القواعد الفقهيّة - ج ٥

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي

القواعد الفقهيّة - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي


المحقق: مهدي المهريزي
الموضوع : الفقه
الناشر: نشر الهادي
المطبعة: مؤسسة الهادي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-400-030-7

الصفحات: ٣٩٢

أخذ منه معروفا غير مجهول.

ولكن هذا المعنى والاحتمال مردود إجماعا ومخالف لقوله تعالى ( وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ ) (١).

الثاني : أن يكون المراد من الموعظة التحريم والنهي من قبل الشارع ، فيكون معنى الآية أنّه لو ارتكب المعاملات الربويّة وأخذ الربا قبل ورود النهي وقبل مجي‌ء التحريم ، فلما ورد النهي من ربّه انتهى فله ما أخذ قبلا ، ولا يجب ردّ ما أخذ قبلا قبل ورود النهي والتحريم.

قال في مجمع البيان في تفسير هذه الجملة من الآية : فله ما أخذ وأكل من الربا قبل النهي لا يلزمه ردّه ، ثمَّ قال : « قال الباقر عليه‌السلام : من أدرك الإسلام وتاب ممّا كان عمله في الجاهليّة وضع الله عنه ما سلف » (٢).

وبناء على هذين المعنيين لا ربط للآية بمحلّ كلامنا ؛ لأنّ محلّ كلامنا هو أنّه لو ارتكب الرباء جهلا بالحكم أو الموضوع بعد ورود النهي عن قبل الشارع ، فبعد ما التفت إلى أنّ في ماله ربا محرّم هل يجب ردّه إلى مالكه أم لا ، وهذا لا ربط له بأحد المعنيين.

نعم الآية بحسب الظاهر الأوّلي ظاهر في المعنى الأوّل ، ولكن لا بدّ من التصرّف فيه لمناقضته مع قوله تعالى ( وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ ) وبحسب شأن النزول والمورد في الآية التي بعدها يكون ظاهرا في المعنى الثاني ، وذلك من جهة أنّه روي عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام : « أنّ الوليد بن المغيرة كان يربي في الجاهلية وقد بقي له بقايا على ثقيف فأراد خالد بن الوليد المطالبة بها بعد أن أسلم فنزلت الآية ».

__________________

(١) البقرة (٢) : ٢٧٩.

(٢) « مجمع البيان » ج ١ ، ص ٣٩٠.

١٦١

الثالث : أن يكون المراد منه أنّ الذي ارتكب الربا جهلا بالحكم أو الموضوع ثمَّ التفت إلى النهي فله ما سلف ، ولا يجب ردّ ما ليس بمعزول ولا معلوم أنّه ربا ، بل كان مخلوطا ومشاعا ، فيكون له حلال ويجوز أكله.

وهذا المعنى متعيّن لهذه الآية ؛ لاستشهاد الإمام عليه‌السلام بهذه الآية لحلّية أكل الربا المتقدّم الذي ارتكبه جهلا بالحكم أو الموضوع في الروايات المتعدّدة ، حيث قال عليه‌السلام : « مخرجك من كتاب الله » ثمَّ تلا هذه الآية.

ولا يرد على هذا المعنى ما أشكلنا على المعنى الأوّل من المناقضة مع قوله تعالى : ( وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ ) وذلك من جهة أنّ هذه الآية في مورد الجهل حكما أو موضوعا ، وأمّا قوله تعالى ( وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ ) في صورة التعمّد والعلم بالحكم والموضوع.

وخلاصة القول : أنّ هذه الآية ـ بضميمة استشهاد الإمام عليه‌السلام بها على حلّية أكل الربا فيما إذا كان ارتكابه في حال الجهل به حكما أو موضوعا فيما إذا لم يكن المأخوذ رباء معلوما ومعزولا ، بل كان مختلطا ومشاعا ، خصوصا إذا لم يعرف أهله ، أي صاحب تلك الزيادة ـ تدلّ على التفصيل الذي اخترناه ، فالآية الشريفة كالأخبار المتقدّمة دليل على هذا القول.

المسألة الثانية عشر : إذا تعاملا بين شيئين رطبين متّحدي الجنس ، كالعنب بالعنب ، أو الرطب بالرطب ـ مثلا ـ وكانت المعاملة صادرة من الفضول ، فأجاز الأصيل بعد مدّة يبس أحد العوضين ونقص عن وزن ما يقابله إن كانا من الموزون ، أو عن كيله إن كانا من المكيل ، فهل مثل هذه المعاملة صحيحة أو فاسدة؟

لا يبعد ابتناء المسألة على الكشف الحقيقي والنقل ، فإن قلنا بالأوّل فالمعاملة صحيحة ، وإن قلنا بالنقل تكون فاسدة ؛ لكونها من الربا المحرّم ، وأمّا الكشف الحكمي فلا أثر له في هذا المقام ؛ لأنّه في الحقيقة نقل لا كشف.

١٦٢

المسألة الثالثة عشر : إذا أراد الشريكان أو الشركاء تقسيم المال المشترك بينهما أو بينهم بحيث يكون نصيب كلّ واحد منهم من جنس نصيب الآخر ، وكان المال المشترك ممّا يكال أو يوزن ، وبعبارة أخرى : كان المال المشترك أبعاضه ربويّا ، أي واجدا لشرائط ثبوت الربا بحيث لو وقعت المعاملة والمعاوضة على تلك الأبعاض يجب أن يكون العوضان مثلا بمثل ، متساويين في المقدار ، فهل القسمة أيضا معاملة ومعاوضة كي يراعى فيها عدم ثبوت الربا ، أم لا؟ بل صرف تمييز حقّ بمعنى أنّ الحقّ بمقتضى الشركة مشاع ، إمّا نصف أو ثلث أو ربع أو غيرها من الكسور حسب كثرة الشركاء أو قلّتهم ، أو كثرة نصيب الشريك أو قلّته.

وعلى كلّ حال فبناء على الأوّل لا بدّ وأن تكون القسمة بالكيل أو الوزن كي لا يقع التفاضل بين حقّه وبين ما يأخذه بعنوان أنّه نصيبه ، ولا يجوز بالخرص والتخمين.

فلو كان الشريكان لكلّ واحد منهما النصف ، فإن كان من المكيل يجب أن يكال المال بكيلين متساويين ، وإن كان من الموزون يجب أن يوزن القسمان بوزنين متساويين لكي لا يزيد أحدهما على الآخر ، فيكون رباء محرّما.

وأمّا بناء على الثاني ، فحيث لا معاوضة ولا معاملة فلا رباء في البين ، فلا مانع من أن تكون السهام متفاوتة في المقدار ، وأن يكون أحدهما أزيد من الآخر ، فيما إذا كان لكلّ واحد من الشريكين النصف.

وهكذا الأمر لو كان الشركاء متعدّدا وكانوا أزيد من اثنين ، فسهم صاحب كلّ كسر لا مانع من أن يكون أزيد من ذلك الكسر أو أقلّ إذا كان التقسيم بوجه مشروع ، وأيضا لا مانع من أن يكون سهم أحدهما الرطب من ذلك الجنس المشترك مثل أنّ يكون رطبا أو عنبا ، وسهم الآخر اليابس منه مثل أن يكون تمرا أو زبيبا ، وإن كانا ينقصان إذا جفّا.

كلّ ذلك لأنّه بناء على هذا لا رباء في البين كي لا يجوز أمثال تلك المذكورات.

١٦٣

وما ذكرنا كان أثر كلّ واحد من التقديرين ، وأمّا في مقام الإثبات وأنّ أيّ واحد منهما هو الحقّ ، فيحتاج إلى شرح وبيان.

وخلاصة الكلام فيه هو أنّ مبنى هذه المسألة ـ أي كون القسمة إفراز حقّ وتمييزه ، أو معاوضة ومعاملة بين الشريكين أو الشّركاء ـ هو تحقيق معنى الشركة وبيان حقيقتها ، فنقول :

أمّا مفهوم الشركة ، فهو من المفاهيم الواضحة عند العرف ؛ ولذلك تعريفه يكون لفظيّا ربّما يكون هو أوضح من التعاريف التي عرّفوها بها.

فالعمدة هو بيان أنّ متعلّق حقّ الشركاء أيّ شي‌ء هو؟

وفي هذا المقام ذكروا وجوها :

الأوّل : هو أنّ كلّ واحد من الشريكين أو الشركاء يملك كسرا مشاعا من المال المشترك ، كالنصف ، أو الثلث ، أو الربع ، وهكذا باقي الكسور ، ففي الحقيقة كلّ واحد من الشريكين أو الشركاء مالك لعنوان كلّي قابل للانطباق على أفراد ومصاديق متعدّدة ، وكلّ واحد من تلك الأفراد مصداق حقيقي وفرد واقعي لذلك المفهوم الكلي.

فبناء على هذا حقيقة القسمة عبارة عن تطبيق ذلك الكلّي المملوك على مصداقه ، فتمام ذلك الفرد عين مملوكه وليس شي‌ء فيه لشريكه كي يقال بأنّه معاوضة ومعاملة مع شريكه بمعنى انتقال أجزاء من مال شريكه إليه بعوض ما ينتقل من ماله إلى شريكه ، بل بالقسمة يتعيّن ماله ويتميّز عن مال شريكه ، ويخرج عن الإشاعة.

وهذا هو المتّفق عليه بين أصحابنا الإماميّة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، بخلاف ما ذهب إليه الجمهور من أنّ القسمة مستلزمة للمبادلة والمعاوضة بين ماليهما ، كما أنّه لو حصلت الشركة بين ماليهما بواسطة الخلط ، كما في خلط الحنطة بالحنطة ، أو الشعير بالشعير ، أو في غيرهما ، أو بواسطة المزج كمزج لبن أحدهما بلبن الآخر ، أو الدهن المذاب لأحدهما بالدهن المذاب للآخر ، فبعد التقسيم لا محالة يوجد في كل‌

١٦٤

قسم مال الآخر ، فلا بدّ وأن نقول بالمعاوضة ، ولا يمكن أن يكون إفراز حقّ وتمييزه عن مال الآخر.

ولكن أنت خبير بأنّ في المثالين أو ما يشبههما يحصل الاشتراك في الرتبة السابقة على القسمة بنفس المزج أو الخلط ، فيكون لكلّ واحد منهما الكسر المشاع من النصف أو الثلث أو غيرهما ، فإذا كان مبادلة أو معاوضة فذلك في الرتبة السابقة على القسمة ، أي في نفس حصول الاشتراك.

الثاني : أن يكون مال كلّ واحد من الشريكين أو الشركاء معلوما عند الله ، متميّزا في الواقع وفي مقام الثبوت ، ولكن في مقام الإثبات لا يعرف التميّز مثل موارد العلم الإجمالي ، فإنّ المعلوم بالإجمال معلوم ومتميّز عند الله وعند من يعرف الواقع ، ولكن غير معلوم عند الذي يعلم علما إجماليّا ـ مثلا ـ بنجاسة أحد الكأسين ، أو بزوجيّة إحدى المرأتين ، وهكذا في سائر موارد العلم الإجمالي.

ومرجع هذا الوجه هو أنّ الاشتراك في الحقيقة عبارة عن الالتباس والاشتباه في الظاهر ، ولازم هذا الوجه هو أن يكون التقسيم غالبا ملازما مع المبادلة والمعاوضة ، لبعد أن تردّ القسمة على نفس ماله بمعنى أن يكون سهمه دائما عين ما يملكه واقعا ، خصوصا في مورد المزج والخلط بل استحالته عادة.

فهذا الوجه يناسب ما ذهب إليه الجمهور في القسمة من أنّها مبادلة ومعاوضة.

ولكن خبير بأنّ أصل هذا المبنى باطل ، وأنّ الاشتباه والالتباس غير الاشتراك مفهوما ومصداقا ؛ لأنّه بناء على هذا المبنى ليس اشتراك في البين ، بل كلّ واحد منهما مالك لمال نفسه المتعيّن في الخارج ، غاية الأمر اشتبه بمال الآخر.

والإنصاف : أنّ القول بأنّ الاشتراك من هذا القبيل لا يخلو من غرابة ، وأمّا ما يتراءى في بادي النظر في مورد مزج المالين أو خلطهما ، بحيث لا يمكن فصلهما عرفا وعادة من كونه كذلك ، فقد بيّنّاه بأنّ المزج أو الخلط بتلك المثابة يكون سببا لحصول‌

١٦٥

الاشتراك بنحو الإشاعة ، وملكيّة كلّ واحد منهما أحد الكسور.

ولا شكّ في أنّ الكسر المشاع لا تعيّن ولا تميّز له في مقام الثبوت ، بل هو من قبيل الكليّ قابل للانطباق على الكثير ، وما لم ينطبق على الخارج لا تعيّن له ، نعم بعد الانطباق يتعيّن ويتميّز.

وحيث أنّ الخصوصيّة ليست ملكا للشريك أصلا ، كما إذا اشترى صاعا من صبرة بعنوانها الخاصّ ، بل يكون مالكا لإحدى الخصوصيتين أيضا بعنوان كلّي كما في باب الإرث ، فلا بدّ وأن يكون التطبيق إمّا برضائه الطرفين أو بحكم الشرع من قرعة أو غيرها.

وخلاصة الكلام : أنّ المفهوم من الشركة عرفا لا يلائم مع كونها من قبيل الالتباس وكونها متميّزا في الواقع وفي عالم الثبوت وغير معلوم في مقام الإثبات.

الثالث : أن يكون كلّ واحد من الشريكين إذا كانا اثنين مع التساوي في نصيبهما مالكا لنصف المال المشترك ، ولكن لا بنحو الكلّي ، بمعنى أن يكون مالكا لطبيعة النصف من ذلك المال ، فكلّ نصف فرض في ذلك المال يكون تمامه لكلّ واحد من الشريكين ، غاية الأمر على البدل لا في عرض مالكيّته لذلك النصف الآخر ، كي يلزم منه اجتماع مالكين في مال واحد ، وكذلك كي لا يلزم منه مالكيّة كلّ واحد منهما لتمام المال المشترك.

ومرجع هذا الوجه إلى أنّ كلّ جزء فرضته في ذلك المال يكون لكلّ واحد من الشريكين نصفه ، وحيث أنّ التحقيق عدم وجود الجزء الذي لا يتجزى واستحالته فكلّ جزء فرضته في ذلك المال قابل للقسمة إلى ما لا يتناهى ، ففي كلّ جزء يصحّ أن يقال نصفه لهذا الشريك ونصفه الآخر للآخر ، فهما شريكان في كلّ جزء من أجزاء ذلك المال المشترك ، وهذا المعنى هو المتفاهم العرفيّ من لفظ الشركة.

نعم لو قلنا بوجود الجزء الذي لا يتجزّى فيلزم من هذا الوجه محذور ، وهو‌

١٦٦

اجتماع مالكين على مال واحد ؛ لعدم إمكان أن يقال إنّ نصف هذا الجزء لهذا الشريك ونصفه الآخر للآخر ، لعدم تصوير النصف فيه.

فالذي يقول بإمكان الجزء الذي لا يتجزّى وأنّ كلّ جسم مركّب منه ، فلا بدّ له من الالتزام بأحد أمرين : إمّا أنّ لكلّ جزء من تلك الأجزاء مالكين ، أو يلتزم بأنّ بعض تلك الأجزاء لأحدهما والبعض الآخر للآخر.

وحيث أنّ الثاني لا يلائم مع الإشاعة والشركة ؛ لأنّه بناء على الثاني مال كلّ واحد من الشريكين غير مال الآخر ، إلاّ أنّه غير متميّز خارجا ، فلا بدّ للقائل بالإشاعة والاشتراك من اختيار الوجه الأوّل ، وهو أن يكون لكلّ جزء مالكين ، وهو محال وباطل بالضرورة ، مضافا إلى أنّه لا يصدق عليه الشركة ولو التزم بذلك ؛ لأنّ مرجع هذا الوجه إلى أنّ تمام المال ملك لهذا الشريك وللآخر أيضا ، وهذا غير الشركة.

ولكن الذي يسهّل الخطب أنّ بطلان الجزء الذي لا يتجزّى في عصرنا هذا ينبغي أن يعدّ من البديهيّات.

ثمَّ إنّ الفرق بين هذا الوجه والوجه الأوّل هو أنّه لو تلف مقدار من المال المشترك يكون التلف من كلّ واحد من الشريكين أو الشركاء ؛ وذلك لما قلنا من أنّ مرجع هذا الوجه إلى أنّه أيّ جزء فرضت في هذا المال يكون نصفه مثلا لهذا الشريك ، ونصفه الآخر للآخر ، وهكذا في سائر الكسور ، وفي سائر الفروض وإن كان الشركاء أزيد من اثنين ، فالتالف بعضه لهذا الشريك ، وبعضه الآخر للشريك الآخر أو الشركاء الآخرين ، فالتلف يكون من كيس جميع الشركاء.

ففي الحقيقة إذا قلنا إنّ نصف هذا المال لأحد الشريكين ـ مثلا ـ مرجعه إلى أنّ أنصاف جميع الأجزاء المفروضة فيه له ، فلو تلف جزء من تلك الأجزاء المفروضة فتلف نصف ذلك التالف من كلّ واحد منهما.

١٦٧

وأمّا في الأوّل فالنصف الكلّي لأحد الشريكين ، وكذلك النصف الآخر للآخر ، فلو تلف نصف هذا المال لا يبقى لأحد الكلّيين مصداق ، فلا بدّ وأن يعيّن التالفة بالقرعة ؛ وذلك من جهة أنّه في المفروض للمال المشترك نصفان : أحدهما النصف التالف ، وثانيهما النصف الباقي ، فيكون كلّ واحد من النصفين لأحد الشريكين بلا تعيين ، فلا مناص إلاّ التعيين بالقرعة التي عيّنها الشارع لكلّ أمر مشتبه.

وبعد ما عرفت ما ذكرنا تعلم أنّ الصحيح من هذه الوجوه هو الوجه الأخير ، أي الوجه الثالث ؛ إذ هو الذي يسلم عن النقوض والإشكالات ، وهو الذي يفهمه العرف من الشركة ، ومقتضاه كون القسمة إفراز الحقّ لا المعاوضة والمبادلة بين أموال الشركاء أو مالي الشريكين.

بيان ذلك : أنّ كلّ كسر من الكسور إذا أضيف إلى شي‌ء ، فيكون ما ينطبق عليه ذلك الكسر مصداقا حقيقيّا له ، مثلا إذا كان الكسر هو النصف مثلا ، فإذا أضيف إلى تمام المال ، فيكون كلّ نصف من أنصاف تمام ذلك المال مصداقا حقيقيّا لذلك الكسر ، وهكذا.

فإذا فرضنا أنّ هاهنا شريكين في مال ، فإذا قسمنا تمام ذلك المال نصفين ، فكلّ واحد من النصفين مصداق حقيقي لمفهوم ذلك الكسر المشاع الذي هو نصف المال ، وكذلك الأمر في جميع أجزاء ذلك المال إذا قسمناها بقسمين ، يكون كلّ قسم منها مصداقا حقيقيّا لذلك الكسر المشاع الذي يملكه كلّ واحد من الشريكين من ذلك المال.

ولا فرق فيما ذكرنا بين ورود التقسيم على الكلّ ، أو على أيّ جزء من أجزاء ذلك المال المشترك ، نعم كون هذا القسم بخصوصه لهذا الشريك والآخر للآخر يحتاج إلى معيّن من قرعة أو تراضيهما ، فليس في باب القسمة مبادلة ومعاوضة في البين ، كي‌

١٦٨

نتكلّم في أنّه إذا كان المال المشترك متّحد الجنس وكان من المكيل أو الموزون هل يأتي فيه الربا ، أم لا.

الجهة الثالثة

في موارد الاستثناء عن هذه القاعدة‌

منها : بين الوالد وولده ، بمعنى أنّه يجوز أن يأخذ الفضل كلّ واحد منهما من الآخر ، وإن كان العوضان في المعاملة التي تقع بينهما متّحدي الجنس أو في حكمه ، وكانا من المكيل أو الموزون.

ومنها : بين المولى ومملوكه.

ومنها : بين الرجل وزوجته.

ومنها : بين المسلم والحربي ، بمعنى أنّه يجوز للسلم أن يأخذ الفضل من الحربي ، لا أن يعطيه ، وأمّا غير الحربي سواء كان ذميّا أو معاهدا ، ففيه كلام نتكلّم فيه إن شاء الله تعالى ، ونسب الخلاف في هذه المسألة إلى المرتضى (١) والأردبيلي (٢) ـ قدس سرّهما ـ وقيل برجوع المرتضى عمّا قال ، وأنّه وافق المشهور.

وعلى كلّ حال المدرك في هذا الحكم هو الأخبار ، وأمّا الإجماعات المدّعاة من الأعاظم في هذا المقام فمخدوش صغرى وكبرى ؛ لما ذكرنا مرارا من أنّ الاتّفاق مع وجود الروايات ليس من الإجماع المصطلح الذي بنينا في الأصول على حجّيته ، وأمّا الصغرى فلوجود المخالف.

__________________

(١) « الانتصار » ص ٢١٢ ؛ « رسائل الشريف المرتضى » جوابات الموصليّات الثانية ، ج ١ ، ص ١٨٢.

(٢) « مجمع الفائدة والبرهان » ج ٨ ، ص ٤٨٩.

١٦٩

فالأولى أن نذكر أخبار الباب ونرى مفادها ومقدار دلالتها :

فمنها : رواية عمرو بن جميع ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « ليس بين الرجل وولده ربا ، وليس بين السيّد وعبده ربا » (١).

وبهذا الإسناد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ليس بيننا وبين أهل حربنا ربا نأخذ منهم ألف ألف درهم بدرهم ، ونأخذ منهم ولا نعطيهم » (٢) وروي هذه الرواية والتي قبلها بعدّة طرق في الجوامع العظام.

ومنها : ما رواه زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « ليس بين الرجل وولده وبينه وبين عبده ولا بين أهله ربا ، إنّما الربا فيما بينك وبين ما تملك ». قلت : فالمشركون بيني وبينهم ربا؟ قال : « نعم ». قلت : فإنّهم مماليك؟ فقال : « إنّك لست تملكهم ، إنّما تملكهم مع غيرك ، أنت وغيرك فيهم سواء ، فالذي بينك وبينهم ليس من ذلك ؛ لأنّ عبدك ليس مثل عبدك وعبد غيرك » (٣).

ومنها : ما رواه الصدوق مرسلا قال : قال الصادق عليه‌السلام : « ليس بين المسلم وبين الذمّي ربا ، ولا بين المرأة وبين زوجها ربا » (٤).

ومنها : رواية عليّ بن جعفر أنّه سأل أخاه موسى بن جعفر عليه‌السلام عن رجل أعطى عبده عشرة دراهم على أن يؤدّي العبد كلّ شهر عشرة دراهم ، أيحلّ ذلك؟ قال عليه‌السلام :

__________________

(١) « الكافي » ج ٥ ، ص ١٤٧ ، باب أنّه ليس بين الرجل وبين ولده وما يملكه ربا ، ح ١ ؛ « الفقيه » ج ٣ ، ص ٢٧٧ ، باب الربا ، ح ٤٠٠١ ؛ « تهذيب الأحكام » ج ٧ ، ص ١٨ ، باب فضل التجارة ، ح ٧٦ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٤٣٦ ، أبواب الربا ، باب ٧ ، ح ١.

(٢) « الكافي » ج ٥ ، ص ١٤٧ ، باب إنّه ليس بين الرجل وبين ولده وما يملكه ربا ، ح ٢ ؛ « الفقيه » ج ٣ ، ص ٢٧٧ ، باب الربا ، ح ٤٠٠٠ ؛ « تهذيب الأحكام » ج ٧ ، ص ١٨ ، باب فضل التجارة ، ح ٧٧ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٤٣٦ ، أبواب الربا ، باب ٧ ، ح ٢.

(٣) « الكافي » ج ٥ ، ص ١٤٧ ، باب أنّه ليس بين الرجل وبين ولده وما يملكه ربا ، ح ٣ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٤٣٦ ، أبواب الربا ، باب ٧ ، ح ٣.

(٤) « الفقيه » ج ٣ ، ص ٢٧٨ ، باب الربا ، ح ٤٠٠٢ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٤٣٦ ، أبواب الربا ، باب ٧ ، ح ٥.

١٧٠

« لا بأس » (١).

ومنها : ما في الفقه الرضوي عليه‌السلام : « ليس بين الوالد وولده ربا ، ولا بين الزوج والمرأة ، ولا بين المولى والعبد ، ولا بين المسلم والذّمي » (٢).

وهذه الروايات وإن ضعّفها الأردبيلي (٣) ـ وبعضها كذلك ، ولا يخلو من الضعف ـ ولكن حيث عمل بها الأصحاب قديما وحديثا ، بل ادّعى بعضهم الإجماع على ما هو مضمونها ، حتّى أنّ صاحب الجواهر (٤) يقول إجماعا محكيّا مستفيضا إن لم يكن متواترا صريحا ظاهرا ، بل يمكن تحصيله إذ لا خلاف فيه إلاّ من المرتضى (٥). ثمَّ يقول : إنّه أيضا عدل عن خلافه ووافق الباقين من الأصحاب ، وينقل عبارته من الانتصار أنّه قال :

وممّا انفردت به الإماميّة القول بأنّه لا ربا بين الولد ووالده ، ولا بين الزوج وزوجته ، ولا بين الذمّي والمسلم ، ولا بين العبد ومولاه. وخالف باقي الفقهاء ثمَّ ينقل كلامه أنّه قال :

وقد كتبت قديما في جواب مسائل وردت عليّ من الموصل وتأوّلت الأخبار التي يرويها أصحابنا المتضمّنة لنفي الربا بين من ذكرنا ـ أي الولد والوالد والزوج والزوجة والمولى والعبد والذمي والمسلم ـ على أنّ المراد بذلك وإن كان بلفظ الخبر معنى الأمر كأنّه قال : يجب أن لا يقع بين من ذكرناه ربا كما قال تعالى ( مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً ) (٦) وكقوله تعالى ( فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ ) (٧) وكقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « العارية مردودة والزّعيم غارم » ومعنى ذلك كلّه الأمر والنهي ، إلى أن قال :

__________________

(١) « الفقيه » ج ٣ ، ص ٢٨١ ، باب الربا ، ح ٤٠١٦ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٤٣٧ ، أبواب الربا ، باب ٧ ، ح ٦.

(٢) « فقه الرضا عليه‌السلام » ص ٢٥٨ ؛ « مستدرك الوسائل » ج ١٣ ، ص ٣٣٩ ، أبواب الربا ، باب ٧ ، ح ١.

(٣) « مجمع الفائدة والبرهان » ج ٨ ، ص ٤٨٩ ـ ٤٩١.

(٤) « جواهر الكلام » ج ٢٣ ، ص ٣٧٨.

(٥) « الانتصار » ص ٢١٢ ؛ « رسائل الشريف المرتضى » جوابات الموصليّات الثانية ، ج ١ ، ص ١٨٢.

(٦) آل عمران (٣) : ٩٧.

(٧) البقرة (٢) : ١٩٤.

١٧١

واعتمدنا في نصرة هذا المذهب على عموم ظاهر القرآن ، ثمَّ لمّا تأمّلت ذلك رجعت عن هذا المذهب ، لأنّي وجدت أصحابنا مجمعين على نفي الربا بين ما ذكرنا ، وغير مختلفين في وقت من الأوقات ، وإجماع هذه الطائفة قد ثبت أنّه حجّة ، ويخصّ به ظاهر القرآن.

فانظر إلى كلام هذا الفقيه العظيم ، وأنّه رجع عن فتواه لمّا رأى من الإجماع والاتّفاق من الأصحاب على عدم ثبوت الربا في هذه الموارد الأربعة ، فمع اتّفاق الأصحاب على الفتوى بمضمون هذه الروايات لا يبقى مجال للشكّ في حجّيتها ؛ وذلك لحصول كمال الوثوق بصدورها واعتبارها لما ذكرنا في الأصول (١) أنّ موضوع الحجّة هو خبر الموثوق الصدور ، لا خصوص خبر الثقة أو الصحيح كما قيل.

فالعمدة في المقام هو بيان دلالتها ، فنقول :

لا شكّ في أنّ ظاهر هذه الروايات نفي الربا بين الطوائف الأربع : أي الوالد والولد ، والمالك ومملوكه ، والزوج وزوجته ، والمسلم والكافر إمّا مطلقا وإن كان ذمّيا ، أو خصوص الحربي.

وفي أمثال هذه التراكيب التي يكون مفادها رفع موضوع خارجي بلا النافية للجنس ، يدور الأمر بين أمور ثلاثة بعد معلوميّة عدم رفعها تكوينا :

أحدها : أن يكون النفي بمعنى النهي ، كقوله تعالى ( فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ ) (٢) ومن الواضح أنّ هذا خلاف ظاهر النفي ، ولا يصار إليه إلاّ بدليل ، ولا دليل في المقام ، فلا مانع من الأخذ بظاهرها ، كما سنذكره إن شاء الله تعالى.

ثانيها : هو أن يكون المراد نفي الحكم بلسان نفي الموضوع ، كما قال بهذا جمع من المحقّقين في حديث « لا ضرر » وما دلّ على نفي الحرج ، وهذا أيضا خلاف ظاهر‌

__________________

(١) « منتهى الأصول » ج ٢ ، ص ١١١.

(٢) البقرة (٢) : ١٩٤.

١٧٢

الكلام ؛ وذلك لأنّ ظاهر الكلام هو أنّ المنفي والمرفوع نفس الموضوع ، لا حكمه تقديرا أو تجوّزا ؛ لعدم احتياج إلى التقدير ، وعدم قرينة على التجوّز ، بل عدم صحّة إرادة الحكم من الموضوع لعدم علاقة بينهما.

ويمكن أن يكون المرفوع هاهنا نفس الموضوع حقيقة ، غاية الأمر رفعا تشريعيّا لا رفعا تكوينيّا ، نعم نتيجة الرفع التشريعي هو ارتفاع الحكم ، وقد شرحنا هذا المطلب وأوضحناه في حديث الرفع في كتابنا « منتهى الأصول » (١) وفي شرح قاعدة لا ضرر في كتابنا « القواعد الفقهية » (٢).

وخلاصة الكلام : أنّ نفي الربا في عالم التشريع في الموارد المذكورة مرجعه إلى نفي تحريمه ، ولكن بلسان نفى موضوعه حقيقة ، لا ادّعاء في عالم الاعتبار التشريعيّ.

وبعبارة أخرى : المنفي هو نفس الربا في محلّ البحث ، ولكنّ النفي نفي تشريعيّ ، ومعنى النفي التشريعيّ كونه بمنزلة العدم في نظر الشارع ، أي عدم ترتّب أثر شرعي عليه.

وبعد ما ظهر لك اعتبار هذه الروايات وحجّيتها ـ أمّا عند القدماء لأجل صحّتها على ما هو المصطلح عندهم من صحّة جميع ما هو موجود في الكتب المعتبرة كالكتب الأربعة وغيرها ممّا هو معتبر عندهم ، وأمّا عند المتأخّرين فلأجل جبر ضعفها بالاتّفاق المذكور ، والإجماعات المنقولة عن أعاظم الفقهاء ، حتّى أنّ المرتضى (٣) ـ قدس‌سره ـ عدل عن فتواه لأجل ذلك الإجماع ، وقد تقدّم ذكر هذا المطلب ، فلا يبقى مجال لما ذهب إليه ابن الجنيد (٤) من حرمة الربا حتّى في هذه الموارد الأربعة المتقدّمة ، مستندا إلى عمومات الكتاب ؛ إذ بعد الفراغ عن جواز تخصيص عمومات الكتاب وتقييد مطلقاتها بالخبر الواحد الحجّة ، وبعد الفراغ عن حجيّة هذه الأخبار لما ذكرنا ، فالعمومات تخصّص ، والمطلقات تقيّد.

__________________

(١) « منتهى الأصول » ج ٢ ، ص ١٧٤.

(٢) راجع « القواعد الفقهية » ج ١ ، ص ٢١١.

(٣) « الانتصار » ص ٢١٢.

(٤) نقله عنه في « مختلف الشيعة » ج ٥ ، ص ١١٠ و ١١٢.

١٧٣

وأيضا لا يبقى مجال لما ذكره الأردبيلي (١) ـ قدس‌سره ـ وصاحب الكفاية (٢) من المناقشات في حجّية هذه الأخبار ؛ إذ حجّيتها واضحة ، ودلالتها على عدم حرمة الربا في هذه الموارد أوضح ، فلا وجه للتشكيك في حجّيتها أو دلالتها ، أو كونها مخصّصة للعمومات ومقيّدة للمطلقات ؛ إذ جميع هذه الأمور ثابتة بالأدلّة والبراهين القاطعة ، وعلى الله التوكل وبه الاعتصام.

ثمَّ إنّ هاهنا فروعا‌

الأوّل : هو أنّه هل يشمل الولد في قوله عليه‌السلام « لا رباء بين الوالد والولد » للبنت أم لا؟

أقول : لا وجه لعدم الشمول إلاّ دعوى الانصراف ، وإلاّ فبحسب اللغة والعرف العامّ لا شكّ في أنّ الولد ـ ومادة التوليد مطلقا ـ أعم من الذكر والأنثى.

نعم في بعض الأقطار لا يطلقون الولد على الأنثى ، ولذلك في مثل الأقارير والوصايا يجب الأخذ بعرف المقرّ والموصي ؛ وذلك لأنّ الإقرار والوصيّة عبارة عن إنشاء أمر مع قصده لذلك الأمر ، وإلاّ فصرف الإنشاء بلا قصد لا أثر له. ولا ريب في أنّ اللفظ الذي يصدر عن المتكلّم ظاهر في إرادته لما هو المتعارف عنده وعند بلده قصدهم من ذلك اللفظ حين الاستعمال ، وأمّا الألفاظ المستعملة في لسان الشارع والأئمة عليهم‌السلام ، فظاهر فيما هو معنى اللفظ عند العرف العامّ ؛ وذلك لأنّ خطاباتهم ليست متوجّهة إلى شخص خاصّ ، أو بلد وقطر خاصّ ، أو أهل زمان خاصّ.

نعم لا بدّ وأن يكون المعنى المراد من اللفظ هو ما يفهمه العرف في زمان صدور الكلام ، وهذا أصل جار في جميع الموارد ، وحيث أنّ العرف العامّ في مادّة الولد كما تقدّم‌

__________________

(١) « مجمع الفائدة والبرهان » ج ٨ ، ص ٤٨٩.

(٢) « كفاية الأحكام » ص ٩٨.

١٧٤

هو الأعمّ من الذكر والأنثى فلا وجه لاختصاصه بالذكر ، ودعوى الانصراف لا يخلو من مجازفة.

ثمَّ الظاهر أنّه لا فرق بين الولد أن يكون من صلبه وبلا واسطة ، وبين ولد الولد ، أي ولد الابن ، وذلك لعموم اللفظ وشموله لكليهما ، وإن كان العلاّمة (١) والمحقّق (٢) والشهيد (٣) الثانيان قالوا باختصاص الحكم بالولد بلا واسطة ، نعم يمكن أن يقال بانصرافه عن ولد البنت ، وإن كان اللفظ بحسب الوضع أعمّ من ولد الابن والبنت جميعا.

ولكنّ الإنصاف أنّ دعوى الانصراف هاهنا غير بعيد.

الثاني : هل يختصّ هذا الحكم بالولد الصلبي ، أو يشمل الولد الرضاعي؟

الظاهر عدم الشمول ؛ وذلك من جهة أنّ الولد الرضاعي ليس بولد للأب الرضاعيّ حقيقة ، إذ لم يلده ، وإنّما هو تنزيل من قبل الشارع ، فيحتاج إلى إثبات عموم المنزلة. وكون « الرضاع لحمة كلحمة النسب » (٤) لا يثبت التنزيل من حيث جميع الآثار.

وأمّا شموله لولد الزنا فبحسب العرف واللغة فلا إشكال فيه ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « الولد للفراش » (٥) في مورد الشكّ ، وأمّا مع القطع بأنّه خلق من مائه فلا شك في أنّ هذه القاعدة لا تنفي النسب.

__________________

(١) « تذكرة الفقهاء » ج ١ ، ص ٤٨٥.

(٢) « جامع المقاصد » ج ٤ ، ص ٢٨٠.

(٣) « مسالك الافهام » ج ٣ ، ص ٣٢٧.

(٤) « الفقيه » ج ٣ ، ص ١٣٣ ، باب ولاء المعتق ، ح ٣٤٩٤ ؛ « تهذيب الأحكام » ج ٨ ، ص ٢٥٥ ، ح ٩٢٦ ، باب المعتق وأحكامه ، ح ١٥٩ ؛ « الاستبصار » ج ٤ ، ص ٢٤ ، ح ٧٨ ؛ باب أنّ ولاء المعتق لولد المعتق إذا مات ... ، ح ٣ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٦ ، ص ٥٥ ، أبواب كتاب العتق ، باب ٤٢ ، ح ٢ و ٦. وفي جميع المصادر : « الولاء لحمة كلحمة النسب ». نعم ذكر الحديث بنصّه في « الميزان في تفسير القرآن » ج ٤ ، ص ٢٨٣.

(٥) « عوالي اللئالي » ، ج ٢ ، ص ١٣٢ ، ح ٣٥٩ ؛ وص ٢٧٥ ، ح ٤١.

١٧٥

وأمّا ما ورد في باب إرثه وأنّه لا يرث ، فهذا حكم خاصّ لا ربط له بنفس النسبة مطلقا.

وأمّا دعوى انصراف الولد عن ولد الزنا في موضوعيّته لهذا الحكم ، فدعوى بلا دليل ، نعم الأحوط الاجتناب عن ارتكاب الربا بينهما ، فإنّه حسن على كلّ حال.

الثالث : بناء على شمول هذا الحكم للذكر والأنثى جميعا كما هو المختار ، وبناء على أنّ الخنثى ليس طبيعة ثالثة كما هو المختار ، بل هو إمّا ذكر أو أنثى وأمّا كونه مشكلا إنّما هو في مقام الإثبات لا في مقام الثبوت ، يكون الخنثى أيضا مشمولا لهذا الحكم بلا إشكال.

وأمّا الأمّ فلا يكون بمنزلة الأب قطعا ؛ لعدم شمول الرواية لها ، وليس دليل آخر من إجماع أو غيره في البين ، فيجب الأخذ بالنسبة إليها بعمومات التحريم.

وأمّا ادّعاء أنّ قوله عليه‌السلام في ما حكيناه عن الفقه الرضوي : « ليس بين الوالد وولده ربا » (١) ، وأيضا ما قاله المرتضى ـ قدس‌سره ـ : « وممّا انفردت به الإماميّة القول بأنّه لا ربا بين الوالد وولده » (٢) ، أنّ المراد من الوالد ـ وإن كان بصيغة المذكر ـ أعمّ من الأب والأمّ ، ممّا لا ينبغي الإصغاء إليه ؛ لأنّ الوالد لفظ موضوع للأب ، ولا يطلق على الأمّ أصلا.

وأمّا رواية عمرو بن جميع ورواية زرارة (٣) فصرّح فيهما بأنّه ليس بين الرجل وولده ربا ، وليس فيهما ما يتوهّم إمكان انطباقه على الأمّ.

وهذه الفروع التي ذكرناها كلّها كانت راجعة إلى المورد الأوّل من الموارد الأربعة.

__________________

(١) « فقه الرضا عليه‌السلام » ص ٢٥٨.

(٢) « الانتصار » ص ٢١٢.

(٣) سبق ذكرهما في ص ١٧٠ ، رقم ( ١ و ٣ ).

١٧٦

وهاهنا فروع راجعة إلى المورد الثاني من تلك الموارد ، أي عدم الربا بين السيّد وعبده :

فالأوّل : أنّه هل فرق بين العبد المكاتب وبين غيره أم لا؟

وجه الفرق هو أنّ المكاتب يملك ما يحصّله بالكسب ، فيكون في حكم سائر الناس ، ويحرم عليه أخذ الربا والفضل منه ، وأمّا غير المكاتب فلا يملك وماله مال سيده ؛ فلذلك يجوز أخذ السيّد عنه لأنّ أدلّة حرمة الربا منصرفة إلى أخذ مال الغير لا مال نفسه.

وأمّا المكاتب حيث أنّه يملك ، فيشمله أدلّة حرمة الربا ، ولا يجوز أخذ الفضل منه ، ومن هذه الجهة يكون كسائر الناس. ولكن أنت خبير بأنّه بناء على أنّ العبد لا يملك ، لا يبقى محلّ للبحث في أنّه يجوز أخذ الفضل والربا عنه أم لا ، ولا يبقى مورد لقوله عليه‌السلام ـ : « لا ربا بين السيّد وعبده » (١) إلاّ المكاتب ، لا أنّه يجوز الأخذ عن غير المكاتب ولا يجوز عنه.

فالظاهر عدم الفرق بين أقسام العبد من القنّ والمدبّر والمكاتب ، وحتّى أمّ الولد ، بناء على عدم اختصاص هذا الحكم بالرجل وشموله للأمة ، كما هو الأظهر وإن كان الأحوط عدم الأخذ عنها ، كلّ ذلك لأجل إطلاق النصّ.

فقوله عليه‌السلام في رواية زرارة ومحمّد بن مسلم : « ليس بين الرجل وولده ، ولا بينه وبين مملوكه ربا » (٢) وفي بعض النسخ : « وبين عبده » بدل « وبين مملوكه » وعلى كلّ واحد من الوجهين فيه إطلاق يشمل جميع أقسام العبد ، وهذا حكم تعبّدي.

__________________

(١) قطعة من رواية عمر بن جميع التي تقدمت ذكرها في ص ١٧٠ ، رقم (١).

(٢) « تهذيب الأحكام » ج ٧ ، ص ١٧ ، باب فضل التجارة وآدابها ، ج ٧٥ ؛ « الاستبصار » ج ٣ ، ص ٧١ ، ح ٣٢٦ ؛ باب أنّه لا ربا بين المسلم وبين أهل الحرب ، ح ٢ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٤٣٦ ، أبواب الربا ، باب ٧ ، ح ٤.

١٧٧

والوجوه التي ذكروها تعليلا لهذا الحكم ليست إلاّ وجوها استحسانيّة لا اعتبار بها في إثبات الأحكام الشرعيّة.

الثاني : الظاهر عدم الفرق بين كون المولى رجلا أو امرأة ، وقوله عليه‌السلام في رواية زرارة ومحمّد بن مسلم المتقدّمة : « ليس بين الرجل وولده ، ولا بينه وبين مملوكه » من باب الجري علي الغالب ، كما هو المتعارف في بيان أكثر الأحكام ، لا لخصوصيّة في الرجل ، وهذا واضح.

الثالث : إذا كان العبد مشتركا أو مبعّضا. أمّا المشترك بين مالكين أو أكثر ، فيصدق بالنسبة إلى كلّ واحد من المالكين أو الملاّك أنّه عبده ، خصوصا بالنسبة إلى حصّته منه ، فلو باع شيئا منه مع الفضل وفرضنا أنّ له نصف العبد فيملك نصف الفضل مع تمام الثمن إذا كان البائع هو وحده.

وذلك من جهة صدق أنّه باع هذا المقدار من عبده مع الفضل والربا ، ولا رباء بين السيّد وعبده ، بل يمكن أن يقال بأنّه يملك تمام الثمن وتمام الفضل ؛ لأنّه عبده ولا رباء بين السيّد وعبده.

ولكن هذا الاحتمال بعيد ؛ لأنّه ليس تمام العبد ملكه ، بل لا يملك إلاّ نصفه مثلا ولو كان المثمن لمالكين أحدهما مالك العبد بتمامه ، أو كان مالكا لنصفه ، فيمكن القول بصحّة المعاملة بالنسبة إلى النصف لصدق البيع من عبده مع الفضل بالنسبة إلى النصف ، والربا بالنسبة إليه لا يوجب البطلان ، نعم بالنسبة إلى النصف الآخر باطل ؛ لأنّه بيع ربويّ وداخل في المستثنى منه ، ولا استثناء بالنسبة إليه ؛ لأنّه ليس بسيّده.

نعم لو حصل الشكّ في شمول قوله عليه‌السلام : « لا رباء بين العبد وسيّده » لمثل هذا العبد المشترك أو المبعّض أو المكاتب أو المدبّر أو أمّ الولد ، ولم يكن إطلاق يرفع حكم الشكّ ، فمقتضى القاعدة هو الرجوع إلى عمومات أدلّة حرمة الربا ، كما هو الشأن في جميع موارد الشكّ في الشبهة المفهوميّة للمخصّص للعمومات كما في المقام.

١٧٨

ولكن أنت خبير بأنّ هذا صرف فرض في المقام ؛ لوضوح مفهوم السيّد والعبد في المقام وعدم خفاء فيه ، فالمالك بالنسبة إلى حصّته سيّد في العبد المشترك أو المبعّض ، كما أنّ العبد المشترك أو المبعّض بالنسبة إلى تلك الحصّة مملوك له يقينا ، وقد كان في رواية زرارة ومحمّد بن مسلم عنوان « بين الرجل ومملوكه » كما تقدّم.

هذا في العبد المشترك ، والكلام في المبعّض عين الكلام في المشترك حرفا بحرف. نعم ربما يقال إنّ ذيل صحيحة زرارة ومحمّد بن مسلم نفي حلّية الربا في العبد المشترك ، وهو قوله عليه‌السلام : « نعم وإنّك لست تملكهم إنّما تملكهم مع غيرك ، أنت وغيرك فيهم سواء ، والذي بينك وبينهم ليس من ذلك ، لأنّ عبدك ليس مثل عبدك وعبد غيرك ». وهذا الكلام منه عليه‌السلام بعد قول السائل : قلت : فالمشركون بيني وبينهم ربا؟ قال عليه‌السلام : « نعم » قلت : فإنّهم مماليك؟ فأجاب عليه‌السلام بقوله : « نعم » إلى آخر ما ذكرنا.

ولا ريب في أنّ ظاهر كلامه عليه‌السلام « نعم » ـ في جواب قول السائل : فالمشركون بيني وبينهم ـ يدلّ على ثبوت الربا إذا كان المملوك مشتركا بينك وبين غيرك ، ولكن يمكن أن يقال إنّ هذا الذيل لم يعمل الأصحاب به ؛ لمعارضته مع صدر الرواية ؛ لأنّ مفاد صدر الرواية عدم ثبوت الربا بين المسلمين ، والحربي والمشركون منهم ، بل الحكم في الكافر غير الذمّي إجماعي ، ولا شكّ في أنّ المشركين ليسوا بذمّيين.

وجمع بعضهم بين ما مفاده عدم ثبوت الربا بين المسلم والكافر الحربي ، وهذا الذيل الذي يدلّ على الثبوت ، بحمل الطائفة الأولى على غير المعاهد من الحربي ، والثانية على المعاهد ؛ وذلك لأنّ المعاهد ماله محترم ، فيكون كالمسلم في ثبوت عدم جواز أخذ الزيادة.

وفيه : أنّ الاحترام لا ينافي جواز أخذ الفضل ؛ لأنّ معنى الاحترام أن لا يأخذ ماله بدون رضاه وغصبا عليه ، وأمّا مع رضاه ورغبته فلا ، ولا شكّ أنّ الأخذ في المفروض برضائه ، فلا ينافي احترام ماله.

فهذا الذيل ـ بعد إعراض الأصحاب عنه وحكمهم بعدم ثبوت الربا بين المسلم‌

١٧٩

والحربيّ سواء كان معاهدا أو غير معاهد ـ أي جواز الأخذ عنه لا إعطائه الفضل ساقط عن الاعتبار ، فلا يجوز الأخذ به ، والحكم بثبوت الربا في العبد المشترك والمبعّض.

نعم الأحوط عدم جواز الأخذ لا لهذه الرواية بل للشكّ في صدق عنوان عبده ؛ لأنّه من المحتمل أن يكون صدق هذا العنوان منوطا بكون تمام العبد مملوكا له ، لا أن يكون مشتركا بينه وبين غيره ، أو مبعّضا يكون بعضه حرّا وبعضه ملكا له.

هذه الفروع كانت في مسألة عدم الربا بين السيّد وعبده.

وأمّا الاستثناء الثالث ، أي عدم ثبوت الربا بين الزوج وزوجته ففيه فروع أيضا :

الأوّل : هو أنّه هل هذا الحكم مختصّ بالزوجة الدائمة ، أم لا فرق بينها وبين كونها متعة وموقّتة؟

لا شكّ في أنّ الزوجة غير الدائمة ـ أي المنقطعة ـ زوجة حقيقة ، بل استظهرنا من الأدلّة أنّهما حقيقة واحدة ، وكونها موقّتة أو دائمة من المصنّفات لا من المنوّعات ، ولذلك حين العقد والإنشاء لو نسي ذكر الأجل ولم يذكر تقع دائمة ؛ لأنّ الدوام ينتزع من عدم التقييد بالأجل وإطلاق العقد.

فقوله عليه‌السلام : « ليس بين المرأة وزوجها ربا » (١) يصدق على المنقطعة حقيقة ، ولكنّ الكلام في أنّه هل ينصرف إلى الدائمة أم لا.

وفصّل بعض بين كون مدّة التمتع قليلة كساعة أو ساعتين ، وبين ما كانت كثيرة كسنة أو سنتين بل سنين عديدة. وكأنّ منشأ هذا التفصيل هو دعوى الانصراف في الأوّل دون الثاني ، فإذا كان زمان التمتع قليلا لا يراها العرف زوجة أو أهلا ، والشارع‌

__________________

(١) سبق ذكره في ص ١٧٠ ، رقم (٤).

١٨٠