بالعقول.

وما يقال من أنّنا نرى بالوجدان اختلاف الألبان من حيث الآثار باختلاف ذوي الألبان ، وإن كان حقّا ـ حتّى أنّ الحيوان الشخصي يختلف ألبانه من حيث الآثار باختلاف الأغذية ؛ ولذلك كانت الأطبّاء يعطون الدواء للأمّ التي رضيعها كان مريضا فضلا عن ألبان الحيوانات المختلفة نوعا ومهيّة ـ ولكن مع ذلك لو لم يكن الحكم اتفاقيّا ومورد الإجماع لا يمكن إثباته بهذه الأمور ، مع حكم العرف بأنّ اللبن عن جميع الحيوانات حقيقة واحدة. اللهمّ إلاّ أن يقال بأنّه عند العرف أيضا مختلف باختلاف ذي اللبن ، أو علمنا بالتجزية والتحليل أنّها حقائق مختلفة.

المسألة الخامسة : قال المحقّق في الشرائع : الأدهان تتبع ما تستخرج منه (١).

أقول : الأدهان إمّا تستخرج من حليب الحيوانات ، وإمّا من شحومها ولحومها أو سائر أعضائها ، وإمّا من النباتات أي من أثمارها ، كدهن اللوز والجوز والزيتون وأمثالها ؛ فهذه أقسام ثلاثة :

أمّا القسم الأوّل : فحالها حال الحليب الذي استخرج منه ، وقد تقدّم في المسألة السابقة أنّ الألبان تتبع اللحمان في التجانس والاختلاف ، فبناء على هذا الدهن المستخرج من حليب الغنم بأقسامه ، ما عزه وضأنه ، لا يجوز بيعه بالتفاضل مع دهن آخر من حليب الغنم ، وأمّا دهن حليب الغنم مع دهن حليب البقر أو الإبل ، أو غيرهما من نوع آخر غير الغنم فلا يأتي فيه الربا.

والحاصل : أنّ حال الدهن في التجانس والاختلاف حال اللبن الذي يستخرج منه.

وأمّا القسم الثاني : أي الدهن الذي يستخرج من بدن الحيوان ، فحاله حال بدن الحيوان ولحمه وأعضائه ، وقد تقدّم تفصيل ذلك.

__________________

(١) « شرائع الإسلام » ج ٢ ، ص ٣٩.

١١٨

وأمّا القسم الثالث : أي دهن النباتات ، فلا شكّ في أنّ دهن الزيتون ـ مثلا ـ غير دهن الجوز واللوز ، وليس من جنسهما ، بل هي حقيقة أخرى ، وكذلك دهن الزيت غير السمن بحسب الحقيقة.

وقد ورد في الروايات جواز بيع الزيت بالسمن اثنين بواحد ، كما في رواية الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث قال : وسئل عن الزيت بالسمن اثنين بواحد ، قال عليه‌السلام : « يدا بيد لا بأس به ». (١) فرتّب عليه‌السلام حكم المختلفين عليهما.

فقد ظهر ممّا ذكرنا أنّ الأدهان كما أفاده المحقّق (٢) قدس‌سره تتبع ما يستخرج منه في التجانس والاختلاف.

وأمّا الخلول فواضح أنّها في التجانس والاختلاف تتبع ما يعمل منه ؛ لأنّها في الحقيقة نفس ما يعمل منه مع تبدّل في الصفة ، فخلّ العنب ليس من جنس خلّ التمر ؛ لأنّ العنب ليس من جنس التمر ، فيجوز بيع خلّ العنب بخلّ التمر بالتفاضل يدا بيد ، أي نقدا.

وبعد ما ظهر ممّا تقدّم أنّ حكم الفرع حكم الأصل ، وأنّه لا يجوز بيع الأصل بالفرع مع التفاضل ، ولا أحد الفرعين من أصل واحد بالآخر مع التفاضل ، فلا يجوز بيع عصير العنب بخلّ العنب متفاضلا ، ولا عصير التمر بخلّ التمر متفاضلا ، ولا نفس العنب بخلّه كذلك ، ولا نفس التمر بخلّه كذلك.

المسألة السادسة : يجوز بيع المركّب من الجنسين أو المجموع من جنسين بأحدهما ، وبالمركّب منهما ، بالمجموع منهما ، وبغيرهما متساويا ومتفاضلا في الجميع ، ولكن فيما إذا كان بيع المجموع أو المركّب منهما بأحدهما ، يشترط في الثمن أن يكون فيه زيادة على مقابله المجانس له ، كي تكون تلك الزيادة عوضا عن ذلك الجزء الآخر‌

__________________

(١) « تهذيب الأحكام » ج ٧ ، ص ٩٤ ، ح ٣٩٩ ، باب بيع الواحد بالاثنين ... ، ح ٥ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٤٤٣ ، أبواب الربا ، باب ١٣ ، ح ٤.

(٢) « شرائع الإسلام » ج ٢ ، ص ٣٩.

١١٩

الغير المجانس له ، وإلاّ يلزم أحد الأمرين : إمّا الربا ، وإمّا دخول ذلك الجزء الآخر الغير المجانس للثمن في ملك المشتري بلا عوض ومجّانا ، وكلاهما باطلان.

واشترط بعضهم في تلك الزيادة أن تكون بمقدار يكون قابلا لأن تقع ثمنا لذلك الجزء منفردا ، بل ومع الانضمام ، وادّعى في الجواهر (١) عدم وجدان الخلاف في ذلك ، بل الإجماع بقسميه. ولكن عرفت أنّ هذا الحكم مع الشرط المذكور مقتضي القواعد الأوليّة ، ولو لم يكن إجماع في البين.

نعم يجب تحصيل العلم بزيادة الثمن فيما إذا باع المجموع بأحدهما بمقدار يصلح للمقابلة مع الجزء الآخر الغير المجانس له ، وإلاّ لا يمكن الحكم بصحّة مثل هذه المعاملة ؛ لأنّ التمسّك بالعمومات والإطلاقات عند الشكّ هاهنا يكون من التمسّك بالعموم والإطلاق في الشبهة المصداقيّة للمخصّص.

المسألة السابعة : يجوز بيع لحم بحيوان من جنسه ، وذلك كأن يبيع لحم الغنم بشاة ، أو لحم الماعز بضأن ، أو لحم البقر ببقرة أو ثور وهكذا.

والعمدة في دليله قوله عليه‌السلام في رواية غياث بن إبراهيم ، عن جعفر بن محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن أبيه : « أنّ عليّا عليه‌السلام كره بيع اللحم بالحيوان » (٢).

والاستدلال بهذه الرواية على الحرمة مبنىّ على ما روي في الروايات المعتبرة وتقدّم ذكرها « أنّ عليا عليه‌السلام كان لا يكره الحلال » (٣) مؤيّدا بالنبوي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإن كان عاميّا : « نهى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن بيع اللحم بالحيوان » (٤).

__________________

(١) « جواهر الكلام » ج ٢٣ ، ص ٣٥٤.

(٢) « الفقيه » ج ٣ ، ص ٢٧٨ ، باب الربا ، ح ٤٠٠٤ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٤٤١ ، أبواب الربا ، باب ١١ ، ح ١.

(٣) « الكافي » ج ٥ ، ص ١٨٨ ، باب المعاوضة في الطعام ، ح ٧ ؛ « تهذيب الأحكام » ج ٧ ، ص ٩٦ ، ح ٤١٢ ، باب بيع الواحد بالاثنين ... ، ح ١٨ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٤٤٧ ، أبواب الربا ، باب ١٥ ، ح ١.

(٤) « سنن البيهقي » ج ٥ ، ص ٢٩٦ ؛ « كنز العمال » ج ٤ ، ص ٧٧ ، ح ٩٦٠٥.

١٢٠