الحاشية على مدارك الأحكام - ج ٣

محمّد باقر الوحيد البهبهاني

الحاشية على مدارك الأحكام - ج ٣

المؤلف:

محمّد باقر الوحيد البهبهاني


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-171-0
ISBN الدورة:
964-319-168-0

الصفحات: ٤٦٤

احتجاج إلى حثّ الصادق عليه‌السلام.

ومع ذلك كيف اكتفى عليه‌السلام بالحثّ؟ مع أنّه ما نفعه التعريضات والإيجابات والتأكيدات والتشديدات ، بل وفضاعة عدم العمل بها وشناعته ، بل كان المناسب أن يستفسر أوّلا وجه تركه ، فإن أتى بالعذر وكان صوابا تركه على حاله ، وإن كان خطأ بيّنه له ونبّه عليه ، وإن لم يأت به أنكر عليه أشدّ الإنكار وهدّد وشدّد أزيد ممّا فعله والده عليه‌السلام.

كيف؟ وهو عليه‌السلام أنكر على حماد بعدم إتيانه بالصلاة بحدودها تامّة مع أنّها من المستحبات والآداب بقوله : « ما أقبح بالرجل منكم » (١) ، الحديث ، بل كانوا ينكرون بترك مثل غسل الجمعة والنوافل اليومية وأمثال ذلك ، فكيف في مثل هذه الفريضة من مثل هذا الجليل؟!

سيّما بعد إيجابات كثيرة سابقة أكيدة شديدة رواها هو بنفسه ، وكذا شركاؤه ونظراؤه مثل ابن مسلم وأبي بصير وغيرهما من الأجلّة ، ودوّنوها في أصولهم المعمولة المشهورة ، مع أنّهم دائما كانوا يقرؤون القرآن وسورة الجمعة ويفهمون المعنى أحسن منّا ، وكذا الحال في الأخبار الصادرة عن الرسول وأهل البيت عليه‌السلام ، سيّما ما رووه بأنفسهم ، وكان المعصوم عليه‌السلام عندهم ، يتمكّنون من الرجوع إليه في معرفة القيود والشرائط ويمكنهم استفصال أنّ الآية بأيّ شي‌ء مقيّدة ، وكانوا أحسن منّا في المعرفة ومعاني أحاديثهم وأحاديث غيرهم حتى ما ورد عن الرسول.

وزرارة كان من فقهاء العامّة فاستبصر ، فكيف اتفقوا على الترك في مدّة مديدة ولم يتفطّن أحد منهم ولا ممّن تبعهم ولا من غيرهم من‌

__________________

(١) الكافي ٣ : ٣١١ / ٨ ، الفقيه ١ : ١٩٦ / ٩١٦ ، التهذيب ٢ : ٨١ / ٣٠١ ، الوسائل ٥ : ٤٥٩ أبواب أفعال الصلاة ب ١ ح ١.

١٤١

صديقهم أو عدوّهم تشنيعا ، أو غيرهم حيرة وتعجّبا (١)؟ فكيف لم يتفطّن واحد منهم ، أو تفطّنوا لكن لم يقبل منهم واحد؟

مع أنّه يورث التهمة في أحاديثهم ، فكيف اتفق الرواة والفقهاء في أخذ الأحاديث منهم دائما؟ مع أنّهم كانوا يحتاطون في أخذ الحديث غاية الاحتياط ، ويلاحظون الوثاقة غاية الملاحظة ، كما لا يخفى على المطّلع بأحوالهم.

مع أنّه يظهر من الرجال أنّه رحمه‌الله كان محسودا بسبب غاية تقرّبه إلى المعصوم عليه‌السلام ونهاية جلالته واشتهاره عند الشيعة ، [ و ] كان جمع منهم في غاية التفتيش في عثرة أو عيب لعلّه يكون فيه ، وربما كانوا يخترعون ، وربما كانوا عليه‌السلام يذبّون عنه (٢) ، ومع ذلك لم يشر إلى ذلك أحد أصلا ، وكذا الحال بالنسبة إلى نظائره.

ويؤكد الاستحباب قوله : ظننت ، إذ لو كان الحث على سبيل الوجوب ولم يكن فعلها منصبا للإمام بل واجبا على كل مكلّف ـ كما يدّعون ، ويدّعون ظهور ذلك من روايات زرارة عن الباقر عليه‌السلام ، بل وربما يدّعون كونها كالصريحة في ذلك ـ فلا وجه لأن يتوهّم من زيادة الحثّ الغدو عليه ، بل كان المناسب خلاف ذلك ، مثل أنّ يتوهّم فعلها خلف غير العادل أيضا مثلا.

على أنّ الوجوب غير قابل للدرجات بهذا النحو ، إذ على تركه العقاب ، فبعد دخول جهنم كيف يبقى شي‌ء آخر حتى يقول : وقع الحثّ‌

__________________

(١) في « ا » زيادة : أنّه لا مانع منها فكيف اتفقتم على تركها فإنّ العادة تقضي بتفطّن الجميع.

(٢) انظر رجال الكشي ١ : ٣٤٨ ـ ٣٥٢.

١٤٢

إلى حدّ ظنّنا كذا وكذا؟ نعم الواجب درجاته التزييد (١) في العقاب ، والتشديد فيه كمّا وكيفا ، بل غير خفي على المنصف أنّ مراد زرارة أنّه من شدّة حثّه ومبالغته فيه توهّمنا الوجوب ، ولمّا كان يدري أنّه منصبه عليه‌السلام ولم يكن له منصوب في العراق لعدم بسط يده توهّم أنّه يريد أن يغدو عليه ، ويظهر من عبارة زرارة أنّ ظنّه كان توهّما منه ، لا أنّه كان في موقعه ، فتدبّر.

وممّا ذكرنا ظهر حال استدلاله بسائر روايات زرارة وروايات نظرائه أيضا ، فتأمّل جدّا.

وممّا يدل بظاهره على عدم الوجوب عينا ما رواه الشيخ في مصباحه والصدوق في أماليه بسند صحيح أنّه عليه‌السلام قال : « إنّي أحبّ للرجل أن لا يخرج (٢) من الدنيا حتى يتمتّع ولو مرّة ، وأن يصلّى الجمعة في جماعة ولو مرّة » (٣) ويظهر منه رحمه‌الله في المصباح أنّ مستند التخيير عندهم هو هذا الحديث ، فلاحظ ، إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة التي ستعرفها.

ويؤيّده أيضا رواية عبد الملك أنّه قال له الصادق عليه‌السلام : « مثلك يهلك ولم يصلّ فريضة فرضها الله تعالى؟ » (٤).

والمراد من الهلاك الموت ، لأنّه معناه ، ولأنّ الظاهر منه في المقام ذلك ، لأنّ مناسب الهلاك بمعنى الوقوع في العذاب التعليل بترك الفريضة ،

__________________

(١) في « ج » و « د » : الترديد.

(٢) في « ب » و « ج » و « د » : إنّي أحبّ لشيعتي أن لا يذهب.

(٣) مصباح المتهجّد : ٣٢٤ ، الوسائل ٢١ : ١٤ أبواب المتعة ب ٢ ح ٧ ، بتفاوت فيهما ، ولم نعثر عليه في أمالي الصدوق.

(٤) التهذيب ٣ : ٢٣٩ / ٦٣٨ ، الاستبصار ١ : ٤٢٠ / ١٦١٦ ، الوسائل ٧ : ٣١٠ أبواب صلاة الجمعة ب ٥ ح ٢.

١٤٣

لا الإتيان بالواو الحالية ( والجملة الحالية ) (١).

ولأنّ عبد الملك كان يترك ويظهر من الخبر أنّ تركه لم يكن فسقا وعصيانا ، بل من جهة أنّه ما كان يدرى ما يصنع ، بل كان يعتقد أنّه لا يجوز بغير المنصوب من قبل الإمام ، ولذا أزال حيرته بقوله عليه‌السلام : « صلّ جماعة » أي لا تتوقّف على المنصوب واكتف بالجماعة.

ولو كان تركه لأجل التقيّة لما كان لسؤاله مناسبة ، وكذا جواب المعصوم عليه‌السلام ، كما لا يخفى على المتأمّل في مضمون الخبر : إنّ مثلك يذهب من الدنيا ولم يصدر منه فريضة فرضها الله ، لأنّ معنى « لم يصلّ فريضة » ما صلاّها أصلا ، وهذا منشأ التوبيخ له ، كما هو الظاهر ، ومفهومه أنّه إن صدر منه فريضة لما كان كذلك ، وإيجاب الواجب مطلقا والمنع عن الترك بالمرّة لا يكون بتلك العبارة ، بل المناسب أن يقول له : كيف يجوز لك أن تترك مرّة واحدة فريضة الله في مدّة عمرك؟ لا أن يقول : كيف ينقضي مدّة عمرك ولم يتحقّق منك فريضة فرضها الله ولم توجد من هذه الطبيعة فرد منها؟

مع أنّ الأمر الوارد بقوله : « صلّوا جماعة » ورد في مقام توهّم الحظر ، فدلالته على الوجوب محلّ نظر ، بل لا يدل ، كما حقّق في محلّه.

على أنّا نقول : « الوجوب التخييري لا شكّ في كونه وجوبا ، وواجبه من أفراد الواجب ، وصدق تعريف الواجب والتعبير عنه ب : افعل ، متعارف متداول في الآيات والأخبار ، غاية الأمر أنّه إذا قيل لشي‌ء : افعل هذا الشي‌ء ، يكون ظاهرا في العيني ، فالمدار على الظهور ، وبناء الاستدلال عليه ، وإن كان الاخبار يحتمل الأعمّ من العيني والتخييري ، وإذا كان البناء على الظهور‌

__________________

(١) ما بين للقوسين ليس في « ج ».

١٤٤

فلا شبهة في أنّ هذه الرواية زرارة وغيرها ظاهرة في الاستحباب.

وأمّا رواية ابن مسلم : فراوي هذه الرواية بعينه ـ وهو ابن مسلم ـ روى اشتراط من يخطب ، كما ذكرت وعرفت الحال فيه ، وروى أيضا اشتراط الإمام وقاضيه وغيرهما ممّن سيذكر في بحث اشتراط السلطان أو من نصبه (١) ، وإنّ الصدوق أفتى بمضمونه (٢) ، والحديث صحيح ، والدلالة ظاهرة ، والقائل بمضمونه موجود (٣) ، مع أنّ الشارح يشترط (٤) وجود القائل بمضمون الحديث لكونه حجّة ـ وسيجي‌ء تتمّة الكلام هنالك (٥) ـ ، فلا شبهة في جواز أن يكون المراد بعد استجماع شرائط الصلاة ، بل هذا هو الظاهر ، ولعلّ الإذن من الشرائط ، كما نقل جماعة كثيرة الإجماع (٦) ، وظهر ذلك من غير واحد من الأخبار ، فتدبّر.

ثم لا يخفى أنّه ورد في شأن زرارة أنّه ليس أحد أصدع بالحقّ منه (٧) ، وورد فيه وفي نظرائه أنّهم أمناء الله على الحلال والحرام والأحكام ، ولولا هؤلاء لاندرست آثار النبوّة ، وأنّهم حفّاظ دين الله ، وأنّ الباقر عليه‌السلام ائتمنهم على حلال الله وحرامه ، وكانوا عيبة علمه ، وأنّهم عند الصادق عليه‌السلام أيضا كانوا كذلك ، وكانوا (٨) مستودع سرّه ، وأنّه إذا أراد الله بأهل الأرض‌

__________________

(١) انظر المدارك ٤ : ٢١.

(٢) الفقيه ١ : ٢٦٧ ، الهداية : ٣٤.

(٣) قال به الشيخ في الخلاف ١ : ٥٩٩ ، والنهاية : ١٠٣ ، وابن البراج في المهذّب ١ : ١٠٠.

(٤) كذا في النسخ ، ولعل الصحيح : لم يشترط ، وانظر المدارك ٢ : ١٣٩.

(٥) انظر ص ١٩١ ـ ٢٠٣.

(٦) منهم الشيخ في الخلاف ١ : ٦٢٦ ، والمحقّق في المعتبر ٢ : ٢٧٩ ، والعلاّمة في المنتهى ١ : ٣١٧ ، والفاضل السيوري في كنز العرفان ١ : ١٦٨ ، والمحقّق الكركي في جامع المقاصد ٢ : ٣٧٠.

(٧) رجال الكشي ١ : ٣٥٥ / ٢٢٥.

(٨) في « د » زيادة : شيوخا.

١٤٥

سوءا صرفه بهم ، وأنّهم نجوم الشيعة يكشف الله بهم كلّ بدعة ، وأنّهم ينفون عن الدين انتحال المبطلين وتأويل الغالين ، صلوات الله عليهم أحياء وأمواتا ، إلى غير ذلك من المدائح (١) ، فكيف مثل هؤلاء كانوا يتركون الجمعة مع كونهم الرواة لوجوبها كرّاتا ومرّاتا؟ إلى غير ذلك ممّا ذكرنا.

والبناء على أنّ تركهم كان تقيّة ينافي الحثّ على فعلها ، بل الشيعة زهّادهم وعبّادهم كانوا حريصين على ترك التقيّة ، بل وعدولهم فضلا عن غيرهم ، وكان الأئمّة عليه‌السلام حريصين على ترك التقيّة ، بل وعدولهم فضلا عن غيرهم ، وكان الأئمّة عليه‌السلام حريصين على أمرهم بالتقيّة ، وكانوا يشكون عنهم في مخالفتهم للتقيّة ، فكيف صار الأمر في المقام بالعكس؟

مع أنّ زرارة ونظراءه في غاية الفقاهة والعدالة وغيرهما ممّا أشرنا إليه ، وكانوا عارفين بالتقيّة ووقت التقيّة ، وكانوا يلاحظون مقام عدم التقيّة ومكان التقيّة ، فلو كان تركهم للتقيّة فكان لخوفهم على أنفسهم ، والتقيّة صاحبها أبصر بها وأعرف ، كما في الأخبار (٢) ، فكيف كان عليه‌السلام يأمر أمثال هؤلاء بخلاف ما كان يأمر شيعتهم ويصرّح بأنّ التقيّة موكولة إلى معرفة صاحب التقيّة وهو أبصر بها؟ والعمل في الشرع في التقيّة على ما ذكر بلا تأمّل ، كما لا يخفى على المطّلع بالأخبار والفتاوى وطريقة الشيعة في الأعصار والأمصار وطريقة سلوك الأئمّة معهم وأمرهم بها.

مع أنّه عليه‌السلام على فرض أن يكون في خصوص المقام مخالفا للطريقة المعهودة الثابتة بأنّه كان يعلم من باب المعجزة أنّه ما كان تقيّة لهم وخوفهم كان عبثا لا بحسب الحال ولا بحسب المآل لكان يقول لزرارة وغيره هذا المعنى فقط ، ولا معنى للحثّ والترغيب وغير ذلك ممّا عرفت.

__________________

(١) رجال الكشي ١ : ٣٤٨ / ٢٢٠ ، والوسائل ٢٧ : ١٤٥ أبواب صفات القاضي ب ١١ ح ٢٥.

(٢) الوسائل ٢٣ : ٢٢٥ ، ٢٢٧ أبواب الأيمان ب ١٢ ح ٧ ، ١٥.

١٤٦

والقول بأنّهم كانوا يعلمون بأنّ الشيعة كانوا متمكّنين من فعلها في القرى والبيوت خفية فلذا أمرهم وحثّهم.

فاسد ، لأنّه أيضا ينافي التقيّة بحسب الوجدان ، لأنّ مثله يشيع ويذيع عادة في بلاد التقيّة ، ومع ذلك يبعد أنّ هؤلاء الفقهاء جميعا لم يتفطّنوا بذلك أصلا.

ومع ذلك لم يظهر مما ذكر في خبر أصلا ، خبر أصلا ، إذ حكاية القرى والبيوت والإخفاء وأمثالها ليس في الروايات منها عين ولا أثر ، فكان اللازم أن يكون المذكور في الأخبار هذا الذي ذكر ، لا مجرّد الأمر والحثّ وغيرهما. على أنّ الحثّ لا معنى له على ما ذكر أيضا ، بل اللازم إظهار التمكّن.

ولا يخفى أنّ بني أميّة وبني العبّاس في ذلك الزمان كانوا مشغولين بأنفسهم ، والكوفة كانت بلد الشيعة ، ورؤساؤهم وطوائفهم وقبائلهم كانوا شيعة أو مائلين إلى آل فاطمة عليها‌السلام ، فما كانت تقيّة حين صدور الحثّ ، إلاّ أنّ الأئمّة عليه‌السلام ما كانوا متمكّنين من النصب في إمام الجمعة ، لأنّه منصب السلطنة ، وكانوا عليه‌السلام يعلمون أنّ بني العبّاس يغلبون ويتسلّطون ويؤاخذون إن وجدوا منصوبا من قبلهم عليه‌السلام ، وكانوا يطلعون البتّة ويقولون : إنّهم عليه‌السلام يدّعون السلطنة ، وكانوا يؤاخذون أشدّ المؤاخذة ، ولا كذا نفس فعل الجمعة لو وقعت خفية في تلك الفترة ، سيّما بعد ملاحظة أنّ العامة كثير منهم أو أكثرهم يجوّزون فعل الجمعة من غير وجود منصوب ، سيّما في أوقات الفترة واشتغال السلاطين ، فتأمّل جدّا.

قوله : يصلّون أربعا. ( ٤ : ٧ ).

مفاد الحديث أنّه إذا لم يكن من يخطب يكون المطلوب منهم أربعا على الحتم والتعيين ، فمفهوم الشرط لا يقتضي وجوب الجمعة على الحتم‌

١٤٧

والتعيين ، كما لا يخفى.

مع أنّ الإمام يجب أن يكون عادلا عارفا بأحكام الصلاة ومتعلّقاتها التي من جملتها أحكام الإمامة ، ومع ذلك لا يقدر على أقلّ الواجب من الخطبة بعيد جدّا.

مع أنّهم لا يشترطون القدرة على الإنشاء ، فكان المناسب أن يقول : يحصّل خطيبه من البلاد ، فإن لم يتمكّن يصلّون أربعا ( لأنّ الخطبة مقدّمة الواجب المطلق لا المشروط بمقتضى كلامهم وأدلّتهم ، وسيجي‌ء تمام الكلام ) (١).

قوله : وصحيحة عمر بن يزيد عن أبي عبد الله عليه‌السلام. ( ٤ : ٧ ).

ربما يأبى السياق عن الحمل على الواجب العيني ، لأنّ جلّ الأوامر على الاستحباب ، والشارح ربما يمنع بمثل ما ذكر في أمثال ما ذكر ، فتدبّر ، وبالجملة لا يبقى وثوق بعد ملاحظة السياق.

مع أنّ الكلام في أنّ الإمام الوارد فيها هو إمام الجمعة أو الجماعة؟ مع أنّه يظهر من الأخبار المغايرة بين الإمامين ، فتأمّل جدّا.

قوله : أدرك الجمعة. ( ٤ : ٨ ).

لم يقل أحد بالوجوب على من إن صلّى الغداة أدرك الجمعة وفرغ من العصر في وقت الظهر ووصل بيته قبل الليل ، فإنّ هذا يصير أربعة فراسخ لا أقلّ منه ، فتأمّل ، ولعلّ هذا مذهب بعض العامّة ، فهي محمولة على الاستحباب أو التقيّة ، كما سيجي‌ء.

( سلّمنا ، لكن غاية ما يثبت من ظاهرها أنّ الموضع الذي انعقد فيه‌

__________________

(١) بدل ما بين القوسين في « ب » و « ج » و « د » : فتأمّل.

١٤٨

الجمعة يجب على أهل الأطراف للفرسخين حضور تلك الجمعة ، فلو كان المراد من هذا الوجوب العيني لزم أن يكون من لم يحضر هذه الجمعة منهم معاقبا ، وإن تيسّر معه اجتماع سبعة نفر أحدهم قابل لإمامتهم ، تيسّر في مكانه أو بعد الفرسخين أو مساويهما أو قبلهما إلى فرسخ إلى موضع تلك الجمعة ، وهذا باطل عند الشارح وموافقيه أيضا ، ولا وجه لإيجاب المشي فرسخين حينئذ.

وأيضا مفهومها عدم وجوب الجمعة مطلقا على من لم يدرك تلك الجمعة إن صلّى الغداة في أهله ، سواء تيسّر معه ذلك الاجتماع أم لا ، وهذا أيضا باطل عندهم ، مع أنّ الغالب التيسّر في المنطوق والمفهوم جميعا ، بل التحقّق والغفلة بالبديهة ، ولذا يكون المتعارف تيسّر الصلاة متعدّدا في سعة أربعة فراسخ في أربعة طولا أو عرضا وعلى شكل الاستدارة بحسب الغالب ، فحمل الرواية على الفروض النادرة باطل وفاقا قطعا ، فدعوى أنّها مقيّدة بصورة فقد التيسّر باطل قطعا ، مع أنّ بناء استدلالهم إنّما هو على كون الأخبار مطلقة ، فكيف يمكن دعوى التقييد في مقام الاستدلال؟ وكذا الحال إن ادّعوا خلاف ظاهر آخر.

لا يقال : ما ذكر وارد على مشترط السلطان أو المنصوب أيضا.

لأنّ نصبه كان على حسب رأيه ، فلعلّه كان نصبه بحيث لا يتحقّق المفسدتان غالبا ، وإطلاقات الأخبار محمولة على الغالب ، فتأمّل جدّا.

وبالجملة : الظاهر منه أنّ الإمام رجل مشخّص يجب على أهل الأطراف إلى فرسخين أو ما زاد الحضور لديه [ و ] (١) الصلاة معه ، كما كان‌

__________________

(١) ما بين المعقوفين أضفناه لاستقامة العبارة.

١٤٩

السنّة في زمان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك ، لا أنّ أي رجل يكون قابلا للإمامة وتيسّر معه أربعة أو ستة يجب عليهم الجمعة معه أو مع غيره بحيث لا يفوت من أحدهم فعلها.

وممّا ذكر ظهر الكلام في الأخبار الآخر التي استدلّ بها الشارح وغيره (١) ، وتضمّنت ذكر السقوط عمّن كان على رأس الفرسخين ، والثبوت على من كان دونه ، فتأمّل جدّا ) (٢).

قوله : فإذا اجتمع سبعة. ( ٤ : ٨ ).

فيه ـ مضافا إلى ما سبق ـ : أنّ هذا يحتمل أن يكون من كلام الصدوق بملاحظة طريقته في الفقيه ، وملاحظة صدر الرواية ، ووقع كثيرا أمثال هذا الاشتباه ونبّهوا عليه ، والفاضل المحشّي على الفقيه مولانا مراد حكم بكونه من كلام الصدوق (٣) ، هذا مع المناقشة في الدلالة على الوجوب العيني ، سيّما مع ملاحظة الورود مورد توهم الحظر ، فتأمّل.

قوله (٤) : إذ لا إشعار فيها بالتخيير بينها وبين فرد آخر. ( ٤ : ٨ ).

يظهر من هذا أنّ استدلاله جدل لا برهان ، وردّ لمذهب المشهور لا القائل بالتحريم ، إلاّ أن يقال : إنّ نفس الوجوب يردّه ، وفيه ما عرفت وستعرف.

__________________

(١) انظر الحدائق ٩ : ٤١٢.

(٢) ما بين القوسين ليس في « ب » و « ج » و « د » وهو موجود في « أ » و « و » في ذيل التعليقة على صحيحة عمر بن يزيد ، ولكنّه غير مرتبط بها فنقلناه إلى هنا للتناسب.

(٣) انظر الفقيه ( طبعة جامعة المدرسين ) ١ : ٤١٢.

(٤) هذه التعليقة والتي بعدها ليست في « ب » و « ج » و « د ».

١٥٠

قوله : قوله عليه‌السلام : من ترك الجمعة. ( ٤ : ٨ ).

فيه ـ مضافا إلى ما عرفت سابقا ـ : أنّ راوي هذه الرواية بعينه ـ [ و ] (١) هو ابن مسلم ـ روى اشتراط من يخطب ، كما ذكرت ، وقد عرفت الحال فيه ، وروى أيضا اشتراط الإمام وقاضيه وغيرهما ممّن سيذكر في بحث اشتراط السلطان أو من نصب ، وأنّ الصدوق أفتى بمضمونه ، والحديث صحيح ، والدلالة ظاهرة ، والقائل بمضمونه موجود ، مع أنّ الشارح يشترط وجود القائل بمضمون الحديث لكونه حجّة (٢) ، وسيجي‌ء تتمّة الكلام هنالك.

قوله : وليس فيها دلالة على اعتبار حضور الإمام. ( ٤ : ٨ ).

لا يجب أن يكون فيها دلالة ، بل فاسد ، إذ لا دلالة فيها على شرط من الشروط المسلّمة ، مع أنّه فرع مسلّمية كون ما ذكره صلاة الجمعة ، وهو أوّل النزاع في موضوع الحكم لا نفس الحكم ، فتأمّل.

قوله : بل الظاهر من قوله عليه‌السلام. ( ٤ : ٨ ).

يظهر ممّا ذكره وأخبار كثيرة صحاح ومعتبرة ، مثل ما رواه الفضل بن عبد الملك عن الصادق عليه‌السلام : « إذا كان قوم في قرية صلّوا الجمعة أربع ركعات ، فإذا كان لهم من يخطب بهم جمّعوا » (٣).

وفي الموثق كالصحيح بابن بكير ـ بل الصحيح ـ عنه عليه‌السلام : عن قوم في قرية ليس لهم من يجمّع بهم ، أيصلّون الظهر يوم الجمعة في جماعة؟

__________________

(١) ما بين المعقوفين أضفناه لاستقامة العبارة.

(٢) انظر المدارك ٣ : ٣٥١ ، وراجع ص ١٤٤.

(٣) التهذيب ٣ : ٢٣٨ / ٦٣٤ ، الاستبصار ١ : ٤٢٠ / ١٦١٤ ، الوسائل ٧ : ٣٠٤ أبواب صلاة الجمعة ب ٢ ح ٦.

١٥١

قال : « نعم إذا لم يخافوا » (١).

وعن الباقر عليه‌السلام : « فمن صلّى بقوم يوم الجمعة في غير جماعة فليصلّها أربعا » (٢) فتأمّل.

وفي موثقة سماعة عن الصادق عليه‌السلام : « فأمّا إذا لم يكن إمام يخطب فهي أربع ركعات وإن صلّوا جماعة » (٣) إلى غير ذلك :

أنّ إمام الجمعة غير إمام الجماعة ، وأنّه يعتبر فيه أمر زائد على ما يعتبر في إمام الجماعة ، والفقهاء يقولون : هذا الأمر الزائد هو الإذن والنصب ، والشارح يقول غيره ، فليس هو ذلك ، فإطلاق الآية والأخبار مقيّد بذلك الزائد على أيّ تقدير ، فكيف يمكن للشارح ومن وافقه أن يتمسك بإطلاقاتهما على عدم اشتراط الإذن والنصب ، مع أنّ تقييدها بالأمر الزائد مسلّم عند الكلّ ثابت ( من الأدلة ) (٤) بلا تأمّل ، وإنّما الكلام في أنّه ما ذا وكيف يثبت من الإطلاقات أنّ ذلك القيد المسلّم الثابت ليس ما ذكره الفقهاء من جهة أنّ الآية والأخبار ( مطلقة أيضا ) (٥)؟ بل هو الذي يدّعيه الشارح وموافقوه من جهة أنّهما مطلقتان؟ بل عرفت وستعرف أيضا أنّ الحق مع الفقهاء ، وأنّ الشرط الزائد الثابت على أيّ تقدير هو الإذن‌

__________________

(١) التهذيب ٣ : ١٥ / ٥٥ ، الاستبصار ١ : ٤١٧ / ١٥٩٩ ، الوسائل ٧ : ٣٢٧ أبواب صلاة الجمعة ب ١٢ ح ١.

(٢) تفسير العياشي ١ : ١٢٧ / ٤١٦ ، البرهان ١ : ٢٣١ / ٥ ، المستدرك ٦ : ١٥ أبواب صلاة الجمعة ب ٦ ح ١.

(٣) الكافي ٣ : ٤٢١ / ٤ ، التهذيب ٣ : ١٩ / ٧٠ ، الوسائل ٧ : ٣١٠ أبواب صلاة الجمعة ب ٥ ح ٣.

(٤) ما بين القوسين ليس في « ا ».

(٥) بدل ما بين القوسين في « ب » و « ج » و « د » : موافقة.

١٥٢

والنصب.

فإن قلت : قراءة الخطبتين شرط قطعا عند الكل ، وإنّما الكلام في ما زاد عليهما.

قلت : قراءة أقلّ الواجب منهما أمر يتمكّن منها الأطفال بالبديهة ، سيّما بعنوان التعليم والتلقين ، فما ظنّك بإمام الجماعة للقوم؟ بل يحصل القطع للمتأمّل في هذه الأخبار أن ليس المراد مجرّد قراءة : « الحمد لله ، وصلّى الله على محمد وآله ، واتقوا الله ».

فإن قلت : لعلّ المراد التمكّن من إنشاء الخطبة بنفسه أو أمثال ذلك.

قلت : ليس ذلك من الشروط المجمع عليها التي اتفق على اعتبارها كل الفقهاء ، فإذا ادعى الشارح رحمه‌الله وموافقوه ذلك ويستدلّون بالإطلاقات على ثبوت دعواهم دون دعوى الفقهاء يتوجّه عليهم ما ذكرناه.

مع أنّ ثبوت اشتراط النصب صار بحيث لم يتفق في كثير من الشروط تحقّق هذا المقدار من الأدلّة من الأخبار والإجماعات والاعتبار والشواهد والآثار ، مثلا عدالة إمام الجمعة شرط عند هؤلاء بلا تأمّل ، ولم يرد فيها ما ورد في النصب من الأخبار والإجماعات والشواهد عشر معشاره ، كما لا يخفى على من له أدنى ملاحظة وتأمّل.

قوله (١) : « فإن كان لهم من يخطب ». ( ٤ : ٨ ).

لا شبهة في أنّ الظاهر ممن يخطب ليس ما ذكره الشارح رحمه‌الله وقد مرّ وجهه.

قوله : في رسالته الشريفة. ( ٤ : ٨ ).

__________________

(١) هذه التعليقة ليست في « ب » و « ج » و « د ».

١٥٣

في هذه الرسالة ما لا يرضى المتأمّل أن ينسب إلى جاهل ، فضلا عن العاقل ، فضلا عن الفقيه ، فضلا عن الشهيد رحمه‌الله فإنّه ما كان يرضى أن ينسب الفسق إلى المجاهر بالفسق ، فكيف يحكم بفسق علمائنا وفقهائنا العظام ، الزهاد الكرام ، الثقات العدول بلا كلام ، أمناء الله في الحلال والحرام ، وحجج الله على الأنام بعد الأئمّة ، المتكفّلين لأيتامهم ، والمؤسّسين لشرعهم وأحكامهم ، والمروّجين لحلالهم وحرامهم ، وعليهم المدار في الدين والمذهب في الأعصار والأمصار ، الراد عليهم كالرادّ على الله (١) ، إلى غير ذلك ممّا ورد عن الله ورسوله والأئمّة عليه‌السلام حيث قال ـ بعد التوبيخ والتقريع والتشنيع والتفظيع ـ : فليحذر الذين يخالفون عن أمره (٢) ، إلى آخره.

مع انّ الفقهاء في زمانه ومقلّديهم وسائر الشيعة ما كانوا متمكّنين من صلاة الجمعة من جهة التقيّة ، ولذا كان هو أيضا لا يصلّي الجمعة ، ومن كان متمكّنا منها أكثرهم كانوا يصلّونها لكونها واجبة عندهم وإن كان بالوجوب التخييري ومستحبّة عندهم عينيّا ، ومن لا يصلّي لأنّه كان يعتقد الحرمة ، فكيف يمكنه فعل الحرام؟ وكيف يتأتّى منه قصد القربة؟ فما ندري أنّ تشنيعه على أيّ جماعة وأي شخص؟.

على أنّا لا ندري أنّ الأمر الأوّل الذي أصابهم ما ذا؟ فإن كان المحنة والشدّة من أعدائهم فليست تلك إلاّ بتمسّكهم بحبل أوليائهم عليه‌السلام ، وإلاّ فلم يصبهم أمر يكون ذلك بسبب ترك صلاة الجمعة ، بل الذي قال‌

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ١٣٦ أبواب صفات القاضي ب ١١ ح ١ بتفاوت يسير.

(٢) رسائل الشهيد الثاني : ٥٦.

١٥٤

بوجوبها لم يكن محنه وفتنة أقلّ بلا تأمّل ، كيف؟ وصار شهيدا في غاية الغربة والكربة والمحنة! وهذا الذي ذكرناه وغيره ممّا في الرسالة ينادي بأعلى صوته إنّ الرسالة ليست من الشهيد ، ولو كانت منه لكان مريضا حين تأليفها وقيل : إنّه كتبها في الطفولية وصغر السن وحاشاه ثم حاشاه من هذه الشنائع والقبائح ، كيف؟ وهو في جميع تأليفاته المعلومة أنّها منه اختار عدم الوجوب العيني ، فكيف حكم بفسق نفسه أيضا في جميع تأليفاته إلى آخر عمره؟.

مع أنّ العدالة شرط في الاجتهاد لا شبهة ، ومسلّم هذا عنده بلا مرية ، فكيف ما حكم بأنّ جميع تأليفاته باطلة عاطلة ليست باجتهاد فقيه؟ بل كان اللازم عليه محو هذا الفسق من تأليفاته.

وأيضا لا شكّ عنده في أنّ العدالة شرط في قبول الرواية بل هو في غاية الإصرار والمبالغة والتشنيع على العلاّمة وغيره في قبول خبر غير العادل ، كما لا يخفى على من لاحظ تأليفاته ، سيّما ما كتبه على الخلاصة ، فعلى هذا كيف يتمسّك بالأحاديث مع فسق الشيخ رحمه‌الله وغيره من رواة الأخبار حتى زرارة وغيره من الأعاظم؟ إذ يظهر من الرسالة أنّ جميعهم كانوا فسّاقا يتركون الفريضة التي [ هي ] (١) أشدّ الفرائض وأوجبها بعد المعرفة إلى أن صار ذلك سبب الشبهة على الناس في توهّم اشتراط الإذن الخاصّ.

ويلزم عليه أن لا يتمسك بالإجماع أيضا ، لأنّه اتفاق الفقهاء لا اتفاق‌

__________________

(١) ما بين المعقوفين أضفناه لاستقامة العبارة.

١٥٥

الفسقة.

وأيضا مسلّم عنده أنّ خطاء المجتهد في الفروع لا ضرر فيه ، بل يكون مثابا البتّة أيضا ، فكيف يقول : ولينتظر العذاب ( الأليم؟! بعد إصابة الفتنة ، وأنّهما يجتمعان فيه ، لا يكفي أحدهما عذابا له ، وسائر الفسوق عليها عذاب واحد ) (١) ، مع أنّه تعالى قال ( أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) (٢) لا : وعذاب أليم.

وأيضا مسلّم عنده أنّ المجتهد يجب عليه استفراغ وسعه والعمل بما أدّى إليه اجتهاده ، ويجب على العامي أيضا تقليده ، فكيف يكون الشي‌ء واجبا عليهم وموجبا لعذاب الدنيا والآخرة والفتنة والعذاب الأليم؟ سيّما وأن يكونوا بأجمعهم كذلك.

إلاّ أن يقول : إنّهم اتفقوا على عدم استفراغ الوسع وعدم السعي والإغماض عن طلب الحق ، مع أنّ الجاهل يلاحظ ويرى أنّهم كانوا يبحثون ويفحصون ويتتبّعون ويتأمّلون ويناظرون ويباحثون ويسعون ويجتهدون ، وهذا حال الجاهل ، فكيف يكون حال العالم بفعلهم وطريقتهم وتأليفاتهم واستدلالاتهم؟!.

وأيضا طريقته رحمه‌الله في كتبه مثل المسالك وغيره أنّه يطرح الأحاديث الصحيحة والمعتبرة بسبب مخالفتها لفتوى المشهور أو القاعدة المشهورة أو الإجماع المنقول بخبر الواحد (٣) ، وربما كان الناقل هو وحده ، بل ربما لا يوجد الفتوى بذلك من غيره ، وأين طرح الحديث بالمرّة من‌

__________________

(١) ما بين القوسين ليس في « ج » و « د ».

(٢) النور : ٦٣.

(٣) انظر المسالك ١ : ٢٠٤ ، ٥٢٦ ، وروض الجنان : ١٣٣.

١٥٦

تقييد المطلق الذي يقيّد بتقييدات كثيرة؟ وأين الشهرة في الفتوى من الإجماع الذي من اتفاق الفتاوى ، مع نقل جماعة كثيرة غاية الكثرة الإجماع؟ وتؤيّد تلك الإجماعات والفتاوى بأخبار كثيرة ، كما ستعرف ، وبعد الإغماض غاية الأمر التساوي ، وبعد الإغماض عن التساوي أيضا غاية الأمر كون ما فعله أرجح ، إمّا التفسيق فكيف يمكن؟ سيّما بالفسق الذي عليه أشدّ العذاب؟.

ومن شنائع ما في الرسالة أنّه قال : بخلاف بعض الفقهاء (١) ، وما أدري كيف عدّ جميع فقهائنا المتقدّمين والمتأخّرين الذين يكون الشهيد الثاني واحدا منهم بعض العلماء؟ حيث قال : بخلاف بعض العلماء ، بل ستعرف أنّه لم يوجد مخالف ، فكيف يكون جميع الشيعة مخالفين؟

وأعجب منه دعواه الإجماع على عينية الوجوب ( في محلّ النزاع ) (٢) كما يظهر من الرسالة (٣) (٤).

فإن قلت : هذه المسألة عنده ليست ممّا يتعلّق بها الاجتهاد والتقليد.

قلت : ضروريّ الدين أو المذهب لا يتعلّق بها الاجتهاد والتقليد ، والشيعة من زمان الأئمّة عليه‌السلام إلى زمانه كانوا تاركين للجمعة صلحاؤهم وزهّادهم وعدولهم وعلماؤهم وفقهاؤهم (٥) ، والفقهاء أفتوا ما أفتوا ، ونقل الإجماع جماعة كثيرة ، بل هو ـ من باب : الغريق يتشبّث بكل حشيش ـ في‌

__________________

(١) رسالة الجمعة ( رسائل الشهيد الثاني ) : ٥٦.

(٢) بدل ما بين القوسين في « ب » و « ج » و « د » : في زمان الغيبة.

(٣) رسالة الجمعة ( رسائل الشهيد الثاني ) : ٦٣.

(٤) في « ب » و « ج » و « د » زيادة : وغير ذلك من الشنائع.

(٥) في « ب » و « ج » و « د » زيادة : وغيرهم.

١٥٧

الرسالة ما نقل الخلاف إلاّ عن نادر منهم من بعض كتبه ، وإلاّ ففي باقي الكتب وافق غيره إلاّ من شذّ ممّن لم يظهر بعد اعتبار قوله في مقام الإجماع ، مع أنّ المحقّقين من علمائنا صرّحوا بأنّ عبارة النادر في بعض الكتب أيضا لا يظهر منها الخلاف ، وسيظهر لك أنّه حق ، وكيف كان هذه المسألة خلاف ما ذكره أشبه بالضرورية ممّا ذكره.

فإن قلت : القرآن والأخبار المتواترة يفيدان العلم واليقين ، ومنكر العلمي آثم غير معذور ، والخطاء غير مأمون على الظنون لا العلميّات ، وإلاّ لزم معذورية الخاطئ في أصول الدين ومنكر غدير خمّ.

قلت : لو تمّ ما ذكرت لزم خروج الفقهاء عن الإيمان ، بل والإسلام أيضا ، ومع ذلك نقول : القدر الثابت منهما وجوب صلاة الجمعة عينا ، وأمّا أنّ صلاة الجمعة ما هي؟ فلم يثبت ، والكلام في الثاني في أنّ الإذن الخاصّ هل هو شرط لتحقّق ماهية صلاة الجمعة ، أو شرط لصحتها ، أو شرط لعينيّة وجوبها لا تخييريته ، أو الإذن العامّ ينوب مناب الخاصّ في بعض الصور ، أو ليس بشرط أصلا إن تحقّق هذا القول؟ وسيجي‌ء الكلام فيه.

فإن قلت : يظهر من بعض الأخبار أنّ الإذن ليس بشرط ، مثل ما أشار إليه الشارح من قوله عليه‌السلام : « فإذا كان لهم من يخطب » ، وقوله : « فإذا اجتمع سبعة » وكذا غيره من الصحاح الدالة على أنّ مع عدم إمام الجمعة يصلّون الجمعة جماعة أربعا.

قلت : قد عرفت أنّ الأوّل له ظهور في اشتراط الإذن والنصب ، سلّمنا لكن الظاهر منه اشتراط شي‌ء زائد على ما يقول به الشارح وصاحب الرسالة‌

١٥٨

ومن وافقهما ، ( بل لا شكّ في هذه الدلالة ولا شبهة ) (١) ، فالأخبار لا دلالة لها على ما يقولون بوجه ، لثبوت الشرط الزائد على أيّ حال ، واعتمادهم ليس إلاّ على كون الآية والأخبار مطلقة ، وتمسّكهم إنّما هو بذلك ، فإطلاقهما كيف يدل على أنّ الزائد ليس ما يقول الفقهاء الماهرون المطّلعون ، بل غيره ، بحيث لا يضرّ القول بالوجوب العيني؟ بل عدم الضرر أيضا لا ينفعهم في مقام استدلالهم ، بل لا بدّ من النفع.

وحملها على قراءة أقلّ الواجب من الخطبة المتفق عليه عند الكلّ قد عرفت فساده ، وأنّ الأطفال يمكنهم هذه القراءة ، سيّما بعنوان التلقين ، فما ظنّك بإمام جماعة قوم مستجمع لشرائط الإمامة مع كونه عربا؟ ولم يشترط أزيد من نفس القراءة.

وحمل الزائد على أمر زائد عن نفس القراءة يوجب ورود ذلك الاعتراض عليهم بالنحو الذي عرفت ، بل نقول بتعيّن كونه الإذن والنصب ، لما عهد من طريقة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلي والحسن عليهما‌السلام ، ويظهر من الأخبار المنجبرة بالشهرة وعمل الأصحاب ، ومن الإجماعات المنقولة الكثيرة ( وغير ذلك ممّا مرّ وسيجي‌ء ) (٢) مع أنّ ما دلّ على حجّية الخبر الواحد يشمل الإجماع المنقول بلا شبهة.

والقول بأنّ الشرط الزائد لعلّه الأمر المتفق عليه وهو قراءة أقلّ الواجب من الخطبة فاستدلالهم من جهة الإطلاق بمكانه.

فاسد ، لأنّ القدر الذي لم يتحقّق من أحد خلاف في اعتباره هو‌

__________________

(١) ما بين القوسين ليس في « ج » و « د ».

(٢) ما بين القوسين ليس في « ب » و « ج » و « د ».

١٥٩

نفس قراءة أقلّ الواجب ، وهو الحمد لله ، والصلاة على محمد وآله ، وقول : اتقوا الله ، مع أنّ المعتبر هو الإجماع لا عدم الخلاف.

سلّمنا الإجماع على هذا القدر ، لكن لم يعتبر أزيد من نفس هذا القول ، فيصحّ وإن كان بعنوان التلقين حال الخطبة ، وهذا يتمكّن منه الأطفال الغير المميّزة فضلا عن المميّز ، فضلا عن البالغ ، فضلا عن العارف ، فضلا عن كونه إمام قوم ، فلا معنى لعدم إمام الجمعة مع وجود إمام الجماعة لقوم وأهل قرية وجماعة ، وهذا فساده في غاية البداهة.

وإن اعتبر أزيد من هذا ـ أيّ شي‌ء يكون ـ يتوجّه عليهم الاعتراض المذكور ، إذ لا معنى لأن يقال : الإطلاق يدل على أنّ القيد الزائد الذي ثبت من الصحاح ليس ما فهمه القوم واعتبروه ، بل أمر لم يعتبره أحد من الفقهاء ، أو اعتبره فلان منهم إذا ( اعتبرته أنا ) (١) ـ يعني المستدل.

وأمّا الثاني وهو قوله : « إذا اجتمع » فقد عرفت أنّه لا يظهر كونه كلام المعصوم عليه‌السلام ، بل يحتمل كونه كلام الصدوق رحمه‌الله لأنّ فتاواه مخلوطة مع الأخبار التي أوردها فيه ، وصرّح بذلك المحققون الماهرون ، بل عرفت أنّ الراجح كونه كلام الصدوق (٢).

مع أنّ الدلالة على الوجوب العيني محلّ مناقشة ، لأنّه قال : « إذا اجتمع سبعة ولم يخافوا أمّهم بعضهم » فلعل المعنى أنّ مع الخوف لا يصلّون الجمعة ، وإذا لم يخافوا يصلّون ، أي يصحّ لهم أن يصلّوا ، بأنّه أمر في مقام توهّم الحظر ، فتأمّل ، سيّما وهو جملة خبرية ، ويؤيّده أنّ‌

__________________

(١) بدل ما بين القوسين في « أ » و « و » : اعتبر به.

(٢) راجع ص ١٥٠.

١٦٠