القواعد الفقهيّة - ج ٥

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي

القواعد الفقهيّة - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي


المحقق: مهدي المهريزي
الموضوع : الفقه
الناشر: نشر الهادي
المطبعة: مؤسسة الهادي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-400-030-7

الصفحات: ٣٩٢

وفوق ذلك كلّه يكون قد عمل بها الأصحاب في ذلك المورد ، ومعلوم أنّه في هذا المورد لم يعمل بها الأصحاب ؛ لأنّ فتوى المشهور على التنصيف ، فلم يعملوا بها قطعا مضافا إلى أنّ مع وجود الرواية المعمول بها عند الأصحاب لا يبقى إشكال ولا جهل ولا اشتباه في حكم المورد ؛ فليس ما نحن فيه موردا للقرعة.

وأمّا الصلح القهريّ مع وجود تلك الرواية المعمول بها فلا وجه له ولا تصل النوبة إليه ، فالمتّجه هو الاحتمال الأوّل ، والعمل بالرواية والأخذ بفتوى المشهور.

ومنها : أي من فروع هذه القاعدة : لو أتلف على رجل ثوبا قيمته درهم مثلا ، فصالحه بأقلّ من قيمته أو بأزيد ، فهذا الصلح صحيح وإن قلنا بأنّ الربا المعامليّ يدخل في الصلح ، وليس مختصا بالبيع ، كما هو الصحيح عندنا ، وذكرنا وجهه في قاعدة « لا رباء إلاّ في المكيل والموزون » لأنّ الصلح وقع عن الثوب على أقلّ من قيمته أي درهم واحد ، أو على أزيد منه ، ولم يقع عن نفس القيمة على الأقلّ أو الأكثر منه كي يلزم الرباء.

وادّعى في الدروس أنّ صحّة هذه المعاملة على الوجه الذي ذكرنا هو المشهور.

وقد يقال إنّ صحّته وفساده دائر بين أن يكون التلف في القيميّات في اليد الغير المأذونة ، أو إذا أتلف كما هو المذكور في عنوان المسألة هل يوجب اشتغال الذمّة بقيمة التالف أو بمثله ، ويكون أداؤه بالقيمة ، أو التالف بنفسه بوجوده الاعتباريّ في الذمة ويكون أداؤه بالقيمة.

فإن قلنا بالأوّل ، أي حين التلف في اليد الغير المأذونة ، أو حين الإتلاف تشتغل الذمّة في القيميات بالقيمة ، فيكون واقعا عن القيمة على الأقلّ منه أو على الأكثر منها ، فيكون من الربا الباطل.

وأمّا إن قلنا إنّ الذمّة تشتغل بمثل التالف أو بنفسه بوجوده الاعتباريّ ، وإنّما يكون أداؤه بالقيمة ، أي الدرهم أو الدينار ، فالصلح صحيح ؛ لأنّ الصلح وقع عن‌

٤١

نفس التالف الذي ليس من المكيل والموزون كالثوب كما هو المفروض ، وإنّما أداؤه بالدرهم أو الدينار ، فلا رباء ، أو وقع من مثل التالف الذي اشتغلت ذمّته به ، وإنما أداؤه بالقيمة ؛ ففي هذا الفرض أيضا لا رباء ؛ ففي هذين الوجهين لا إشكال في صحّة الصلح.

هذا في مقام الثبوت ، وأمّا في مقام الإثبات فالظاهر أنّ ما يأتي في الذمّة بواسطة التلف في اليد الغير المأذونة ، أو بواسطة الإتلاف مطلقا في القيميّات هي القيمة ، كما حقّقناه في قاعدة اليد ، (١) فصحّة هذا الصلح إذا كان التالف من القيميّات في غاية الإشكال.

اللهمّ إلاّ أن يقال : على فرض القول في ضمان القيميّات أنّه تشتغل الذمّة من حين التلف أو الإتلاف بالقيمة لا بنفسه بوجوده الاعتباريّ ولا بمثله ، ولكن القيمة التي تشتغل الذمّة بها ليست خصوص النقدين المعروفين ، أي الدرهم والدينار ، بل المراد منها ماليّة التالف ، سواء قدر بالنقدين المعروفين أي الدرهم والدينار ، أو قدر بالأجناس الأخر التي لا يكال ولا يوزن ، كما إذا كانت من المعدودات ، أو ممّا يباع بالذراع والامتار ، أو كانت ممّا يباع بالمشاهدة كأنواع الحيوانات كالغنم والإبل وغيرهما.

فلو صالحه ، أي صالح الذي أتلف عليه عن متاعه الذي من القيميّات على مبلغ أزيد أو أقلّ من تلك القيمة الكلّية القابلة للانطباق على النقدين وعلى غيرهما ممّا لا يكال ولا يوزن ، فلا يكون من الربا الباطل ؛ لأنّ ذلك الكلّي ليس من الأجناس الربويّة ، لأنّه قابل للانطباق على الأجناس الغير الربويّة.

وخلاصة الكلام : أنّه بناء على هذا الذي ذكرنا كما أنّه لو كان التالف مثليّا الصلح عنه على الأقلّ أو الأزيد منه لا يكون من الربا الباطل ، كذلك لو كان من القيميّات ، وإن قلنا باشتغال ذمّته بالقيمة من حين التلف ، وذلك لأنّ المراد من القيمة ليس‌

__________________

(١) راجع « القواعد الفقهية » ج ١ ، ص ١٣١.

٤٢

خصوص النقدين المعروفين ، بل المراد مطلق الماليّة.

ومنها : أنّه لو كانت دار مثلا في يد شخص ، وادّعاها اثنان بسبب مشترك بينهما كالإرث مثلا ، وقالا : ورثنا هذه الدار من أبينا ، فكلّ واحد يدّعي نصف تلك الدار وأنّه له بسبب مشترك وهو الإرث من أبيهما ، فصدّق المتشبث ـ أي ذو اليد ـ أحدهما دون الآخر ، بمعنى أنّه أقرّ لأحدهما المعيّن بأنّ نصف هذه الدار لك ، وصالحه عن ذلك النصف المقرّ به له على مال ، فتارة يجيز الآخر هذا الصلح بعد وقوعه أو يأذن قبله ؛ فهذا الصلح صحيح في تمام نصف الدار ، ويكون المال مشتركا بينهما ؛ لأنّ كلّ واحد من المدّعيين مقرّ بأنّ النصف الذي وقع الصلح عنه على ذلك المال مشاع بينهما ، فبعد الإذن أو إجازة الشريك الآخر وصحّة الصلح ، يكون العوض لهما على الإشاعة.

وأخرى : لا يمضى الآخر ولا يقبله ، فيكون الصلح في نصف ذلك النصف ـ أي الربع ـ صحيحا ، وفي الربع الذي للآخر فضوليّا وباطلا ؛ لردّه وعدم إمضائه.

هذا كلّه فيما إذا اتّفقا على وحدة سبب استحقاقهما ، وأمّا إذا لم يتّفقا في ذلك ، بل ادّعى أحدهما أنّ نصف هذه الدار مشاعا لي من جهة اشترائي من فلان ، والآخر أيضا ادّعى أنّ نصفها المشاع لي بسبب آخر ، كإرثه من أبيه ، أو اتّهابه من فلان ، أو اشترائه وأمثال ذلك من أسباب التمليك غير سبب ملكيّة الآخر ، فلو صالح أحدهما عن نصفه مثلا على مال يكون الصلح في تمام حصّته صحيحا ، ويكون تمام العوض له ، وهذا واضح جدّا.

وأمّا لو كان شراؤهما لتلك الدار معا ، بمعنى أنّ صاحب الدار قال لهما : بعتكما هذه الدار فقبلا دفعة ، أو قبل وكيلهما عنهما أو اتّهابها معا ، وكذلك قبضهما دفعة ومعا.

فهل هذا مثل كون ملكهما عن سبب واحد ، فإذا أقرّ ذو اليد لأحدهما بنصف الدار مثلا ، وصالح المقرّ له عن ذلك النصف على مال ، يكون نصف مال المصالحة لذلك الآخر الذي هو شريك مع هذا الذي صالحه إن أذن في الصلح قبلا ، أو أجاز بعد‌

٤٣

وقوعه ، وإن لم يأذن ولم يجز ، فالصلح باطل في حصّته وصحيح في نصف ذلك النصف الذي وقع الصلح عنه ، أي في ربع الدار المفروض ويرجع نصف مال المصالحة إلى مالكه قبل وقوع الصلح أي المصالح المذكور ، أولا؟ بل يكون ملحقا بما إذا كان ملكيّة الشريكين من سببين متغايرين ، فيكون الصلح صحيحا في تمام حصّة المقرّ له ، ولا دخل للشريك الآخر في هذا الصلح ، وليس لإمضائه ولا لردّه أثر في صحّة هذا الصلح ، ولا في بطلانه؟

ربما يقال : بأنّ ذا اليد لو أقرّ بملكيّة أحدهما مرجعه إلى وقوع الاتّهاب أو الابتياع بالنسبة إليه ، ولا يمكن التفكيك بين وقوع الاتّهاب أو الابتياع بالنسبة إلى المقرّ له دون الآخر ؛ لأنّ المدّعيين متّفقان في وحدة سبب ملكيّتهما وهو الاتّهاب مع القبض منهما دفعة ، فيكون الآخر غير المقرّ له مقرّا ومعترفا بأنّ كلّ نصف من الإنصاف المتصوّرة في هذه الدار يكون له وللآخر ، فإذا كان ذو اليد يعلم فلازم إقراره لأحدهما إقراره لكليهما. نعم يمكن لذي اليد دعوى أنّ الاتّهاب والابتياع لم يقع إلاّ في نصف هذه الدار.

وأمّا الشريكان فالمفروض اتّفاقهما على أنّ هذه الدار جميعها ـ ابتياعا بصيغة واحدة ، أو اتّهابا بقبول واحد وقبض واحد ـ مشاع بينهما ، فإذا رفع الغاصب يده عن نصف الدار فقهرا يكون ذلك النصف لكليهما لا لأحدهما ، فيكون الصلح مع أحدهما عن نصف الدار فضوليّا بالنسبة إلى نصف ذلك النصف ، أي ربع تلك الدار موقوفا على إجازة المالك ، وهو الشريك الآخر غير المقرّ له.

ولكن التحقيق : أنّ الإقرار لأحد الشريكين إذا كان سببها ـ أي الشركة ـ واحدا لا ينصرف إلى حصّة المقرّ له وحده ، بل الغاصب لما رفع اليد عن نصف مال المغصوب من الشريكين يكون لهما ، ولا وجه لاختصاصه بأحد الشريكين وإن أقرّ بأنّه لأحدهما.

هذا في الإقرار وأمّا بالنسبة إلى البيع والصلح ، فإن باع أحد الشريكين النصف‌

٤٤

المشاع من المال المشترك الذي يملكه ، فإن صرّح بأنّ المبيع هو نصف نفسه أو نصف شريكه يكون هو المبيع ؛ لأنّه عيّن المبيع ، وأمّا إن أطلق ، فالظاهر أنّه ينصرف إلى نصف نفسه ، وقد حقّقنا هذه المسألة في مسألة من باع نصف الدار وله ملك نصفها ينصرف إلى ما يملكه من نصفها المشاع.

وبعبارة أخرى : تارة يعيّن في مقام البيع حصّة شريكه ، أي يبيع نصف الدار لشريكه ، وأخرى : النصف المشاع الذي يملكه هو ، فيقع البيع عمّن قصده نفسه أو شريكه ، وثالثة يطلق ، لا يقصد بيع نصف نفسه ، ولا نصف شريكه.

ولعلّ هذه الصورة صارت محلّ البحث في مسألة من باع نصف الدار وله ملك نصفها ، فالمدّعى أنّ الظاهر في هذه الصورة انصراف البيع إلى ما يملكه ، لا أن يبيع مال غيره ، بدون ذكره والانتساب إليه.

هذا حال البيع ، وكذلك الصلح إذا وقع عن حصّة مشاعة بين من يصالح معه وبين غيره ، فالظاهر أنّه ينصرف إلى حصّة من يصالح معه ، فيكون الصلح بالنسبة إلى تمام ما يصالح عنه وهي الحصّة المشاعة التي لمن يصالحه صحيحا ، ويكون تمام المال المصالحة له ، ولا يستحقّ شريكه شيئا منه.

قال في جامع المقاصد (١) في مقام ترجيح صحّة الصلح المذكور في تمام ما صالح عنه ، ووقوعه عن تمام حصّة المصالح معه ، وبعبارة : كونه كالصلح عن مال غير مشاع مشخّص معيّن ، أو المشاع بسبب غير سبب الحصّة التي للشريك.

قال : ولقائل أن يقول : لا فرق بين تغاير السبب وكونه مقتضيا للتشريك في عدم الشركة ؛ لأنّ الصلح إنّما هو على استحقاق المقرّ له ، وهو أمر كلّي يمكن نقله عن مالكه إلى آخر ، ولهذا لو باع أحد الورثة حصّته من الإرث صحّ ولم يتوقّف على رضا الباقين.

__________________

(١) « جامع المقاصد » ج ٥ ، ص ٤٣٤.

٤٥

ثمَّ اعلم أنّ الفروع التي ذكرها الفقهاء في كتاب الصلح كثيرة ، ولكن البحث عنها غالبا يرجع إلى قواعد أخر غير قاعدة « الصلح جائز بين المسلمين » ولذلك تركنا ذكرها لكي يكون البحث عنها في كتاب الصلح كما هو ديدن الفقهاء رضوان الله تعالى عليهم.

والحمد لله أوّلاً وآخراً ، وظاهراً وباطناً.

٤٦

٤٧ ـ قاعدة التقية‌

٤٧
٤٨

قاعدة التقية *

ومن جملة القواعد الفقهيّة عند الإماميّة الاثنى عشريّة « قاعدة التقيّة » وهي قاعدة مشهورة معروفة.

والبحث فيها من جهات :

الجهة الأولى

في المراد منها

أقول : التقيّة اسم مصدر من تقى يتقي أو من اتّقى يتّقى ، وعلى كلّ تقدير سواء كان من الثلاثي أو من المزيد أصل المادة من اللفيف المفروق ، والحرف الأوّل واو ، والثالث ياء فقلبت الواو تاء كما في تجاه وتراث ، فبناء على هذا لا فرق من حيث المعنى بين التقيّة والاتّقاء إلاّ ما هو من الفرق بين المصدر واسمه.

هذا بناء على أن تكون التقيّة اسم المصدر ، وأمّا بناء على أن تكون هي المصدر الثاني لاتّقى فلا فرق بينهما أصلا.

وعلى أيّ واحد من التقديرين هي عبارة عن إظهار الموافقة مع الغير في قول أو فعل أو ترك فعل يجب عليه حذرا من شرّه الذي يحتمل صدوره بالنسبة إليه ، أو‌

__________________

* « القواعد والفوائد » ج ٢ ، ص ١٥٥ ـ ١٥٧ ؛ « الأقطاب الفقهيّة » ص ٩٨ ؛ « الأصول الأصليّة والقواعد الشرعيّة » ص ٣١٧ ؛ « الرسائل الفقهيّة » ( الشيخ الأنصاري ) ص ٧١ ؛ « مناط الأحكام » ص ٢٦ ؛ « أصول الاستنباط بين الكتاب والسنّة » ص ١٢١ ؛ « القواعد » ص ٩٣ ؛ « القواعد الفقهيّة » ( مكارم الشيرازي ) ج ١ ، ص ٣٨٣ ؛ « ما وراء الفقه » ج ١ ، ص ١٠٨.

٤٩

بالنسبة إلى من يحبّه مع ثبوت كون ذلك القول أو ذلك الفعل أو ذلك الترك مخالفا للحقّ عنده.

إذا تبيّن المراد من التقيّة ، فنقول :

تارة : نتكلّم في التقيّة من حيث الحكم التكليفي وأنّه يجوز أم لا يجوز.

وأخرى : من حيث ترتّب آثار ما هو الواقع والحقّ على هذا الفعل أو الترك بواسطة إذن الشارع في الإتيان أو الترك المخالفين للواقع.

وثالثة : في أنّه هل تترتّب على ذلك الفعل أو الترك المخالفين للحقّ الآثار الشرعيّة التي رتّبها الشارع عليهما لو صدرا عنه بالاختيار وبميله من دون تقيّة ، أو صدورها تقيّة يوجب رفع تلك الآثار.

فالتكلّم في التقيّة في مقامات ثلاث :

المقام الأوّل

في بيان حكمها التكليفي وأنّه يجوز أو لا يجوز‌

أقول : لا شكّ في جوازه ، بل وجوبه في بعض الأحيان. وجوازه من القطعيّات واليقينيّات إجماعا وكتابا وسنّة.

أمّا الإجماع ، فوجوده وعدم حجيّته معلوم ؛ لكون اعتمادهم على تلك المدارك القطعيّة ، فليس من الإجماع المصطلح.

وأمّا الكتاب ، فقوله تعالى ( لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْ‌ءٍ إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ ) (١) وقوله تعالى : ( مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ

__________________

(١) آل عمران (٣) : ٢٨.

٥٠

وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ ) (١).

أمّا الروايات ، ففوق حدّ الاستفاضة بل لا يبعد تواترها معنى ، وقد عقد في الوسائل أبوابا لها في كتاب الأمر بالمعروف نذكر بعضها :

منها : ما في الكافي عن هشام بن سالم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : « إنّ قول الله عزّ وجل ( أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا ) قال : بما صبروا على التقيّة ( وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ ) (٢) قال : الحسنة التقيّة والإساءة الإذاعة » (٣).

وأيضا في الكافي أيضا عن هشام بن سالم ، عن أبي عمرو ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال لي أبو عبد الله عليه‌السلام : « يا أبا عمرو تسعة أعشار الدين التقيّة ، ولا دين لمن لا تقيّة له » (٤).

أيضا عن الكافي عن معمّر بن خلاّد قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن القيام للولاة؟ فقال : قال أبو جعفر : « التقيّة من ديني ودين آبائي ، ولا إيمان لمن لا تقيّة له » (٥).

أيضا عن الكافي عن محمّد بن مروان ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال عليه‌السلام : « كان أبي عليه‌السلام يقول : وأيّ شي‌ء أقرّ لعيني من التقيّة ، إنّ التقيّة جنّة المؤمن » (٦).

أيضا عن الكافي عن عبد الله بن أبي يعفور ، قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول :

__________________

(١) النحل (١٦) : ١٠٦.

(٢) القصص (٢٨) : ٥٤.

(٣) « الكافي » ج ٢ ، ص ٢١٧ ، باب التقيّة ، ح ١ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١١ ، ص ٤٥٩ ؛ أبواب الأمر والنهى ، باب ٢٤ ، ح ١.

(٤) « الكافي » ج ٢ ، ص ٢١٧ ، باب التقيّة ، ح ٢ ؛ « المحاسن » ص ٢٥٩ ، ح ٣٠٩ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١١ ، ص ٤٦٠ ، أبواب الأمر والنهى ، باب ٢٤ ، ح ٣.

(٥) « الكافي » ج ٢ ، ص ٢١٩ ، باب التقيّة ، ح ١٢ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١١ ، ص ٤٦٠ ، أبواب الأمر والنهى ، باب ٢٤ ، ح ٣.

(٦) « الكافي » ج ٢ ، ص ٢٢٠ ، باب التقيّة ، ح ١٤ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١١ ، ص ٤٦٠ ، أبواب الأمر والنهى ، باب ٢٤ ، ح ٤.

٥١

« التقيّة ترس المؤمن ، والتقيّة حذر المؤمن ، ولا إيمان لمن لا تقيّة له » (١).

أيضا عن الكافي عن عبد الله بن أبي يعفور ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « اتّقوا على دينكم واحجبوه بالتقيّة ، فإنّه لا إيمان لمن لا تقيّة له » (٢).

أيضا عن الكافي عن حبيب بن بشير قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : « سمعت أبي يقول : لا والله ما على وجه الأرض شي‌ء أحبّ إلى من التقيّة ، يا حبيب إنّه من كانت له تقيّة رفعه الله ، يا حبيب من لم تكن له تقيّة وضعه الله ، يا حبيب إنّ الناس إنّما هم في هدنة ، فلو قد كان ذلك كان هذا » (٣).

أيضا عن الكافي عن حريز ، عمن أخبره ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قول الله عزّ وجلّ ( وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ) قال عليه‌السلام : « الحسنة التقيّة والإساءة الإذاعة » (٤).

أيضا عن الكافي عن هشام بن سالم ، عن أبي عمرو الكناني ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث أنّه قال : « يا أبا عمرو أبى الله إلاّ أن يعبد سرّا ، أبى الله عزّ وجلّ لنا ولكم في دينه إلاّ التقيّة » (٥).

أيضا عن الكافي عن محمّد بن مسلم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « كلّما تقارب هذا‌

__________________

(١) « الكافي » ج ٢ ، ص ٢٢١ ، باب التقيّة ، ح ٢٣ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١١ ، ص ٤٦١ ، أبواب الأمر والنهى ، باب ٢٤ ، ح ٦.

(٢) « الكافي » ج ٢ ، ص ٢١٨ ، باب التقيّة ، ح ٥ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١١ ، ص ٤٦١ ، أبواب الأمر والنهي ، باب ٢٤ ، ح ٧.

(٣) « الكافي » ج ٢ ، ص ٢١٧ ، باب التقيّة ، ح ٤ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١١ ، ص ٤٦١ ، أبواب الأمر والنهي ، باب ٢٤ ، ح ٨.

(٤) « الكافي » ج ٢ ، ص ٢١٨ ، باب التقيّة ، ح ٦ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١١ ، ص ٤٦١ ، أبواب الأمر والنهي ، باب ٢٤ ، ح ٩.

(٥) « الكافي » ج ٢ ، ص ٢١٧ ، باب التقيّة ، ح ٣ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١١ ، ص ٤٦٢ ، أبواب الأمر والنهي ، باب ٢٤ ، ح ١٠.

٥٢

الأمر كان أشدّ للتقيّة » (١).

أيضا عن الكافي عن ابن مسكان عن حريز عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « التقيّة ترس الله بينه وبين خلقه » (٢).

ولا يحتاج دلالة هذه الأخبار على جواز التقيّة إلى البيان والشرح والإيضاح ؛ لكونه في غاية الوضوح.

نعم ذكر شيخنا الأعظم الأنصاري قدس‌سره في رسالته المعمولة في التقيّة أنّها تنقسم إلى الأحكام الخمسة (٣).

وخلاصة كلامه في تصوير انقسامها إلى الأحكام الخمسة : أنّ الواجب ما يكون لدفع ضرر متوجّه إليه من النفس أو العرض بحيث يكون دفعه واجبا ، ولا يدفع ذلك الضرر الواجب الدفع إلاّ بالتقيّة ، فتكون واجبة.

والمستحبّ ما كان موجبا للتحرّز عن كونه معرضا للضرر ، بمعنى أنّه من الممكن أن يكون تركها مفضيا إلى الضرر تدريجا ، كترك المداراة مع المخالفين ، وهجرهم في المعاشرة في بلادهم ، فإنّه ينجرّ غالبا إلى حصول المباينة الموجبة للمعاداة التي تترتّب عليها الضرر غالبا ، فالحضور في جماعاتهم والعمل على طبق أعمالهم تقيّة مستحبّ لأجل هذه الغاية ، وإن لم يكن ضرر فعلا في تركها.

والمباح ما كان التحرّز عن الضرر بالتقيّة وتركه بعدم التقيّة متساويان في نظر الشارع ؛ لكون مصلحة التقيّة وتركها متساويتين ، كما قيل في إظهار كلمة الكفر حيث أنّ في فعل التقيّة مصلحة ، وفي تركها أيضا مصلحة إعلاء كلمة الإسلام ، وفرضنا أنّ‌

__________________

(١) « الكافي » ج ٢ ، ص ٢٢٠ ، باب التقيّة ، ح ١٧ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١١ ، ص ٤٦٢ ، أبواب الأمر والنهي ، باب ٢٤ ، ح ١١.

(٢) « الكافي » ج ٢ ، ص ٢٢٠ ، باب التقيّة ، ح ١٩ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١١ ، ص ٤٦٢ ، أبواب الأمر والنهى ، باب ٢٤ ، ح ١٢.

(٣) « المكاسب » ص ٣٢٠.

٥٣

مصلحة حفظ النفس التي في التقيّة مع مصلحة إعلاء كلمة الإسلام التي في تركها متساويتان.

والمحرّم كما في الدماء ، فقتل المؤمن في مورد لا يستحقّ القتل تقيّة حرام بلا كلام.

والمكروه ما يكون ضدّه أفضل.

هذا ما ذكره الشيخ الأعظم الأنصاري قدس‌سره في انقسام التقيّة إلى الأحكام الخمسة.

وفي بعضها خصوصا الأخير تأمّل واضح ؛ لأنّ ترك المستحبّ ليس بمكروه ، مع أنّ نقيضه أفضل ، فلو كانت الحركة من بلد أفضل من الوقوف فيه ، فهذا لا يلازم كون الوقوف مكروها ، فالأولى التمثيل للمكروه بما ذكره الشهيد قدس‌سره وهو التقيّة بإتيان ما هو مستحبّ عندهم ، مع عدم خوف الضرر لا عاجلا ولا آجلا إذا كان ذلك الشي‌ء مكروها واقعا ، وإلاّ لو كان حراما فالتقيّة بإتيانه لموافقتهم حرام.

هذا ما ذكروه ، ولكن الذي يظهر من الأخبار المستفيضة بل المتواترة هو استحباب التقيّة بل وجوبها ـ بموافقتهم عملا بل فتوى ـ فيما إذا احتمل ترتّب ضرر على نفسه ، أو على إخوانه المؤمنين.

وهذا الذي قلنا من استحباب التقيّة أو وجوبها كان في الأزمنة السابقة في أيّام سلاطين الجور الذي ربما كان تركها ينجر إلى قتل الإمام عليه‌السلام أو إلى قتل جماعة من المؤمنين ، وأمّا في هذه الأزمنة بحمد الله حيث لا محذور في العمل بما هو الحقّ ومقتضى مذهبه في العبادات والمعاملات ، فلا يوجد موضوع للتقية.

نعم إذا تحقّق موضوع التقيّة في زمان أو مكان ، فالواجب منها لا يعارض بأدلّة الواجبات والمحرّمات ، وذلك لحكومة دليل وجوب التقيّة على تلك الأدلّة كما هو الشأن في سائر أدلّة العناوين الثانوية بالنسبة إلى أدلّة العناوين الأوّلية ، وذلك كأدلّة نفي العسر والحرج والضرر بالنسبة إلى الأدلّة الأوّلية حيث أنّها حاكمة على الأدلّة الأوّلية بالحكومة الواقعية ، إلاّ في حديث الرفع بالنسبة إلى خصوص ما لا يعلمون ،

٥٤

فإنّ حكومته على الأدلة الأوّلية حكومة ظاهريّة.

المقام الثاني‌

وهو المهمّ في المقام ، وهو أنّه هل تترتّب آثار الواقع والحقّ على هذا الفعل أو الترك المخالف للحقّ بواسطة إذن الشارع في ذلك الفعل الذي يفعله لأجل التقيّة أو إذنه في ترك أمر لأجلها ، أو لا تترتّب؟

ثمَّ التكلّم في ترتّب آثار الواقع وما هو الحقّ تارة بالنسبة إلى خصوص أثر القضاء والإعادة ، وأنّ ذلك الفعل المخالف للواقع والحقّ هل هو مجز ولا إعادة عليه لو ارتفعت التقيّة في الوقت ، ولا قضاء إذا ارتفعت في خارج الوقت ، أم ليس بمجز بل تجب الإعادة بعد ارتفاع التقيّة في الوقت ، بحيث يمكن إتيان ما هو الواقع في الوقت ، ويجب القضاء لو ارتفعت التقيّة في خارج الوقت.

وأخرى : بالنسبة إلى سائر آثار الصحّة ، مثل أنّه لو توضّأ بالوضوء تقيّة من الأسفل إلى الأعلى في غسل اليدين أو غسل الرجلين بدل مسحهما ، فهل يترتّب عليه أثر الوضوء الصحيح والواقعي من رفع الحدث بحيث لو ارتفعت التقيّة لا يحتاج إلى الوضوء ثانيا على نهج الحقّ للصلوات الأخر ، أم لا؟

أمّا القسم الأوّل : أي ترتّب الأثر عليه من حيث الإجزاء وسقوط الإعادة والقضاء.

فالتحقيق فيه : أنّ كلّ فعل واجب من الواجبات إذا أتي به موافقا لمن يتّقيه وكان مخالفا للحقّ في بعض أجزائه وشرائطه ، بل وفي إيجاد بعض موانعه ، فإن كان مأذونا من قبل الشارع في إيجاد ذلك الواجب بعنوان أنّه واجب للتقيّة فهو مجز عن الواقع ، ولا يجب عليه الإعادة إذا ارتفع الاضطرار في الوقت ، ولا القضاء إذا ارتفع في خارج‌

٥٥

الوقت ؛ وذلك لما حقّقنا في كتابنا « منتهى الأصول » (١) في مبحث الإجزاء أنّ الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي الثانوي مجز عن الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي الأوّلي ، سواء كان رفع الاضطرار في الوقت ، أو في خارج الوقت.

ولا فرق في كونه مأذونا بين أن يكون الرخصة والإذن بعنوان ذلك الواجب بخصوصه ، كما أنّه ورد الإذن في خصوص المسح على الخفّين في صحيح أبي الورد : قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : إنّ أبا ظبيان حدّثني أنّه رأى عليا عليه‌السلام أنّه أراق الماء ثمَّ مسح على الخفيّن ، فقال عليه‌السلام : « كذب أبو ظبيان ، أما بلغك قول عليّ عليه‌السلام فيكم : سبق الكتاب المسح على الخفين؟ » فقلت : هل فيهما رخصة؟ فقال عليه‌السلام : « لا إلاّ من عدوّ تتّقيه ، أو ثلج تخاف على رجليك » (٢).

أو كان بعنوان عامّ يشمل جميع الواجبات ، كقوله عليه‌السلام : « التقيّة من ديني ودين آبائي » (٣) وكذلك قوله عليه‌السلام : « التقيّة في كلّ شي‌ء إلاّ في ثلاث : شرب النبيذ ، والمسح على الخفّين ، ومتعة الحجّ » (٤).

ودلالة هذه الروايات الكثيرة التي هي فوق حدّ الاستفاضة على الإذن والرخصة في امتثال الواجبات موافقة للمخالفين تقيّة منوطة بأن يكون المراد من التقيّة الواردة فيها هو العمل الذي يأتي به تقيّة ، أي ما يتّقى به.

وظهور لفظ « التقيّة » في هذا المعنى لا يخلو من نظر ؛ لأنّ التقيّة كما تقدّم مصدر أو‌

__________________

(١) « منتهى الأصول » ج ١ ، ص ٢٤٢.

(٢) « تهذيب الأحكام » ج ١ ، ص ٣٦٢ ، ح ١٠٩٢ ، باب صفة الوضوء والفرض منه ، ح ٢٢ ؛ « الاستبصار » ج ١ ، ص ٧٦ ، ح ٢٣٦ ، باب جواز التقية في المسح على الخفّين ، ح ١ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١ ، ص ٣٢٢ ، أبواب الوضوء ، باب ٣٨ ، ح ٥.

(٣) « الكافي » ج ٢ ، ص ٢١٩ ، باب التقيّة ، ح ١٢ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١١ ، ص ٤٦٠ ، أبواب الأمر والنهي ، باب ٢٤ ، ح ٣.

(٤) « الكافي » ج ٣ ، ص ٣٢ ، باب مسح الخف ، ح ٢ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١١ ؛ ص ٤٦٩ ، أبواب الأمر والنهي ، باب ٢٥ ، ح ٥.

٥٦

اسم مصدر وبمعنى الاتّقاء ، فكون الاتّقاء من الدين أي : يجب الاتّقاء.

وهكذا قوله عليه‌السلام : « لا دين لمن لا تقيّة له » (١) أي : لا دين لمن ترك التقيّة ويلقى نفسه في الهلكة ، وهذا غير أن يكون ما يتّقى به من العمل الموافق لهم المخالف للحقّ من الدين.

ويمكن أن يكون نظر المحقّق الثاني (٢) قدس‌سره في التفصيل الذي ذكره ـ بين الإذن في إتيان واجب بخصوصه تقيّة ، أي موافقا مع من يخاف منه وإن كان مخالفا للحقّ في نظره ، فيكون مجزيا فلا إعادة عليه ولا القضاء بعد رفع الخوف ؛ وبين ما إذا كان الواجب الذي يأتي به تقيّة لم يرد في إتيانه بذلك الوجه المخالف للحقّ إذن ورخصة بالخصوص ، بل ليس في البين إلاّ تلك الأخبار العامّة الآمرة بلزوم التقيّة بقوله عليه‌السلام : « التقيّة من ديني ودين آبائي » (٣) ، ورواية المعلّى بحذف « من » ، وهي رواية أخرى ، والرادعة عن تركها بقوله عليه‌السلام : « لا دين لمن لا تقيّة له » (٤) ـ إلى هذا الذي ذكرنا من كون نظر الأخبار العامّة إلى لزوم الاتّقاء ووجوبه وحرمة تركه وإلقاء نفسه في الهلكة ، وإلاّ فأيّ فرق بين أن يكون الإذن والرخصة بصورة القضيّة الشخصيّة الخارجيّة ، بصورة القضيّة الكلّية الحقيقيّة.

والإنصاف : أنّه لا يمكن إسناد مثل هذا إلى مثل ذلك المحقّق الذي هو من أعاظم أساطين الفقه.

وعلى كلّ حال إذا صدر إذن من قبل الشارع بإتيان واجب بخصوصه أو الواجبات عموما بصورة عامّة موافقا معهم ، وإن كان مخالفا للحقّ من جهة الخوف‌

__________________

(١) سبق ذكره في ص ٥١ ، رقم (٤).

(٢) « رسائل المحقق الكركي » ج ٢ ، ص ٥١.

(٣) سبق ذكره في ص ٥١ ، رقم (٥).

(٤) « الكافي » ج ٢ ، ص ٢٢٣ ، باب الكتمان ، ح ٨ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١١ ، ص ٤٨٥ ، أبواب الأمر والنهي ، باب ٣٢ ، ح ٦.

٥٧

على نفسه ، أو عرضه ، أو ماله ، أو الخوف على غيره كذلك ، يكون إتيانه مجزيا عن الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي الأوّلي ثانيا لما ذكرنا.

هذا كلّه إذا صدر الإذن بامتثال الواجب الموسّع موافقا للمخالفين بمجرّد تحقّق التّقية ، وأمّا لو لم يصدر إذن من قبله بذلك ، فهل يشمل الأوامر المطلقة الأوّلية المتعلّقة بالواجبات لمثل هذا الفرد المخالف للحقّ والواقع ، بضميمة أوامر وجوب استعمال التقيّة في مقام الامتثال وحرمة تركها ، أم لا؟

فإن قلنا بالأوّل وشمولها لمثل ذلك الفرد ، فيكون أيضا مجزيا ، ولا يحتاج إلى القضاء والإعادة بعد ارتفاع الخوف والاضطرار ، ويكون حاله حال ما ورد الإذن بفعله موافقا لهم ، بل هو هو.

وأمّا إن قلنا بعدم شمولها له ، فما أتى به تقيّة ليس بمجز قطعا ؛ لأنّه لم يأت بما هو المأمور به ، وجواز التقيّة أو وجوبه لا أثر له في هذا المقام.

نعم لو ورد دليل خاصّ على أنّ هذا الفاقد للشرط أو الجزء ، أو هذا العمل وجه فيه المانع مجز عن الواقع فهو ، وإلاّ فصرف جواز الإتيان بواسطة الخوف لا يوجب سقوط الإعادة والقضاء إذ مقتضى إطلاق دليل ذلك الجزء ، أو ذلك الشرط ، أو ذلك المانع عدم اختصاصه بحال الاختيار ، بحيث إذا لم يتمكّن من إتيانه في الجزء أو الشرط أو من تركه في المانع يسقط التكليف لعدم القدرة شرعا على إتيان ما هو المأمور به واقعا.

نعم لو لم يكن لدليل ذلك الشرط أو الجزء أو ذلك المانع إطلاقا يثبت جزئيّته أو شرطيّته أو مانعيّته في ذلك الحال ، أو كان مفاد أدلّتها تقييدها بحال التمكّن ، وكان لدليل ذلك العمل المركّب إطلاق بالنسبة إلى حالتي وجود ذلك القيد وعدمه ، وتعذّره وعدمه ، فنفس دليل ذلك الواجب المركّب يوجب صحّة ذلك العمل الذي هو فاقد الجزء أو الشرط أو هو واجد للمانع.

٥٨

ولا فرق بين أن يكون تعذّر القيد فعلا أو تركا من جهة التقيّة ، أو من جهة أخرى من أنواع الاضطرار إلى الفعل أو الترك ؛ لأنّ المناط في الجميع واحد ، وهو عدم القدرة على الإتيان بالمأمور به الواقعيّ. وقد حرّرنا المناط في كتابنا « منتهى الأصول » (١) إن شئت فراجع.

نعم سنتكلّم في أنّ أمر التعذّر من جهة التقيّة أوسع من التعذّر من الجهات الأخر ، وعمدة ذلك هو أنّ التقيّة شرّعت لأجل حفظ دماء المتّقين ، ولذلك لا يعتبر فيها عدم وجود المندوحة ، كما سنبيّن إن شاء الله تعالى.

وعلى كلّ حال الذي يسهل الخطب ويثبت إجزاء فاقد الشرط أو الجزء أو واجد المانع هو عمومات بعض أخبار التقيّة ، كقوله عليه‌السلام : « التقيّة ديني ودين آبائي » في رواية المعلّى أو : « من ديني ودين آبائي » كما في سائر الطرق ، بناء على أن يكون المراد من التقيّة هو العمل الموافق لهم المخالف للحقّ ، أي ما يتّقى به ، لا الاتّقاء كما هو ظاهر اللفظ.

وأمّا الاستدلال للإجزاء برواية مسعدة بن صدقة بقوله عليه‌السلام فيه : « فكلّ شي‌ء يعمل المؤمن بينهم لمكان التقيّة ممّا لا يؤدّي إلى الفساد فإنّه جائز » (٢) لا يخلو من تأمّل ؛ لأنّ ظاهر قوله عليه‌السلام « فإنّه جائز » هو الجواز تكليفا ، وهذا لا ربط له بالإجزاء ، وإلاّ فهذا المعنى قطعيّ ولا كلام فيه من أحد ، نعم قيّد عليه‌السلام الجواز بما لا يؤدّي إلى الفساد ، وإلاّ لو أدّى إليه فلا يجوز حتّى تكليفا.

فالعمدة في دلالة روايات التقيّة على الإجزاء هو الذي قلنا من كون التقيّة دينا أنّه يرجع إلى أنّه حكم واقعي ثانوي ، وقد أثبتنا كونه مجزيا في مبحث الإجزاء في‌

__________________

(١) « منتهى الأصول » ج ١ ، ص ٢٤٤.

(٢) « الكافي » ج ٢ ، ص ١٦٨ ، باب فيما يوجب الحق لمن انتحل الإيمان وينقضه ، ح ١ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١١ ، ص ٤٦٩ ، أبواب الأمر والنهي ، باب ٢٥ ، ح ٦.

٥٩

الأصول (١) ، وقلنا إنّه متوقّف على أن يكون المراد من التقيّة هو العمل الذي يتقى به ، لا الاتّقاء بالعمل ، ولا يبعد ذلك ، فيكون كالوصيّة بمعنى ما أوصى به ، فكما أنّ الوصيّة اسم مصدر للإيصاء وقد يجي‌ء بمعنى الموصى به ، فلتكن التقيّة أيضا كذلك.

وخلاصة الكلام : أنّ الأخبار العامّة والخاصّة تدلّ على أنّ إتيان الواجبات موافقة للمخالفين وإن كانت مخالفة للحقّ قد أذن ورخّص فيه الشارع ، فلا ينبغي الشكّ في أنّها مجزية عن الواقع الأوّلي ، ولا يجب إعادتها ولا قضاؤها بعد ارتفاع الخوف وحصول الأمن.

ولكن هذا الذي قلنا ـ بأنّ الإتيان بالواجبات موافقة لمذهبهم مع كونها مخالفة للحقّ للتقيّة مجز عن الإتيان بما هو الحقّ بعد ارتفاع الخوف وحصول الأمن ـ يكون فيما إذا كانت المخالفة في المذهب ، بمعنى أنّ الاختلاف يكون بين المذهبين في أجزاء الواجبات ، أو شرائطها ، أو موانعها ، أو كيفيّة أدائها ، وإن شئت قلت : فيما إذا كان الاختلاف في نفس الحكم الشرعي ، لا فيما إذا كان الاختلاف فيما هو مصداق لموضوع الحكم الشرعي.

مثلا لا خلاف بينهما في وجوب الإفطار في يوم أوّل شوّال ، أي يوم عيد الفطر.

فإذا وقع الاختلاف في مصداق هذا اليوم فحكم حاكمهم بأنّ يوم الجمعة مثلا عيد استنادا إلى ثبوت رؤية الهلال ليلتها ، فإذا علمنا بعدم مطابقة هذا الحكم للواقع وخطأ الحاكم أو الشهود ، فلا تشمل أدلّة إجزاء التقيّة مثل هذا المورد.

فإذا قامت حجّة شرعيّة من علم أو علمي ـ وإن كان هو الاستصحاب ـ على أنّ هذا اليوم من شهر رمضان ، فالإفطار في ذلك اليوم وإن كان جائزا إذا كان لخوف الضرر على نفسه أو ماله أو عرضه ، أو كان في الصوم فيه حرج ، ولكن لا يكون مجزيا ، فيجب قضاء ذلك اليوم ، كما هو الظاهر من مرسلة رفاعة عن رجل عن أبي‌

__________________

(١) « منتهى الأصول » ج ١ ، ص ٢٤٩.

٦٠