القواعد الفقهيّة - ج ٥

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي

القواعد الفقهيّة - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي


المحقق: مهدي المهريزي
الموضوع : الفقه
الناشر: نشر الهادي
المطبعة: مؤسسة الهادي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-400-030-7

الصفحات: ٣٩٢

الالتزام بالوفاء بمضمون المعاملة مدلولا التزاميّا للعمل وإنّما هو مدلول التزامي للعقد ـ ملك للطرف الآخر ومن حقوقه.

وهذا معنى اللزوم الحقي مقابل اللزوم الحكمي كما في باب النكاح ؛ وذلك لأنّ اللزوم الحكمي في النكاح عبارة عن حكم الشارع بأنّ هذا العقد لازم لا يقدر أحد على حلّه إلاّ الزوج بالطلاق ، وهو أيضا ليس فسخا أو انفساخا ، بل هو عبارة عن رفع العلاقة التي أوجدها بعقد النكاح ، فكما أنّ عقد النكاح سبب لوجودها يكون الطلاق سببا لارتفاعها ؛ ولذلك لا يأتي الخيار ولا الإقالة في النكاح ؛ لأنّ الحكم الشرعي لا يرتفع إلاّ برفع الشارع تخصيصا أو نسخا ، على إشكال في الأوّل من حيث التعبير بالرفع في التخصيص ؛ لأنّ التخصيص يدلّ على أنّ الحكم في مورد الخاصّ من أوّل الأمر لم يكن ، لا أنّه كان وارتفع بالتخصيص.

وعلى هذا المبنى قلنا في باب النكاح إنّ الخيار في الموارد السبعة ليس من الخيار بمعناه الحقيقي ، بل هو تخصيص في اللزوم الذي حكم الشارع به في باب النكاح.

إذا عرفت هذا ، فنقول : إنّ في كلّ مورد كان اللزوم حقّيا ، أي كان التزام كلّ واحد من الطرفين ملكا وحقّا للآخر يأتي الإقالة ؛ لأنّ حقيقة الإقالة رفع اليد عن حقّه وما ملكه بالعقد من التزام طرفه له ، فإذا رفع اليد عن حقّه لا يبقى محلّ لالتزام طرفه ؛ لأنّ هذا الالتزام كان رعاية لحقّه ولمراعاته ، لا أنّ الملتزم مجبور من طرف الشارع بالبقاء عند التزامه ، وإلاّ لو كان كذلك كان اللزوم حكميّا ـ أي بحكم الشارع ـ لا حقّيا ولمراعاة طرفه ؛ ففي اللزوم الحقّي إذا رفع كلاهما يدهما كلّ واحد عمّا التزم له صاحبه فلا يبقى مانع عن الفسخ.

وأمّا في اللزوم الحكمي فلا تأتي الإقالة ؛ لأنّ اللزوم حكم شرعي ليس مربوطا بالطرفين كي يقيل كلّ واحد منهما صاحبه ؛ ولذلك لا تأتي الإقالة في باب النكاح.

وبعد أن ثبت أنّ الصلح من العقود اللازمة العهديّة التي لزومه حقّي لا حكميّ ،

٢١

فلا مانع من ثبوت الإقالة فيه وتأثيرها في جواز فسخ كلّ واحد من المصطلحين له. وحيث ثبت أنّ الإقالة على مقتضى القواعد الأوّلية ، فثبوتها في كلّ معاملة بالخصوص لا يحتاج إلى دليل خاصّ في تلك المعاملة بالخصوص ، فكذلك في باب الصلح لا يحتاج إلى وجود دليل على صحّة الإقالة ، بل هي مقتضى القواعد الأوّليّة.

[ الأمر ] السّادس : صلح الشريكان قال في الشرائع : إذا اصطلح الشريكان على أن يكون الربح والخسران على أحدهما وللآخر رأس ماله صحّ. (١)

والدليل على صحّة هذا الصلح أوّلا شمول الإطلاقات له ، فإنّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « الصلح جائز بين المسلمين ـ أو الناس ـ إلاّ صلحا أحلّ حراما أو حرّم حلالا » يشمل مثل هذا ؛ لأنّ هذا صلح ولم يحرّم حلالا ولم يحلّل حراما ، فيكون من مصاديق الصلح الصحيح.

وثانيا : هو الإجماع.

وثالثا : روايات ، منها : ما رواه الحلبي عن أبي عبد الله عليه الصلاة والسلام في رجلين اشتركا في مال فربحا فيه ، وكان من المال دين وعليهما دين ، فقال أحدهما لصاحبه : أعطني رأس المال ولك الربح وعليك التوى. فقال : « لا بأس إذا اشترطا ، فإذا كان شرط يخالف كتاب الله فهو ردّ إلى كتاب الله عزّ وجلّ » (٢).

وقد روي هذه الرواية بعدّة طرق آخر كما هو مذكور في الوسائل ، ودلالتها على ما نقلناه عن الشرائع واضح لا يحتاج إلى البيان.

ثمَّ إنّه هل مفاد هذه الرواية وغيرها من الروايات الواردة في خصوص المقام هو صحّة هذا الصلح بالنسبة إلى الربح والخسران المتقدّم كي يكون به انتهاء الشركة‌

__________________

(١) « شرائع الإسلام » ج ٢ ، ص ٩٩.

(٢) « الكافي » ج ٥ ، ص ٢٥٨ ، باب الصلح ، ح ١ ؛ « الفقيه » ج ٣ ، ص ٢٢٩ ، باب المضاربة ، ح ٣٨٤٨ ؛ « تهذيب الأحكام » ج ٦ ، ص ٢٠٧ ، ح ٤٧٦ ، باب الصلح بين الناس ، ح ٧ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ١٦٥ ، أبواب كتاب الصلح ، باب ٤ ، ح ١.

٢٢

ويكون هذا الصلح في مقام التقسيم ، أو لا بل صحّته مطلقا ، سواء كان في أوّل الشركة أو في وسطها أو في آخرها؟

اختار المحقّق الثاني قدس‌سره الأوّل حيث يقول : هذا إذا انتهت الشركة وأريد به فسخا وكان بعض المال دينا لصحيحة أبي الصباح. (١) ثمَّ ذكر الرواية التي نقلناه عن الحلبي. وكذلك الشهيد الثاني في المسالك حمل الرواية على ما اختاره المحقّق الثاني. (٢)

والإنصاف : أنّ صدر الرواية ظاهر في ما ذكراه ؛ لأنّ قوله عليه‌السلام : « لا بأس » ظاهر في نفي البأس عمّا سأل عنه الراوي وعن فرضه ، وفرضه في حصول ربح لهما بعد حصول الاشتراك ، فكأنّه قال بعد أن اشتركا في مال واتّجرا به فحصل ربح من كسبهما فيه : إنّ لي رأس مالي والباقي لك ، فصالح بهذه العبارة أنّه صالح جميع حقّه في هذا المال المشترك بمقدار رأس ماله ، وما سوى مقدار رأس ماله للآخر ، سواء كان زائد على رأس مال الآخر فيكون الرّبح له ، أو كان أقلّ منه فيكون التوى ـ أي الخسارة ـ عليه.

فيظهر من هذا الكلام أنّه إذا اصطلحا على أن يكون مقدار رأس مال أحدهما له ، والباقي أي مقدار كان للآخر ، سواء كان زائدا على رأس مال الآخر أو كان أقلّ أنّ بهذا الصلح ينتهي الشركة. وهذا شبه تقسيم بالمصالحة ورضا الطرفين ، ولكن حيث قيّد عليه‌السلام نفي البأس بقوله : « إذا اشترطا » فربما يخرج الصدر عن ظهوره في انتهاء الشركة ؛ لأنّ المراد بالاشتراط إمّا الاشتراط في عقد الشركة ، أي لا بأس بهذا الصلح إذا كانا اشترطا في عقد الشركة أن يكون رأس مال أحدهما له ، والباقي قليلا كان أم كثيرا للآخر.

فهذا الشرط في عقد الشركة إن كان مرجعه إلى أن لا يكون ربح المال له ولا‌

__________________

(١) « جامع المقاصد » ج ٥ ، ص ٤١٣.

(٢) « المسالك الافهام » ج ٤ ، ص ٢٦٥.

٢٣

خسارته عليه ، بل يكون ربحه لشريكه وخسارته أيضا على شريكه يكون باطلا ؛ لأنّه خلاف مقتضى أصل العقد ، لا أنّه خلاف مقتضى إطلاق العقد كي يكون صحيحا ، فلا يمكن أن يكون تقييده عليه‌السلام عدم البأس بالاشتراط بهذا المعني ، أي بالاشتراط بالشرط الباطل.

وحيث قيّده به فلا بدّ وأن يكون بمعنى آخر يلائم مع هذا التقييد ، وهو أن يكون إنشاء هذا المعنى ، أي كون رأس ماله له والباقي لطرفه بعقد لازم كنفس الصلح ، أو يكون في ضمن عقد لازم آخر كي يكون لازما وواجب الوفاء ، لا وعدا ابتدائيّا أو صرف قول ومذاكرة من دون عقد وعهد كي لا يكون واجب الوفاء ، بل لا يصير ملكا للطرف لعدم خروج الربح عن ملكيّة صاحب المال الرابح بصرف هذا القول.

وكذلك الأمر في الخسارة تتبع المال ، وبصرف القول والمذاكرة لا يصير خسارة مال شخص على شخص آخر ، خصوصا مع فرض سكوت الطرف الآخر وعدم إظهار رضاء ، كما هو ظاهر الرواية.

فلا بدّ وأن نفرض المقام أنّ صاحب أحد المالين اللذين حصل الاشتراك بينهما إمّا بعقد الشركة أو بمزجهما أو بخلطهما ـ فيما يحصل الاشتراك بالخلط ـ صالح ماله للطرف الآخر بمقداره بدون زيادة ولا نقيصة في ذمّته. ونتيجة مثل هذا الصلح هي صيرورة تمام المال ملكا للطرف الآخر ، فقهرا يكون الربح له والخسارة عليه ، غاية الأمر تكون ذمّته مشغولة للمصالح المذكور ، فلو خسر تمام المال المشترك ولم يبق له شي‌ء ، يكون عليه تفريغ ذمّته بإعطاء جميع رأس المال الذي تعلّق بذمّته.

وأمّا الإشكال بأنّ الشرط والاشتراط لا يطلق على مثل هذا الصلح.

ففيه : ما ذكرنا تفصيله في أصالة اللزوم : أنّ الشرط والاشتراط يطلق على كلّ عقد لازم من العقود العهديّة.

إذا ظهر لك ما ذكرنا ، تعرف أنّ هذا المعنى ـ أي الصلح بالصّورة المذكورة ـ يمكن‌

٢٤

أن يقع في ابتداء حصول الشركة وفي وسطه وفي انتهائه ، ولا يجب أن يكون عند القسمة ويكون عند انتهاء الشركة.

ولكن أنت خبير بأنّ لازم هذا الوجه في معنى الاشتراط أيضا انتهاء الشركة ، غاية الأمر يحصل الانتهاء بنفس الصلح المذكور ويبطل الشركة ؛ إذ لا يعقل بقاء الشركة مع تعلّق مال أحد الشريكين بذمّة الآخر وصيرورة تمام المال له ، نعم إحداث هذا الصلح يمكن أن يكون في ابتداء حصول الشركة ، ويمكن أن يكون في وسطها ، ويمكن أن يكون بعد انتهائها وفسخها ، وعلى كلّ حال به ينتهي الشركة. اللهمّ إلاّ أنّ المراد من الاشتراط نفس الصلح ـ كما ذكرنا ـ بناء على صحّة إطلاقه على العقود العهديّة الضمنيّة ، والصلح في هذا المورد يكون على استحقاق أحدهما من المال المشترك مقدار رأس ماله ، والباقي أيّ مقدار كان للآخر ، ربح أو خسر.

وهذا المعنى ليس فيه إشكال ؛ لأنّ الصلح عبارة عن التسالم على أمر كما تقدّم ، ولا مانع من تسالمهما على مثل هذا الأمر ؛ لأنّ الناس مسلّطون على أموالهم ، وليس هذا التسالم موجبا لتحريم حلال أو تحليل حرام كي يكون موجبا لبطلانه كما هو مفاد النّص ، وليس من باب معاوضة حقّه بما يساوي مقدار رأس ماله في ذمّة الآخر كي يكون تمام مال المشترك للآخر ، فيكون بهذه المصالحة انتهاء الشركة.

وهذا المعنى بعد أن فرغنا عن صحّته وشمول إطلاقات الصلح له ، لا ينافي بقاء الشركة بعد هذا الصلح ؛ لأنّ المفروض أنّ مفاد كون حق المصالح في هذا المال المشترك مقدار رأس ماله وإن بقي الاشتراك بعد ذلك سنين ، فيجوز هذا الصلح في ابتداء الشركة وفي أوساطها وعند انتهائها ، وليس مختصا بحال القسمة ولا يحصل به الفسخ ، بل يمكن بقاء المال على الاشتراك ؛ لشمول الإطلاقات لمثل هذا الصلح ، بل لا يبعد أن يكون ظاهر الروايات الخاصّة أيضا هذا المعنى ، بناء على أن يكون المراد من قوله عليه‌السلام : « إذا اشترطا فلا بأس » هو نفس عقد الصلح ؛ لصحّة إطلاق الشرط والعهد على العقود اللازمة العهديّة.

٢٥

فظهر ممّا ذكرنا أنّ تقييد كلمة « صحّ » التي في المتون بقيد « هذا إذا انتهت : أي الشركة » كما في جامع المقاصد (١) و « عند انتهائها » كما في المسالك (٢) ليس كما ينبغي. وكذلك ما أفاده الشهيد قدس‌سره في الدروس (٣) بقوله : ولو جعلا ذلك ـ أي الصلح المذكور ـ في ابتداء الشركة فالأقرب المنع لمنافاته مع موضوعها ، أي الشركة وقبل هذه العبارة يحكم بصحّة هذا الصلح إذا كان عند إرادة الفسخ.

وأنت عرفت ما في كلامه هذا ، وما في كلام غيره ممّا يشابه هذا الكلام.

وخلاصة الكلام : أنّه إن كان المراد من قوله عليه‌السلام : « إذا اشترطا » أي في ضمن عقد الشركة ، فلا بدّ وأن نقول : على فرض صحّة السند وحجّية تلك الروايات الخاصّة أنّ هذا حكم تعبّديّ ؛ إذ لا يمكن تصحيحه بالقواعد المقرّرة ، بل مقتضى القواعد بطلان هذا الشرط ؛ لأنّه مناف لمقتضى ذات العقد لا لإطلاقه. وأمّا إذا كان المراد منه هو الصلح كما هو ظاهر عبارة المتون فلا إشكال في صحّة مثل هذا الصلح ، سواء كان في ابتداء الشركة أو في أوساطها أو في انتهائها.

[ الأمر ] السابع : لو ظهر وبان أنّ أحد العوضين ممّا وقع الصلح عليهما إمّا للغير أي ليس للطرف في عقد المصالحة ، وإمّا ممّا لا يملك كالخمر والخنزير.

والنتيجة في كلا الشقين أنّه لا يملكه الذي هو طرف المصالحة ؛ إمّا لأنّه ملك الغير ، أو لعدم ماليّته عرفا ، كالأشياء الخسيسة التي لا يعتبرها العقلاء كالخنفساء مثلا ؛ أو لإسقاط الشارع ماليّته العرفيّة ، كالخمر والخنزير وآلات الملاهي وأدوات القمار كأدوات النرد والشطرنج ؛ فيبطل الصلح قطعا.

وذلك من جهة أنّ حقيقة المعاوضة في أيّ عقد معاوضيّ كانت عبارة عن تبديل‌

__________________

(١) « جامع المقاصد » ج ٥ ، ص ٤١٣.

(٢) « مسالك الأفهام » ج ٤ ، ص ٢٦٥.

(٣) « الدروس » ج ٣ ، ص ٣٣٣.

٢٦

المالين في عالم الاعتبار ، فقوام المعاوضة بهذا الأمر ، فلا بدّ وأن يكون كلّ واحد منهما مالا كي يكون قابلا للعوضيّة في عالم الاعتبار ، وأن يكون كلّ واحد من طرفي عقد المعاوضة ـ موجبا أو قابلا ـ له السلطنة على المعاوضة ، فهذان ركنان في كلّ معاوضة ، وبفقد أيّ واحد منهما لا يتحقّق المعاوضة.

فإن كان ممّا لا يملك ، أي أسقط الشارع ماليّته العرفية ، كالخمر والخنزير وأمثالهما ، أو لم يكن مالا حتّى عرفا لخسّته كالخنفساء ، فينتفي الركن الأوّل وإن كان مستحقّا للغير ، سواء كان ملك الغير أو كان متعلّقا لحقّ الغير ، فلا يكون طرف المعاوضة مسلّطا عليه ، فينتفي الركن الثاني. وعلى كلا التقديرين لا يبقى مجال للمعاوضة ، فيبطل الصلح لو بان أنّ أحد العوضين مستحقّ للغير أو ليس له ماليّة.

وهذا الحكم جار في جميع المعاوضات. ولا شبهة ولا خلاف فيما إذا كان جميع أحد العوضين كذلك. أمّا لو كان بعض أحد العوضين المعيّنين في الخارج ، أي كان بعض العين الخارجيّة التي وقعت عوضا في الصلح للغير ، أو كان ممّا لا يملك كالعبد الذي نصفه حرّ أو للغير ، فهل الصلح باطل في المجموع ، أو صحيح في المجموع ، أو يبعض وصحيح في النصف الذي له وباطل في النصف الآخر الذي ليس له ، أو يكون متعلّق حق الغير؟ وجوه.

قد تقدّم في الأمر الثاني أنّ الأرجح هو بطلان الصلح في المجموع ، حتّى في النصف الذي يملكه الطرف ، وذكرنا برهانه هناك فلا نعيد.

وربما يتوهّم الفرق بين العقود المعاوضيّة وبين الصلح ، بأنّ العقود المعاوضيّة كالبيع ـ مثلا ـ حيث أنّ المنشأ فيها هو المبادلة بين المالين ، فمع عدم ماليّة أحد العوضين أو عدم كونه له لا يتحقّق حقيقة المبادلة التي لا بدّ منها في تلك العقود.

وأمّا الصلح الذي عبارة عن التسالم والموافقة على أمر لم يؤخذ فيه كونه بعوض ، بل يمكن أن يقع بلا عوض ومجانا ، فإذا كان الأمر كذلك فكما يمكن أن يقع من أوّل‌

٢٧

الأمر مجّانا وبلا عوض ، فلا يضرّ بصحّته صيرورته كذلك ـ أي مجانا ـ بعد ظهور أنّ العوض المذكور ليس بمال ، أو ليس له وإن كان مالا.

لكنّه توهّم عجيب ؛ لأنّ الصلح وإن لم يؤخذ في حقيقته كونه ذا عوض ويمكن أن يقع مجانا وبلا عوض ، ولكن إذا إنشاء التسالم والموافقة على أمر بعوض يصل إلى المصالح ، فإذا لم يصل إليه شي‌ء إمّا لأجل أنّه ليس بمال ، أو ليس له ، فقد تخلّف ما وقع عمّا هو مقصود الطرفين ، فما قصد لم يقع وما وقع لم يقصد ، والعقود تابعة للقصود.

فكما أنّ التمليك لم يؤخذ في حقيقته أن يكون بعوض ، ولذلك قد يكون بلا عوض كالهبة الغير المعوضة ، ولكن إذا أنشأ بعوض كالبيع مثلا ولم يكن العوض للطرف ، بعد العقد بان أنّه ليس له أو ظهر أنّه ليس بمال عرفا أو شرعا وإن كان مالا عند العرف لكن الشارع أسقط ماليّته ، فذلك العقد باطل.

فكذلك فيما نحن فيه ـ أي الصلح ـ وإن لم يؤخذ في حقيقته العوض ، لكن إذا أنشأ بعوض ، يكون العوض من أركان ذلك العقد ، ومع فقده يبطل ذلك العقد.

وأمّا النقض بالنكاح بأنّ المهر المعيّن في عقده إذا بان أنّه ملك للغير أو متعلّق حقّ الغير كأن يكون مرهونا مثلا فجعله مهرا بدون إذن المرتهن ، أو كان غير مال شرعا كالخمر والخنزير ، فلا يبطل العقد بل يرجع إلى بدله أو إلى مهر المثل أو غير ذلك ممّا قيل في تلك المسألة ، فلا ينبغي أن يتوهّم ؛ لأنّ المرأة ليست عوضا عن المهر ولا المهر عوض منها. وقوله عليه‌السلام : « إنّما يشتريها بأغلى الثمن » (١) من باب التشبيه بالبيع ، وإلاّ فذات المرأة حرّة لا أمة ليتقدّر بمال والبضع من منافعها ، وليست عينا كي يصحّ بيعه.

وبعبارة أخرى : النكاح ليس من العقود المعاوضيّة ، بل لزوم المهر فيه حكم‌

__________________

(١) « الكافي » ج ٥ ، ص ٣٦٥ ، باب النظر لمن أراد التزويج ، ح ١ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٤ ، ص ٥٩ ، أبواب مقدمات النكاح وآدابه ، باب ٣٦ ، ح ١.

٢٨

شرعي ، ولذلك لو عقد على امرأة ولم يذكر المهر أصلا لا يبطل العقد ، ولكن يرجع إلى مهر المثل تعبّدا ؛ لأنّ البضع لا تستباح مجّانا.

ففي رواية أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إذا تزوّج الرجل المرأة فلا يحلّ له فرجها حتى يسوق إليها شيئا درهما فما فوقه » (١). وفيما رواه زرارة قال : « لا تحلّ الهبة إلاّ لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمّا غيره فلا يصلح له نكاح إلاّ بمهر » (٢).

والروايات على لزوم المهر في النكاح كثيرة ، وما ذكرنا كلّه كان فيما إذا كان العوض عينا شخصيّا ، فإذا بان أنّه مستحقّ للغير أو ليس قابلا لأن يملك شرعا أو عرفا فالصلح باطل.

وأمّا لو كان في الذمّة فدفع ما كان كذلك ، فلا وجه للبطلان ، بل يجب عليه أن يدفع غيره من مصاديق ما في الذمّة ممّا يكون مالا عرفا ، ولا يكون متعلّقا لحقّ الغير ، ولا يكون للغير ، ولم يسقط الشارع ماليّته أيضا.

وأمّا إذا ظهر في عوض الصلح عيب ونقص فلا يوجب البطلان ولا الخيار.

أمّا عدم البطلان لأنّه ليس بلا عوض ، وتلك العين الشخصيّة التي جعلت عوضا للعقد موجودة ، ولذلك لا يوجب البطلان حتّى في البيع الذي هو الأصل في باب المعاوضات ، وحقيقته تبديل العين المتموّل بعوض.

وأمّا عدم إيجابه الخيار ، فلأنّ عمدة دليل الخيار إذا ظهر عيب ونقص في المبيع الشخصي أو الثمن الشخصي ، هو الشرط الضمني ، أي بناء البائع على بيع هذه العين الموجودة بما يساويها في القيمة ، أي هذا الثمن الموجود في الخارج. وكذلك الأمر في‌

__________________

(١) « تهذيب الأحكام » ج ٧ ، ص ٣٥٧ ، ح ١٤٥٢ ، باب المهور والأجور ... ، ح ١٥ ؛ « الاستبصار » ج ٣ ، ص ٢٢٠ ، ح ٧٧٩ ، باب انّه يجوز الدخول بالمرأة ... ، ح ٢ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٥ ، ص ١٢ ، أبواب المهور ، باب ٧ ، ح ١.

(٢) « تهذيب الأحكام » ج ٧ ، ص ٣٦٤ ، ح ١٤٧٨ ، باب المهور والأجور ... ، ح ٤١ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٥ ، ص ٢٨ ، أبواب المهور ، باب ١٩ ، ح ١.

٢٩

طرف المشتري ، أي يشتري هذه العين التي تساوي هذا الثمن بحسب القيمة بهذا الثمن.

وهذا الشرط من الطرفين ـ البائع والمشتري ـ ارتكازيّ لا يحتاج إلى الذكر أو البناء خارجا ؛ ولذلك لو أتى شخص غير المتبايعين وقال : هذا المبيع لا يساوي هذا الثمن يتأذّى البائع وربما يترك المشتري هذه المعاملة لو سمع هذه المقالة. وكذلك الأمر في طرف الثمن.

فمن هذا يعلم أنّ كليهما ـ أي البائع والمشتري ـ بنائهما على تساوي العوضين ، وأنّهما بلا عيب ونقص ، وبفقد الشرط الضمني الأوّل أي التساوي في القيمة يثبت خيار الغبن ، وبفقد الثاني أي السلامة عن العيب والنقص يأتي ويثبت خيار العيب.

هذا في البيع أو سائر المعاوضات التي بناء المتعاقدين فيها على تساوي العوضين.

وأمّا في الصلح فليس الأمر كذلك ، بل بناء المتعاقدين فيها على التسامح ؛ لأنّه شرّع في الأصل لقطع المنازعات ، وقطع المنازعات لا يمكن غالبا إلاّ بالتسامح ، وإلاّ لو كان بناؤهما على المداقّة ، فلا يحصل الصلح غالبا.

وهذا في خيار الغبن واضح ، وأمّا خيار العيب إذا وقعت المصالحة على عين خارجي ، فالإنصاف أنّ بناءهما على صحّتها وسلامتها ، فلا يبعد إتيان خيار العيب في الصلح إذا ظهر مال المصالحة معيبا ، ولكن بالنسبة إلى حقّ الفسخ لا أخذ الأرش ، وإنّما هو حكم تعبّدي في خصوص البيع للإجماع والروايات.

ولكن الروايات لا تدلّ على التخيير بين الردّ وأخذ الأرش ابتداء ، بل دلالتها على أخذ الأرش بعد عدم إمكان الرّد لوجود تغيّر في المعيب بعد تسلّمه من صاحب المبيع المعيب مثلا ، وعلى كلّ حال التخيير بين الردّ والأرش مختصّ بالبيع ؛ للإجماع والرواية ، وإلاّ فصرف تخلّف الشرط الضمني لا يوجب إلاّ الخيار ، فالخيار يثبت في الصلح إذا كان العوض معيبا ، وأمّا الأرش فلا.

[ الأمر ] الثامن : يصحّ الصلح على عين بعين أو منفعة ، وعلى منفعة بعين أو منفعة.

٣٠

والدليل على صحّة المذكورات هي العمومات وإطلاقات أدلّة الصلح ، فقد تقدّم أنّ الصلح عبارة عن التسالم والموافقة على أمر بشي‌ء ، سواء كان ذلك الأمر عينا أو دينا أو منفعة أو حقّا على نقل هذا الأخير أو إسقاطه ، وحيث أنّ كلّ حقّ قابل للإسقاط حتّى عرّف بذلك مقابل الحكم ، فإنّه غير قابل للإسقاط ؛ فكلّ حقّ قابل لأن يقع الصلح عليه ، سواء كان على نقله أو على إسقاطه.

وعمومات الصلح وإطلاقاته كقوله ( وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ) ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « الصلح جائز بين الناس إلاّ صلحا أحلّ حراما أو حرّم حلالا » يشمل جميع ما يقع التسالم والتوافق عليه ، ولو كان إسقاط حقّ أو نقله فيما كان قابلا للنقل ؛ إذ بعض الحقوق غير قابل للنقل ، كحقّ البضع والمضاجعة وأمثالهما من الحقوق القائمة بشخص خاصّ.

هذا إذا علم أنّه قابل للنقل ، وأمّا إذا شكّ في أنّه قابل للنقل ، فهل يصحّ الصلح على نقله ، أو يحتاج إلى الإحراز؟

الظاهر عدم الصحّة ولزوم الإحراز ؛ وذلك من جهة أنّه لا بدّ من إحراز مشروعيّة متعلّقه ؛ وذلك للاستثناء الذي في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إلاّ صلحا أحلّ حراما » فبعد هذا الاستثناء يقيد موضوع ما هو جائز ونافذ بالصلح على أمر مشروع ، فإذا شككنا أنّ الحقّ الفلاني مشروع نقله أم لا ، فلا يجوز التمسّك لجوازه ونفوذه بإطلاقات أدلّة الصلح.

فلو شككنا في أنّ حقّ السبق في الوقف في الأوقاف العامّة ـ كما إذا سبق شخص إلى مكان في أحد المساجد ، أو في الحرم الشريف ، أو إلى مكان في خانات الوقف بين الطرق على المسافرين ، أو غير ذلك ـ هل قابل للنقل أم قائم بشخص السابق ، فالصلح على نقل مثل ذلك الحقّ مشكل ، ولا يشمله عمومات وإطلاقات أدلّة الصلح لمكان ذلك الاستثناء. نعم لا مانع من وقوع الصلح على إسقاط كلّ حقّ بناء على أنّ كلّ حقّ قابل للإسقاط ، فالإسقاط خاصّة شاملة للحقّ.

٣١

الجهة الثالثة

في بيان بعض فروع هذه القاعدة‌

أي قاعدة « الصلح جائز بين المسلمين إلاّ ما أحلّ حراما أو حرّم حلالا » :

فمنها : أنّه لو كان هناك درهمان ورجلان ، فادّعى أحدهما الاثنين والآخر أحدهما ، قال في الشرائع : لمدّعي الاثنين درهم ونصف ، والباقي ـ أي نصف الدرهم ـ للآخر (١).

ولا بدّ فرض المسألة فيما إذا كان الدرهمان في يدهما جميعا ، أو كانا مطروحين في مكان مباح ليس له مالك ولم يكن لأحد يد عليه وإلاّ لو كانا في يد مدّعي الاثنين يحكم له بهما مع حلفه أو نكول الطرف المدعي لواحد ، كما أنّه لو كانا في يد مدّعي الواحد يعطى واحد لمدعي الاثنين ؛ لأنّه مدّع بلا معارض ، والدرهم الآخر يعطى لذي اليد مع يمينه أو نكول مدعي الاثنين.

ولا بدّ أن يحمل صحيح عبد الله بن المغيرة عن غير واحد من أصحابنا ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام في رجلين كان معهما درهمان ، فقال أحدهما : الدرهمان لي ، وقال الآخر : بيني وبينك ، قال : فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : « أمّا الذي قال هما بيني وبينك فقد أقرّ بأنّ أحد الدرهمين ليس له فيه شي‌ء وأنّه لصاحبه ، ويقسم الدرهم الثاني بينهما نصفين » (٢) على ما قلنا من أنّ الدرهمين إمّا لا يد لأحد عليهما ، وإمّا في يد الاثنين جميعا ، كما أنّ ظاهر الرواية هو الأخير ؛ لفرض الراوي أنّ الدرهمين كان معهما أي في يد كليهما.

ففي هذه الصورة ما أجاب به الإمام عليه‌السلام هو مقتضى القواعد الأوّليّة أيضا ،

__________________

(١) « شرائع الإسلام » ج ٢ ، ص ٩٩.

(٢) « الفقيه » ج ٣ ، ص ٣٥ ، باب الصلح ، ح ٣٢٧٤ ؛ « تهذيب الأحكام » ج ٦ ، ص ٢٠٨ ، ح ٤٨١ ، باب الصلح بين الناس ، ح ١٢ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ١٦٩ ، أبواب كتاب الصلح ، باب ٩ ، ح ١.

٣٢

وحكمه عليه‌السلام بتقسيم الدرهم الثاني بينهما الظاهر في التقسيم بالسويّة هو مقتضى قاعدة العدل والإنصاف التي استعملها الفقهاء في موارد كثيرة ، فيكون ما ذكره في الشرائع مطابقا لما هو مضمون الرواية ، وكون الدرهم ونصفه لمدّعي الاثنين أيضا مقتضى قاعدة الإقرار من مدّعي الواحد ، فإنّه نفى عن نفسه ، وقاعدة سماع قول المدّعي بلا معارض بدون تكليفه بالبيّنة.

وما ذكره جمع من الأساطين كالعلامة في التذكرة (١) ، والشهيد في الدروس (٢) من حلف كلّ واحد منهما ، فيحلف مدّعي الاثنين لمدّعي الواحد بأنّ نصف الدرهم ممّا صار بيدي ليس لك ، ولو نكل يؤخذ منه ويعطى لمدّعي الواحد ، ويحلف مدّعي الواحد على الإشاعة لمدّعي الاثنين أنّ هذا النصف الذي صار بيدي ليس لك ، ولو نكل يعطى لمدعي الاثنين.

والسرّ في ذلك : أنّ كلّ واحد منهما مدّع ومنكر ، فمدّعي الواحد مدّع للنصف من الدرهم الذي صار في يد مدّعي الاثنين ، وهو منكر ؛ ومدّعي الاثنين مدّع للنصف الذي يعطى لمدعي الواحد على الإشاعة ، وهو منكر ؛ فيجب إجراء القاعدة المعروفة « البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر » فهاهنا مدّعيان ومنكران ، وحيث أنّ المفروض عدم وجود بيّنة في المقام ، فيجب أن يحلف كلّ واحد منهما للآخر ، فلو لم يحلف أحدهما لا يعطى ذلك النصف المتنازع فيه ، كما أنّه لو ردّ كلّ واحد من المنكرين الحلف إلى الطرف الذي هو مدّع وهو نكل ، فلا يستحقّ ذلك النصف ، ولو حلفا جميعا أو نكلا جميعا أيضا ، يقسّم بينهما بالسوية ؛ لقاعدة العدل والإنصاف المذكورة.

وخلاصة الكلام : أنّ من بيده النصف مدّع للنصف الآخر ، ومن بيده الدّرهم والنصف منكر ، ومن بيده الدرهم والنصف مدّع للنصف الآخر الذي بيد طرفه ، وهو منكر ؛ فيكون الأمر كما ذكرنا.

__________________

(١) « تذكرة الفقهاء » ج ٢ ، ص ١٩١.

(٢) « الدروس » ج ٢ ، ص ٣٣٣.

٣٣

هذا ما ذكره هؤلاء الأساطين مع اختلاف بين ما ذكروه ، وهو تخصيص الحلف بالثاني أي مدّعي الواحد إذا ادّعى مشاعا.

ولكن التحقيق أنّه لا فرق في صيرورة كلّ واحد منهما مدّعيا ومنكرا في المفروض ، أي فيما إذا كان لكليهما اليد على الدرهمين بين أن يكون دعوى المدّعي الواحد على الإشاعة أو على التعيين.

وتوضيح ذلك موقوف على بيان مقدّمة ، وهي أنّه لا شكّ في أنّ ذا اليد منكر لو ادّعى المال من ليس له يد على المال ، وليس له حجّة أخرى على أنّ المال له. وذلك الآخر الذي ليس له يد على المال يكون مدّعيا ، إن لم يكن له حجّة أخرى على أنّ المال المتنازع فيه له. فبناء على هذا يكون ذو اليد منكرا ومقابله يكون مدّعيا.

ثمَّ إنّ ذا اليد لو كان شخصا واحدا ، فالذي يدّعيه يكون مدّعيا ويكون ذو اليد منكرا. وأمّا لو كان ذو اليد متعدّدا كما إذا ادّعى أحد غير هؤلاء الذين لهم اليد على المال أيضا يكون مدّعيا ، وذوو الأيدي يكونون منكرين إن لم يصدّقوه.

وأمّا إن كان مدّعي لجميع ما في يدهم أحدهم ، فيكون مدّعيا بالنسبة إلى البعض ومنكرا بالنسبة إلى بعض آخر.

بيان ذلك : أن ذا اليد على مال واحد إن كان متعدّدا ، فلا يمكن أن تكون يد كلّ واحد منهم يدا تامّة مستقلّة ؛ وذلك لأنّ اليد التامّة المستقلّة كما أنّ لها التصرّفات المشروعة في المال ، كذلك له المنع عن تصرّف الغير. وفي الأيدي المتعدّدة ليس لها المنع عن تصرّفات سائر الأيادي ؛ ولذلك لا يحسبها العرف يدا مستقلّة ، بل يعتبرون اليد الناقصة المستقلّة على المجموع يدا مستقلة على البعض بنسبة عدد الأيادي.

مثلا لو كان شريكان ، لكلّ واحد منهما يد على مال ، فحيث أنّ يد كلّ واحد منهما غير تامّة ، فالعرف يعتبرونها تامّة بالنسبة إلى البعض بنسبة عدد الأيدي ، وحيث أنّ ذا اليد اثنين فيد كلّ واحد منهما الناقصة على جميع المال يعتبر يدا تامّة على نصف‌

٣٤

المال ، وإن كان ذوو الأيدي والشركاء ثلاثة يعتبر يد كلّ واحد منهم الناقصة يدا تامّة على ثلث المال ، وهكذا.

إذا تبيّن ما ذكرنا ، فنقول :

إذا ادّعى أحدهما أنّ أحد هذين الدرهمين بالخصوص لي وعيّنه ولم يكن دعواه بنحو الإشاعة ، فهذا المدّعي بالنسبة إلى نصف هذا الواحد المعيّن مدّع ، وبالنسبة إلى نصفه الآخر منكر.

بيان ذلك : أنّ مفروض المسألة إن كليهما لهما اليد على هذا الدرهم الذي يدّعيه أحدهما ، وحيث أنّ يد كلّ واحد منهما على مجموع هذا الدرهم غير تامّة وناقصة ، وفي اعتبار العرفي وبنظرهم يد كلّ واحد منهما على المجموع حيث أنّها ناقصة تكون بمنزلة اليد التامّة على نصف ذلك الدرهم ، فتكون أمارة على ملكيّة نصف ذلك الدرهم.

وذلك لأنّ اليد التي هي أمارة الملك هي اليد التامّة المستقلّة غير الناقصة ، فإذا كان الأمر كذلك فالمدّعي لهذا الدرهم المعيّن يكون بالنسبة إلى النصف الذي تحت يد مدّعي الاثنين مدّع ، ومدّع الاثنين بالنسبة إلى هذا النصف الذي تحت يده منكر ، كما أنّ مدّعي الاثنين بالنسبة إلى النصف الذي تحت يد مدّعي الواحد المعين مدّع ، وهو أي مدعي الواحد منكر.

فكلّ واحد منهما مدّع ومنكر ، ويجري في حقّهما قاعدة « البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر » وحيث أنّ المفروض عدم البيّنة في المقام ، فيجب حلف كلّ واحد منهما لردّ دعوى الآخر ، فإن حلفا جميعا أو نكلا جميعا يسقط كلا الدعويين ، ويقسّم ذلك الواحد المعيّن بينهما بالسويّة ؛ لقاعدة العدل والإنصاف.

وأمّا إن حلف أحدهما دون الآخر ، فيكون الدرهم المتنازع فيه للذي حلف.

وكذلك الأمر في مدّعي الشركة مثل المدّعي للواحد المعيّن في وجوب الحلف على كلّ‌

٣٥

واحد منهما.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ يد المدّعي للشركة تامّة بالنسبة إلى ما يدّعيه أي الشركة وملك النصف أي الدرهم الواحد مشاعا ، فالذي يدّعي الجميع يكون مدّعيا ، لأنّ يده على الجميع ليست تامّة كما ذكرنا. ومدّعي الشركة منكر ؛ لما ذكرنا من أنّ يده تامّة بالنسبة إلى ادّعائه الشركة ، فهو منكر ووظيفة المنكر هو الحلف ، فيختصّ الحلف بالثاني ، أي المدّعي الواحد إذا كان يدّعيه إشاعة أي الشركة بالمناصفة.

وهذا الحكم جار في كلّ من يدّعي الشركة في مال مقابل المدّعي لمجموع ذلك المال مع كون ذلك المال بيدهما جميعا ، كما ذهب إليه الشهيد في الدروس. (١) وقال في جامع المقاصد إنّه متّجه (٢).

والإنصاف أنّ العرف مساعد لكون يد كلّ واحد من الشخصين اللذين لهما اليد على مال أمارة الشركة ، فيكون من يدّعي جميع الدرهمين بالنسبة إلى أحد الدرهمين من قبيل المدّعي بلا معارض ؛ لأنّ الآخر لا يدّعيه ، بل هو مقرّ بأنّه له. وأمّا بالنسبة إلى الدرهم الآخر يكون مدّعيا بلا حجّة ، في مقابل دعوى الشركة من الآخر ؛ لأنّ يده أمارة على الشركة ، لا على أنّ جميع المال له.

فقوله : إنّ جميع المال له ، مخالف للحجّة الفعليّة ، وهو يد من يدّعي الشركة. وقد حقّقنا في كتاب القضاء أنّ المدّعي هو من يكون قوله مخالفا للحجّة الفعليّة ، والمنكر مقابله وهو من يكون قوله موافقا للحجّة الفعليّة ، وفي المقام حيث يكون قول من يدّعي الشركة موافقا للحجّة الفعليّة ، ومن يدّعي الجميع مخالفا لها ، فيكون الأوّل ـ أي من يدّعي الشركة ـ منكرا ، ومن يدّعي الجميع مدّعيا ، فيكون المدّعي للشركة وظيفته الحلف ، والآخر ـ أي مدّعي الجميع ـ وظيفته البيّنة. وهذا الحكم جار في جميع‌

__________________

(١) « الدروس » ج ٣ ، ص ٣٣٣.

(٢) « جامع المقاصد » ج ٥ ، ص ٤٣٦.

٣٦

موارد مدّعي الشركة مع مدّعي الجميع ، ولعلّ هذا ما أراده الشهيد قدس‌سره في الدروس.

وعلى كلّ حال ، الحكم في هذه المسألة ما أفتى به المشهور ، من كون أحد الدرهمين للذي يدّعيهما جميعا ، وتنصيف الآخر بينهما ، فيكون درهم ونصف لمن يدّعيهما ، ونصف درهم للذي ادّعى الواحد ، سواء كان دعوى الأخير على نحو الاشتراك ، أو كان يدّعي واحدا معيّنا ؛ وذلك للنصّ المتقدّم ، وهو صحيح عبد الله بن المغيرة المذكور آنفا. (١)

والتمسّك بهذه القواعد للاحتياج إلى الحلف والعمل بميزان القضاء ، يكون من قبيل الاجتهاد في مقابل النصّ ، وهذا ممّا يطعن به على المتمسّك مع أنّ هذا الحكم ليس مخالفا للقواعد المقرّرة في كتاب القضاء.

بيان ذلك : أنّه حيث أنّ مفروض المسألة فيما يكون لكلّ واحد من المدّعيين يد على المتنازع فيه ، أو مطروح في مكان ليس لأحدهما يد عليه ، ولا فرق بين الصورتين فيما هو المهمّ في المقام ، وهو أنّه ليس هاهنا مدّع ومنكر في البين ، بل هاهنا مدّعيان ليس لهما حجّة على ما يدّعيان إمّا من أوّل الأمر ، كما إذا كان مطروحا وليس لأحدهما يد عليه ، أو من جهة سقوط كلا المدركين بالتعارض ، وذلك فيما كان لكلّ واحد منهما يد على المال المتنازع فيه ، فتتعارض اليدان وتتساقطان. وعلى كلّ واحد من التقديرين دعويان بلا مستند لكلّ واحد منهما ، وليس المورد مورد المدّعي والمنكر والمال بينهما ، فلا بدّ من تنصيف محلّ النزاع ولو لم يكن تلك الصحيحة ؛ لقاعدة العدل والإنصاف التي يجريها الفقهاء في كلّ مورد يكون المال بينهما وليس لأحدهما مدرك وليس مدّع ومنكر في البين.

فلا يمكن قطع نزاعهما بموازين القضاء ، ولا بدّ من قطع الخصومة ، فيقطع بتطبيق هذه القاعدة بالتنصيف أو بالتثليث أو بالتربيع. وهكذا بنسبة عدد المدّعين ، فلو كان‌

__________________

(١) سبق ذكره في ص ٣٢ ، رقم (٢).

٣٧

عشرين كلّ واحد منهم يدّعي تمام المال الذي ليس لأحدهم يد عليه ، ولا لغير هم عليه يد ، وليس لأحد منهم مدرك آخر أنّ هذا المال له ، فلا بدّ وأن يقسّم بينهم بقاعدة العدل والإنصاف عشرين ، لكلّ واحد منهم واحد من ذلك العشرين.

ومما ذكرنا يظهر لك أنّ ما أفتى به المشهور من أنّه « لو وادعه إنسان درهمين وآخر درهما وامتزج الجميع ثمَّ تلف درهم ، يعطى لذي الدرهمين درهم من الدرهمين الباقيين ، وينصّف الدرهم الباقي » فتواهم على طبق القاعدة ، وهي قاعدة العدل والإنصاف ؛ لأنّ الاثنين لا يد لهما على الدرهم ، أمّا يد الودعي فليست أمارة الملكيّة ، وأمّا المدّعيان فلا يد لأحدهما على المتنازع فيه ، واليد السابقة على الإيداع متعلّقها غير معلوم ، وليس المقام مقام المدّعي والمنكر ، فلا يمكن العمل بموازين القضاء ، ولا يمكن قطع الخصومة إلاّ بتطبيق قاعدة العدل والإنصاف بتنصيف المنازع فيه ؛ لأنّهما اثنان ، ولو كان عدد المدّعين أكثر ، كان التقسيم بعددهم كما عرفت.

وهذا ربما يسمّى بالصلح القهري ، ووجه التسمية واضح ، ولعلّ هذه التسمية صارت سببا لذكر هذه الفروع في كتاب الصلح ، فهذا الحكم على طبق القواعد ، ويؤيّده ما رواه السكوني عن الصادق عليه‌السلام في رجل استودعه رجل دينارين واستودعه آخر دينارا ، فضاع دينار منها قال عليه‌السلام : « يعطى صاحب الدينارين دينارا ، ويقسّم الآخر بينهما نصفين » (١).

أقول : هذا أحد الاحتمالات في هذه المسألة وقد افتى به المشهور.

وهاهنا احتمالات أخر :

منها : أن يصير المال ـ أي الدراهم ـ مشتركة بينهما بواسطة الاختلاط والاجتماع في مكان واحد ، أو بواسطة عدم التمييز الحاصل عن الاختلاط والاجتماع في محلّ‌

__________________

(١) « الفقيه » ج ٣ ، ص ٣٧ ، باب الصلح ، ح ٣٢٧٨ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ١٧١ ، أبواب كتاب الصلح ، باب ١٢ ، ح ١.

٣٨

واحد ، خصوصا إذا كانت من الدراهم المسكوكة بسكّة واحدة وبوزن واحد وشكل واحد.

ومنها : أن يكون موردا للقرعة ؛ لأجل أنّ القرعة لكلّ أمر مجهول أو مشتبه ، وها هنا اشتبه الدرهم الضائع ، ولا يعلم أنّه لصاحب الدرهم الواحد كي يكون الدرهمان الباقيان لصاحب الدرهمين ، أو أنّه لصاحب الدرهمين كي يكون الباقي أحدهما لهذا والآخر لذاك.

ومنها : الصلح القهري ؛ حيث لا يمكن معرفة صاحب المال الموجود ، فلا بدّ للحاكم أن يجبرهما على الصلح لرفع الخصومة وقطع النزاع ، فلا بدّ للفقيه أن ينظر إلى هذه الوجوه ، ويرى أنّ أيّها أوجه وبالقواعد أوفق.

أقول : أمّا احتمال الاشتراك بواسطة الاختلاط وعدم الامتياز ، وإن أثره هو أن يكون من كلّ درهم ثلثه لصاحب الدرهم الواحد وثلثاه لصاحب الدرهمين ، فإذا ضاع واحد الثلاثة وبقي اثنان ، يكون لصاحب الدرهم الواحد ثلث من كلّ واحد من من الدرهمين الباقيين ، وثلثان من كلّ واحد منهما لصاحب الاثنين ؛ فمجموع حصّة صاحب الدرهم الواحد ثلثا درهم ، ومجموع حصّة صاحب الاثنين أربعة أثلاث ، أي درهم وثلث درهم.

فبناء على حصول الاشتراك يصير حصّة صاحب الدرهمين أقلّ ممّا في الرواية وأيضا ممّا أفتى به المشهور ، وهو درهم ونصف ؛ لأنّ حصّته بناء على ما في رواية السكوني وفي فتوى المشهور أربعة أثلاث ونصف ثلث ، بناء على الاشتراك أربعة أثلاث فقط من دون نصف ثلث ، ويصير حصّة صاحب الدرهم الواحد أزيد ممّا في الرواية وممّا أفتى به المشهور ؛ لأنّه بناء على الاشتراك يكون نصيب صاحب الدرهم الواحد نصفا ونصف ثلث ، وبناء على مفاد الرواية وفتوى المشهور يكون نصف درهم فقط من دون نصف الثلث.

٣٩

فمرجوح جدّا أوّلا : من جهة أنّ وجود المناط في حصول الشركة القهريّة ـ التي لا بدّ أن يكون هو المراد في المقام في مثل الدراهم والدنانير ـ في غاية الإشكال.

وثانيا : الحكم بوقوع الشركة في المفروض مع وجود رواية عمل بها الأصحاب وصارت معتبرة ولو من هذه الجهة على خلافها لا يخلو من نظر وتأمّل.

وأمّا الاحتمال الثاني : أي كون المسألة موردا للقرعة من جهة قوله عليه‌السلام : « القرعة لكلّ أمر مشكل » وفي بعض الروايات : « لكلّ أمر مشتبه » وفي بعضها الآخر : « لكلّ أمر مجهول » (١) ، والمورد مشكل ومشتبه مجهول.

أمّا كونه مشكلا ؛ من جهة العلم بأنّ المتنازع فيه إمّا لصاحب الدرهم الواحد وإمّا لصاحب الاثنين ، ولا طريق إلى معرفة صاحبه كي يردّ إليه. وأمّا كونه مجهولا ؛ فصاحبه مجهول ، وأمّا كونه مشتبها ؛ فلأنّ مالكه مشتبه يحتمل أن يكون هذا ويحتمل أن يكون الآخر.

ففيه : أنّه أوضحنا في قاعدة القرعة أنّ الأخذ بعموم « كلّ أمر مجهول أو مشتبه » ممّا يقطع بخلافه.

وأمّا الأمر المشكل في الأحكام فهو أيضا ممّا يعلم بعدم اعتبار القرعة ، وقلنا إنّ المستفاد من أدلّة القرعة هو أن يكون المورد معلوما بالإجمال ، ويكون في الشبهة الموضوعيّة لا الحكميّة ، ولا يمكن الاحتياط أو يكون الاحتياط حرجيّا أو ضرريا.

فالأوّل كما إذا طلّق إحدى زوجاته فاشتبهت عليه المطلّقة. والثاني كما لو علم أنّه نذر زيارة الرضا عليه‌السلام أو زيارة الأئمّة المدفونون في البقيع عليهما‌السلام. والثالث كما لو علم بأنّ في قطيع غنمه موطوءا ، فالاحتياط بالاجتناب عن جميع غنمه ضروريّ قطعا ،

__________________

(١) « الفقيه » ج ٣ ، ص ٩٢ ، باب الحكم بالقرعة ، ح ٣٣٨٩ ؛ « تهذيب الأحكام » ج ٦ ، ص ٢٤٠ ، ح ٥٩٣ ، باب البينتين يتقابلان أو ... ، ح ٢٤ ؛ « النهاية » ص ٣٤٦ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٨ ، ص ١٨٩ ، أبواب كيفيّة الحكم ، باب ١٣ ، ح ١١ و ١٨.

٤٠