القواعد الفقهيّة - ج ٥

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي

القواعد الفقهيّة - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي


المحقق: مهدي المهريزي
الموضوع : الفقه
الناشر: نشر الهادي
المطبعة: مؤسسة الهادي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-400-030-7

الصفحات: ٣٩٢

١
٢

٣
٤

فهرس الإجمالي

٤٦ ـ قاعدة : الصلح جائز بين المسلمين....................................... ٩

٤٧ ـ قاعدة : التقية........................................................ ٤٩

٤٨ ـ قاعدة : لاربا إلّا فيما يكال أو يُوزون.................................. ٨٥

٤٩ ـ قاعدة : أصاله اللزوم في العقود....................................... ١٩٥

٥٠ ـ قاعدة :حرمة إبطال الأعمال العبادية.................................. ٢٥١

٥١ ـ قاعدة : بطلان كلّ عقد يتعذّدالوفاء بمضمونه.......................... ٢٦٥

٥٢ ـ قاعدة : كل ما يصح إعارته يصح إجارته............................. ٢٧٨

٥٣ ـ قاعدة : حرمة إهانة المحترمات في الدين................................ ٢٩٣

٥٤ ـ قاعدة : كل مسكر مائع بالأصالة فهو نجس........................... ٣٠٧

٥٥ ـ قاعدة : كل كافر نجس كتاباً كان أو غيره............................ ٣٢٩

٥
٦

٤٦ ـ قاعدة

الصلح جائز

بين المسلمين

٧
٨

قاعدة الصلح جائز بين المسلمين *

ومن القواعد المشهورة الفقهيّة قاعدة « الصلح جائز بين المسلمين أو النّاس » كما في بعض الروايات.

وفيها جهات من البحث :

[ الجهة الأولى ]

في مدركها، وهو أمور‌

الأوّل : الآيات :

فمنها : قوله تعالى ( وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ) (٢) ومنها : قوله تعالى ( فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ ) (٣) ومنها : قوله تعالى ( إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما ) (٤) ومنها : قوله تعالى ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ) (٥)

__________________

* « عناوين الأصول » عنوان ٤١ ؛ « مناط الأحكام » ص ١٩٧.

(٢) النساء (٤) : ١٢٨.

(٣) أنفال (٨) : ١.

(٤) النساء (٤) : ٣٥.

(٥) الحجرات (٤٩) : ١٠.

٩

ومنها : قوله تعالى ( فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ ) (١)

ومنها : قوله تعالى ( أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النّاسِ ) (٢)

وهذه الآيات صريحة في إمضاء الشارع الأقدس الصلح المتعارف بين أهل العرف والعقلاء ، وتدلّ على حسنه ومطلوبيّته عنده ، سواء كان إيقاعه بعقد الصلح ، أو كان بعمل ، أو قول ليس بعقد.

وبعبارة أخرى : حقيقة الصلح عبارة عن التراضي والتّسالم والموافقة على أمر ، سواء كان ذلك الأمر مالا من الأموال ، عروضا كان ذلك المال أو كان من النقود على أقسامها ، أو كان ذلك الأمر الذي اتّفقا فيه وتسالما وتراضيا عليه من الأعمال ، أو كان غير ذلك ، وسواء أنشأ ذلك التسالم بصيغة عقد الصلح أو بغير ذلك ، وسواء كان مسبوقا بالخصومة أو ملحوقا بها أو كان متوقّعا حصولها ؛ ففي جميع هذه الموارد المذكورة يصدق إطلاق « الصلح » عليها إطلاقا حقيقيّا ، لا عنائيّا مجازيّا. وسنذكر إن شاء الله عدم دخالة هذه الأمور في تحقّق الصلح وإطلاقه من ناحية هذه القيود.

إذا عرفت ما ذكرنا تعرف دلالة جميع الآيات المذكور على صحّة الصلح ، وإمضاء الشارع الأقدس لما عليه بناء العقلاء في باب الصلح من اختصاصه بصنف دون صنف وقسم دون قسم.

الثاني : من مداركها الروايات :

منها : النبوي الذي رواه العامّة والخاصّة : « الصلح جائز بين المسلمين إلاّ صلحا أحلّ حراما أو حرّم حلالا ». (٣)

__________________

(١) الحجرات (٤٩) : ٩.

(٢) النساء (٤) : ١١٤.

(٣) « الفقيه » ج ٣ ، ص ٣٢ ، باب الصلح ، ح ٣٢٦٧ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ١٦٤ ، أبواب كتاب الصلح ، باب ٣ ، ح ٢ ؛ « عوالي اللئالي » ج ٢ ، ص ٢٥٧ ؛ « مستدرك الوسائل » ج ١٣ ، ص ٤٤٣ ، أبواب كتاب الصلح ، باب ٣ ، ح ٢.

١٠

ومنها : ما روى حفص ابن البختري عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « الصلح جائز بين الناس ». (١) إلى غير ذلك من الروايات الواردة في باب الصلح وهي كثيرة.

وعقد في الوسائل بابا لفضله ، بل وفي استحبابه ، بل مفاد بعضها أنّه أفضل من عامة الصلاة والصيام. وروى ذلك في الوسائل عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه عليه‌السلام قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إصلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام ». (٢)

الثالث : من مدارك هذه القاعدة ، هو الإجماع المحصّل من جميع طوائف المسلمين ، بل قيل : إنّه لا خلاف بين أهل العلم في ذلك ، ولم ينكر أحد من الفقهاء شرعيّته بل حسنه واستحبابه.

الرابع : العقل. ولا شكّ في استقلال العقل بحسنه ؛ لأنّ الإصلاح والموافقة والتراضي والتسالم على أمر من تمليك عين أو منفعة أو إسقاط حقّ أو ثبوته أو غير ذلك بين شخصين أو أزيد قد يكون بالعقد أو بغير العقد ، مقابل الإفساد والاختلاف والسخط والتخاصم ، فكما أنّ العقل حاكم بقبح الأمور الأخيرة ، فكذلك حاكم بحسن المذكورات أوّلا التي تكون الصلح عين تلك الأمور ، فبقاعدة الملازمة يثبت مشروعيّته ومطلوبيّته وإن كانت استحبابيّة.

الجهة الثانية

في بيان مفادها وشرح حقيقتها‌

أقول : إنّ الصلح ـ كما عرّفه جماعة من الفقهاء ـ عقد شرّع لقطع التجاذب والتنازع بين المتخاصمين. ولكن أنت عرفت وذكرنا أنّه ليس من شرط تحقّق الصلح‌

__________________

(١) « الكافي » ج ٥ ، ص ٢٥٩ ، باب الصلح ، ح ٥ ؛ « التهذيب » ج ٦ ، ص ٢٠٨ ، ح ٤٧٩ ، باب الصلح بين الناس ، ح ١٠ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ١٦٤ ، أبواب كتاب الصلح ، باب ٣ ، ح ١.

(٢) « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ١٦٣ ، أبواب كتاب الصلح ، باب ١ ، ح ٦ ؛ « ثواب الأعمال » ص ١٧٨ ، ح ١.

١١

سبق خصومة وتنازع في البين ، بل ولا توقّع وجودهما فيما بعد ، وهكذا ليس منحصرا ومختصّا بما أنشأ بالعقد.

فهذا تعريف بالأخصّ للصلح لاختصاصه بما ينشأ بالعقد في مورد التخاصم والتنازع.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ جعل رفع التنازع وقطع التجاذب غاية لتشريعه ، يكون من باب حكمة التشريع لا علّته كي يكون شرعيّته دائرا مدار وجود هذه العلّة ، فإذا لم يكن تنازع وتخاصم بين المتسالمين على أمر مالي أو غير مالي لا يصدق عليه الصّلح ؛ وذلك من جهة الفرق بين حكمة التشريع وعلّته ، ففي الأوّل لا يكون الحكم وما شرّع وجوده دائرا مدار حكمة التشريع. وأمّا في الثاني ـ أي علّة التشريع ـ يكون وجود الحكم دائرا مدار وجودها ، فمثل استبراء الرحم حكمة لتشريع العدّة ، ولذلك لو كانت المرأة في سنّ من تحيض ولم يكن زوجها لا مسها منذ زمان طويل لمرض أو سفر أو غير ذلك يجب عليها الاعتداد ، مع أنّ الرحم لا يحتاج إلى الاستبراء ؛ وهكذا بالنسبة إلى تشريع وجوب القصر والإفطار في السفر ، حيث أنّ في تشريعهما حكمة هي المشقّة ، وفي كثير من الأسفار لا مشقّة ، خصوصا في هذه الأزمان والسفر مع الطيّارة ، ومع ذلك عند عدم وجود هذه الحكمة الحكم لا ينعدم.

فليكن فيما نحن فيه أيضا كذلك ، أي لا ينافي عدم وجود نزاع في البين ومع ذلك يكون الصلح موجودا ؛ فيكون التنازع حكمة تشريع الصلح ، لا علّة تشريعه.

ثمَّ إنّ ها هنا أمورا يجب أن نذكرها‌

[ الأمر ] الأوّل : أنّ الصلح معاملة مستقلّة ، وليس من فروع البيع تارة ، والإجارة أخرى ، والعارية ثالثة وهكذا كما توهّم.

وجه التوهّم : أنّ الصلح على عين متموّل بعوض مالي يفيد فائدة البيع ؛ لأنّ البيع‌

١٢

تمليك عين متموّل بعوض مالي ، والصلح على العين المتموّل بعوض مالي يكون عين ذلك الذي ذكرنا ، غاية الأمر بصيغة الصلح فهو بيع ، والاختلاف في اللفظ فقط.

وهكذا الصلح على منفعة معلومة بعوض معلوم يكون تمليك منعفة معلومة بعوض معلوم ، وهذا عين الإجارة غاية الأمر بلفظ الصّلح. وإن كان تمليك المنفعة بلا عوض يكون عارية بلفظ الصلح ؛ فليس الصلح عقدا برأسه ومعاملة مستقلّة ، بل في كلّ باب يكون من فروع ذلك الباب.

هذا غاية ما توهّموا.

ولكن أنت خبير بأنّه أوّلا : قد يوجد مورد للصلح حسب النصوص الواردة في باب الصلح لا ينطبق لا على البيع ، ولا على الإجارة ، ولا على العارية ، ولا على الهبة كما روى : إذا كان رجلان لكلّ واحد منهما طعام عند صاحبه ، ولا يدري كلّ واحد منهما كم له عند صاحبه فقال كلّ واحد منهما لصاحبه : لك ما عندك ولي ما عندي ، فقال : « لا بأس بذلك إذا تراضيا وطابت أنفسهما » (١). فهذا ليس ببيع ؛ لأنّ العوضين مجهولان من حيث المقدار ، ولا هبة ؛ لأنّه ليس إعطاء مجان بل لكلّ واحد منهما عوض ، ولا عارية وليس بإجارة ؛ لأنّه تمليك عين لا منفعة ، ولا ينطبق على أيّ واحد من عناوين المعاملات ؛ فلا بدّ وأن يكون عقدا مستقلاّ ، إذ لا يمكن أن يكون من فروع أيّ عقد آخر ومعاملة أخرى ؛ هذا أوّلا.

وثانيا : أنّ المنشأ في عقد الصلح عنوان التسالم والموافقة ، وفي سائر العقود عناوين أخر. وصرف الاشتراك في الأثر لا يخرج الشي‌ء عمّا وقع عليه ، وحيث أنّ المنشأ فيه مختلف مع المنشأ في سائر العقود والمعاملات ، فلا يصحّ إطلاق البيع أو الإجارة أو العارية أو الهبة عليه ؛ فالقول بأنّه في كلّ باب يعدّ من فروع ذلك الباب لا أساس له ،

__________________

(١) « الكافي » ج ٥ ، ص ٢٥٨ ، باب الصلح ، ح ٢ ؛ « الفقيه » ج ٣ ، ص ٣٣ ، باب الصلح ، ح ٣٢٦٨ ؛ « تهذيب الأحكام » ج ٦ ، ص ٢٠٦ ، ح ٤٧٠ ، باب الصلح بين الناس ، ح ١ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ١٦٥ ، أبواب كتاب الصلح ، باب ٥ ، ح ١.

١٣

وإن نسب في الجواهر هذا القول إلى الشيخ رحمة الله عليه. (١)

وثالثا : ثمرة هذا البحث تظهر في الآثار المترتّبة على هذه العناوين ، مثلا إذا قلنا بأنّ صلح الأعيان المتموّلة بعوض مالي بيع يثبت فيه خيار المجلس ، وإلاّ فلا بناء على اختصاص هذا الخيار بالبيع وعدم ثبوته في غيره من المعاملات.

ولكن يرد عليه : أنّ الأحكام الشرعيّة تلحق العناوين التي جعلت موضوعات لها في ألسنة أدلّتها ، فإذا قال الشارع : البيّعان بالخيار ما لم يفترقا ، فهذا الحكم جعل موضوعه في لسان دليله عنوان البيّعين ، وعنوان البيّعين غير عنوان المتصالحين والمتسالمين أو المتوافقين وأمثالها ، فلا يترتّب على هذا البحث هذه الثمرة. فإذا كان الغرض من القول بأنّ الصلح في كلّ باب من فروع ذلك الباب ترتيب هذه الثمرة فلا سبيل إلى ذلك.

وخلاصه الكلام في هذا المقام : أنّ الآثار والأحكام المختصّة بكلّ عنوان لا يترتّب إلاّ على نفس ذلك العنوان ، لا على ما يفيد فائدته ، ولا شكّ في أنّ عنوان الصلح والبيع والإجارة والهبة والعارية مختلفات لا يلحق حكم أحدها للآخر ، وإن كانت نتيجة الاثنين وفائدتهما واحدة.

[ الأمر ] الثاني : أنّ الصلح يصحّ مع الإقرار والإنكار ، أي مع إقرار المدّعى عليه بما يدّعيه المدّعي ، وإنكاره لما يدّعيه.

أمّا مع إقراره فوجهه أوضح ؛ وذلك من جهة إقراره يثبت عليه ما يدّعي المدّعي ، فلا مانع من أن يصالح المدّعي عن حقّ ثابت بمال.

وأمّا مع إنكاره فإن كان كاذبا في إنكاره فيكون من حيث صحّة الصلح مثل إقراره ؛ لأنّه في الواقع عليه شي‌ء إمّا عينا أو دينا ، فيكون المصالحة على ذلك المال الذي عنده أو على ما في ذمّته ، والصلح صحيح واقعا.

__________________

(١) « جواهر الكلام » ج ٢٦ ، ص ٢١٢.

١٤

وأمّا إن كان صادقا في إنكاره ولم يكن عليه شي‌ء ، لا في ذمّته ولا عنده عين مال المدّعي ، فحيث لا يكون شي‌ء في البين يقع الصلح عليه ، فهذا الصلح صحّته يكون ظاهريّة ، ويجب ترتيب آثار الصحّة عليه ما لم ينكشف الحال وأنّ المدّعي دعوا كاذبة. كما هو الحال في جميع الأحكام الظاهريّة من مؤدّيات الأصول والأمارات ، حيث يجب ترتيب الآثار عليهما ما لم ينكشف الخلاف.

وعلى كلّ حال صحّة هذا الصلح مع الإقرار والإنكار إجماعيّ لا خلاف فيها عندنا ، غاية الأمر في الصورة الثانية أي صورة إنكار المدّعى عليه لا بدّ من القول بالتفصيل المتقدّم ، وأنّه إن كان صادقا في إنكاره فصحّة ذلك الصلح ظاهريّة لا واقعيّة ، ويجب على المدّعي ردّ ما أخذ بعنوان مال المصالحة ، ويكون ما أخذ من المقبوض بالعقد الفاسد ، فعليه الضمان ؛ لأنّ المقبوض بالعقد الفاسد يجري مجرى الغصب عند المحصّلين إلاّ في الإثم إذا كان جاهلا بالفساد فإنّه حينئذ لا إثم له وهو معذور.

هذا ما حكاه الشيخ الأعظم الأنصاري (١) عن ابن إدريس ، (٢) وكلامه هذا حسن وصحيح. ولا فرق في عدم صحّة الصلح واقعا بين أن يكون المدّعي كاذبا في تمام ما يدّعيه أو في بعضه ، مثلا لو كان المدّعي يدّعي أنّ الدار التي في يدك تمامها لي ، وفي الواقع نصفها له ونصفها الآخر لنفس ذي اليد ، فأنكر المدّعى عليه كون تمام الدار له ، ولم يكن له طريق لردّ دعواه الكاذبة في النصف الذي لا يملكه ، فاضطرّ للصلح معه على تمام الدار ، فهذا الصلح أيضا فاسد واقعا ويكون صحّته ظاهريّة ومن باب أصالة الصحّة والجهل بالحال ؛ ولذلك متى انكشف الحال وعلم أنّه كاذب في دعواه وأنّ تمام الدار له ، لا يجب ترتيب آثار الصحّة على هذا الصلح.

ثمَّ إنّ هاهنا كلاما : وهو أنّه هل يجب على المدّعي الكاذب ردّ تمام ما أخذ بعنوان مال المصالحة لفساد هذا الصلح ، أو ردّ نصف ما أخذ لصحّة الصلح بالنسبة إلى‌

__________________

(١) « المكاسب » ص ١٠٤.

(٢) « السرائر » ج ٢ ، ص ٣٢٦.

١٥

النصف الذي كان يملكه ، أو لا يجب ردّ شي‌ء ممّا أخذ لصحّة هذا الصلح وإن كانت صحّته باعتبار وقوعه مقابل ذلك النصف الذي يملكه لا مقابل تمام الدار؟ وجوه واحتمالات.

والحقّ بطلان هذا الصلح الواحد البسيط ، فيجب ردّ تمام ما أخذ بعنوان مال المصالحة ويرجع إليه نصف الدار الذي كان يملكه. ومرادنا بقولنا : يرجع إليه نصفه الذي يملكه ، أي بحسب الظاهر والحكم بصحّة ذلك الصلح ظاهرا ، وإلاّ فبحسب الواقع لم يخرج عن ملكه كي يرجع.

ولا يتوهم : أنّه يمكن تصحيحه في النصف الذي يملكه من باب تبعّض الصفقة ، والفقهاء يلتزمون بذلك في البيع ويقولون : لو باع تمام الدار فتبيّن أنّ نصفها ليس له ، فالبيع صحيح بالنسبة إلى النصف الذي يملكه ، غاية الأمر أنّه يكون للمشتري خيار تبعّض الصفقة. فليكن ها هنا أيضا كذلك ، فيكون الصلح صحيحا بالنسبة إلى النصف الذي يملكه ، غاية الأمر يكون الخيار للمصالح له ، فالنتيجة أن لا يكون الواجب على المدّعي الكاذب ردّ تمام مال المصالحة ، بل الواجب عليه ردّ النصف إلاّ أن يعمل المصالح خياره ويفسخ الصلح ، فيجب عليه ردّ تمام مال المصالحة ويرجع نصف الدار إليه بالمعنى الذي ذكرنا للرجوع.

ودفع هذا التوهم : بأنّ باب الصلح على الأعيان الخارجيّة غير باب بيعها ؛ وذلك لأنّ التسالم على كون عين خارجيّة ملكا لشخص وهو أحد المتسالمين لا يتبعّض ، ولم يقع التسالم والاتّفاق على كون كلّ جزء من هذه العين الخارجية ملكا للمصالح له بإزاء ما يساويه من مال المصالحة بحسب المقدار أو القيمة ، وهذا بخلاف باب البيع فإنّ حقيقة البيع جعل كلّ واحد من العوضين بدلا عن الآخر في مقام الملكيّة ، والبدليّة تسرى إلى كلّ جزء من العوضين ، فكلّ جزء منها مقابل الجزء الذي يساويه بحسب المقدار أو بنسبة إلى قيمة قيمة المجموع.

١٦

وهذا معنى الانحلال في باب تبعّض الصفقة. وأمّا هذا المعنى فلا يأتي في الصلح ؛ لأنّ المنشأ فيه التسالم ، وهو بسيط لا يتبعّض ، فبناء على هذا إذا وقع الصلح على عين يدّعيها المدّعي ، فكما أنّه لو لم يكن المدّعي صادقا في دعواه ولم يكن شي‌ء من تلك العين فصالح المدّعى عليه بمال عن تلك العين مع المدّعي يكون الصلح بحسب الواقع باطلا ، فكذلك الصلح يكون باطلا لو لم يكن بعضها له.

ولا وجه للقول بصحّة الصلح بالنسبة إلى البعض الذي يملكه ، وبطلانه بالنسبة إلى البعض الذي لا يملكه ، فيصير من باب تبعّض الصفقة ؛ لما ذكرنا من أنّ الصلح الواقع على عين خارجيّة لا يتبعّض بالنسبة إلى أجزائه أو كسورة كالنصف والثلث والربع وأمثالها ، فتأمّل.

فظهر ممّا ذكرنا : أنّ الأصحّ من الاحتمالات الثلاث التي ذكرناها هو الاحتمال الأوّل ، وهو وجوب ردّ تمام ما أخذه المدّعي الكاذب في بعض ما ادّعاه ؛ وذلك لفساد الصلح. ولا فرق فيما ذكرنا من فساد الصلح لو تبيّن عدم كون تمام ما يصالح عنه له بين أن يكون الكاذب هو المدّعي أو المدّعى عليه.

ثمَّ إنّ هاهنا روايتين تدلاّن على عدم صحّة الصلح واقعا ، وعدم ذهاب الحقّ بالمرّة فيما إذا لم يقع الصلح بين ما هو الحقّ الواقعي وبين ما يعطيه المصالح مع خفاء المقدار الواقعي على صاحب المال الذي يريد أن يصالح معه من بيده المال.

إحديهما : ما رواه عليّ بن حمزة ، عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : قلت لأبي الحسن عليه‌السلام : رجل يهوديّ أو نصرانيّ كانت له عندي أربعة آلاف درهم فمات إلى أن أصالح ورثته ولا أعلمهم كم كان؟ قال عليه‌السلام : « لا يجوز حتّى تخبرهم ». (١)

__________________

(١) « الكافي » ج ٥ ، ص ٢٥٩ ، باب الصلح ، ح ٦ ؛ « الفقيه » ج ٣ ، ص ٣٣ ، باب الصلح ، ٣٢٦٩ ؛ « تهذيب الأحكام » ج ٦ ، ص ٢٠٦ ، ح ٤٧٢ ، باب الصلح بين الناس ، ح ٣ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ١٦٦ ، أبواب كتاب الصلح ، باب ٥ ، ح ٢.

١٧

والأخرى : ما رواه عمر بن يزيد ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال عليه‌السلام : « إذا كان لرجل على رجل دين فمطله حتّى مات ، ثمَّ صالح ورثته على شي‌ء ، فالذي أخذه الورثة لهم ، وما بقي فهو للميت يستوفيه منه في الآخرة ، وفإن هو لم يصالحهم على شي‌ء حتّى مات ولم يقض عنه ، فهو كلّه للميّت يأخذه به ». (١)

فالرواية الأولى تدلّ على أنّ المصالحة على مال مع جهل صاحب المال بمقداره لا يجوز ولا أثر لها. والرواية الثانية تدلّ على أنّ المصالحة مع صاحب المال بأقلّ منه لا يوجب براءة ذمّته عن الجميع مع جهل صاحب المال ، بل تؤثّر في المقدار الذي أعطاه فقط والباقي باق في ذمّته ، وإن لم يصالح مع صاحب المال أصلا حتى مات ، ولا مع ورثته حتى هلكوا فجميع المال يبقى في ذمّته.

وهذا الأخير هو مقتضى القواعد الأوّلية أيضا ، أي ولو لم تكن هذه الرواية في البين كان الحكم هكذا وكما ذكرنا.

والمقصود من ذكر هاتين الروايتين أنّ صحّة هذا الصلح حكم ظاهريّ ، ولا يحلّ للمدّعي الكاذب التصرّف فيما أخذه بعنوان مال المصالحة ، إلاّ فيما إذا أحرز رضا من يعطي المال وطيب نفسه على كلّ حال ؛ لما ذكرنا وتقدّم من أنّ ما يأخذه بعنوان مال المصالحة يكون من المقبوض بالعقد الفاسد واقعا ، وإن كان بحسب الظاهر صحيحا.

[ الأمر ] الثالث : أنّ الصلح نافذ وجائز بين الناس فيما إذا لم يكن أحلّ حراما‌ كاسترقاق الحرّ ، أو استباحة المحرّمات كبضع المحارم وشرب الخمر وغير ذلك من المحرّمات ، أو حرّم حلالا كما أنّه لو صالحا وتسالما على أن لا يطأ حليلته أو لا يأكل اللحم أو لا ينتفع بماله وأمثال ذلك ممّا أحلّه الله له.

والدليل على ذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « الصلح جائز بين الناس إلاّ صلحا أحلّ حراما أو‌

__________________

(١) « الكافي » ج ٥ ، ص ٢٥٩ ، باب الصلح ، ح ٨ ؛ « تهذيب الأحكام » ج ٦ ، ٢٠٨ ، ح ٤٨٠ ، باب الصلح بين الناس ، ح ١١ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ١٦٦ ، أبواب كتاب الصلح ، باب ٥ ، ح ٤.

١٨

حرّم حلالا » (١).

فالصلح الذي أحلّ حراما ، أي كان مفاده لزوم ارتكاب محرّم ، والصلح الذي حرّم حلالا ، أي كان مفاده لزوم ترك ما هو حلال ، وهذا هو معنى تحريم الحلال وتحليل الحرام ، وإلاّ فالحلال لا يصير محرّما واقعا إلاّ بتبديل الحكم من طرف الشارع ، فالمراد من تحليل الحرام وتحريم الحلال هو أن يكون مفاد الصلح هو أحد الأمرين : إمّا لزوم فعل محرّم وهذا هو تحليل الحرام ، أو لزوم ترك مباح أو ما هو راجح فعله وهذا تحريم الحلال ، فمفاد الاستثناء هو عدم نفوذ مثل هذا الصلح الذي يحرّم حلالا أو يحلّل حراما ، وأنّه ليس بجائز. وهذا واضح جدّا.

[ الأمر ] الرابع : في أنّ الصلح صحيح‌ وجائز مع علم الطرفين ومع جهلهما بالمقدار الذي يقع الصلح عنه ، فإذا كان أحد الوارثين أو أحد الشريكين المقدار الذي يملكه من المال المشترك غير معلوم لنفسه ولا لشريكه ، فيجوز أن يصطلحا على حصّته من ذلك المشترك مع جهل الطرفين ، كما أنّه يجوز الصلح عن حصّته مع علمهما أيضا.

وهذا الحكم إجماعيّ ، ويدلّ عليه قبل الإجماع ما رواه محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام أنّه عليه‌السلام قال في رجلين كان لكلّ واحد منهما طعام عند صاحبه ، ولا يدري كلّ واحد منهما كم له عند صاحبه ، فقال كلّ واحد منهما لصاحبه : لك ما عندك ولي ما عندي فقال : « لا بأس بذلك إذا تراضيا وطابت أنفسهما » (٢).

فهذه الرواية صريحة في صحّة الصلح مع جهلهما بمقدار ما يصالحان عنه ويصطلحان عليه ؛ لأنّ مورد الحكم بعدم البأس هو عدم علم المصطلحين بمقدار ما يصطلحان عليه ؛ لأنّ المورد حسب تصريح الراوي وفرضه هو أنّه كلّ واحد منهما لا يدري كم له عند صاحبه.

__________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ١٠ ، رقم (٣).

(٢) تقدّم تخريجه في ص ١٣.

١٩

هذا ، مضافا إلى شمول المطلقات مثل قوله تعالى ( الصُّلْحُ خَيْرٌ ) (١) ومثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « الصّلح جائز بين المسلمين » (٢) ـ أو « النّاس » كما في رواية أخرى (٣) ـ لكلتا حالتي علمهما وجهلهما ؛ لأنّ الصلح في كلتا الحالتين صلح ، وكلّ صلح خير بإطلاق الآية ، وهكذا كلّ صلح جائز ونافذ بإطلاق الحديث ، فعدم الصحّة في صورة جهلهما أو علمهما يحتاج إلى دليل مخصّص للعمومات أو مقيّد للإطلاقات.

ثمَّ إنّه كما أنّ جهلهما بالمقدار لا يضر بصحّة الصلح ، كذلك لا يضر جهلهما بجنس ما يصطلحان عليه ؛ للإجماع والإطلاقات.

[ الأمر ] الخامس : أنّ الصلح عقد لازم لا ينحلّ إلاّ بالإقالة من الطرفين ؛ وذلك لقوله تعالى ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (٤) ولا شكّ في أنّ الصلح من العقود العهديّة ، وقد ذكرنا تفصيل شمول ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) للعقود العهديّة ودلالتها على اللزوم في قاعدة أصالة اللزوم في العقود ، وذكرنا سائر الأدلّة أيضا هناك من قبيل : « الناس مسلّطون على أموالهم » (٥) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا يحل مال امرء مسلم إلاّ بطيب نفسه » (٦) وقوله عليه‌السلام : « حرمة مال المسلم كحرمة دمه » (٧) واستصحاب بقاء أثر العقد بعد النسخ.

وأمّا انحلاله بالإقالة فلا ينافي لزومه ؛ وذلك من جهة أنّ اللزوم ها هنا حقّي ، بمعنى أنّ التزام كلّ واحد من الطرفين بالبقاء عند هذا العقد والعهد والوفاء بمضمونه الذي هو مدلول التزامي للعقد ـ ولذلك قلنا بعدم هذا الالتزام في المعاطاة ، لعدم كون‌

__________________

(١) النساء (٤) : ١٢٨.

(٢) « الفقيه » ج ٣ ، ص ٣٢ ، باب الصلح ، ج ٣٢٦٧ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ١٦٤ ، أبواب كتاب الصلح ، باب ٣ ، ح ٢.

(٣) « الكافي » ج ٥ ، ص ٢٥٩ ، باب الصلح ، ح ٥ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ١٦٤ ، أبواب كتاب الصلح ، باب ٣ ، ح ١.

(٤) المائدة (٥) : ١.

(٥) « عوالي اللئالي » ج ١ ، ص ٢٢٢ ، ح ٩٩ ؛ وص ٤٥٧ ، ح ١٩٨ ؛ وج ٢ ، ص ١٣٨ ، ح ٣٨٣.

(٦) « عوالي اللئالي » ج ١ ، ص ٢٢٢ ، ح ٩٨ ؛ وص ١١٣ ، ح ٣٠٩ ؛ وج ٢ ، ص ٢٤٠ ، ح ٦.

(٧) « عوالي اللئالي » ج ٣ ، ص ٤٧٣ ، ح ٤.

٢٠