القواعد الفقهيّة - ج ٥

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي

القواعد الفقهيّة - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي


المحقق: مهدي المهريزي
الموضوع : الفقه
الناشر: نشر الهادي
المطبعة: مؤسسة الهادي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-400-030-7

الصفحات: ٣٩٢

أو الجواز.

نعم يبقى شي‌ء وهو دليل أنّ الملكيّة المنشأة واحدة لا تعدّد فيه.

أقول : بعد أن فرضنا أنّ الجواز واللزوم ليسا من خصوصيات الملك المسبّب ، بل من الأحكام الشرعيّة للسبب المملّك ، وأيضا بعد أنّ المفروض أنّ المنشئ أنشأ بإنشاء واحد ملكيّة شي‌ء واحد ، كلّيا كان ذلك الشي‌ء أو كان جزئيّا خارجيّا ممتنع الصدق على كثيرين. فبإنشاء واحد على متعلّق واحد لا يمكن جعل ملكيّتين ، بل لا يمكن ذلك ولو كان بإنشاءات متعدّدة ؛ إذ باعتبارات متعدّدة لو اعتبر حرّية شخص أو رقّيته أو ملكيّة مال ، لا يحصل إلاّ حرّية أو رقية أو ملكيّة واحدة ؛ وذلك من جهة أنّ اعتبارها ثانيا بعد حصولها لغو بل محال ؛ لأنّه من قبيل تحصيل الحاصل ، فإذا باع المالك ماله مثلا وأنشأ ملكيّة لزيد مثلا فلا أثر لإنشاء ملكيّة له ثانيا ، بل لا يمكن.

وخلاصة الكلام : أنّ البائع مثلا أنشأ شخصا من الملكيّة يكون تشخّصها بتشخّص متعلّقها وموضوعها ، فيكون إنشاء طبيعة في عالم الاعتبار كإيجادها في عالم التكوين ، وحيث أنّ متعلّق ذلك الأمر الاعتباري شخص واحد ، فقهرا يتشخّص بتشخّصه كالعرض بموضوعه. وكونها مردّدة بين اللزوم والجواز تقدّم أنّه ليس من الخصوصيّات اللاحقة لها ، فثبت أنّ الملكيّة المنشأة شخص واحد لا تعدّد فيه ، فلا مانع من استصحاب ذلك الشخص بعد حصول الشكّ في بقائه من ناحية الشكّ في الحكم الشرعيّ ببقائه أو لزومه.

فخلاصة الكلام في المقام : أنّه إن قلنا بأنّ اللزوم والجواز من الخصوصيّات اللاحقة للملكيّة المنوّعة أو المصنّفة لها ، أو لحقوقهما لها كلّ واحد منهما لخصوصيّة فيها غير الخصوصيّة الأخرى ، فيجري فيها استصحاب الكلّي الجامع بينهما كسائر الاستصحابات التي من القسم الثاني من أقسام الاستصحاب الكلّي على ما هو الصحيح من صحّة جريانها. وأمّا إن قلنا بأنّهما ليسا من الخصوصيّات المنوّعة أو‌

٢٤١

المصنّفة للملكيّة ، بل هما حكمان شرعيّان لها باعتبار اختلاف أسبابها ، فيجري فيها الاستصحاب الشخصي كما تقدّم.

ثمَّ إنّه ذكر الشيخ الأعظم الأنصاري قدس‌سره (١) أنّه لو شكّ في أنّ اللزوم والجواز من خصوصيّات الملك ، أو حكمان شرعيّان يتعلّقان بالملك باعتبار اختلاف أسبابه أيضا يجري الاستصحاب.

وما ذكره قدس‌سره واضح على ما ذكرنا ؛ لأنّه بناء على كونهما من خصوصيّات الملك يكون الاستصحاب من القسم الثاني من أقسام استصحاب الكلّي ، ويكون من قبيل الحدث المردّد بين الأصغر والأكبر فتوضّأ ، فإن كان الأصغر ارتفع ، وإن كان الأكبر فباق ، فيستصحب الجامع بينهما.

وفيما نحن فيه بناء على أن يكونا ـ أي اللزوم والجواز ـ من خصوصيّات الملك ، فيعد الفسخ إن كان جائزا فقد ارتفع ، وإن كان لازما فالملك باق ، فيستصحب الملك الكلّي الجامع بين الخصوصيّتين.

وأمّا بناء على كونهما حكمان شرعيّان يردّان على الملك باعتبار اختلاف أسبابه ، فيستصحب شخص الملكيّة المنشأة من جهة الشكّ في ارتفاعها بعد ثبوتها يقينا ، فلا إشكال على كلّ واحد من التقديرين في جريان الاستصحاب وتماميّة أركانه ، غاية الأمر في أحد الفرضين يكون الاستصحاب كلّيا ، وفي الآخر يكون شخصيّا.

ولا يتوهّم : أنّه بناء على ما ذكرنا وتقدّم في أوّل بحث جريان الاستصحاب أنّ استصحاب الشخص لا يجري ؛ لأنّ مرجعه إلى استصحاب الفرد المردّد ، وهو لا يجوز فقولكم إنّه يجرى على كلا الفرضين مناقض لما تقدّم.

وذلك من جهة أن قولنا بعدم جريان الاستصحاب الشخصي وأنّه من استصحاب الفرد المردّد كان مبنيّا على أنّ يكون اللزوم والجواز من الخصوصيّات‌

__________________

(١) « المكاسب » ص ٨٥.

٢٤٢

المنوّعة للملك ، وأمّا إذا كانا من الأحكام الشرعيّة التي جعلهما باعتبار اختلاف الأسباب كما هو المفروض في محلّ الكلام ، فلا مانع من جريان الاستصحاب الشخصي ، فلا مناقضة بين الكلامين.

خاتمة البحث في هذه القاعدة‌

وهو أنّه وعدنا في صدر المسألة بيان جريان الاستصحاب في العقود التمليكيّة التعليقيّة وإثبات لزومها به عند الشكّ. والمراد من العقود التعليقيّة هو أن يكون التمليك معلّقا على أمر غير حاصل.

ويظهر ممّا أفاده الشيخ الأعظم الأنصاري قدس‌سره عدم جريان استصحاب الملكيّة في تلك العقود قبل حصول ذلك الأمر المعلّق عليه لو شكّ في لزومها. مثلا لو شكّ في لزوم الجعالة قبل حصول ما جعل على تحصيله الجعل ، أو شكّ في لزوم عقد المسابقة قبل حصول السبق ، فلا يصحّ إثبات لزومهما باستصحاب ملكيّة الجعل في الجعالة ، أو السبق في عقد المسابقة ؛ وذلك من جهة عدم حصول ملكيّة الجعل والسبق كي يستصحب ، والمستصحب قبل وجود المعلّق عليه لا وجود له ولا عين ولا أثر له ، فأيّ شي‌ء يستصحبه ، وكيف يستصحب؟

وفيه : أنّ الشارع في هذه العقود التعليقيّة يمضي ما أنشأه العاقد ، كما أنّه في العقود التنجيزيّة أيضا يمضي ما أنشأه العاقد ، وليس فرق بين إمضاء الشارع في النوعين التعليقيّة والتنجيزيّة ، وإنّما الفرق بينهما في المنشأ ، فإنّ المنشأ في العقود التنجزيّة الملكيّة المنجّزة ، وفي العقود التعليقيّة الملكيّة المعلّقة.

فالعاقد في العقود التعليقيّة مثل الجعالة والسبق والرماية ينشأ ملك الجعل على تقدير ردّ الضالّة ، وملكيّة السبق في عقد السبق والرماية على تقدير حصول السبق وإصابة الرمي ، وهذا الإنشاء يشبه جعل الشارع الأحكام الكليّة على موضوعاتها‌

٢٤٣

على نحو القضية الحقيقيّة ، أى على الموضوعات المقدّرة وجودها.

فالحكم الكلّي المجعول على موضوع سواء كان ذلك الموضوع مقيّدا بوصف أو كان مشروطا بشرط يكون الموضوع ذلك المركّب المفروض الوجود ، فإذا قال الشارع : يجب الحجّ على العاقل البالغ المستطيع الحرّ ، أو قال بصورة القضيّة الشرطية : من كان عاقلا بالغا حرّا مستطيعا يجب عليه الحجّ ، فالموضوع عبارة عن الإنسان الواجد لهذه الصفات ، فكلّما وجد في الخارج إنسان جامع لهذه الصفات يتحقّق الموضوع ويوجد وينطبق ما هو الموضوع عليه ، فإن أتى بذلك المركّب يكون ممتثلا ، وإن لم يأت يعدّ عاصيا متمرّدا ، وفي أيّ وقت رفع الشارع هذا الحكم عن ذلك الموضوع بدون أيّ تغيير في جانب الموضوع ، من فقد شرط أو جزء أو وجود مانع ، يعدّ هذا نسخا ، فلو شكّ في بقاء هذا الحكم على هذا الموضوع المفروض الوجود ، بدون أيّ تغيير ، يستصحب بقاؤه لتماميّة أركانه ، ويسمّى باستصحاب عدم النسخ ، ولا كلام ولا إشكال ولا خلاف في جريانه ، والاستصحاب في العقود التعليقيّة من هذا القبيل.

ففي قضيّة فقد صواع الملك في قضيّة يوسف الصدّيق مع إخوته ، جعل حمل بعير لمن جاء بصواع الملك ، أي : الجام الذي يشرب فيه أو منه ، وردّ هذه الضالّة أي جام الملك ، فيشبه هذا الجعل ، أي جعل ملكيّة حمل بعير لمن يأتي بصواع الملك جعل حكم كلّى على الموضوع المقدّر وجوده.

فهاهنا أيضا الموضوع المقدّر وجوده كلّ إنسان جاء بجام الملك ، غاية الأمر هناك ، أي في القضايا المتكفّلة لجعل الأحكام الشرعيّة الجعل ابتداء من قبل الشارع ، وها هنا أي في باب العقود التعليقيّة الجعل ابتداء من المالك ، والإمضاء من الشارع ، فكما أنّ استصحاب عدم النسخ في الأحكام الكلّية لا إشكال فيه لتماميّة أركانه ، فكذلك هاهنا استصحاب بقاء الملكيّة المنشأة من قبل المالك لا إشكال فيه.

٢٤٤

والعجب من شيخنا الأعظم الأنصاري قدس‌سره (١) أنّه قال بصحّة الاستصحاب التعليقي مع أنّه غير صحيح ، وأنكر جريان الاستصحاب هاهنا ، وقد عرفت أنّ صحّة الاستصحاب هاهنا وجريانه لا إشكال فيه.

وأمّا عدم صحّة الاستصحاب التعليقيّ وأنّه لا يجري ، فبيانه وإيضاحه موقوف على بيان مقدّمة :

وهي أنّ استصحاب التعليقي عبارة عن أن يكون موضوع الحكم الشرعي مركّبا من جزئين ، سواء كان أحد الجزئين قيدا ووصفا للآخر ، أو كان شرطا له ، فالأوّل كالعنب المغلي ، والثاني كالعنب إذا غلى ، فتغيّر أحد الجزئين قبل وجود الجزء الآخر.

مثلا جفّ العنب قبل أن يغلي وصار زبيبا ، فشكّ في أنه إذا انضمّ إلى الجزء الآخر بعد حدوث هذا التغيّر هل يبقى الحكم السابق أم لا؟ فإذا غلى الزبيب هل يكون شربه حراما ويكون نجسا ، كما أنّه لو كان يغلي في حال عدم الجفاف والعنبية كان له هذا الحكم يقينا.

وبعد وجود هذا الشكّ هل يصحّ استصحاب الحكم السابق فيقال : إنّ هذا الزبيب حين ما كان عنبا كان شربه حراما على تقدير الغليان ، والآن بعد ما صار زبيبا أيضا كذلك ، أي يكون شربه حراما على تقدير الغليان ، وهذا يسمّى بالاستصحاب التعليقيّ ؛ لأنّه عبارة عن إبقاء الحكم المعلّق لا المنجّز.

وفي صحّته وجريانه خلاف.

والأصحّ عندي عدم صحّته ؛ وذلك من جهة أنّ العنب لم يكن له حكم كي بعد جفافه والشكّ في بقاء ذلك الحكم يستصحب ؛ وذلك من جهة أنّ العنب كان جزء الموضوع ، والجزء الآخر هو الغليان ، وقبل وجود الموضوع بتمام أجزائه محال أن يوجد الحكم ؛ لأنّ وجود الحكم قبل ذلك خلف ، أي يلزم منه أن يكون ما فرضته موضوعا‌

__________________

(١) « فرائد الأصول » ج ٢ ، ص ٦٥٣.

٢٤٥

لا يكون موضوعا ، ويكون من هذه الجهة حال الموضوع المركّب حال العلّة المركّبة ، أي كما لا يمكن وجود المعلول قبل وجود علّته بتمام أجزائها ، كذلك لا يمكن وجود الحكم قبل وجود الموضوع بتمامه ، والبرهان في الموردين هو لزوم الخلف.

فبناء على هذا لم يكن للعنب قبل أن يجفّ ما لم يغل حكم كي يبقى بالاستصحاب إلى حال الجفاف.

وأمّا القول بأنّ الحرمة والنجاسة الفعليّة وإن لم تكونا للعنب قبل الغليان لعدم موضوعهما قبل الغليان ، ولكنّ الحرمة والنجاسة التقديريّتان كانتا له ، بمعنى أنّه كان يصحّ أن يقال قبل الغليان : إنّ العنب يتّصف بالحرمة والنجاسة على تقدير غليانه ، وهذا نحو وجود للحكم ، ولا بأس بأن نسمّيه بالحكم التقديري.

وقد اختار هذا القول في الكفاية (١) ، وأصرّ في وجود الحكم التقديري قبل وجود ما علّق عليه ، أي الجزء الآخر ، وقال : فإنّ المعلّق قبله إنّما لا يكون موجودا فعلا ، لا أنّه لا يكون موجودا أصلا ولو بنحو التعليق.

ولكن أنت خبير بفساد هذا القول العجيب ؛ إذ لا شكّ في أنّ بداهة العقل يحكم بوجود كلّ معلول عند وجود علّته ، فهل يصحّ عند عدم وجود علّة شي‌ء أن يقال بالوجود التقديري لذلك المعلول في ظرف عدم علّته ، مثلا لا شكّ في أنّ غروب الشمس علّة لوجود الليل ، أفيصحّ أن يقول في وقت الظهر وارتفاع الشمس أنّ الليل موجود بالوجود التقديريّ؟ نعم الموجود هي الملازمة بين وجود العلّة والمعلول ، والحكم والموضوع ، والملازمة حكم عقلي لا دخل ولا ربط لها بالأحكام ، وقد يتحقّق بين الممتنعين كتعدّد الآلهة وفساد السماوات والأرضين ، ووجود الملازمة بين شيئين لا يدلّ على وجود طرفي الملازمة ، بل تثبت وتصدق كما ذكرنا بين الممتنعين.

__________________

(١) « كفاية الأصول » ص ٤١١.

٢٤٦

وأعجب من هذا ما نسب إلى شيخنا الأعظم الأنصاري (١) ـ قدّس الله روحه ـ من تصحيح الاستصحاب التعليقيّ بإرجاعه إلى استصحاب الملازمة.

ويرد عليه أوّلاً : أنّ الملازمة بين الشيئين حكم عقليّ أزلي ، ليس قابلا للجعل الشرعي ، وهو قدس‌سره اعترف بذلك وقال بأنّ الملازمة وكذلك السببيّة لا يمكن أن يكونا مجعولين بالجعل الشرعي ، فالقول باستصحاب الملازمة مناقض مع ذكره في الأحكام الوضعيّة من عدم إمكان جعل الملازمة والسببيّة.

وذلك من جهة أنّ المستصحب لا بدّ وأن يكون إمّا من المجعولات الشرعيّة بنفسه ، أو يكون له أثر مجعول كي يكون قابلا للتعبّد ببقائه ، والسرّ في أنّ الملازمة ليست قابلة للجعل الشرعي أمّا في المقام ، فمن جهة أنّ فرض عدم الملازمة بين الحكم وموضوعه يرجع إلى جواز الانفكاك بينهما ، وهذا خلف ، أي يكون خلاف فرض كونهما موضوعا وحكما ، وهذا مناقضة ومحال.

فالعقل ينتزع الملازمة من كون الانفكاك بين شيئين محالا ، سواء كان بين العلّة والمعلول ، أو الحكم والموضوع ، أو بين معلولي علّة واحدة المسمّى بالمتلازمين ، فإذا كان الأمر كذلك ، فلا يبقى مجال للجعل الشرعي ، بل لا يمكن ؛ لأنّ انتزاعه قهريّ ، ويكون من لوازم الذات التي لا يتطرّق الجعل إليها مطلقا ، لا تكوينا ولا تشريعا ، كالإمكان بالنسبة إلى الممكنات ، والشيئيّة بالنسبة إلى الأشياء.

وثانيا : على فرض أن تكون الملازمة من المجعولات الشرعيّة ، تكون بين تمام الموضوع وحكمه ، فإنّها لا ينفكّان. وأمّا جزء الموضوع مع جزئه الآخر مع الحكم فليسا بمتلازمين ، بل لا بدّ من الانفكاك بينهما ، وإلاّ يلزم الخلف ، أي يلزم ما فرضته جزء الموضوع أن يكون تمام الموضوع.

ففي المثال المفروض الملازمة بين العنب المغلي مع الحرمة والنجاسة ، وأمّا العنب‌

__________________

(١) « فرائد الأصول » ج ٢ ، ص ٦٥٤.

٢٤٧

مع عدم الغليان فلا ملازمة بينه وبين الحرمة والنجاسة ، فلا ملازمة كي يستصحب بقاؤها في ظرف الشكّ في البقاء بواسطة جفافه وصيرورته زبيبا.

وها هنا إشكالات وأنظار من القائلين بصحّة الاستصحاب التعليقي ، ولكن نحن لسنا بصدد تحرير هذه المسألة من جميع النواحي والجهات ، وقد حقّقناها ودفعنا جميع ما أوردوا عليها في كتابنا « منتهى الأصول » ومن أراد فليراجع إليها.

والحمد لله أوّلاً وآخراً ، وظاهراً باطناً.

٢٤٨

٥٠ ـ قاعدة

حرمة إبطال الأعمال العبادية‌

٢٤٩
٢٥٠

قاعدة حرمة إبطال الأعمال العبادية *

ومن القواعد الفقهيّة المشهورة قاعدة « حرمة إبطال الأعمال العبادية إلاّ ما خرج بالدليل ».

فنقول : البحث من جهات :

الجهة الأولى

في بيان مفاد هذه القاعدة وأنّه ما المراد منها‌

أقول : المراد منها هو أنّ العمل العبادي المركّب التدريجي الوجود لا يجوز إبطاله في الأثناء ، بمعنى رفع اليد عن إتيانها تماما في الأثناء ، أو يأتي بشي‌ء لا يصحّ معه الإتمام ويخرج عن قابليّة التحاق الأجزاء اللاحقة بسابقتها كي يتمّ العمل ويوجد صحيحا.

فلو شرع في الصلاة فليس له أن يرفع اليد عنها في الأثناء ، أو يأتي بأحد قواطع الصلاة كي تخرج عن قابلية الإتمام ووقوعها صحيحا ، أو شرع في الإحرام لعمرة التمتّع كي يتمتّع بها إلى الحجّ ، فرفع اليد عن إتمام العمرة أو الحجّ أو أتى بمانع لا يقع معه الحجّ صحيحا ، مثل أن جامع عمدا وإن كان مع زوجته فيفسد حجّه ، ولا يمكن أن يتمّه صحيحا ، فهذا معنى حرمة الإبطال المراد من هذه القاعدة.

ثمَّ إنّه لا شكّ في أنّ الواجبات المضيقة لا يجوز إبطالها قطعا ، ولكن ليس لأجل‌

__________________

* « عوائد الأيّام » ص ١٥١ ؛ « عناوين الأصول » عنوان ٢٤ ؛ « أصول الاستنباط بين الكتاب والسنّة » ص ١٢٥.

٢٥١

هذه القاعدة ، بل لو لم تثبت هذه القاعدة ولم يوجد عليها دليل ، أيضا لا يجوز قطع تلك الواجبات ؛ لأنّ مرجع قطعها وإبطالها بالمعنى الذي ذكرنا للإبطال تفويت تلك الواجبات وتركها في وقتها مع أنّها مضيّقة ، فهذا شي‌ء معلوم. فعمدة الكلام في الواجبات الموسّعة والمستحبّات.

وكذلك جواز قطعها لعذر دلّ الدليل عليه لا ينافي مع هذه القاعدة ، وذلك من جهة أنّ مفاد هذه القاعدة عدم جواز القطع بعنوانه الأوّلي ، فلا ينافي الجواز لطروّ عناوين أخر كطروّ ضرر أو حرج وأمثالها من الحالات الطارئة.

الجهة الثانية

في أنّه ما الدليل على هذه القاعدة؟ أي حرمة إبطال الأعمال العباديّة.

وهو أمور :

الأوّل : الإجماع ، وادّعاه جمع في خصوص الصلاة ، وتعبيراتهم وإن كانت مختلفة ولكن مفاد كلّها واحد ، وهو الاتّفاق وعدم الخلاف في عدم جواز قطع الصلاة اختيارا ولغير عذر ، بل ادّعى في شرح المفاتيح أنّه من بديهيّات الدين.

وفيه : أنّ الإجماع على فرض وجوده لا يثبت كلّية هذه القاعدة ، نعم على تقدير ثبوته يكون دليلا على تحريم قطع الصلاة فقط.

الثاني : قوله تعالى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ ) (١).

والاستدلال بهذه الآية ـ على حرمة رفع اليد عن المركّبات العباديّة في أثناء العمل ، أو الإتيان بمانع أو قاطع يمنع عن إتمام العمل صحيحا ـ مبنيّ على أن يكون‌

__________________

(١) محمّد (٤٧) : ٣٣.

٢٥٢

المراد من الإبطال فيها هو المعنى الذي ذكرنا له ، من ترك العمل ورفع اليد عنه بعد الشروع فيه وفي أثنائه ، أو إيجاد مانع أو قاطع في أثنائه كي يسقط عن صلاحيّة إتمامه صحيحا.

ولكن ظهور لفظ الإبطال وكلمة « لا تبطلوا » في هذا المعنى لا يخلو عن مناقشة ؛ إذ من المحتمل القريب أن يكون المراد منه النهي عن إبطال العمل بالرياء أو الشرك أو العجب أو ارتكاب الكبائر التي أوعد الله عليها النار ، لا بمعنى الحبط الذي لا نقول به نحن الإماميّة الاثنى عشريّة وننكره ، بل بمعنى أنّه لا توجب تلك الأعمال دخول الجنّة بعد ارتكاب الكبائر العظيمة ، كقتل النفوس المحترمة ، والزنا بذات البعل وأمثالهما من الجرائم الكبيرة.

ويؤيّد هذا الاحتمال ما رواه الصدوق قدس‌سره في ثواب الأعمال عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من قال : « سبحان الله » غرس الله له بها شجرة في الجنّة ، ومن قال : « الحمد لله » غرس الله له بها شجرة في الجنة ، ومن قال : « لا إله إلاّ الله » غرس الله له بها شجرة في الجنّة ». فقال رجل من قريش : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّ شجرنا في الجنة لكثير ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « نعم ولكن إيّاكم أن ترسلوا عليها نيرانا فتحرقوها ، وذلك أنّ الله تعالى يقول ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ ) (١).

فاستشهاد الإمام عليه‌السلام بهذه الآية على أنّ الشرك والكفر والمعاصي الكبيرة يذهب بأثر تلك الكلمات ويحرق الأشجار التي كانت آثار تلك الكلمات ، مؤيّد بل دليل على أنّ المراد من إبطال الأعمال في الآية الشريفة هو ما يوجب ذهاب أثر تلك الأعمال ، لا أنّ المراد من إبطال الأعمال رفع اليد عنها وتركها في الأثناء ، أو إتيان مانع أو قاطع يمنع عن إتمامها صحيحا.

__________________

(١) « ثواب الأعمال » ص ٣٢ ، ح ٣.

٢٥٣

فمع وجود هذا الاحتمال القريب المؤيّد بما ذكرنا من الرواية التي رواها في ثواب الأعمال ، كيف يمكن دعوى ظهور هذه الجملة في مفاد هذه القاعدة ، فلا أقلّ من الإجمال وعدم ظهورها في كلّ واحد من هذين المعنيين.

هذا ، مضافا إلى أنّ حملها على مفاد القاعدة يوجب تخصيص الأكثر المستهجن ؛ وذلك لأنّ إرادة بعض أفراد العامّ من العموم الأفرادي ، أو إرادة بعض الأصناف من العموم الأصنافيّ مستهجن خلاف دأب أهل المحاورة وديدنهم في محاوراتهم ، ودليل المخصّص وظهوره يقدّم على دليل العامّ وظهوره فيما إذا لا يبلغ إلى حدّ الاستهجان.

وفيما نحن فيه لا ريب أنّ « أعمالكم » جمع مضاف ، وهو من صيغ العموم ، فيشمل جميع الأعمال المركّبة التي يمكن رفع اليد عنها في الأثناء على تقدير كون الإبطال بهذا المعنى الذي يدّعيه المستدلّ بهذه الآية على هذه القاعدة ، سواء كانت تلك الأعمال تعبّديا أو كانت توصّليا ، مع أنّ أغلب الأعمال يجوز إبطالها في الأثناء برفع اليد عنها أو بإتيان ما يوجب بطلانها ، وعدم إمكان إتمامها صحيحا.

بل الذي قالوا بعدم جواز قطعه في الأثناء هو فريضة الصلاة والحجّ مطلقا ، واجبا كان أو مندوبا ، مع كلام فيهما أيضا ، فكيف يجوز التعبير عن هذين العملين بهذا العموم الواسع ، وهل هذا إلاّ حصر المراد من العموم فيما هو مستهجن جدّا ، لا يليق مثل هذا بكلام السوقة ، فضلا عن كلام الله تعالى شأنه.

وأمّا ما يقال من أنّ لفظة « الأعمال » وإن كانت بحسب ظاهر الكلام تشمل جميع الأعمال ، عباديّة كانت أو غير عباديّة ، لكن سوق الآية في مقام بيان الأعمال العباديّة ، فبقرينة السياق ينقلب الظهور ويكون ظاهرا في خصوص العبادات.

ففيه : أنّ سياق الآية أنّ أوامرها إرشاديّة ، وأنّ النهي إرشاد إلى أنّ إبطال العمل وعدم إتيانه على الوجه الذي أمر به ليست بإطاعة ، فكما أنّ الأمر المتعلّق بإطاعة الله وإطاعة الرسول إرشادي ولا يمكن أن يكون مولويّا لما تقرّر في محلّه ، فكذلك النهي‌

٢٥٤

المتعلّق بالإبطال لوحدة السياق.

وحاصله : أنّ مفاد الآية صدرا وذيلا هو أنّ وظيفة العبد هي الإطاعة وعدم التمرّد بترك الأعمال الواجبة ، أو إبطال أثرها بالعجب والكبر وارتكاب الكبائر ، أو إبطال نفسه بالرياء ، وهذا أجنبي عن عدم جواز رفع اليد عن الواجب الموسّع ثمَّ الإتيان بفرد آخر منه ، أو القول بأنّ سياق الآية يدلّ على أنّ المراد بأعمالكم فيها هو خصوص الأعمال العبادية لا عموم الأعمال.

فالإنصاف أنّ القول بظهور « أعمالكم » في الآية في خصوص العبادات لا دليل عليه ، مضافا إلى أنّ اختصاصها بالعبادات وظهورها فيها لا يرتفع به تخصيص الأكثر المستهجن ؛ وذلك لكثرة المستحبّات العباديّة التي لا إشكال في جواز قطعها إلاّ في الحجّ المندوب.

هذا ، مضافا إلى أنّ كثيرا من الواجبات التعبديّة يجوز قطعها إذا كانت موسّعة مثل الطهارات الثلاث ، فيجوز رفع اليد عنها في الأثناء والإتيان بفرد آخر ، حتّى أنّه في الصلاة حكى قول بجواز قطعها اختيارا وإن كان خلاف المختار ؛ لما ذكرنا من ادّعاء الإجماع من صاحب المدارك (١) وكشف اللثام (٢) وغيرهما ، بل قال في شرح المفاتيح أنّه من بديهيّات الدين.

نعم قلنا إنّ الواجبات المضيّقة لا يجوز قطعها ؛ لأجل أنّ قطعها وإبطالها بهذا المعنى يوجب تفويتها وعصيانها بالمرّة ، فلا ربط لها بهذه القاعدة. وأمّا الواجبات الموسّعة كالنذر الموسّع مثلا ، وكالطهارات الثلاث كما ذكرنا يجوز قطعها ورفع اليد عن الفرد الذي اشتغل بها والإتيان بفرد آخر.

وأمّا الاستدلال بوجوب الإتمام بقوله تعالى ( أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ) (٣) بأن‌

__________________

(١) « مدارك الأحكام » ج ٣ ، ص ٤٧٧.

(٢) « كشف اللثام » ج ١ ، ص ٢٤١.

(٣) البقرة (٢) ، ٤٠.

٢٥٥

يقال : نيّة العبادة عهد مع الله تعالى بأن يأتي بها تماما ، والأمر في ( أَوْفُوا بِعَهْدِي ) ظاهر في الوجوب ، فيكون المعنى بناء على هذا أنّه يجب عليكم الوفاء بالعهد الذي عاهدتم معي بإتيان العبادة المنويّة تماما ، فيكون قطعه حراما ؛ لأنّه ترك الواجب.

ففيه : أنّه بالخطابة أشبه من البرهان ، وخلاصة الكلام : أنّه ليس دليل على إثبات هذه القاعدة على نحو الكلّية ، بحيث إذا شككنا في جواز قطع عمل من الأعمال نرجع إليها ونحكم بعدم جواز قطعه لأجل هذه الكلّية ، إلى أن يأتي دليل على الجواز وتخصّص هذه القاعدة.

نعم في خصوص الصلاة الواجبة تمسّكوا بأدلّة على عدم جواز قطعها :

ومنها : هذه الآية ، وقد عرفت الحال فيها.

ومنها : الإجماع ، ولا بأس به.

منها : قوله عليه‌السلام : « تحريمها التكبير وتحليلها التسليم » (١). وتقريب دلالته على حرمة قطع الصلاة أنّ ظاهره حرمة إيجاد المنافيات من الموانع والقواطع بوقوع التكبير ـ أي بمحض الشروع في الصلاة ـ لأنّ المصلّي بالتكبير يشرع فيها ، ولا شكّ في أنّ إيجاد الموانع والقواطع ملزوم قطع الصلاة ، بل في نظر العرف هو عين قطعها ، فيكون مفاد الرواية عرفا هو حرمة قطع الصلاة ، ولا يجوز إيجادها إلاّ بالتسليم ، لأنّه مخرج ، فإذا خرج بالتسليم يحلّل به كلّ ما كان حراما عليه ؛ لأنّه خرج عن الصلاة.

واستشكلوا على هذا الدليل بأنّ التحريم في المقام ظاهر في الحرمة الشرطيّة من قبيل تعلّق النهي ببعض الموانع ، كقوله عليه‌السلام : « لا تصلّ فيما لا يؤكل لحمه » (٢). فيكون مثل هذا النهي منشأ اعتبار مانعيّة وجود النهي ، أو شرطيّة وجوده ، أو كليهما على اختلاف‌

__________________

(١) « الكافي » ج ٣ ، ص ٦٩ ، باب النوادر ، ح ٢ ؛ « وسائل الشيعة » ج ٤ ، ص ١٠٠٣ ، أبواب التسليم ، باب ١ ، ح ١.

(٢) « الكافي » ج ٣ ، ص ٣٩٧ ، باب اللباس الذي تكره الصلاة فيه ... ، ح ١ ؛ « تهذيب الأحكام » ج ٢ ، ص ٢٠٩ ، ح ٨١٨ ، باب ما يجوز الصلاة فيه من اللباس ... ، ح ٢٦ ؛ « وسائل الشيعة » ج ٣ ، ص ٢٥٠ ، أبواب لباس المصلّى ، باب ٢ ، ح ١ ، مع تفاوت في النصّ.

٢٥٦

المباني في المقام ، ولا أقلّ من الإجمال ، فلا يصحّ استظهار الحرمة التكليفيّة التي هي المدّعاة في المقام.

وقال بعض الأعاظم قدس‌سره في مقام الردّ على هذا الإشكال : إنّه لو كان المراد من التحريم الحرمة الشرطيّة لا التكليفيّة ، فكان هناك مركّبات أخر شرعيّة من العبادات ، كالوضوء والغسل ونحوهما ممّا لها منافيات ، فكان يقتضي ذكر هذه العبارة وإطلاقها عليها ، مع أنّه لم يعهد في لسان الشرع هذا الإطلاق ، إلاّ في باب الصلاة والإحرام ، وهذا يدلّ على تمحّض النظر فيه إلى حيث الحرمة التكليفيّة ، سواء اجتمعت مع الوضعيّة كما في قواطع الصلاة ، أم لا كما في بعض المحرّمات حال الإحرام.

وفيه : أوّلا : أنّ عدم إطلاق مثل هذه الجملة في غير الصلاة والإحرام لا يوجب ارتفاع ظهورها في الحرمة الشرطيّة أو إجماله واحتمالها لكلا الأمرين.

وثانيا : ذكرها في الصلاة وبل في الإحرام لأهمّيتهما ، وكثرة المنافيات من الموانع والقواطع فيهما ، فالإنصاف أنّ إثبات حرمة القطع بمثل هذه الجملة ـ التي من المحتمل القريب أن يكون المراد منها أنّه بعد أن شرع في الصلاة وكبّر بتكبيرة الإحرام يحرم عليه إيجاد المنافيات حرمة شرطيّة ، أي صحّتها موقوفة على عدم إيجاد تلك المنافيات ـ بعيد عن الصواب.

ومنها : النواهي المتعلّقة بإيجاد المنافيات من الموانع والقواطع ، كقوله عليه‌السلام : « استقبل القبلة بوجهك فلا تقلّب وجهك عن القبلة فتفسد صلاتك » (١). وكقوله عليه‌السلام : « الإقامة من الصلاة فإذا أقمت فلا تتكلّم » (٢) وغيرهما.

__________________

(١) « الكافي » ج ٣ ، ص ٣٠٠ ، باب الخشوع في الصلاة وكراهيّة العبث ، ح ٦ ؛ « الفقيه » ج ١ ، ص ٢٧٨ ، باب القبلة ، ح ٨٥٦ ؛ « تهذيب الأحكام » ج ٢ ، ص ١٩٩ ، ح ٧٨٢ ، باب أحكام السهو في الصلاة ، ح ٨٣ ؛ « وسائل الشيعة » ج ٣ ، ص ٢٢٧ ، أبواب القبلة ، باب ٩ ، ح ٣.

(٢) « الكافي » ج ٣ ، ص ٣٠٥ ، باب بدء الأذان والإقامة وفضلهما وثوابهما ، ح ٢٠ ؛ « تهذيب الأحكام » ج ٢ ، ص ٥٤ ، ح ١٨٥ ، باب الأذان والإقامة ، ح ٢٥ ؛ « وسائل الشيعة » ج ٤ ، ص ٦٣٠ ، أبواب الأذان والإقامة ، باب ١٠ ، ح ١٢.

٢٥٧

وفيه : أنّ ظاهر هذه النواهي إنّها لبيان شرطيّة ما تعلّق النهي بعدمه ، كقوله عليه‌السلام : « فلا تقلّب وجهك عن القبلة » فهذا النهي مفاده شرطيّة الاستقبال بتمام البدن حتّى الوجه ، ولبيان مانعيّة ما تعلّق النهي بوجوده ، كقوله عليه‌السلام في خبر أبي هارون : « فإذا أقمت فلا تتكلّم » وسياقها سياق قوله عليه‌السلام في موثّقة ابن بكير : « لا تصلّ فيما لا يؤكل لحمه فإنّ الصلاة في صوفه وشعره ووبره وبوله وروثه وكلّ شي‌ء منه فاسدة لا يقبل الله تلك الصلاة » (١). وظهور هذا النهي في الحرمة الوضعيّة ممّا لا ينكر.

ومنها : تعليق جواز القطع وجوبا أو إباحة على الخوف من ضياع مال ، كشرود دابّته ، أو إباق عبده ، أو الخوف على تلف نفسه من جهة مثلا ، وأمثال ذلك ، كفرار غريم لك عليه مال ، كما في صحيحة حريز بن عبد الله عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال « إذا كنت في صلاة الفريضة فرأيت غلامك قد أتى ، أو غريما لك عليه مال ، أو حيّة تتخوّفها على نفسك فاقطع الصلاة وابتغ غلامك أو غريمك واقتل الحيّة » (٢). فلو كان قطع الصلاة جائزا ابتداء وبمحض الميل والاشتهاء ، فلا يبقى وجه لهذا التعليق.

لا يقال : إنّ الأمر بالقطع ظاهر في وجوبه ، فما هو المعلّق هو وجوب القطع ، ولا ينافي ذلك جوازه بمعنى الإباحة مطلقا وبدون تعليق.

لأنّه لا يمكن أن يكون الأمر بالقطع ها هنا لخصوص الوجوب ؛ إذ لا يجب عليه طلب الغريم أو عبده الآبق ، ويجوز له أن يصرف النظر عن ماله ، فلا معنى لوجوب القطع إلاّ أن يكون صرف تعبّد وأن يكون مقدّمة لطلب غريمه أو عبده ، وهو ممّا لا يمكن الالتزام به.

فقد ظهر أنّه لا دليل على حرمة قطع الصلاة إلاّ الإجماع المدّعى في المقام ومفهوم الرواية الأخيرة. ولكن في وجود المفهوم لها تأمّل.

__________________

(١) تقدم تخريجه في ص ٢٥٦ ، رقم (٢).

(٢) « الفقيه » ج ١ ، ص ٣٦٩ ، باب المصلي تعرض له السباع والهوام فيقتلها ، ح ١٠٧٣ ؛ « وسائل الشيعة » ج ٤ ، ص ١٢٧١ ، أبواب قواطع الصلاة ، باب ٢١ ، ح ١.

٢٥٨

وعلى كلّ حال يجوز قطعها لأمور :

منها : إذا توقّف حفظ نفس محترمة على القطع ، فيجب لوجوب ذي المقدّمة.

ومنها : جواز قطعها لحفظ مال محترم ، وقد يجب إذا كان حفظ ذلك المال عن التلف واجبا ، كما إذا كان أمانة مالكيّة أو شرعيّة عنده ، وصور وجوب حفظ المال كثيرة ، وملاك وجوب القطع في جميع موارد وجوب حفظ المال واحد ، وهو كونه مقدّمة لواجب ؛ فتطويل الكلام في هذا المقام لا أثر له.

ومنها : إذا تزاحم الصلاة مع واجب أهمّ ، ولو كان أهميّته من جهة كونه مضيّقا وكون الصلاة موسّعا ، كما هو كذلك في المثل المعروف ، أي وجوب إزالة النجاسة عن المسجد مع الصلاة في الوقت الموسّع ، فحيث أنّ أحد المرجّحات الخمسة المعروفة في باب التزاحم هو ضيق أحد الواجبين المتزاحمين بالنسبة إلى الآخر ، فيجوز قطع الصلاة إذا كان وقتها موسّعا بالنسبة إلى الإزالة.

هذا فيما إذا علم بالنجاسة ووجوب إزالتها قبل الصلاة فعصى ودخل في الصلاة ، فحيث أنّ الأمر بالشي‌ء لا يقتضي النهي عن ضدّه الخاصّ ، وحرّرنا المسألة في كتابنا « منتهى الأصول » (١) فالصلاة صحيحة ، إمّا بالأمر الترتّبي ، وإمّا بالملاك. والتفصيل في محلّه.

ولكن الأمر بالصلاة كما أنّه حدوثا كان طوليّا بالنسبة إلى الأمر بالإزالة ، فكذلك يكون بقاء ، لأنّه ما لم يحصل العصيان ولم يسقط الأمر بالإزالة لا يكون الأمر بالصلاة في عرض الأمر بالإزالة ومطلقا ، بل يكون مشروطا بعصيان الإزالة. وعليه بنينا صحّة الترتّب ، وإلاّ يكون من المحالات الواضحة البيّنة.

ومثل هذا الأمر الطولي ـ المشروط بعدم الاشتغال بالإزالة في المفروض ـ لا يمكن أن يكون مانعا عن قطعها والاشتغال بالإزالة ، فلا يمكن أن يكون قطع الصلاة في‌

__________________

(١) « منتهى الأصول » ج ١ ، ص ٣٠٣.

٢٥٩

هذا الفرض والتقدير حراما ، إلاّ أن يأتي دليل خاصّ على أنّ قطع الصلاة حتّى في فرض وجود المزاحم الأهمّ والالتفات إليه قبل الصلاة حرام ، ولكن مرجع هذا يكون إلى سقوط أمر الأهمّ ، وهو خلاف الفرض.

وأما إذا لم يعلم بالنجاسة إلاّ بعد الدخول في الصلاة ، فلا يجوز له قطع الصلاة ؛ وذلك لأنّ ما يمنع عن التكليف بالمهمّ مطلقا ومن غير الاشتراط بعصيان الأهمّ هو فعليّة الأهمّ وتنجّزه ، وإلاّ لو لم يكن منجّزا فصرف وجود التكليف واقعا لا يؤثّر في سقوط أمر المهمّ مطلقا بناء على عدم إمكان الترتّب ، أو إطلاقه بناء على إمكانه ووقوعه.

وذلك لأنّ الملاك في كلا المتزاحمين موجود ، وسقوط أصل خطاب المهمّ أو إطلاقه لأجل عدم القدرة على الجمع ، وإلاّ كان يجب أن يأتي بهما جميعا ، والذي يسلب القدرة شرعا عن المهمّ هو تنجّز الأهمّ ، وإلاّ فصرف وجوده وفعليّته من دون تنجّزه لا يكون موجبا لسلب القدرة عن المهمّ ؛ لأنّ سلب القدرة عن المهمّ يكون بصرف القدرة في الأهمّ ، فإذا لم يكن منجّزا فلا يحكم العقل بصرف القدرة في الأهمّ ، فتبقى قدرته للمهمّ بدون مزاحم ، فيكون وجوبه مطلقا غير مشروط بترك الأهمّ إن كان المهمّ هي الصلاة أيضا مطلقا ، فيقع التزاحم بين حرمة القطع الذي حرمته مطلق ، وبين وجوب الإزالة الذي هو مطلق أيضا بعد الالتفات إلى نجاسة المسجد ووجوب إزالتها عنه.

فشاغليّة وجوب الإزالة في هذا الظرف عن الأمر بالمهمّ متوقّف على تنجّزه ، وتنجّزه متوقّف على ارتفاع النهي عن الإبطال ، وارتفاعه متوقّف على شاغليّة وجوب الإزالة ، أي الأمر بالأهمّ عن الأمر بالمهمّ ، وهذا دور واضح.

هذا ما ذكره شيخنا الأستاذ قدس‌سره (١) وفيه تأمّل واضح ، لأنّ تنجّزه ليس متوقّفا على‌

__________________

(١) « فوائد الأصول » ج ٢ ، ص ٣٧٨.

٢٦٠