القواعد الفقهيّة - ج ٥

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي

القواعد الفقهيّة - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي


المحقق: مهدي المهريزي
الموضوع : الفقه
الناشر: نشر الهادي
المطبعة: مؤسسة الهادي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-400-030-7

الصفحات: ٣٩٢

وإن شئت قلت : إنّ إرجاع المال إلى نفسه وإخراجه عن ملك طرفه بالفسخ متوقّف على عدم كونه ملكا لذلك الطرف حال الإخراج ، وعدم كونه ملكا له في ذلك الحال متوقّف على الإخراج بذلك الفسخ ، إذ ليس سبب آخر في البين على الفرض ، فالإخراج بذلك الفسخ متوقّف على نفسه ، نعم شمول هذا الحديث للفسخ في العقد المشكوك اللزوم منوط بالقول بحصول الملكيّة بعد تماميّة العقد ، كما هو الصحيح.

ثمَّ إنّه لا يخفى أنّ دلالة هذا الحديث على اللزوم يشمل جميع المعاملات ، سواء كانت عقديّة أو بالمعاطاة ، بناء على حصول الملكيّة بالمعاطاة ، كما هو الصحيح. وأمّا بناء على أنّها مفيدة للإباحة من دون حصول ملكيّة في البين ، فلا ؛ لأنّه بناء على القول بالإباحة لا يكون المباح له ماله ، كي يقال بأنّه لا يمكن إرجاعه بدون طيب نفسه ، وكذلك لا يشمل المعاملات التي ليست مملّكة كالنكاح ـ مثلا ـ وإن كان عقدا ، وهو واضح.

وممّا تقدّم ذكره يظهر أنّ دلالة هذا الحديث على لزوم المعاملات المملّكة في غاية الوضوح ، ولا فرق بين وقوع تلك المعاملات بالعقد أو بالمعاطاة ؛ ولذلك قلنا في مبحث بيع المعاطاة أنّ مقتضى القاعدة المتّخذة من الروايات ، بل بناء العقلاء لزوم بيع المعاطاة ، ولكن الذي أخرجنا عن الالتزام بهذه القاعدة هو دعوى الإجماع من جمع من أعاظم الفقهاء.

ومنها : قوله عليه‌السلام : « الناس مسلّطون على أموالهم » (١).

بيان ذلك : أنّ السلطنة على المال التي أمضاها الشارع ـ لأنّ العرف والعقلاء أيضا يعتبرون المالك ذا سلطان على ماله ـ أعمّ من السلطنة على التصرّفات التكوينيّة ـ كالأكل والشرب واللبس والركوب والسكنى ، وهكذا في المأكولات‌

__________________

(١) « سنن الكبرى » ج ٦ ، ص ١٠٠ ؛ « سنن الدار قطني » ج ٣ ، ص ٢٦ ، ح ٩١ ؛ « تذكرة الفقهاء » ج ١ ، ص ٤٨٩ ؛ « عوالي اللئالي » ج ٣ ، ص ٢٠٨ ، ح ٤٩.

٢٢١

والمشروبات والملبوسات والمركوبات والمساكن ، وهكذا الأمر في غير المذكورات ـ ومن السلطنة على التصرّفات التشريعيّة ، كالبيع والهبة والوقف والصلح ، وأمثال تلك العناوين ممّا توجد بإنشاءاتها في عالم الاعتبار التشريعي.

وبعبارة أخرى : كما أنّ المالك في نظر العرف والعقلاء ذو سلطان على التصرّفات التكوينيّة ، كذلك في نظرهم له السلطنة بالنسبة إلى التصرّفات في عالم اعتبارهم ، كأنواع المعاملات والمبادلات الواقعة عليه عندهم ، وقد أمضى الشارع هذه السلطنة التي عند العرف تكوينا وتشريعا ، ولا شكّ في أنّ العرف والعقلاء كما أنّهم يرون جواز كلا القسمين من التكوينيّة والتشريعيّة للمالك عندهم ، كذلك يرون له حقّ منع الغير عن التصرّف بكلا قسميه ، أي يرون له ـ مثلا ـ حقّ المنع عن أكله وعن بيعه أو هبته.

فبناء على أن يكون مفاد هذا الحديث الشريف إمضاء ما عليه العرف ، كما هو الظاهر منه ، يكون مفاده أنّ للمالك بعد العقد حق المنع عن إرجاع المالك الأوّل هذا المال الذي خرج عن ملكه إلى نفسه ثانيا بواسطة الفسخ ، ومرجع هذا إلى عدم تأثير الفسخ ، وهذا هو اللزوم.

وممّا ذكرنا يظهر فساد ما ربما يقال بأنّ موضوع هذه السلطنة ومتعلّقها هو أن يكون ماله ، وبعد الفسخ كونه ماله مشكوك ، لاحتمال عدم اللزوم وتأثير الفسخ.

وذلك من جهة أنّه بناء على ما ذكرنا ليس لغير المالك بدون إذنه ورضاه حقّ الفسخ ؛ لأنّ الفسخ أيضا من التصرّفات الاعتباريّة التي قلنا إنّ للمالك منعه عنها ، وهذا دليل على عدم تأثير الفسخ ، فيكون موضوع السلطنة الذي هو عنوان ماله موجودا ، فيشمله الحديث.

وخلاصة الكلام في هذا المقام هو أنّ المالك هل له السلطنة على أنحاء التصرّفات في ماله فقط ، غاية الأمر أعمّ من التكوينيّة والتشريعيّة ، أم لا ، بل له أيضا مضافا إلى ذلك حقّ منع الغير عن التصرّف في ماله ، وإن كان التصرّف اعتباريّا كإيقاع‌

٢٢٢

المعاملات عليه ، بمعنى أنّ تصرّفات غير المالك بدون إذن المالك ورضاه إن كان تصرّفا خارجيّا في المال يكون حراما ؛ لقوله عليه‌السلام : « لا يحلّ مال امرئ مسلم إلاّ بطيب نفسه » وأمّا إن كان تصرفا اعتباريّا وفي عالم المعاملات والمبادلات الاعتباريّة ، فيكون تلك التصرّفات لغوا لا أثر لها ، كالتصرّفات التي تصدر من الفضولي ، وحيث أنّها بدون إجازة المالك وإذنه فلا أثر لها وإن لم يكن حراما.

فالتصرّفات التكوينيّة في مال الغير حرام ، سواء كان بإتلاف نفسه أو شي‌ء من أوصافه ، أو من منافعه ، أو باستيفاء منافعه ، أو بحبس تلك المنافع عن مالكه ، كلّ ذلك بقاعدة الإتلاف ، أو قاعدة على اليد ؛ ففي جميع ذلك يكون الأمران ، أي الحرمة التكليفيّة والضمان وضعا ؛ وذلك من جهة أنّ التصرّف التكوينيّ تنطبق عليه إحدى هاتين القاعدتين ، أي الإتلاف وعلى اليد غالبا.

وأمّا التصرّفات الاعتباريّة ، أي نقلها بالإنشاءات المعهودة من العقود والإيقاعات ، فمن حيث أنّها فعل غير المالك وأمر خارجي لا مساس لها بمال الغير ، ومن حيث منشآتها أمور اعتباريّة لا وجود لها في عالم الاعتبار ، ويحتاج وجودها في عالم الاعتبار الشريعيّ أيضا إلى إذن المالك أو إجازته ، والمفروض فيما نحن فيه ـ أي الفسخ ـ أنّه بدون إذن المالك وإجازته ، فلا يوجد في عالم الاعتبار التشريعي فيكون لغوا لا أثر له ، فيبقى المال في ملك من ملك بالعقد ، وهذا دليل على البقاء من دون حاجة إلى الاستصحاب.

فموضوع السلطنة باق وموجود ، والنتيجة حيث أنّ الفسخ يتعلّق بمال الغير بدون إذنه ورضاه ، فلا أثر له.

إن قلت : إنّ ما ذكر صحيح إن كان الفسخ عبارة عن إرجاع المال واسترداد ما انتقل منه إلى طرفه ، فحينئذ يمكن ان يقال : حيث أنّ الطرف مسلّط على ماله ، فله المنع عن إرجاع ماله إلى صاحبه الأوّل بدون إذنه ورضاه ، وأمّا لو كان الفسخ عبارة عن‌

٢٢٣

حلّ العقد ونقض العهد ، كما هو الصحيح وعليه بنى المحقّقون في مبحث الخيارات ، فليس للفسخ علاقة وتعلّق بالمال المنتقل إلى طرف الفاسخ كي يقال بأنّه بدون إذن مالكه يكون منافيا مع السلطنة المطلقة التي للمالك التي هي مفاد هذا الحديث الشريف.

قلنا : إنّ السلطنة المطلقة التامّة للمالك على ماله التي ثابتة له عند العرف والعقلاء ، ومفاد هذا الحديث وهو إمضاء ما عند العرف ، تنافي إمكان إرجاع ماله بدون إذنه وإجازته ، ولو كان بتوسط حلّ العقد ، فقاعدة تسلط الناس على أموالهم في نظر العرف والعقلاء تمنع عن انحلال العقد بفسخه ، وتبيّن عدم قدرته في عالم التشريع على حلّ العقد الذي يكون سببا لخروج ماله عن ملكه بدون رضاه وإجازته.

وإن شئت قلت : إنّ الفسخ بعنوانه الأوّلى حلّ العقد ، وبعنوانه الثانوي إرجاع كلّ واحد من العوضين إلى مالكه الأوّل ، فإذا كان الإرجاع والإخراج عن ملكه بدون إذنه منافيا لسلطنته ، فالسبب الذي يترتّب عليه هذا الأمر أيضا يكون منافيا لسلطنته ، فيكون منفيّا بهذا الحديث ، فهما ضدّان ، أي قدرته على حلّ العقد مع كون طرفه ذا السلطنة المطلقة التّامة ضدّان ، فلا يصحّ جعلهما ، وحيث أنّ السلطنة ثابتة بهذا الحديث ، فلا بدّ وأن نقول بعدم قدرته شرعا على حلّ العقد الذي هو مناف بهذه السلطنة.

نعم لو قلنا بأنّ المالك له السلطنة فقط على أنواع التصرّفات في ماله ، وأمّا منعه للغير فلا ، فحينئذ يمكن أن يقال بجواز حلّ العقد بالفسخ ، وإن كان أثره إرجاع كلّ واحد من العوضين إلى صاحبه الأوّلي على رغم المالك الفعلي بالعقد.

ولكنّك خبير بأنّ هذا الاحتمال بعيد عن الصواب ، والنتيجة أنّه ليس لكلّ واحد من الطرفين فسخ العقد وحلّه ، إلاّ أن يكون بجعل منهما ، أو بجعل من قبل الشارع كخيار المجلس ، أو كان العقد من العقود الجائزة بالذات كالعقود الإذنيّة التي قلنا‌

٢٢٤

إطلاق العقد عليها إطلاق عنائي مسامحي ، ولو فسخ لا يؤثّر ، وهذا معنى اللزوم.

وممّا ذكرنا ظهر أنّ تفصيل شيخنا الأستاذ قدس‌سره في المقام بين أن يكون الخيار ، أي ملك فسخ المعاملة وإقرارها متعلّقا بالعقد أو بالعين ـ فقال في الأوّل إنّ في مورد الشكّ لا يمكن التمسّك بهذه القاعدة لإثبات اللزوم ؛ لأنّ الفسخ لا يرجع إلى تصرّف غير المالك في العين المملوكة لغيره كي يكون منافيا مع سلطنة ذلك الغير على ماله ؛ وذلك لأنّ الخيار يبطل التبديل الواقع من المتعاقدين من دون إرجاعه للعين ، وإنّما يكون رجوعها يحصل قهرا بواسطة حلّ العقد. وأمّا في الثاني ، أي في صورة القول بأنّ الخيار متعلّق بالعين ، فيجوز التمسّك بهذه القاعدة في مورد الشكّ لإثبات اللزوم ، لمنافاة الخيار بناء على هذا مع سلطنة الطرف على منع الغير عن التصرّف في ماله ، وإن كان بإخراجه عن ملكه ـ ليس كما ينبغي.

ومنها : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « المؤمنون عند شروطهم » (١).

ودلالة هذا الحديث الشريف على المطلوب مبنيّ على أمرين :

أحدهما : شمول الشرط للعقود الابتدائيّة ، بمعنى أن يكون المراد منه مطلق الإلزام والالتزام ، وإلاّ لو كان خصوص الإلزام أو الالتزام في ضمن العقود فلا يشمل العقود الابتدائيّة ، وذلك واضح.

ولا يخفى أنّ إثبات هذا المعنى ، أي كون المراد منه مطلق الإلزام والالتزام موقوف إمّا على كون هذا المعنى معنى حقيقيّا لهذه الكلمة ، وإمّا أن يكون في المقام قرينة على إرادة هذا المعنى مجازا. والثاني واضح عدمه ، وأمّا الأوّل فلا طريق له إلاّ انسباق هذا المعنى إلى أذهان أهل العرف في موارد الاستعمالات ، والظاهر أيضا عدمه بل الذي‌

__________________

(١) « تهذيب الأحكام » ج ٧ ، ص ٣٧١ ، ح ١٥٠٣ ، باب المهور والأجور و ... ، ح ٦٦ ؛ « الاستبصار » ج ٣ ، ص ٢٣٢ ، ح ٨٣٥ ، باب من تزوّج المرأة على حكمها في المهر ، ح ٤ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٥ ، ص ٣٠ ، أبواب المهور ، باب ١٩ ، ح ٤.

٢٢٥

ينسبق إلى الذهن من هذه اللفظة في موارد الاستعمالات هو ما يكون له ارتباط وعلاقة بشي‌ء آخر وجودا أو عدما.

وأمّا ما ذكره في القاموس (١) من أنّه الإلزام والالتزام في ضمن البيع ، فهو تعريف بالأخصّ ببيان بعض مصاديقه ، وإطلاق الأصوليّين مفهوم الشرط في قولهم أنّ للقضيّة الشرطيّة مفهوم يرجع إلى هذا المعنى ، بمعنى أنّ وجود التالي مربوط ومعلول لوجود المقدّم ، فيلزم من عدمه العدم ، وكذا قول المنطقيّين في باب القضايا القضيّة الشرطيّة وتقسيمها إلى المتّصلة والمنفصلة ، وقول النحويّين أنّ كلمة « إن » و « متى » وأمثالهما أداة الشرط ، كلّها يرجع إلى ما قلنا من أنّه يطلق على ما فيه نحو ارتباط بغيره.

فالالتزامات الابتدائيّة وكذلك إلزاماتها التي لا ربط بينها وبين غيرها لا يطلق عليها الشرط إطلاقا حقيقيّا ، ولذلك قلنا إنّ الشروط الابتدائيّة التي ليست في ضمن عقد لازم لا يجب الوفاء بها ؛ لعدم شمول قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « المؤمنون ـ أو المسلمون ـ عند شروطهم » لتلك الشروط ؛ لعدم انطباق مفهوم الشرط بمعناه الحقيقي عليها ، لا أنّ عدم وجوب الوفاء بها لأجل وجود المخصّص ، وهو الإجماع على عدم لزوم الوفاء بها.

وخلاصة الكلام : أنّ القول بأنّ الإلزامات والالتزامات الابتدائيّة شروط بالمعنى الحقيقي ، ممّا لا يساعد عليه الوجدان وفهم العرف.

وأمّا إطلاق الشرط في بعض الأخبار على بعض الأحكام الشرعيّة ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « شرط الله قبل شرطكم » (٢) أي : كون الولاء لمن أعتق ، أو قوله عليه‌السلام : « في الحيوان كلّه شرط ثلاثة أيّام » (٣) وأمثالهما ، فالظاهر أنّ ليس المراد منهما الجعل الابتدائي من دون‌

__________________

(١) « القاموس المحيط » ج ٢ ، ص ٣٨١ ( شرط ).

(٢) « تفسير العيّاشي » ج ١ ، ص ٢٤٠ ، ح ١٢١ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٥ ، ص ٣١ ، أبواب المهور ، باب ٢٠ ، ح ٦.

(٣) « الفقيه » ج ٣ ، ص ٢٠١ ، باب الشرط والخيار في البيع ، ح ٣٧٦١ ؛ « تهذيب الأحكام » ج ٧ ، ص ٢٤ ، ح ١٠١ ، باب عقود البيع ، ح ١٨ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٣٤٩ ، أبواب الخيار ، باب ٣ ، ح ١.

٢٢٦

ملاحظة ارتباطه مع غيره كما توهّم ، إذ يمكن أن يكون المراد منهما هو الجعل الإلهي بملاحظة كون العمل بما ألزم فعله أو تركه ، وامتثاله بالإيجاد في الأوّل والترك في الثاني ، وترتيب الأثر في الوضعيّات شرطا لدخول الجنّة.

فكأنّ الله تبارك وتعالى جعل امتثال أحكامه والعمل بها مقدمة وشرطا لدخول الجنّة ، ولعلّ بهذا الاعتبار يقول جلّ جلاله ( إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ) (١) وأيضا قوله تعالى ( تِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها ) (٢) وأيضا قوله تعالى ( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ ) (٣).

وخلاصة الكلام : أنّه يظهر من الآيات والأخبار أنّ الأحكام الشرعيّة ـ وضعيّة وتكليفيّة ـ امتثالها والعمل على طبقها وترتيب الأثر عليها في الوضعيّات شروط في عالم العهد والميثاق الذي يعتبر عنه بعالم الذّر في الأخبار من قبل الله تعالى لدخول الجنّة التي وعد بها المتّقون.

والحاصل : أنّ القول بأنّ الشرط بحسب مفهومه العرفي وما هو معناه الحقيقي يشمل مطلق الجعل الابتدائي كي يكون جميع العقود الابتدائيّة من مصاديق ذلك المفهوم ، ممّا ينكره الوجدان وما هو المتفاهم العرفيّ من هذه الكلمة.

ثانيهما : أن تكون هذه الجملة دالّة على وجوب الوفاء بالشروط تكليفا أو وضعا ، فيكون معناها أنّه يجب الوفاء على المؤمنين بشروطهم ، فيكون مساقها مساق ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) بعد هاتين المقدّمتين ، أي كون الشروط عبارة عن مطلق الإلزامات والالتزامات ، وكون معنى الجملة وجوب الوفاء بتلك الإلزامات والالتزامات ، وقد تقدّم شرح دلالة ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) على اللزوم.

__________________

(١) التوبة (٩) : ١١١.

(٢) التوبة (٩) : ٢٤.

(٣) يس (٣٦) : ٦٠.

٢٢٧

والإنصاف أنّ هذه المقدمة الثانية لا إشكال فيها.

بيان ذلك : أنّ قوله « عند شروطهم » ظرف لغو متعلّق بأفعال العموم ، وهذا ظاهر الكلام لا يحتاج إلى الدليل ، كما بيّنّا ذلك في نظائره ، مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه » (١).

فتقدير الكلام أنّ المؤمنين أو المسلمين ثابتون أو واقفون أو مستقرّون ـ وأمثال ذلك ـ عند شروطهم ، فهي إمّا من قبيل إنشاء الحكم بصورة الأخبار الذي هو آكد في الوجوب من الجملة الطلبيّة الإنشائيّة ، كما قرّرناه في الأصول ، فيكون المعنى : يجب الثبوت عند الشروط وعدم الخروج عمّا التزم به ، وهذا المعنى من لوازم اللزوم.

وإمّا مفاده يكون ابتداء هو الحكم الوضعي ، بأن يكون الحكم بالثبوت كناية عن اللزوم. ويدلّ عليه استشهاد أمير المؤمنين عليه‌السلام بهذه الجملة في قوله « من شرط لامرأته بشرط فليف لها به ، فإنّ المسلمين عند شروطهم ، إلاّ ما أحلّ حراما أو حرّم حلالا » (٢) فتمسّك بهذا الحديث النبويّة لوجوب الوفاء.

وعلى كلّ تقدير يكون مفاد الجملة هو اللزوم على تقدير صحّة المقدّمتين.

لكن عرفت أنّ صحّة المقدّمة الأولى في غاية الإشكال ، بل مناف للوجدان ؛ فلا دلالة لهذا الحديث الشريف على وجوب الوفاء بكلّ عقد كي يكون مفاده لزومها.

نعم يدلّ على وجوب الوفاء بالشروط الضمنيّة التي تقع في ضمن العقود اللازمة.

ومنها : الأخبار الكثيرة الواردة في لزوم البيع بعد التفرّق عن مجلس المعاملة ، بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « البيّعان بالخيار ما لم يفترقا » وإذا تفرّقا ـ أو « إذا افترقا » على اختلاف‌

__________________

(١) « سنن أبي داود » ج ٣ ، ص ٢٩٦ ، ح ٣٥٦١ ، « سنن ابن ماجه » ج ٢ ، ص ٨٠٢ ، ح ٢٤٠٠ ؛ « مسند احمد » ج ٥ ، ص ٨ و ١٣ ؛ « سنن البيهقي » ج ٦ ، ص ٩٥.

(٢) « تهذيب الأحكام » ج ٧ ، ص ٤٦٧ ، ح ١٨٧٢ ، باب الزيادات وفقه النكاح ، ح ٨٠ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٣٥٣ ، أبواب الخيار ، باب ٦ ، ح ٥.

٢٢٨

طرق نقل الحديث الشريف ـ وجب البيع ولا خيار بعد الرضا » (١).

والمراد من الرضا في الحديث الشريف هو الرضا المعاملي ، أي اختيار المعاملة من غير كره ولا إجبار عليها ، لا طيب النفس ؛ وذلك لأنّ كثيرا من المعاملات ليست عن طيب نفس ، بل الحاجة والضرورة دعته إلى إيقاع المعاملة ، وعلى كلّ حال الذي لا يمكن إنكاره دلالة الحديث الشريف على لزوم البيع بعد انقضاء المجلس وحصول الافتراق بين المتبايعين ، وبناء على هذا إذا طرأ شكّ في لزوم البيع بعد حصول الافتراق لعروض حالة أوجبت الشكّ ، نتمسّك بهذه الأخبار للزومه وعدم الاعتناء بالشكّ.

وأمّا ما توهّم من أنّ الشارع جعل الافتراق غاية لهذا الخيار الخاصّ ، أي خيار المجلس ، ولا ينافي ذلك ثبوت الخيار من جهة أخرى إذا جاء الدليل عليه ، فليس أدلّة سائر الخيارات مخصّصا لهذا العموم ، وفي الحقيقة لا عموم في البين يدلّ على اللزوم مطلقا ، بل اللزوم يكون من ناحية خاصّة ، أي تماميّة خيار المجلس بحصول الافتراق فقط ، فلو احتملنا وجود خيار من ناحية أخرى ليس عموم يرفع الشكّ.

فعجيب من جهة أنّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « إذا افترقا وجب البيع » بعد قوله : « البيّعان بالخيار ما لم يفترقا » ظاهره وجوب البيع ولزومه من جميع النواحي ، ولا وجه لتقييده بناحية هذا الخيار ، أي خيار المجلس ، وإلاّ لو فتح هذا الباب لانسدّ باب التمسّك بالإطلاقات في جميع الموارد ، خصوصا بملاحظة قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « ولا خيار بعد الرضا » الذي نفي فيه جنس الخيار بلا النافية للجنس ، فيكف يمكن أن يقال إنّ المنفي هو انتفاء هذا الخيار فقط ، ولا يدلّ على انتفاء مطلق الخيار بحصول التفرّق.

__________________

(١) « الكافي » ج ٥ ، ص ١٧٠ ، ح ٤ ـ ٦ ؛ « التهذيب » ج ٧ ، ص ٢٤ ، ح ١٠٠ وج ٧ ، ص ٢٠ ، ح ٨٥ ؛ « الاستبصار » ج ٣ ، ص ٧٢ ، ح ٢٤ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٣٤٥ ، أبواب الخيار ، باب ١ ، ح ١ ـ ٣ ؛ « صحيح البخاري » ج ٣ ، ص ٨٤ ؛ « سنن النسائي » ج ٧ ، ص ٢٤٨ ؛ « صحيح مسلم » ج ٣ ، ص ١١٦٣ ؛ « سنن ابن ماجه » ج ٢ ، ص ٧٣٦ ، ح ٢١٨٢ ؛ « سنن الترمذي » ج ٣ ، ص ٥٤٧ ، ح ١٢٤٥.

٢٢٩

فالحقّ أنّ هذا الحديث يدلّ على اللزوم مطلقا ومن جميع النواحي ، لا من ناحية خيار المجلس فقط ، فأدلّة سائر الخيارات تكون من قبيل المخصّصات والمقيّدات لهذا العموم والإطلاق. نعم هذه الرواية أو الحديث لا تدلّ على اللزوم إلاّ في البيع ، وأمّا في سائر العقود والمعاملات فلا بدّ من التماس دليل آخر على اللزوم.

ثمَّ بعد ما عرفت ما ذكرنا تعرف أنّ مقتضى هذه العمومات والإطلاقات ، هو كون الأصل في أبواب العقود والمعاملات هو اللّزوم ، ولا يؤثّر الفسخ إلاّ بدليل خاصّ لأدلّة الخيارات ، فأصالة اللزوم حيث أنّها من باب أصالة الإطلاق أو أصالة العموم ، فهي قابلة للتقييد والتخصيص ، والمخصّصات هي أدلّة الخيارات.

ثمَّ إنّ مفاد الإطلاقات والعمومات المذكورة مختلفة من حيث السعة والضيق.

فالعموم الأوّل ـ أي بناء العقلاء ـ أوسع وأشمل من الجميع ؛ إذ يشمل جميع العقود والمعاهدات ، معاوضيّة كانت أو غير معاوضية ، مملّكة كانت أو غير مملّكة ، بل يشمل الإيقاعات أيضا.

وأمّا الثاني : أي قوله تعالى ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) يشمل جميع العقود مطلقا ولا يشمل الإيقاعات ، وأمّا خروج العقود الإذنيّة عن مفادها ، فقد قلنا إنّها ليس من باب التخصيص ، بل يكون خروجها خروجا موضوعيّا وبالتخصّص ، لأنّها عقد صورة وليست في الحقيقة بعقد. وأمّا العقود العهديّة فيشملها ، سواء كانت معاوضيّة ومملكة أو لم تكن كذلك ، حتّى يشمل مثل عقد البيعة الشرعيّة الصحيحة ، بل المعاهدات التي تقع بين المسلمين وغيرهم إن كانت جائزة وكانت على طبق المقرّرات الشرعيّة.

وأمّا الثالث : أي قوله تعالى ( لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ ) (١) فبناء على ما تقدّم في وجه دلالته على اللزوم وعدم تأثير الفسخ يكون مختصّا بالعقود المملّكة ، وفي أبواب المعاوضات التي يصير كلّ واحد من‌

__________________

(١) النساء (٤) : ٢٩.

٢٣٠

العوضين ملكا لصاحب العوض الآخر ، فكون الفسخ مؤثّرا وموجبا لحلّ العقد ورجوع كلّ واحد إلى ملك مالكه الأوّلي بدون رضائه من ملكه بالعقد أو بالمعاطاة يكون من أكل مال الغير بالباطل.

وأمّا الرابع : أي قوله عليه‌السلام « لا يحلّ مال امرئ مسلم إلاّ بطيب نفسه » (١) فمساقه مساق الآية المتقدّمة ، أي يكون دلالته على اللزوم في خصوص المعاملات المملّكة ، سواء كانت بالمعاطاة أو بالعقد.

وأمّا الخامس : أي حديث السلطنة فأيضا مثل سابقيه يدلّ على لزوم كلّ معاملة مملّكة ، سواء كانت بالعقد أو كانت بالمعاطاة.

وأمّا السادس : أي حديث « المؤمنون ـ أو المسلمون ـ عند شروطهم » (٢) فيدلّ على لزوم كلّ ما يسمّى شرطا. وقد بيّنّا في وجه اللزوم ـ بعد صدق الشرط ـ قول أمير المؤمنين عليه‌السلام : « من شرط لامرأته شرطا فليف لها به » (٣) ومفاد هذه الرواية كما تقدّم وجوب الوفاء بشرطه الذي شرط على نفسه والتزم به ، فمفاد هذا الحديث الشريف الذي رواه الفريقان ـ ومن هذه الجهة ربما يطمئنّ الإنسان بصدوره عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل يقطع ـ هو الوقوف والثبوت عند التزاماته مطلقا ، سواء كانت تلك الالتزامات بدويّة ، أو كانت في ضمن العقود اللازمة. وقد تقدّم أنّ هذا المعنى مساوق للزوم.

وهذا الدليل يشمل جميع الالتزامات التي التزم بها المؤمن ، سواء كانت في أبواب المعاملات والمعاوضات ، أو كانت في غيرها ، فيمكن أن يقال : إنّ هذا الدليل أشمل من الأدلّة السابقة ؛ إذ له إطلاق من أغلب الجهات.

وأمّا السابع : أي الأخبار الواردة في لزوم البيع بعد الافتراق ، فلا شكّ في أنّها‌

__________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ٢٢٠.

(٢) تقدّم تخريجه في ص ٢٢٥.

(٣) « تهذيب الأحكام » ج ٧ ، ص ٤٦٧ ، ح ١٨٧٢ ، باب الزيادات وفقه النكاح ، ح ٨٠ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٣٥٣ ، أبواب الخيار ، باب ٦ ، ح ٥.

٢٣١

تدلّ على لزوم خصوص البيع بعد انقضاء المجلس وحصول التفرّق.

ثمَّ إنّه لو فرضنا عدم دلالة الأدلّة السابقة على لزوم العقود ووصلت النوبة إلى حكم الشكّ ، فنقول :

لا شكّ في أنّه لو كان للحكم الشرعي ، أو الموضوع الذي له أثر شرعي حالة سابقة متيقّنة ، وشكّ في بقاء تلك الحالة يستصحب ، إن كان لبقاء تلك الحالة أثر شرعي في حال الاستصحاب ، فنرى هل هاهنا يمكن استصحاب نفس اللزوم أو ما يكون لازما أو ملزوما أو ملازما له ، فيثبت بها اللزوم ، أم لا يمكن شي‌ء من ذلك؟

أقول : أما استصحاب نفس اللزوم ـ وإن قلنا بأنّه حكم وضعي قابل للجعل ابتداء ، بلا توسيط جعل آخر كي يكون منشأ لانتزاعه أو اعتباره ـ فلا مجال له هاهنا ، أي في مورد الشكّ في لزوم معاملة أو عقد ابتداء ؛ لأنّه متى كان لازما كي يستصحب؟

نعم لو كان عقدا ومعاملة لازما ابتداء ، وشككنا في طروّ الجواز عليها لاحتمال وجود خيار لم يكن دليل على وجوده ولا على عدمه ، ووصلت النوبة إلى حكم الشكّ ، فلا مانع من استصحاب نفس اللزوم ، وإلاّ ففي غير هذه الصورة فاستصحاب نفس اللزوم لا معنى له.

وأمّا استصحاب الملكيّة السابقة على الفسخ الذي ينتج اللزوم ، ففيه تفصيل ، إجماله أنّ هذا الاستصحاب المدّعى في المقام تارة يدّعى أنّه من قبيل استصحاب الكلّي ، وأخرى أنّه استصحاب شخص الملكيّة المنشأة بالعقد أو بالمعاطاة ، والفعل من طرف واحد أو الفعل الصادر من الطرفين.

أمّا الثاني : أي استصحاب شخص الملكيّة ، ففيه : أنّه من قبيل استصحاب الفرد المردّد ، فلا يجري أوّلا على ما هو التحقيق وسنبيّن وجهه. وثانيا : على فرض الجريان يكون مثبتا ، أمّا عدم جريان الفرد المردّد ؛ لأنّ شخص هذه الملكيّة التي وجدت‌

٢٣٢

بإنشاء المتعاملين المردّدة بين أن يكون مستقرّة لا تزول بالفسخ ، وغير الثابتة التي تزول بالفسخ ليست قابلة للبقاء ؛ لأنّه بعد الفسخ إن كانت متزلزلة غير مستقرّة فقد زالت وانعدمت بالفسخ ، وإن كانت مستقرّة غير متزلزلة فهي وإن كانت باقية بعد الفسخ ، ولكن ليست فردا مردّدا فالفرد المردّد بوصف أنّه مردّد غير قابل للبقاء ، فلا يمكن استصحابه ، والفرد المعيّن وإن كان قابلا للبقاء ، لكنّه ليست معلومة ومتيقّنة في وقت من الأوقات ، فما هو متيقّن ـ أي الفرد المردّد ـ ليس قابلا للبقاء ، وما هو قابل للبقاء ـ أي الفرد المعيّن ـ لم يكن متيقّنا.

فعلى كلّ واحد من التقديرين يختلّ أحد أركان الاستصحاب ، أي إمّا لا يكون اليقين السابق ، أو لا يكون الشكّ في البقاء لاحقا.

فاختلال الركن الأوّل إذا فرضنا المستصحب فردا معيّنا ، واختلاف الركن الثاني ـ أي الشكّ في البقاء ـ إذا كان المستصحب فردا مردّدا ، فاستصحاب الفرد والشخص لا مجرى له.

وأمّا الأوّل : أي استصحاب الكلّي ، أي الجامع بين الملك المستقرّ الثابت وبين المتزلزل كي يكون من قبيل استصحاب القسم الثاني من أقسام الكلي ، كاستصحاب كلّي الحدث الجامع بين الحدث الأصغر والأكبر ، بأن يقال : هذا الجامع وجد بمحض وجود العقد تامّ الأجزاء والشرائط ، أو وجود معاملة المعاطاة مثلا ، فإن كان وجوده في ضمن الملك المتزلزل غير المستقرّ ، انعدم بالفسخ ، وإن وجد في ضمن الملك المستقرّ فبعد الفسخ لا ينعدم مثل انعدامه في القسم الأوّل ، بل باق ، وهذا الترديد في الانعدام والبقاء يرجع إلى الشكّ في البقاء ، فيتمّ أركان الاستصحاب من اليقين بوجوده المستصحب سابقا ، والشكّ في بقائه لاحقا.

واعترض على هذا الاستصحاب من وجوه :

منها : أنّ هذا الاستصحاب مثبت ، من جهة أنّ بقاء قدر المشترك لا يثبت‌

٢٣٣

عنوان اللزوم.

ولكن جواب هذا الإشكال سهل ، وهو أنّ المراد والمقصود من النزاع في اللزوم وعدمه هو المعاملة أو العقد ينحلّ بالرجوع والفسخ ، أم لا ويبقى أثره ، فإثبات بقاء الأثر وعدم الانحلال بالرجوع أو الفسخ كاف في إثبات هذا المقصود ، ولا نحتاج إلى إثبات عنوان اللزوم كي يقال بأنّه مثبت.

هذا ، مضافا إلى أنّه يمكن أن يقال : أنّ عنوان اللزوم عنوان ومفهوم انتزاعيّ ، ينتزع قهرا من بقاء أثر العقد بعد فسخ أحدهما بدون رضا الآخر ، أو يقال : بأنّه وإن كان من الأحكام الشرعيّة الوضعيّة ولكنّه ينتزع من الأحكام التكليفيّة ، كما أنّه نسب ذلك إلى الشيخ الأنصاري قدس‌سره (١) فأيضا ينتزع قهرا من بقاء أثر العقد الثابت بالاستصحاب.

ومنها : ما اعترض به صاحب الكفاية في تعليقته على مكاسب شيخنا الأعظم الأنصاري (٢) بأنّ هذا الاستصحاب من الشكّ في المقتضي ، فمن يقول بعدم جريانه في الشكّ في المقتضي ليس له أن يستند في إثبات اللزوم بهذا الاستصحاب.

وفيه : أنّ المراد من الشكّ في المقتضي ـ الذي لا نقول بجريان الاستصحاب فيه ـ هو أن يكون الشكّ في استعداد بقائه في عمود الزمان ، بحيث يحتمل تماميّة قابليّة بقائه وفناء عمره وارتفاعه من عند نفسه ، من دون وجود مزيل ورافع له. وما نحن فيه ليس هكذا ، بل قابل للبقاء ما دام موضوعه موجودا كما هو شأن كلّ حكم شرعي ، فما لم يأت الفسخ لا يشكّ في بقائه ، وإنّما الشكّ في البقاء يحصل بعد وجود محتمل الرافعيّة ، وقد دافعنا عن أمثال هذه الشبهات تفصيلا في الأصول في بيان معنى الشكّ في المقتضي ، وأنّ أغلب الشبهات من جهة عدم الوصول إلى معنى الشكّ في المقتضي.

__________________

(١) « فرائد الأصول » ج ٢ ، ص ٦٠١.

(٢) « حاشية كتاب المكاسب » ص ١٣.

٢٣٤

ومنها : معارضته مع الاستصحاب الحاكم عليه ، وهو استصحاب بقاء علقة المالك الأوّل من جهة الشكّ في أنّ المالك الأوّل بعد وقوع المعاملة التي يشكّ في لزومها انقطعت علاقته عن هذا المال بالمرّة ، أو بقيت حيث يقدر ـ بسبب ذلك المقدار الباقي من تلك العلاقة ـ على إرجاع ذلك المال إلى نفسه.

وبعبارة أخرى : هذه المعاملة التي وقع الشكّ في لزومها هل صارت سببا لخروج المال عن يد المالك الأوّل بحيث صار المالك الأوّل مثل الأجنبي ، وصار كأنّه لم يكن مالكا؟ أو بقي له حقّ الإرجاع بتوسّط الفسخ؟ فبقاء ذلك المقدار الذي قد يعبّر عنه بملك أن يملك ، مشكوك فيستصحب. ولا شكّ في حكومة هذا الاستصحاب على استصحاب بقاء ملكية المالك الثاني ؛ لأنّه رافع في عالم التشريع لموضوع استصحاب الأخير ؛ إذ بقاء علاقة المالك الأوّل وقدرته على إرجاع المال إلى نفسه بالفسخ موجب للعلم بعدم بقاء ملكيّة المالك الثاني في عالم التعبّد والتشريع ، فلا يبقى شكّ في البين كي يستصحب.

وفيه : أنّه لا شكّ في ارتفاع الإضافة التي كانت بين المالك الأوّل وهذا المال بنفس العقد التامّ الأجزاء والشرائط ، وهذا هو معنى انتقال المال بالبيع مثلا من البائع إلى المشتري بالنسبة إلى المثمن ، وبالعكس بالنسبة إلى الثمن ، فلا يبقى إضافة بين المال والمالك الأوّل ؛ لأنّ الإضافة اعتباريّة ، ولا تتقطّع كي يقال قطعة ارتفعت بالبيع وبقي قطعة منها ، فلو كان علاقة وإضافة بين المالك الأوّل والمال ، لا بدّ وأن يكون حادثا بسبب الفسخ ، فليس شي‌ء يحتمل بقاؤه كي يستصحب.

وبعبارة أخرى : العقد المشكوك اللزوم ليس أمره أعظم من الموارد المعلوم جوازها بسبب الخيار ، وفي العقد الخياري يحدث علاقة بسبب الخيار ، وإلاّ فالعلاقة التي كانت بين الملك والمالك زالت بالمرّة بالعقد ، والخيار المجعول من قبل المتعاقدين أو من قبل الله تعالى يوجب حدوث علاقة جديدة بين ذي الخيار والمال الذي انتقل منه إلى طرفه المسمّى بحقّ الإرجاع ، أو كونه مالكا لأن يملك.

٢٣٥

وأمّا بناء على قول من يقول إنّ ملكيّة المشتري مثلا للثمن متوقّفة على انقضاء زمن الخيار ، وإلاّ فقبل انقضاء زمن الخيار لا تحصل ملكيّة بنفس العقد ، فلا تحصل علاقة جديدة بالفسخ ، بل الملكيّة من الأوّل موجودة لذي الخيار ، وعلى هذا أيضا لا وجه للاستصحاب ؛ لبقاء الملكيّة قطعا.

ولكن مثل هذا الكلام على تقدير صحّته في العقود الخياريّة ، لا يمكن القول به في مطلق العقود الجائزة ؛ لأنّه لو لم تحصل الملكيّة بنفس العقد فلا تحصل أصلا ؛ لأنّه ليس هناك خيار كي يقال بحصول الملكيّة بعد انقضاء زمان الخيار.

فقد ظهر من جميع ما ذكرنا أنّ علاقة المالك تزول بمحض وجود العقد الناقل ، ولا يبقى منها شي‌ء قطعا ويقينا ، فليس شي‌ء يشكّ في بقائه كي يستصحب.

وأما احتمال : أن يكون الاستصحاب من القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلّي ، بأن يقال : إنّ الملكيّة مثل السواد والبياض من الطبائع المقولة بالتشكيك ، فلها مراتب مختلفة بالشدّة والضعف ، فإذا جاء الفسخ فمن الممكن أن يذهب ببعض مراتبها ويبقى البعض الآخر ، فإذا شكّ في بقاء البعض يستصحب بقاؤه بعد الفسخ ، فيبقى بعد الفسخ على ملك المالك الثاني ، وهذا عبارة أخرى عن اللزوم ، لأنّه بالفسخ لم ترتفع الملكيّة بتمامها ، بل بقي مرتبة منها ، والمعاملة الجائزة أو العقد الجائز هو أن يرجع المال بالفسخ إلى صاحبه الأوّل ، ولا يبقى للمالك الثاني شي‌ء منه.

هذا ، ولكن فيه أنّ الأمور الاعتباريّة وإن كان من الممكن اعتبارها شديدا أو ضعيفا ، كما اعتبر ذلك في النجاسة والحدث ، فالحدث الأكبر أشدّ من الحدث الأصغر ، فقد عبّر في الرواية في مقام السؤال عن المرأة الجنب إذا حاضت أنّه جاءها ما هو أعظم ، أي الحيض أعظم من الجنابة ، أو نجاسة البول أشدّ من نجاسة الدّم مثلا ، فلا ينبغي أن يشكّ في أنّ الأمور الاعتباريّة أيضا مثل الأمور التكوينيّة يمكن أن يكون لبعض أنواعها مراتب مختلفة بالشدّة والضعف مقولة بالتشكيك ، وذلك باعتبار بعض‌

٢٣٦

أفراد نوع من أنواعها أشدّ من الفرد الآخر ، فيعتبر في نجس من أنواع النجاسات نجاسة شديدة ، وفي نجس آخر منها نجاسة ضعيفة ، ففي النجاسة الحاصلة من ملاقاة جسم للبول يمكن أن يعتبر نجاسة شديدة بحيث إذا غسل مرّة تزول مرتبة وتبقى مرتبة منها ، فيحتاج إلى غسلة ثانية لزوال المرتبة الباقية.

ولكن الملكيّة في الاعتبار العرفي ليست هكذا ، بل هي أمر بسيط يدور أمرها بين الوجود والعدم ، ولا يمكن في نظر العرف والعقلاء أن تنعدم مرتبة منها وتبقى مرتبة أخرى ، فيدور أمرها بين أن تبقى بتمامها أو تزول بتمامها ، فبناء على هذا لا يمكن استصحاب بقاء مرتبة ضعيفة عن الملكيّة للمالك الثاني بعد فسخ المالك الأوّل ، كي ينتج نتيجة اللزوم.

فقد ظهر ممّا ذكرنا أنّ استصحاب الملك الكلّي الجامع بين الملكيّة المستقرّة الثابتة التي لا تزول بالفسخ ، وبين الملكيّة المتزلزلة التي تزول بالفسخ لا مانع منه ، ونتيجته لزوم المعاملة التي شكّ في لزومها.

وأمّا الإشكال على هذا الاستصحاب بأنّ الشكّ في بقاء الكلّي مسبّب عن حدوث الفرد الباقي ، والأصل عدمه ، فلا يبقى موضوع لهذا الاستصحاب.

ففيه أوّلا : أنّ الشكّ في بقاء الكلّي ليس مسببا عن الشكّ في حدوث ذلك المشكوك الحدوث الذي لو كان حادثا لكان الكلّي باقيا ، أعني الفرد الباقي ، بل من لوازم كون الحادث ذلك الفرد الذي ارتفع يقينا ، أو الذي بقي يقينا.

وبعبارة أوضح : الشكّ في بقاء الكلّي مسبّب عن أنّ الحادث أيّ واحد من هذين الفردين بمفاد كان الناقصة. وليس في البين ما يعيّن أنّ الحادث أيّ واحد من الفردين ؛ وذلك لأنّ الشكّ في بقاء الكلّي لا يرتفع إلاّ بارتفاع منشئه.

وثانيا : في حكومة الأصل الجاري في السبب على الأصل المسبّبي لا بدّ أن يكون الترتّب والسببيّة بينهما شرعيّا ، وتفصيل المسألة في الأصول ذكرناه في كتابنا‌

٢٣٧

« منتهى الأصول » (١).

وخلاصة الكلام : أنّ العدم النعتي ، أي عدم كون الحادث الذي وجد هو الفرد الباقي ليس له حالة سابقة ، والعدم المعمولي أي عدم حدوث الفرد الباقي مثبت ؛ لأنّ لازمه عقلا هو حدوث الفرد الزائل الذي لازمه القطع بارتفاع الكلّي فافهم.

وثالثا : أصالة عدم حدوث الفرد الباقي معارض بأصالة عدم حدوث الفرد الزائل.

نعم أنكر شيخنا الأستاذ قدس‌سره (٢) كون الاستصحاب هاهنا من القسم الثاني من أقسام استصحاب الكلّي ؛ لأنّ اختلاف الملك بكونه مستقرّا ومتزلزلا ليس لعروض خصوصيتين على الملك يكون بإحداهما مستقرّا وبالأخرى يسمّى متزلزلا ، بل الاختلاف يكون بنفس الارتفاع والبقاء ، من جهة أنّ تنوّعه بنوعين ليس باختلاف سبب الملك ، ولا باختلاف حقيقته وماهيّته ، من غير جهة أنّ أحدهما يرتفع بالفسخ والآخر لا يرتفع.

فإذا كان الأمر كذلك وكان تنوّعه بنفس اللزوم والجواز ، فينتفي أحد ركني الاستصحاب على أيّ حال ، لأنّ أحد النوعين أي الجائز مقطوع الارتفاع ، والآخر أي اللازم مشكوك الحدوث من أوّل الأمر.

وبعبارة أخرى : بناء على ما ذكر ليس في البين إلاّ ملكيّة واحدة مردّدة بين أنّ الشارع حكم بلزومها ، أو حكم بجوازها بواسطة اختلاف أسبابها ، فمع قطع النظر عن حكم الشارع باللزوم والجواز لا تعدّد ولا تنوّع كي يقال بأنّ الجامع كان متيقّن الوجود فصار مشكوك البقاء ، بل ملكيّة واحدة لم يعلم أنّ الشارع حكم عليه باللزوم أو الجواز.

__________________

(١) « منتهى الأصول » ج ٢ ، ص ٥٤٠ ـ ٥٤١.

(٢) « المكاسب والبيع » ج ١ ، ص ١٦٥.

٢٣٨

فليس الجامع هاهنا من قبيل الكلّي الذي له وجود بوجود هذا الفرد وله وجود آخر بوجود الفرد الآخر ، كما هو الشأن في الكلّي الطبيعي في الموارد الأخر ، بل ها هنا يشبه الفرد الشخصي المردّد بين كونه كذا وبين كونه كذا.

فالشكّ في البقاء فيه يرجع إلى أنّ هذا الكلّي الذي حكم عليه الشارع بالبقاء أو بالزوال هل هو باق أم لا؟ ومعلوم أنّ هذا الكلّي الذي إمّا باق أو زائل على كلّ واحد من التقديرين ليس قابلا للإبقاء ؛ لأنّه على تقدير الزوال ممتنع البقاء ، وعلى تقدير البقاء يكون إبقاؤه تعبّدا من قبيل تحصيل الحاصل بل أسوء منه ؛ لأنّه يكون من تحصيل ما هو حاصل بالوجدان بالتعبّد ، ولا يقاس بالكلّي الذي له فردان : باعتبار إضافة خصوصية إلى الطبيعة يحصل فرد منها ، وبإضافة خصوصيّة أخرى بدل الأولى يحصل فرد آخر ؛ لأنّه هناك للطبيعة وجودان : وجود منضمّ إلى هذه الخصوصية ، ووجود آخر منضمّ إلى خصوصية أخرى.

فالشكّ في أنّ الخصوصية المنضمّة إلى الطبيعة أيّة واحدة من الخصوصيّتين موجب للشكّ في بقاء الطبيعة ؛ لأنّ مرجع الشكّ الأوّل إلى أنّه هل الجامع بين الوجودين وجد في ضمن وجود الفرد الزائل كي يكون زائلا ، أو وجد في ضمن وجود الفرد الباقي كي يكون باقيا ، فيكون شكّا في بقاء ذلك الجامع الذي نسمّيه بالكلّي.

وفيما نحن فيه ليس للملكيّة وجودان ، أحدهما في ضمن الذي حكم عليه الشارع بالبقاء ، والآخر في ضمن الذي حكم عليه بالزوال ، بل وجود واحد إمّا حكم عليه بالبقاء أو بالزوال ، فالاستصحاب مرجعه إلى أنّ هذا الوجود الباقي باق ، أو هذا الوجود الزائل باق ، وكلاهما محالان ، كما بيّنّا وجهه ، وعبّر عن هذا المعنى شيخنا الأستاذ قدس‌سره (١) بأنّه يلزم منه إدخال عقد الجمل في عقد الوضع ، فافهم فإنّه دقيق‌

__________________

(١) « المكاسب والبيع » ج ١ ، ص ١٧٤.

٢٣٩

وبالتأمّل حقيق.

وهذا الكلام ، أي كون الملكيّة مستقرّة أو متزلزلة ليس باعتبار اختلاف في حقيقة الملك ، بل إنّما هو باعتبار حكم الشارع في بعض المقامات عليه بالزوال برجوع المالك ، وفي بعض المقامات الأخر بعدم الزوال بالرجوع ، ومنشأ هذا الاختلاف اختلاف حقيقة السبب المملّك ، لا اختلاف حقيقة الملك.

فجواز الرجوع وعدمه من الأحكام الشرعيّة للسبب ، لا من الخصوصيّات المأخوذة في المسبّب ، وقد أخذه شيخنا الأستاذ قدس‌سره من الشيخ الأعظم الأنصاري قدس‌سره ولكن الشيخ الأعظم (١) علّل بهذا صحّة جريان الاستصحاب ، وشيخنا الأستاذ (٢) علل به عدم صحّة جريانه. والتوفيق بين الكلامين أنّ شيخنا الأستاذ أراد به عدم جريان استصحاب الكلّي ، والشيخ الأعظم أراد صحّة استصحاب الشخصيّ وأنّه ليس من الكلّي ولا من الفرد المردّد ، وكلا القولين في غاية القوّة والمتانة.

أمّا الأوّل : أي عدم جريان استصحاب الكلّي ، فقد بيّنّا وجهه فلا نعيد.

وأمّا القول الثاني : كون هذا الاستصحاب شخصيّا وأنّه ليس من الفرد المردّد فلا مانع من جريانه ؛ فلأنّ الملكيّة الحاصلة من العقد أو من المعاملة الخارجيّة شخصي لا تعدّد فيها على الفرض ؛ لأنّ المفروض أنّ اللزوم أو الجواز من الأحكام الشرعيّة للسبب لا من خصوصيّات المسبّب.

فالمسبّب باق على النحو الذي أنشأ ووجد في عالم الاعتبار ، أي على تشخّصه وتفرّده ، فبواسطة الشكّ في أنّ الشارع حكم باللزوم وعدم الرجوع أو الجواز ورجوع المال إلى مالكه الأوّلى يشكّ في بقائه فيستصحب ؛ لتماميّة أركانه من اليقين بوجود الملكيّة الشخصيّة ، والشكّ في ارتفاعها بواسطة الشكّ في حكم الشارع باللزوم‌

__________________

(١) « المكاسب » ص ٨٥.

(٢) « المكاسب والبيع » ج ١ ، ص ١٧٤.

٢٤٠