القواعد الفقهيّة - ج ٥

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي

القواعد الفقهيّة - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي


المحقق: مهدي المهريزي
الموضوع : الفقه
الناشر: نشر الهادي
المطبعة: مؤسسة الهادي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-400-030-7

الصفحات: ٣٩٢

عز وجل في كتابه العزيز ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ ) (١) ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ ) (٢) ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ) (٣).

وأمّا إن لم يكن الضرر الذي يخاف منه هو القتل ، فلا يجوز الحكم لعدم جواز دفع الضرر عن نفسه بإضرار الغير. والله ولىّ التوفيق.

والحمد لله أوّلاً وآخراً ، وظاهراً وباطناً.

__________________

(١) المائدة (٥) : ٤٤.

(٢) المائدة (٥) : ٥٠.

(٣) المائدة (٥) : ٥٢.

٨١
٨٢

٤٨ ـ قاعدة

لا ربا الا فيما يكال أو يوزن‌

٨٣
٨٤

قاعدة لا ربا الا فيما يكال أو يوزن *

وفيها جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى

في مدركها

وهو الإجماع والأخبار.

الأوّل : الإجماع‌ وهو وإن كان ثبوته لا ينكر ، ولكن قد ذكرنا في هذا الكتاب مرارا أنّ مثل هذه الإجماعات التي مداركها معلوم ـ وأنّه في المقام هي الأخبار الواردة في هذا الباب ، وقد عقد في الوسائل بابا بعنوان أنّ الربا لا يثبت إلاّ في المكيل والموزون (١) ـ فلا بدّ من مراجعة نفس المدرك ، وليس الإجماع من الذي يكون كاشفا عن رأي المعصوم عليه‌السلام من ناحية اتّفاق الأصحاب الذي بنينا على حجّيته في الأصول.

الثاني : الأخبار.

فمنها : ما رواه علىّ بن رئاب ، عن زرارة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « لا يكون الربا إلاّ فيما يكال أو يوزن » (٢).

__________________

* « القواعد » ص ٢٣٩.

(١) « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٤٣٤ ، أبواب الربا ، باب ٦.

(٢) « تهذيب الأحكام » ج ٧ ، ص ١٩ ، باب فضل التجارة وآدابها ، ح ٨١ ؛ « تفسير العيّاشي » ج ١ ، ص ١٥٢ ، ح ٥٠٤ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٤٣٤ ، أبواب الربا ، باب ٦ ، ح ١.

٨٥

ومنها : ما رواه عبيد بن زرارة ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : « لا يكون الربا إلاّ فيما يكال أو يوزن » (١).

ومنها : ما رواه منصور ، قال : سألته عن الشاة بالشاتين والبيضة بالبيضتين؟ قال : « لا بأس ما لم يكن كيلا أو وزنا » (٢).

ودلالة هذه الأخبار على هذه القاعدة واضحة وغنيّة عن البيان ، وذلك لأنّ مضمونها عين مضمون القاعدة.

الجهة الثانية

في شرح مضمون القاعدة‌

فنقول أمّا « الربا » بالكسر ، فهي اسم مصدر بمعنى الزيادة والفضل على ما ذكره اللغويّون ، أو مصدر ثان من ربي يربو ربوا ورباء ، وعلى كلّ حال الذي يظهر من نقل كلام اللغويّين وموارد الاستعمال هو أنّ معناه الزيادة والنموّ ، وعند الفقهاء وفي اصطلاح الشرع عبارة عن أخذ الزائد ممّا يعطى للطرف في أبواب المعاوضات ، بل ربما يطلق على المعاملة المشتملة على هذه الزيادة.

والظاهر : أنّه من هذا القبيل قوله تعالى ( أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا ) (٣) إذ المراد منه ليس حرمة تلك الزيادة فقط ، بل المراد منه حرمة المعاملة المشتملة على تلك الزيادة بقرينة المقابلة للبيع.

__________________

(١) « الكافي » ج ٥ ، ص ١٤٦ ، باب الربا ، ح ١٠ ؛ « الفقيه » ج ٣ ، ص ٢٧٥ ، باب الربا ، ح ٣٩٩٦ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٤٣٥ ، أبواب الربا ، باب ٦ ، ح ٣.

(٢) « الكافي » ج ٥ ، ص ١٩١ ، باب المعاوضة في الحيوان والثياب وغير ذلك ، ح ٨ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٤٣٥ ، أبواب الربا ، باب ٦ ، ح ٥.

(٣) البقرة (٢) : ٢٧٥.

٨٦

وذلك من جهة أنّ المشركين قاسوا وقالوا إنّ المعاملة الربويّة مشتركة مع البيع في طلب الزيادة ؛ لأنّ البائع في البيع الغير الربويّ أيضا يطلب الزيادة والربح ، مثل إن كان الثمن والمثمن من غير المتجانسين ، فإذا كان طلب الزيادة موجبا لحرمة المعاملة ، فلم لا يكون البيع أي المعاملة والمعاوضة في غير المتجانسين حراما ، فأنكر ـ الله تعالى قياسهم وأبطله بقوله ( أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا ) وذلك لعلّة مخفية عليكم ، فليس لكم الاعتراض. ولذلك قالوا إنّ هذه الآية تدلّ على حرمة القياس.

هذا ، مضافا إلى أنّ قياسهم باطل حتّى بناء على حجّية القياس ؛ وذلك من جهة أنّه في البيع بناء البائع والمشتري على مساواة الثمن والمثمن من حيث القيمة ، وإنّما فائدة البائع باختلاف الأسوق أو الأزمان ، فيشتري البائع من سوق أرخص أو في زمان أرخص ، ويبيع في سوق أغلى أو زمان أغلى ، وإلاّ ففي نفس ذلك السوق أو ذلك الزمان لا بدّ وأن لا يخسر أحدهما بما لا يتسامح فيه ، وإلاّ فيأتي خيار الغبن ؛ ولذلك لو قال أحد للبائع : إنّ متاعك لا يسوى بهذه القيمة يتأذّى ؛ فالقياس في غير محلّه.

وعلى كلّ حال الربا تارة يكون في البيع ، وأخرى في القرض.

فنتكلّم في مقامين :

الأوّل : الربا في البيع ، بل في جميع المعاوضات.

وهذا القسم هو مورد قاعدتنا هذه ، أي عدم إتيان الربا إلاّ فيما إذا كان العوضان في البيع أي الثمن والمثمن من المكيل أو الموزون.

وقبل ذلك نتكلّم في حكم الربا بكلا قسميه : أي سواء كان في البيع ، أو كان في القرض فنقول :

ويدلّ على حرمته الكتاب العزيز والأحاديث المستفيضة بل المتواترة ، فحرمته من القطعيّات ، بل من الضروريّات بحيث يكون منكرها كافرا مرتدا ، ولا ينافي ما قلنا من أنّ حرمته من الضروريات ، اختلافهم في بعض الفروع ؛ لأنّ ذلك إمّا من جهة‌

٨٧

إنكار كونه من الربا موضوعا ، وإمّا من جهة التخصيص في الحكم كموارد قاعدتنا هذه.

أمّا الايات التي تدلّ على حرمة الربا : فمنها : قوله تعالى ( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا ) إلى آخر الآية (١).

ومنها : قوله تعالى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ ) (٢).

ومنها : قوله تعالى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (٣).

وأمّا الروايات فكثيرة جدّا نذكر جملة منها :

فمنها : ما رواه في الكافي بإسناده عن هشام بن سالم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال :

« درهم ربا عند الله أشدّ من سبعين زنيّة كلّها بذات محرم » (٤).

ومنها : ما رواه سعد بن طريف ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « أخبث المكاسب كسب الربا » (٥).

ومنها : رواية سماعة قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إنّي رأيت الله تعالى قد ذكر‌

__________________

(١) البقرة (٢) : ٢٧٥.

(٢) البقرة (٢) : ٢٧٨ ـ ٢٧٩.

(٣) آل عمران (٣) : ١٣٠.

(٤) « الكافي » ج ٥ ، ص ١٤٤ ، باب الربا ، ح ١ ؛ « الفقيه » ج ٣ ، ص ٢٧٤ ، باب الربا ، ح ٣٩٩١ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٤٢٢ ، أبواب الربا ، باب ١ ، ح ١.

(٥) « الكافي » ج ٥ ، ص ١٤٧ ، باب الربا ، ح ١٢ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٤٢٣ ، أبواب الربا ، باب ١ ، ح ٢.

٨٨

الربا في غير آية وكرّره ، قال : « أو تدري لم ذاك؟ » قلت : لا ، قال : « لئلاّ يمتنع الناس من اصطناع المعروف » (١).

ومنها : ما رواه الشيخ ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « درهم من ربا أشدّ عند الله من ثلاثين زنيّة كلّها بذات محرم مثل عمّة وخالة » (٢).

وما رواه سعيد بن يسار عن الصادق عليه‌السلام قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : « درهم واحد ربا أعظم من عشرين زنيّة كلّها بذات محرم ـ رحم ـ » (٣).

ومارواه زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قلت له : إنّي سمعت الله يقول ( يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ ) (٤) وقد أرى من يأكل الربا يربو ماله؟ فقال عليه‌السلام : « أيّ محق أمحق من درهم ربا يمحق الدين ، وإن تاب منه ذهب ماله وافتقر » (٥).

وما رواه هشام بن الحكم أنّه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن علّة تحريم الربا؟ فقال : « إنّه لو كان الربا حلالا لترك الناس التجارات وما يحتاجون إليه ، فحرّم الله الربا لتنفر الناس من الحرام إلى الحلال وإلى التجارات من البيع والشراء ، فيبقى ذلك بينهم في القرض » (٦).

وما رواه هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إنّما حرّم الله الربا كيلا يمتنعوا‌

__________________

(١) « الكافي » ج ٥ ، ص ١٤٦ ، باب الربا ، ح ٧ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٤٢٣ ، أبواب الربا ، باب ١ ، ح ٣.

(٢) « الفقيه » ج ٣ ، ص ٢٧٤ ، باب الربا ، ح ٣٩٩١ ؛ « تهذيب الأحكام » ج ٧ ، ص ١٤ ، باب فضل التجارة وآدابها ، ح ٦٢ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٤٢٣ ، أبواب الربا ، باب ١ ، ح ٥.

(٣) « تهذيب الأحكام » ج ٧ ، ص ١٥ ، باب فضل التجارة وآدابها ، ح ٦٣ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٤٣٤ ، أبواب الربا ، باب ١ ، ح ٦.

(٤) البقرة (٢) : ٢٧٦.

(٥) « تهذيب الأحكام » ج ٧ ، ص ١٥ ، باب فضل التجارة وآدابها ، ح ٦٥ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٤٢٤ ، أبواب الربا ، باب ١ ، ح ٧.

(٦) « الفقيه » ج ٣ ، ص ٥٦٧ ، باب معرفة الكبائر ، ح ٤٩٣٧ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٤٢٤ ، أبواب الربا ، باب ١ ، ح ٨.

٨٩

من صنائع المعروف » (١).

وما رواه زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « إنّما حرّم الله عزّ وجلّ الربا لئلاّ يذهب المعروف » (٢).

وما رواه حمّاد بن عمر وأنس بن محمّد ، عن أبيه ، عن جعفر بن محمّد ، عن آبائه ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في وصيّته لعليّ عليه‌السلام قال : « يا علىّ الربا سبعون جزء أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمّه في بيت الله الحرام » (٣).

وما رواه ابن بكير قال : بلغ أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل أنّه كان يأكل الربا ويسمّيه اللبأ ، فقال عليه‌السلام : « لئن أمكنني الله منه لأضربنّ عنقه » (٤).

والروايات في هذا الباب كثيرة وشديدة.

ثمَّ إنّ الربا بالمعنى الذي ذكرنا له قد يكون في البيع ، وقد يكون في القرض ، ومورد هذه القاعدة هو الربا في البيع ، وأمّا الربا في القرض الذي سنتكلّم فيه ، فيثبت فيه مطلقا في أيّ جنس كان ، وإن لم يكن مكيلا ولا موزونا ، بل وإن كان معدودا مثلا ، فلو أعطى قرضا بيضة ببيضتين ، أو جوزا بجوزين ، وكذلك في غيرهما يكون من الربا المحرّم.

أمّا القسم الأوّل ، أي الربا في البيع ، فهو أن يبيع أحد المثلين بالآخر مع الزيادة إذا كانا من المكيل أو الموزون.

__________________

(١) « الفقيه » ج ٣ ، ص ٥٦٦ ، باب معرفة الكبائر ، ح ٤٩٣٥ ؛ « علل الشّرائع » ص ٤٨٢ ، ح ٢ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٤٢٤ ، أبواب الربا ، باب ١ ، ح ٩.

(٢) « الفقيه » ج ٤ ، ص ٥٦٦ ؛ باب معرفة الكبائر ، ح ٤٩٣٦ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٤٢٥ ، أبواب الربا ، باب ١ ، ح ١٠.

(٣) « الفقيه » ج ٤ ، ص ٣٦٧ ، باب النوادر وهو آخر أبواب الكتاب ، في وصايا النبيّ لعليّ عليه‌السلام ، ح ٥٧٦٢ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٤٢٦ ، أبواب الربا ، باب ١ ، ح ١٢.

(٤) « الكافي » ج ٥ ، ص ١٤٧ ، باب الربا ، ح ١١ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٤٢٨ ، أبواب الربا ، باب ٢ ، ح ١.

٩٠

فثبوت الربا في البيع يشترط فيه أمران :

الأوّل : اتّحاد جنس الثمن والمثمن.

والثاني : كونهما من المكيل أو الموزون.

والدليل على الأوّل ـ مضافا إلى صعوبة تصوير الزيادة إذا كانا من جنسين ـ الإجماع والأخبار.

نعم يمكن أن يكون أحد العوضين في نظر العرف وأهل الأسواق أكثر قيمة وماليّة ، فيكون لصاحبه خيار الغبن إذا كانت التفاوت فاحشا لا يتسامح فيه ، ولم يكن عالما بهذا التفاوت حال البيع ، وإلاّ فليس له حتّى الخيار. نعم لو كانت التفاوت بحدّ تعدّ مثل هذه المعاملة سفهيّا ، فيكون أصل المعاملة باطلا.

أمّا الإجماع ؛ فلاتّفاقهم على جواز بيع المتخالفين في الجنس ، أيّ مقدار من أحدهما بأيّ مقدار من الآخر نقدا ، ما لم يبلغ إلى حدّ كون المعاملة سفهيّا ، نعم قلنا أنّه يثبت خيار الغبن مع تفاوت قيمتها وجهل صاحب ما هو أزيد قيمة بالزيادة إذا كان التفاوت لا يتسامح فيه.

وأمّا الاخبار

فلقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم » (١) ؛ ولما رواه محمّد بن مسلم في حديث ، قال : « إذا اختلف الشيئان فلا بأس به مثلين بمثل يدا بيد » (٢).

والمراد من قوله عليه‌السلام : « يدا بيد » أي : نقدا.

ولما رواه جماعة عن الحلبي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « ما كان من طعام مختلف أو متاع شي‌ء من الأشياء يتفاضل فلا بأس ببيعه مثلين بمثل يدا بيد ، وأمّا نظرة‌

__________________

(١) « عوالي اللئالي » ج ٣ ، ص ٢٢١ ، ح ٨٦ ؛ « مستدرك الوسائل » ج ١٣ ، ص ٣٤١ ، أبواب الربا ، باب ١٢ ، ح ٤.

(٢) « تهذيب الأحكام » ج ٧ ، ص ٩٥ ، ح ٤٠٤ ، باب بيع الواحد بالاثنين وأكثر من ذلك ، ح ١٠ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٤٤٢ ، أبواب الربا ، باب ١٣ ، ح ١.

٩١

فلا يصلح » (١).

ومراده عليه‌السلام من الجملة الأخيرة هو ما قلنا بجواز بيع المختلفين في الجنس مثلين بمثل كيلا أو وزنا فيما إذا كانت المعاملة نقدا ، لا نظرة ونسيئة.

ولما رواه سماعة قال : سألته عن الطعام والتمر والزبيب ، فقال : « لا يصلح شي‌ء منه اثنان بواحد ، إلاّ أن يصرفه نوعا إلى نوع آخر ، فإذا صرّفته فلا بأس اثنين بواحد وأكثر من ذلك » (٢).

ولما رواه سماعة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « المختلف مثلان بمثل يدا بيد لا بأس » (٣).

ولما رواه عليّ بن جعفر ، عن أخيه موسى بن جعفر عليه‌السلام قال : سألته عن رجل اشترى سمنا ففضل له فضل ، أيحلّ له أن يأخذ مكانه رطلا أو رطلين زيتا؟ قال عليه‌السلام : « إذا اختلفا وتراضيا فلا بأس » (٤).

ولا شكّ في ظهور هذه الروايات بل نصوصيّتها في جواز بيع المتخالفين في النوع والجنس ، مع زيادة مقدار أحد العوضين عن الآخر في المقدار كيلا أو وزنا ، ولا فرق بين أن يكون الزيادة التي في أحدهما قليلة أو كثيرة ، لكن بشرط أن تكون المعاملة نقدا ويدا بيد ، لا نسيئة.

وقد ظهر ممّا ذكرنا أنّ الربا في البيع لا يثبت إلاّ بأمرين :

__________________

(١) « تهذيب الأحكام » ج ٧ ، ص ٩٣ ، ح ٣٩٦ ، باب بيع الواحد بالاثنين وأكثر من ذلك ، ح ٢ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٤٤٢ ، أبواب الربا ، باب ١٣ ، ح ٢.

(٢) « الفقيه » ج ٣ ، ص ٢٨١ ، باب الربا ، ح ٤٠١٤ ؛ « تهذيب الأحكام » ج ٧ ، ص ٩٥ ، ح ٤٠٦ ، باب بيع الواحد بالاثنين وأكثر من ذلك ، ح ١٢ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٤٤٣ ، أبواب الربا ، باب ١٣ ، ح ٥.

(٣) « الكافي » ج ٥ ، ص ١٩٠ ، باب المعاوضة في الطعام ، ج ١٧ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٤٤٤ ؛ أبواب الربا ، باب ١٣ ، ح ٩.

(٤) « قرب الإسناد » ص ١١٤ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٤٤٥ ، أبواب الربا ، باب ١٣ ، ح ١١.

٩٢

أحدهما : اتّحاد الثمن والمثمن في الجنس وأن يكونا من نوع واحد.

الثاني : كونهما ممّا يعتبر في بيعهما الكيل أو الوزن.

فلا بدّ من توضيح هذين الأمرين ، وأنّه ما المراد من اتّحاد الجنس والنوع في الشرط الأوّل ، وأنّه ما المناط في كون الشي‌ء مكيلا أو موزونا في الشرط الثاني ، فنقول :

أمّا المراد من اتّحاد الجنس والنوع في الشرط الأوّل‌ بعد الفراغ من أنّه ليس المراد به اتّحاد الجنس والنوع المنطقي أي تمام المشترك الذاتي بين الحقائق المختلفة المقول عليها ، ولا الكلّي المقول على الكثرة المتّفقة الحقيقة في جواب ما هم ؛ ، لعدم كون المناط في اتّحاد الجنس أو النوع هذا المعنى في باب الربا في البيع بالضرورة.

فقد يقال : إنّ المناط في اتّحاد الجنس والنوع هو كونهما بحسب الاسم متّحدين عند العرف ، بحيث لا يصح عندهم سلب الاسم الذي يطلق على أحدهما إطلاقا حقيقيّا عن الآخر.

ولا شكّ في أنّ هذا المعنى غير جار في أكثر موارد الربا ، فإنّ الشعير والحنطة مختلفان اسما ، ولا يصحّ إطلاق اسم أحدهما على الآخر إطلاقا حقيقيّا ، مع أنّهما يعدّان في الربا جنسا واحدا ، وكذلك السمسم مع الشيرج ، واللبن مع الأقط (١) أو الزبد ، وكذلك مع الجبن ، وكذلك الجبن معهما ، كما أنّه ربما يكون العوضان متّحدين في الاسم ومع ذلك لا يثبت الربا فيهما ، وذلك كلحم الغنم والبقر ، فكلاهما يطلق عليهما اللحم إطلاقا حقيقيّا ، ومع ذلك لا يجرى الربا فيهما فهذا الضابط غير تامّ لا كلية له : لا طردا ولا عكسا.

وربما يقال : بأنّ الضابط في اتّحاد جنس العوضين هو رجوعهما إلى أصل واحد ، وإن كانا فعلا بحسب الاسم مختلفين ، ولا يطلق اسم أحدهما على الآخر ، والأمثلة‌

__________________

(١) الأقط : لبن يابس مستحجر يتّخذ من مخيض الغنم. « القاموس المحيط » ج ٢ ، ٣٦٢.

٩٣

المذكورة التي قلنا يأتي فيها الربا مع عدم اتّحادهما في الاسم ، كلّها من هذا القبيل ، أي ترجع إلى أصل واحد.

إن قلت : إنّ ظاهر أدلّة حرمة الربا في المعاملات والمعاوضات هو بيع المثل بالمثل مع الاختلاف في المقدار ، ولا شكّ في أنّ الأقط والزبد ليسا مثلين للّبن ، وكذلك التمر والعنب مع الخلّ المصنوع من أحدهما.

قلنا : قد علّل الإمام عليه‌السلام إتيان الربا وجريانه في الشعير والحنطة بكونهما من أصل واحد :

ففي الكافي عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سئل عن الرجل يبيع الرجل الطعام الأكرار ، فلا يكون عنده ما يتمّ له ما باعه ، فيقول له خذ منّى مكان كلّ قفيز حنطة قفيزين من شعير حتّى تستوفي ما نقص من الكيل ، قال عليه‌السلام : « لا يصلح ، لأنّ أصل الشعير من الحنطة ، ولكن يردّ عليه الدراهم بحساب ما ينقص من الكيل » (١).

فقوله عليه‌السلام : « لأنّ أصل الشعير من الحنطة » تعليل لعدم جواز معاوضتهما بالزيادة ، وثبوت الربا ، فيؤخذ بعموم التعليل ، ويسري الحكم إلى كلّ مورد يكون انتهاء العوضين إلى أصل واحد ، وإن لم يكونا متّحدين في الاسم. وروى في الوسائل بهذا المعنى روايات كثيرة (٢).

ولكن هذا أيضا لا يخلو عن نظر وتأمّل ، وذلك من جهة أنّ انتهاء الثمن والمثمن ـ مثلا ـ إلى أصل واحد ، لو كان هو الضابط في اتّحاد الجنس وثبوت الربا ، يلزم أن لا يجوز بيع الملح الذي استحيل اللحم إليه باللحم متفاضلا في الكيل أو الوزن ، ولا يكمن للفقيه الالتزام بذلك.

__________________

(١) « الكافي » ج ٥ ، ص ١٨٧ ، باب المعاوضة في الطعام ، ح ١ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٤٣٨ ، أبواب الربا ، باب ٨ ، ح ١.

(٢) راجع « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٤٣٨ ، أبواب الربا ، باب ٧ : إنّ الحنطة والشعير جنس واحد في الربا لا يجوز التفاضل فيهما ويجوز التساوي.

٩٤

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّه ليس المراد هو صرف انتهائهما إلى أصل واحد وإن كانا متباينين في أغلب الجهات ، بل المراد أن يكونا بنظر العرف حقيقة واحدة ومن سنخ واحد ، بحيث يحكم العرف باتّحادهما وكونهما من جنس واحد ، وإن اختلفا في بعض الخواصّ والآثار ؛ فالدهن والزبد مثلا حقيقة واحدة ؛ لأنّ الدهن عبارة عن الزبد المذاب وإن كانا مختلفين في كثير من الخواصّ والآثار ، وكذلك الأقط واللبن.

وبعبارة أخرى : المشتقّات من حقيقة واحدة تعدّ في نظر العرف سنخا واحدا ، وإن كانت مختلفة في خواصّها وآثارها ، فالدبس والتمر مثلا عند العرف حقيقة واحدة.

نعم هذا الاتّحاد في بعض ما يرجع إلى أصل واحد أظهر ، وفي بعضها أخفى ، بل ربما يتخيّل العرف أنّهما حقيقتان مختلفان لو لا تنبيه الشارع بذلك وأنّهما من أصل واحد ، كما نبّه بذلك في اتّحاد جنس الشعير والحنطة فيما رواه الصدوق بإسناده أنّ عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام سئل ممّا خلق الله الشعير؟ فقال : « إنّ الله تبارك وتعالى أمر آدم أن ازرع ممّا اخترت لنفسك ، وجاءه جبرئيل عليه‌السلام بقبضة من الحنطة ، فقبض آدم عليه‌السلام على قبضة وقبضت حوّاء على أخرى ، فقال آدم عليه‌السلام لحوّاء : لا تزرعي أنت ، فلم تقبل من آدم فكلّما زرع آدم جاء حنطة ، وكلّما زرعت حوّاء جاء شعيرا » (١).

فما هو التحقيق في المقام هو أن يقال : إنّ المناط في كونهما من المتماثلين هو أن يكونا من نوع واحد بنظر العرف ، وإن كانا مختلفين بحسب الجودة والرداءة ، وكانا من صنفين ، أو كانا فرعين ومشتقّين من حقيقة واحدة ، كالدبس والخلّ ، حيث أنّهما مشتقّان من التمر أو العنب ، أو كانا فرعا مع أصله كالخبز مع الحنطة ، وهذا القسم الأخير يكون من المتماثلين فيما إذا لم يتبدّل الأصل إلى حقيقة أخرى بذهاب صورته النوعيّة واستحالته إلى نوع آخر كاللحم إذا تبدّل إلى الملح.

ثمَّ إنّه لا يخفى أنّ الفرعين من الحقيقتين ربما يشتركان في الاسم ، بل ربما يكونان‌

__________________

(١) « علل الشرائع » ج ٢ ، ص ٥٧٤ ، ح ٢ ؛ « مستدرك الوسائل » ج ١٣ ، ص ٣٤٤ ، أبواب الربا ، باب ١٧ ، ح ٢.

٩٥

بنظر العرف حقيقتهما واحدة كلحم البقر والغنم ، ولكن حيث أنّهما فرعان من حقيقتين مختلفتين لا يأتي فيهما الربا ، وإن كان أحدهما أزيد من الآخر بحسب المقدار كيلا أو وزنا ، بل المدار في التماثل والاختلاف هو الاتّحاد أو اختلاف حقيقتي أصليهما وبناء على هذا فزبد الغنم أو دهنه أو لبنه من المختلفين مع زبد البقرة أو دهنها أو لبنها وإن كانا بنظر العرف ربما يكونان من المتماثلين.

وأمّا خلّ التمر فيصحّ بيعه بخل العنب وإن كان أحدهما أزيد من الآخر بحسب الوزن أو الكيل ؛ لما ذكرنا من اختلاف أصليهما بحسب الحقيقة.

والدليل على ما ذكرنا من الضابط في تحقّق الربا هو الأخبار الواردة في هذا الباب ، والإجماعات المدّعاة في المقام. وقد تقدّم تعليل الإمام الصادق عليه‌السلام فيما رواه هشام بن سالم عنه عليه‌السلام عدم جواز بيع الشعير بالحنطة متفاضلا ، كأن يأخذ مشتري الحنطة من بائعها مكان كلّ قفيز من الحنطة قفيزين من شعير ، بأنّ أصل الشعير من الحنطة ، مشيرا بذلك إلى قصّة آدم وحوّاء وزرعهما الحنطة ، ومجي‌ء زرع حوّاء شعيرا. وقد تقدّم رواية الصدوق ذلك ، ولا شكّ في أنّ الأخذ بعموم هذا التعليل يوجب عدم جواز بيع كلّ فرع مع أصله مع التفاضل.

نعم خالف ابن إدريس قدس‌سره (١) في هذه المسألة ، وقال بجواز بيع الحنطة بالشعير متفاضلا ؛ لأنّهما جنسان ، وحكى الجواز عن ابن أبي عقيل أيضا ، واستدلّ على ذلك بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم » (٢).

ويدلّ أيضا على ما قال من الجواز رواية سماعة ، وكذلك رواية عليّ بن جعفر عليه‌السلام المتقدّمتان.

ولكن أنت خيبر بأنّ عموم التعليل مخصّص لهذه العمومات ، فلا يبقى وجه‌

__________________

(١) « السرائر » ج ٢ ، ص ٢٥٤.

(٢) « عوالي اللئالي » ج ٣ ، ص ٢٢١ ، ح ٨٦ ؛ « مستدرك الوسائل » ج ١٣ ، ص ٣٤١ ، أبواب الربا ، باب ١٢ ، ح ٤.

٩٦

لخلاف ابن إدريس.

هذا ، مضافا إلى الإجماع وورود روايات متعدّدة في خصوص المقام أي بيع الحنطة بالشعير أو العكس متفاضلا ، وقد عقد في الوسائل بابا لذلك ، إن شئت فراجع.

وأمّا المراد من المكيل والموزون في الشرط الثاني‌

أقول : أمّا مفهوم المكيل والموزون أو ما يكال ويوزن ، فواضح لا خفاء فيهما ؛ وذلك من جهة أنّ وقوع المعاملة على متاع لا يصحّ إلاّ بتعيين ذلك المتاع ، كي لا يكون مجهولا وغرريّا. وارتفاع الغرر والجهل عند العرف والعقلاء يختلف بالنسبة إلى الأمتعة وما يقع عليه المعاوضة والمعاملة ، ففي بعضها بالمشاهدة ، وفي بعضها بالتوصيف وبيان الخصوصيات ، وفي بعضها بالذرع ، وفي بعضها بالعدد ، وفي بعضها بالكيل أو الوزن ، وكلامنا في هذا القسم الأخير ، أي فيما لا يصحّ المعاملة فيها إلاّ بالكيل أو الوزن ، وقد ذكرنا أنّ هذين المفهومين ـ أي الكيل والوزن ـ من المفاهيم الواضحة التي لا تحتاج إلى الشرح والإيضاح.

نعم حيث أنّ المكيليّة والموزونيّة عند العرف والعقلاء في باب المعاوضات والمعاملات تختلف بحسب الأزمنة والبلاد ، فربّ متاع يكون من المكيل أو الموزون في زمان ومن المعدود في زمان آخر ، وكذلك بالنسبة إلى البلاد فيكون من المعدود في بلد ومن الموزون في بلد آخر.

فبعد قيام الحجة على اشتراط ثبوت الربا في المعاملات ـ عدا القرض ـ بأن يكون العوضان من المكيل أو الموزون ، والمفروض اختلافهما باختلاف الأزمنة والأمكنة ، فيبقى مجال للكلام في أنّه هل المدار على كونهما ـ أي العوضين ـ من المكيل والموزون في زمان الشارع ، أو في زمان وقوع المعاملة. وكذلك الأمر في اختلاف البلاد ، هل المدار هو عرف البلد الذي صدرت فيه هذه الروايات التي تدلّ على اعتبار‌

٩٧

هذا الشرط في خصوص زمان الصدور ، أو مطلقا ، أو المدار على عرف البلد الذي تقع فيه هذه المعاملة؟

أقول : لا شكّ في أنّ تشخيص المراد وتعيينه من الألفاظ المستعملة في الروايات يكون بما يفهمه العرف منها ، بعد الفراغ عن أنّ الشارع لم يخترع طريقة خاصّة للتفهيم ، بل يلقى مراداته إلى المكلّفين على طريقة أهل المحاورة والعرف.

فبناء على هذا مقتضى القواعد الأوّليّة هو أن يكون المراد منهما ما هو المكيل والموزون في زمان الشارع وفي لسانه وعرف بلده ، ولعلّه لذلك ادّعى بعضهم الإجماع على أنّ ما كان موزونا أو مكيلا في زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدخل فيه الربا وإن تغيّر فيما بعد وصار معدودا ، كما أنّ الخبز كان موزونا والآن في زماننا صار معدودا في بعض البلاد.

فبناء على هذا ، المدار في الكيل والوزن هو المكيليّة والموزونيّة في زمانه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الأجناس التي كانت في زمانه وبلاده ، وأمّا الأجناس التي لم تكن في ذلك الزمان كالطماطة والبطاطة فيعتبر حالها بالنسبة إلى البلد التي يقع البيع في ذلك البلد ، فإن كانت مكيلة أو موزونة فيدخل فيه الربا ، وإلاّ فلا.

وقد ذكر العلاّمة قدس‌سره في التذكرة : أنّه قد أجمع المسلمون على ثبوت الربا في الأشياء الستّة ؛ لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « الذهب بالذهب مثلا بمثل ، والفضّة بالفضّة مثلا بمثل ، والتمر بالتمر مثلا بمثل ، والبرّ بالبرّ مثلا بمثل ، والملح بالملح مثلا بمثل ، والشعير بالشعير مثلا بمثل ، فمن زاد أو ازداد فقد أربى ، بيعوا الذهب بالفضّة كيف شئتم يدا بيد ، وبيعوا البرّ بالتمر كيف شئتم يدا بيد ، وبيعوا الشعير بالتمر كيف شئتم يدا بيد » واختلف فيما سواها (١).

ثمَّ ذكر اختلاف الفقهاء في بعض الفروع ، ثمَّ قال بلزوم الأخذ بإطلاق قوله‌

__________________

(١) « تذكرة الفقهاء » ج ١ ، ص ٤٧٦.

٩٨

تعالى ( وَحَرَّمَ الرِّبا ) (١) في موارد الشكّ إلاّ أن يثبت التقييد.

والتحقيق : دخول الربا في هذه الأجناس الستّة التي صرّح صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدخول الربا فيها ، سواء كانت في الأزمنة المتأخّرة عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يباع بالكيل أو الوزن أم لا ؛ وذلك لجعله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم موضوع الحكم نفس هذه العناوين من دون تعليقه على كونها مكيلة أو موزونة ، واحتمال أن يكون الحكم لأجل كونها من المكيل أو الموزون لا شاهد له.

وأمّا ما عداها ، فإن كان في عصره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المكيل أو الموزون ، فيدخل فيه الربا مع اتّحاد الجنس ، أو كان العوضين فرعا للعوض الآخر كالدبس مع التمر مثلا ، أو كان العوضان فرعين لجنس واحد كما إذا باع الدبس بالخلّ ، إذا كان كلاهما من فروع التمر مثلا ، أو كان كلاهما متّخذين من العنب مثلا ؛ للإجماع.

وأمّا لو لم يكن في عصره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المكيل والموزون ، فدخول الربا فيه مشروط بكونه من المكيل أو الموزون حال وقوع المعاملة.

وأمّا لو كان مختلفا بحسب البلاد ، بأن يكون في بلد من المكيل أو الموزون وفي بلد آخر من المعدود ، كما في الخيار والبرتقال في هذا الزمان ، فإنّهما في بعض البلاد يباع بالوزن ، وفي بعض البلاد يباع بالعدد ، فيلحقه في كلّ بلد حكم ما هو المتعارف في ذلك البلد.

ففي البلد الذي يباع بالكيل أو الوزن يدخل فيه الربا بشرط أن يكون العوضان من المتّحد في الجنس ، أو كان رجوعهما إلى جنس واحد ؛ وذلك من جهة أنّ مفاد قوله عليه‌السلام : « لا يكون الربا إلا فيما يكال أو يوزن » (٢) هو أنّ دخول الربا في معاملة منوط بأن يكون العوضان المتّحدان في الجنس ممّا يكال أو يوزن.

__________________

(١) البقرة (٢) : ٢٧٥.

(٢) « الكافي » ج ٥ ، ص ١٤٦ ، باب الربا ، ح ١٠ ؛ « الفقيه » ج ٣ ، ص ٢٧٥ ، باب الربا ، ح ٣٩٩٦ ؛ « تهذيب الأحكام » ج ٧ ، ص ١٧ ، ح ٧٤ ؛ وص ١٩ ، ح ٨١ ؛ وص ٩٤ ، ح ٣٩٧ ؛ وص ١١٨ ، ح ٥١٥ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٤٣٤ ، أبواب الربا ، باب ٦ ، ح ١ و ٣.

٩٩

فهذا حكم كلّي مجعول بنحو القضيّة الحقيقيّة على الموضوع المقدّر وجوده ، فمتى وجد مصداق في الخارج لهذا الموضوع الكلّي المقدّر وجوده ، يصير حكمه فعليا ، كما هو الشأن في جميع القضايا الحقيقيّة ، وقد أوضحنا في محلّه (١) أنّ جعل جميع الأحكام الشرعيّة يكون على نهج القضايا الحقيقيّة.

ومقتضى ما ذكرنا هو أنّه لو كان العوضان من المكيل والموزون في زمان الشارع ، ولم يكن منهما في هذا الزمان عدم دخول الربا في تلك المعاملة ؛ لأنّه من تبدّل موضوع الحكم. كما أنّه بالعكس لو كانا من المكيل أو الموزون في هذا الزمان ولم يكونا منهما في زمان الشارع ، يجب الحكم بدخول الربا ؛ لتحقّق الموضوع ، ومعلوم أنّ وجود الحكم وتحقّقه تابع لوجود موضوعه وتحقّقه.

ولكن تقدّم أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رتّب الحكم في تلك الستّة المتقدّمة على نفس عناوينها ، أي عنوان البرّ والشعير والتمر والملح والفضّة والذهب ، فمتى وجدت هذه العناوين ، أي صار العوضان من أحدها ، يترتّب الحكم ، سواء كان من المكيل أو الموزون ، أو لم يكن.

وأمّا بالنسبة إلى غيرها ، فإن كان من المكيل أو الموزون في عصره فيدخل فيه الربا إلى يوم القيامة وإن تبدّل وصار من غيرهما في الأزمنة المتأخّرة ، مع أنّه خلاف ما ذكرنا من جعل الأحكام على نحو القضايا الحقيقيّة ؛ وذلك للإجماع الذي ادّعوه في المقام.

فإن ثبت الإجماع فهو ، وإلاّ فللكلام مجال بأن يقال : بأنّ صرف كونه من المكيل والموزون في زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع عدم كونه منهما في زمان وقوع المعاملة لا يوجب دخول الربا فيه ، بل مقتضى القاعدة المتقدّمة ، وهو جعل الأحكام على نهج القضايا الحقيقيّة ، هو كونه من المكيل أو الموزون في زمان وقوع المعاملة ، وإلاّ لا يدخل‌

__________________

(١) « منتهى الأصول » ج ١ ، ص ١٥٧.

١٠٠