الحاشية على مدارك الأحكام - ج ٣

محمّد باقر الوحيد البهبهاني

الحاشية على مدارك الأحكام - ج ٣

المؤلف:

محمّد باقر الوحيد البهبهاني


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-171-0
ISBN الدورة:
964-319-168-0

الصفحات: ٤٦٤

مع أنّه كما لم يوجد قائل بوجوبه كذلك لم يوجد قائل باستحبابه ، فتعيّن الحمل على الوجوب التخييري حينئذ [ و ] كون ذكر التوحيد على سبيل المثال والأولى ، فتأمّل جدّا.

قوله : من جملة رجالها يحيى بن عمران الهمداني. ( ٣ : ٣٥٠ ).

العلاّمة في المنتهى قال : في الصحيح عن يحيى بن عمران ، ورواها في صدر الروايات التي استدل بها على الوجوب (١).

قوله : وهو غير واضح. ( ٣ : ٣٥١ ).

دليله كون العبادة توقيفية على نقل الشرع ، والمنقول منه خلافه ، كما مرّ من الشارح رحمه‌الله ، وسيجي‌ء أيضا أنّه يستدل كذلك.

قوله : وكل هذه المقدّمات لا يخلو من نظر. ( ٣ : ٣٥٢ ).

فيه نظر ، لأنّ العبادة التوقيفية كيف يكتفى فيها بوقوع هذا الأجنبي في خلالها وتغيير هيئتها به؟! والفورية لعلها إجماعية ، وسيجي‌ء عن الشارح تسليمه إيّاها (٢) ، وتحريم القران سيجي‌ء الكلام فيه ، ومضى الكلام في وجوب الإكمال (٣) ، والرواية قويّة ومنجبرة بالشهرة لو لم يكن إجماعا ، مع أنّ القاسم بن العروة قوى ، وابن بكير ممّن أجمعت العصابة ، مع أنّه نقل علماء الرجال وورد في الأخبار أنّه رجع عن الفطحية من قال بعبد الله من أصحاب الصادق والكاظم عليهما‌السلام إلاّ طائفة عمار (٤) ، والأخبار المعارضة‌

__________________

(١) المنتهى ١ : ٢٧٢.

(٢) المدارك ٣ : ٣٥٤.

(٣) راجع ص ٢٨ ـ ٣٨.

(٤) انظر الإرشاد للمفيد ٢ : ٢٢٣ ، ورجال الكشي ٢ : ٥٦٧.

٤١

محمولة على التقية أو النافلة على سبيل منع الخلو ، فتأمّل ، ومرّ عبارة أمالي الصدوق وهي صريحة في عدم الجواز وكونه من دين الإمامية (١).

قوله : فقال الشيخ في النهاية والمبسوط : إنّه غير جائز. ( ٣ : ٣٥٤ ).

وفي التهذيب أيضا (٢) وكذا في الخلاف وإنّه مفسد للصلاة (٣) ، والمرتضى في الانتصار نقل إجماع الفرقة عليه (٤) ، واختاره في المسائل المصرية أيضا (٥) ، وقال الصدوق رحمه‌الله في أماليه : من دين الإمامية الإقرار بأنّه لا يجوز القرآن بين سورتين في الفريضة ، وأمّا النافلة فلا بأس (٦) ، وفي الفقيه أيضا صرّح بالمنع عنه (٧) ، وما قال في الاستبصار فلا شبهة في أنّه قول رجع عنه.

قوله : لنا الأصل. ( ٣ : ٣٥٥ ).

بناء على جريان الأصل في العبادات ، وإلاّ فالمنقول في العبادات التوقيفية عن الرسول والأئمّة عليه‌السلام الاقتصار على سورة واحدة لا أزيد ، والعمومات الدالة على الكراهة لم نجدها ، بل هي تدل على الاستحباب ، والقول بالاستحباب خلاف المجمع عليه.

إلاّ أن يقال : إنّ الكراهة عندهم بمعنى أقلّية الثواب وإلاّ فالقراءة في‌

__________________

(١) راجع ص ٢٧.

(٢) التهذيب ٢ : ٧٢.

(٣) الخلاف ١ : ٣٣٦ ، ٣٣٧.

(٤) الانتصار : ٤٤.

(٥) رسائل المرتضى ١ : ٢٢٠.

(٦) أمالي الصدوق : ٥١٢.

(٧) الفقيه ١ : ٢٠.

٤٢

نفسها مستحبة.

وفيه : أنّ العمومات الدالة على الكراهة بهذا المعنى أيضا لم نجدها ، بل الظاهر منها عدم هذه الكراهة أيضا.

إلاّ أن يقال : إنّ الكراهة ترجع إلى خصوص كونها في الصلاة ، فالرجحان يظهر من العمومات ، والكراهة تظهر من دليل آخر.

وفيه : أنّ دليل الكراهة إن كان مخصّصا لدليل الاستحباب ومخرجا لهذه الصورة من العمومات فلا وجه للتمسك بالعمومات ، لأنّ العمومات تدل على ضد المطلوب.

وإن أراد عدم التخصيص بأنّ العمومات تدل على استحباب القراءة ، والخصوص تدل على مرجوحية الخصوصية ، فهذا بعينه رأي الأشاعرة ، والشيعة يتحاشون عنه ، ولذا يحملون الكراهة على أقلّية الثواب ، كما مرّ عن الشارح رحمه‌الله التصريح به (١).

وإن أراد أنّ العمومات تدل على الاستحباب والخصوص يدل على أقلية الثواب ، ففيه : أنّه إن أراد تخصيص العمومات فلا وجه للتمسك بالعمومات ، على حسب ما عرفت ، وإن أراد عدم التخصيص ، فيه : أنّ مقتضى العمومات عدم أقليّة الثواب ، ومقتضى الخصوص أقليّة الثواب وبينهما تناقض ، واجتماعهما محال ، كما لا يخفى.

قوله : قال : « لا بأس ». ( ٣ : ٣٥٥ ).

الظاهر من هذا عدم الكراهة أيضا ، لكون البأس نكرة في سياق النفي ، إلاّ أن يؤوّل بأنّ المراد منه عدم الحرمة. ففيه : أنّ الحديث المؤوّل‌

__________________

(١) انظر المدارك ١ : ١١٧.

٤٣

لا يكون حجّة ، لأنّ الظاهر هو الحجّة والظاهر متروك بالإجماع ، مع أنّه مسلّم عند الشارح ، ومسلّم عنده أيضا أنّ الحديث إذا كان متروك الظاهر لا يكون حجّة ، كما مرّ عنه في مسألة وجوب السورة (١).

مع أنّك عرفت في المسألة المذكورة أنّ الجمع بعد التقاوم ، ولا تقاوم بعد ملاحظة أنّ الصدوق رحمه‌الله قال : من دين الإماميّة الإقرار بعدم جواز القرآن ، والسيد رحمه‌الله جعله ممّا انفردت به الإمامية ، وفيهما شهادة على كون ذلك ممّا اشتهرت بين الشيعة لا أقلّ من ذلك ، وكون خلافه من العامّة ، وقد أمر الأئمّة عليه‌السلام في أخبار كثيرة غاية الكثرة بترك ما وافق العامّة والأخذ بما خالفهم ، وما اشتهر بين الشيعة ، وما وافق السنّة (٢) ، ولا شبهة في أنّ طريقة النبي والأئمّة عليه‌السلام بل الشيعة أيضا في الأعصار والأمصار عدم القران ، هذا.

مع أنّ العبادات توقيفية موقوفة على النقل ، والمنقول من فعلهم هو ما ذكرنا. وأمّا قولهم فقد وقع فيه التعارض ، وقد حكموا في تعارضه بما ذكرنا.

وعلى تقدير الشكّ لا يمكن الاكتفاء في الأمر التوقيفي ، لوجوب الإطاعة العرفية والبراءة اليقينية وعدم جواز الاكتفاء بمجرّد احتمال كون ذلك هو المكلّف به بعد اليقين بشغل الذمة.

مع أنّ ابن يقطين وزير الخليفة ، والتقيّة كانت في زمان الكاظم عليه‌السلام في غاية الشدّة ، فيترجّح من ذلك أيضا كون الرواية على سبيل التقيّة.

__________________

(١) المدارك ٣ : ٣٥١.

(٢) انظر الوسائل ٢٧ : ١٠٦ أبواب صفات القاضي ب ٩ ، والمستدرك ١٧ : ٣٠٢ أبواب صفات القاضي ب ٩.

٤٤

مضافا إلى أنّ ظاهرها ممّا أجمعت المتقدّمون والمتأخّرون من الشيعة على خلافه ، وقد أمروا عليه‌السلام بطرح مثل هذا الخبر يقينا ، وما أمر واحد منهم في موضع من المواضع بحمل مثله وتوجيهه.

وقد بسطنا الكلام في رسالة الجمع بين الأخبار (١) وغيرها ، وأظهرنا أنّ هذا الجمع وتقديمه على اعتبار المرجّحات من الأمور التي حدثت في زمان الشارح ومن بعده ، وإلاّ فمن القواعد المسلّمة عند المتقدّمين والمتأخّرين الثابتة من العقل والنقل على اليقين ملاحظة المرجّحات والمقوّمات أوّلا ، وجعل الراجح هو حكم الله تعالى ، والمرجحون إمّا مطروح أو مؤوّل بحيث يرجع إلى الراجح ، لأنّ الشك في كون حكم هو حكم الله تعالى لا يكفي في مقام الفتوى ، فكيف الوهم؟ لأنّ معناه أنّ الظاهر أنّه ليس حكم الله ، ( فكيف يجعل حكم الله؟ ) (٢) وقد مضى في بحث وجوب السورة ، وسيجي‌ء أيضا ما يزيد في البيان.

وممّا يضعّف التمسّك بهذه الصحيحة ويعيّن حملها على التقيّة : أنّها تتضمّن جواز التبعيض في السورة في الفريضة على كراهية ، وقد عرفت الكلام في التبعيض ، فتأمّل.

قوله : قال ابن إدريس. ( ٣ : ٣٥٥ ).

لا شبهة في فساد هذا ، إذ يلزم على هذا أنّ كلّ مكلّف يفعل فعلا على أنّه صلاة يكون ذلك الفعل صلاة صحيحة ، بل لا شبهة في أنّ الصحة تحتاج إلى دليل وثبوت من الشرع. وقوله : وأصحابنا. ، لا يخفى فساده بعد ما عرفت من النهاية والخلاف وغيرهما (٣) ، وأنّ مقتضى العبادة أن‌

__________________

(١) رسالة الجمع بين الأخبار ( الرسائل الأصولية ) : ٤٥١.

(٢) ما بين القوسين ليس في « ج » و « د ».

(٣) راجع ص ٤٢.

٤٥

تكون على الكيفية المنقولة والثابتة عنه ، فتدبر (١).

قوله : والجواب بالحمل على الكراهة جمعا بين الأدلة. ( ٣ : ٣٥٥ ).

لا يخفى أنّ الرواية الموثقة ليست بحجّة عند الشارح رحمه‌الله ، وعند من يقول بالحجّية لا تصح مقاومتها للصحيحة ، مع أنّ مضمونها الكراهة ، وليس المراد منها الكراهة الاصطلاحية عند من لا يقول بثبوت الحقيقة الشرعية كالشارح ، وأمّا عند من يقول بثبوتها فجمع منهم لا يقول بثبوتها في مثل الكراهة والسنّة ، مع أنّ الكراهة في الأخبار استعماله في المعنى الأعمّ كثير ، مع أنّ زرارة راوي هذا الحديث روى عن الصادق عليه‌السلام في القران ، أنّه قال : « لكلّ سورة حقّ فأعطها حقّها من الركوع والسجود » (٢).

وأمّا رواية ابن يقطين فقد عرفت الكلام فيها ، وفي الفقه الرضوي : إنّ القران غير جائز في الفريضة (٣).

والعيّاشي روى بإسناده ، عن المفضل بن صالح ، عن الصادق عليه‌السلام قال : « لا تجمع بين سورتين في ركعة إلاّ الضحى وألم نشرح ، وألم تر كيف ولإيلاف » ، روى عنه في مجمع البيان (٤).

وفي شرح مولانا الأردبيلي على الإرشاد : نقل عن كتاب الثقة الجليل أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي ، عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : « لا تجمع‌

__________________

(١) ليس في « أ » و « و ».

(٢) التهذيب ٢ : ٧٣ / ٢٦٨ ، الوسائل ٦ : ٥٠ أبواب القراءة في الصلاة ب ٨ ح ٣.

(٣) فقه الرضا عليه‌السلام : ١٢٥ ، مستدرك الوسائل ٤ : ١٦٣ أبواب القراءة في الصلاة ، ب ٦ ح ٥ ، بتفاوت.

(٤) مجمع البيان ٥ : ٥٤٣ ، ٥٤٤ ، الوسائل ٦ : ٥٥ أبواب القراءة في الصلاة ب ١٠ ح ٥.

٤٦

بين سورتين في ركعة واحدة إلاّ الضحى وألم نشرح ، والفيل ولإيلاف » (١).

وفي التهذيب بسنده المعتبر إلى ابن أبي يعفور عن الصادق عليه‌السلام قال : « لا بأس أن تجمع في النافلة من السور ما شئت » (٢).

وما رواه عن عمر بن يزيد قال : قلت للصادق عليه‌السلام : أقرأ سورتين في ركعة؟ قال : « نعم » ، قلت : أليس يقال : أعط كلّ سورة حقّها من الركوع والسجود؟ فقال : « ذلك في الفريضة » (٣). الحديث.

وروى الكليني والشيخ في الموثق ، عن عبيد بن زرارة أنّه سأل الصادق عليه‌السلام عن ذكر السورة من الكتاب ندعو بها في الصلاة مثل « قل هو الله أحد » فقال : « إذا كنت تدعو بها فلا بأس » (٤).

قوله : غير آت بالمأمور به على وجهه. ( ٣ : ٣٥٥ ).

فيه : أنّه من أين علم أنّ المكلّف حينئذ ممتثل وآت بالمطلوب؟ إلاّ أن يقول الشارح رحمه‌الله بأنّ الصلاة اسم لمجرّد الأركان ، فهو آت بالأركان والشرائط الثابتة.

وفيه : أنّه موقوف على ثبوت الحقيقة الشرعية ، أو أنّه من القرينة يعرف أنّ المراد مجرّد الأركان ، لأنّه إذا تعذّر الحقيقة اللغوية فالمعيّن هو الحقيقة عند المتشرعة ، لأنّها التي قد كثر استعمال الشارع فيها غاية الكثرة ، بخلاف معنى آخر مجازي.

__________________

(١) مجمع الفائدة ٢ : ٢٤٣.

(٢) التهذيب ٢ : ٧٣ / ٢٧٠ ، الوسائل ٦ : ٥١ أبواب القراءة في الصلاة ، ب ٨ ح ٧.

(٣) التهذيب ٢ : ٧٠ / ٢٥٧ ، الاستبصار ١ : ٣١٦ / ١١٧٩ ، الوسائل ٦ : ٥١ أبواب القراءة في الصلاة ب ٨ ح ٥.

(٤) الكافي ٣ : ٣٠٢ / ٤ ، التهذيب ٢ : ٣١٤ / ١٢٧٨ ، الوسائل ٦ : ٥٣ أبواب القراءة في الصلاة ب ٩ ح ١.

٤٧

وفيه : أنّ المتشرّعة عندهم نزاع في أنّ الصلاة اسم لخصوص الصحيحة أو مجرّد الأركان ، ومن أين يثبت حتى تثبت البراءة عن اشتغال الذمّة اليقيني؟ إلاّ أن يتمسّك بأصل البراءة ، وفيه أيضا : [ أنّه ] (١) على جريانه في العبادات خلاف ما يصرّح في بعض المقامات ، فتأمّل (٢).

قوله : في جواز القنوت ببعض الآيات. ( ٣ : ٣٥٦ ).

تدل عليه موثقة عبيد التي ذكرناها ، وحكاية فعل أمير المؤمنين عليه‌السلام مع ابن الكوّاء ، حيث قرأ له ( فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ ). (٣) مع أنّه عليه‌السلام لم يظهر لابن الكوّاء بطلان صلاته ، مع أنّه قرأ في صلاته ما قرأ تعريضا ، فتأمّل.

قوله : ونقل فيه الشيخ في الخلاف الإجماع. ( ٣ : ٣٥٦ ).

وكذا ابن زهرة ، فإنّه أيضا ادعى الإجماع (٤) ، وقال السيد رحمه‌الله : هو من وكيد السنن ، وغير ظاهر أنّ مراده من السنّة هو المعنى المصطلح عليه الآن ، بل مراده الطريقة الشرعية المقرّرة وغير بعيد هذا من السيد رحمه‌الله كما لا يخفى على من اطّلع على حاله. ويؤيّد ذلك أنّه قال بعد ذلك : حتى روي أنّ من تركها عامدا أعاد (٥) ، انتهى.

فإن قلت : [ هذا ] (٦) يؤيّد الاستحباب.

__________________

(١) ما بين المعقوفين أضفناه لاستقامة العبارة.

(٢) ليس في « ج » و « د ».

(٣) التهذيب ٣ : ٣٥ / ١٢٧ ، الاستبصار ١ : ٤٣٠ / ١٦٦١ ، الوسائل ٨ : ٣٦٧ أبواب صلاة الجماعة ب ٣٤ ح ٢ ، والآية في سورة الروم : ٦٠.

(٤) الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٥٥٨.

(٥) حكاه عنه في المعتبر ٢ : ١٧٦.

(٦) ما بين المعقوفين أضفناه لاستقامة المعنى.

٤٨

قلت : لا نسلّم ، لأنّهم ربما يقولون بالوجوب أو الحرمة ، ومع ذلك يحكمون بصحة الصلاة ، كما عرفت في وجوب السورة وحرمة القرآن بين السورتين.

وبالجملة : بعد دعوى الفاضلين الجليلين الإجماع لا يثبت مخالفة المرتضى رحمه‌الله لما ادّعيا ، فتأمّل.

والعلاّمة نسب القول بالاستحباب في المنتهى إلى ابن الجنيد ، ثم قال : وهو مذهب الجمهور كافّة (١) ، قال ذلك بعد ما نقل عن السيّد ما ذكرنا ، وهذا ينادي بأنّه لم يفهم من كلام السيد الاستحباب ، بل إمّا فهم خلافه أو متردّد فيه ، كما لا يخفى.

وابن إدريس رحمه‌الله قال : لا خلاف بيننا في أنّ الإخفاتية لا يجوز الجهر فيها بالقراءة (٢) ، وفي موضع آخر نقل الخلاف عن السيد في وجوب الجهر في ما يجب الجهر فيه (٣) ، فلعلّه أيضا توهّم منه ، فتأمّل. وسيجي‌ء في مسألة الجهر بالبسملة ما يؤكّد ويؤيّد وجوب الجهر والإخفات ، وكونه إجماعيا (٤) ، فلاحظ.

قوله : وجه الدلالة. ( ٣ : ٣٥٧ ).

ليس الدلالة منحصرة في ما ذكره ، مع أنّه أيضا تامّ بالضاد المعجمة يكون أو بالمهملة ، كما ستعرف ، مع أنّ المعجمة أظهر ، كما هو عند الفقهاء ، ولذا سلّمه الشارح رحمه‌الله ، وإنّما قلنا غير منحصرة ، لأنّ في‌

__________________

(١) المنتهى ١ : ٢٢٧.

(٢) السرائر ١ : ٢١٨.

(٣) السرائر ١ : ٢٢٣.

(٤) انظر المدارك ٣ : ٣٥٩ ، ويأتي في ص ٦٠.

٤٩

الرواية تتمّة أسقطها الشارح ، وهي قول الراوي ـ بعد قوله : في ما لا ينبغي الإخفات فيه ـ : وترك القراءة في ما ينبغي القراءة فيه ، أو قرأ في ما لا ينبغي القراءة فيه ، فأجاب عليه‌السلام : ( « أيّ ذلك. » ، إشارة إلى الجميع ، فجعل المعصوم عليه‌السلام ) (١) حكم الكلّ واحدا من دون تفاوت أصلا ، ومن ( ضروريات المذهب بل ) (٢) ضروريات الدين أنّ ترك القراءة عمدا مبطل للصلاة.

وأمّا فعلها في موضع لا ينبغي فمثل قراءة السورة في الركعة الثالثة والرابعة وخلف الإمام في الإخفاتية ، أو القران بين السورتين ، وأمثال ذلك ، ويمكن أن يكون المراد أيضا فعلها بقصد أنّها وظيفة شرعية في أيّ موضع كان ، فالظاهر البطلان من جهته أيضا ، لما مرّ وجهه مرارا ، والظاهر من الرواية هو هذا العموم ، وهذه الرواية في غاية الصحة.

ويحتمل أن يكون ما نقل الشارح رحمه‌الله غير هذه الصحيحة ، إذ وردت صحيحة أخرى لزرارة بمضمون ما ذكره الشارح (٣) ، لكن لا وجه لاقتصاره عليها ، بل كان عليه الاستدلال بهما جميعا.

ففي الصحيح خمس دلالات على المطلوب ، كلّ واحدة منها تامّة لا غبار عليها ، دلالتان ذكرهما الشارح ، ودلالة ذكرناها ، ودلالتان من قوله عليه‌السلام : عليه ، الدال على اللزوم المذكور في المنطوق ، والمفهوم يستدل الشارح وغيره دائما به على الوجوب ، فإذا كان واحدة منها تكفي فكيف مع اجتماع الكلّ؟!

__________________

(١) ما بين القوسين ليس في « ب » و « ج » و « د ».

(٢) ما بين القوسين ليس في « أ » و « و ».

(٣) التهذيب ٢ : ١٤٧ / ٥٧٧ ، الوسائل ٦ : ٨٦ أبواب القراءة في الصلاة ب ٢٦ ح ٢.

٥٠

مضافا إلى فهم الفقهاء ، ( وفتواهم إلاّ من شذّ ، سيّما مع الموافقة للإجماعات المنقولة التي كلّ واحد حجّة مستقلّة ، فضلا عن المجموع ، وخصوصا مع الموافقة للسنّة وفعل النبي والأئمّة عليه‌السلام والفقهاء ) (١) في الأعصار والأمصار ، وما ورد من وجوب المتابعة (٢) ، وكذا الأوامر الواردة في الأخبار الصحيحة (٣) مع تعدّدها بيّن الصحيحتين ونقلهما في الكتب المعتبرة ، مع المخالفة للعامّة والموافقة للكتاب ـ كما ستعرف ـ وللمشتهر بين الرواة والأصحاب ، إلى غير ذلك ممّا سنذكر.

فمع جميع ذلك كيف صارت صحيحة علي بن جعفر أظهر دلالة ، سيّما مع ما ستعرف من فساد دلالتها؟! وعلى تقدير الصحة تكون محمولة على التقية البتّة ، كما ستعرف ، بل مع الاحتمال أيضا كيف تكون أرجح؟! فتأمّل جدّا.

قوله (٤) : بالضاد المعجمة. ( ٣ : ٣٥٧ ).

لا يخفى أنّ الاستدلال لا يتوقّف على هذا ، بل لو كان بالمهملة يكون دالاّ أيضا ، لأنّ نقص الصلاة معناه أنّه ما أتى بالمأمور به بتمامه ، بل بقي بعض منه ما أتى به ، وليس معناه نقص الثواب وأمثاله ، لأنّه معنى مجازي بلا شبهة.

قوله : كما قرّر في محلّه. ( ٣ : ٣٥٧ ).

المقرّر في محلّه ليس هذا محلّه ، إنّما هو إذا فعلوا فعلا ابتداء وأوّلا ،

__________________

(١) ما بين القوسين ليس في « ا ».

(٢) انظر عوالي اللآلئ ١ : ١٩٧ / ٨ ، سنن الدار قطني ١ : ٣٤٦ / ١٠.

(٣) انظر الوسائل ٦ : ٨٢ أبواب القراءة في الصلاة ب ٢٥.

(٤) هذه التعليقة ليست في « ج » و « د ».

٥١

لا أن يفعلوا هيئة العبادة التوقيفية التي هي وظيفة الشرع ولا طريق إلى معرفتها إلاّ بنص الشارع أو فعله ، وحيث أنتفى الأوّل يتعيّن الثاني ، فلا بدّ من الاقتصار على متابعة فعلهم عليه‌السلام حتى يثبت عدم الوجوب ، واعترف الشارح بهذا مرارا ، منه في قطع همزة « الله أكبر » ، وسيعترف كثيرا (١) ، ووجهه أيضا واضح.

إلاّ أن يتمسّك بأصل العدم ، فمع أنّه مخالف لطريقته في أكثر المواضع موقوف على ثبوت العبادة به ، وهو محلّ تأمّل ، كما قرّر في محلّه.

مع أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « صلّوا كما رأيتموني أصلّي » (٢) ، وورد أيضا : أنّ كل خبر خالف السنّة وطريقة الرسول يجب ردّه ، وكلّما وافقها يجب الأخذ به (٣) ، وأيضا الظاهر من الأئمّة عليه‌السلام أيضا التزامهم بذلك ، والطريقة في الأعصار والأمصار بين الفقهاء كذلك ، حتى أنّهم كانوا يسألون عن الجهر في صلاة الصبح مع كونها من النهارية فيجابون بما أجيبوا (٤) ، إلى غير ذلك ممّا سنذكره وغيره.

قوله : وهو شامل للصلوات كلّها. ( ٣ : ٣٥٧ ).

فيه : أنّ الأمر حقيقة في الوجوب ، فتكون الآية حجّة على القائل بالاستحباب ، لا أنّها حجّة له. وعلى تقدير أن يكون المراد من الأمر الاستحباب ، فيكون المراد على ما ذكر استحباب القراءة المتوسطة التي‌

__________________

(١) المدارك ٣ : ٣١٩.

(٢) عوالي اللآلئ ١ : ١٩٧ / ٨ ، سنن الدار قطني ١ : ٣٤٦ / ١٠.

(٣) انظر الوسائل ٢٧ : ١٠٦ أبواب صفات القاضي ب ٩.

(٤) الفقيه ١ : ٢٠٣ / ٩٢٦ ، الوسائل ٦ : ٨٤ أبواب القراءة في الصلاة ب ٢٥ ح ٣.

٥٢

تشمل جميع الصلوات ، وهذا أيضا يضرّ القائل بالاستحباب ، لأنّ المستحبّ عنده أن يكون بعض الصلاة جهريّة وبعض الصلاة إخفاتيّة ، لا أن يكون بين الصلوات تفاوتا في الجهر والإخفات البتّة ، فالآية على ما قرّره تكون متروكة الظاهر بالإجماع والاتفاق حتى من الشارح.

وإن أراد أن المراد من الوسط الوسط من الجهر في ما يجهر والوسط من الإخفات في ما يخافت ، فالآية لا تكون حجّة له ولا حجّة على القائل بالوجوب ، ولا نفع ولا ضرر فيها أصلا لشي‌ء من المذهبين.

وبالجملة : لا نزاع في كون الإخفات الذي يقصر عن السماع حراما ومفسدا للصلاة ، وأنّ الجهر العالي منهيّ عنه ، وأنّ المطلوب عدم هذا وعدم ذاك ، وكذا لا نزاع في كون الجهر والإخفات في موضعيهما مطلوبين شرعا من دون شائبة تأمّل ، إنّما النزاع في الوجوب والاستحباب ، فما أدري أنّ مراد الشارح من الاستدلال ما ذا؟ وبالجملة : استدلاله عجيب ، فتأمّل جدّا.

قوله : وهو تحكّم من الشيخ. ( ٣ : ٣٥٨ ).

هذا منه ومن الشارح رحمه‌الله في غاية الغرابة ، إذ جلّ المواضع التي يحمل لأجله على التقيّة ـ بل كلّها ـ ليست ممّا اتفقت عليه الأصحاب. على أنّه لو كان ممّا اتفقوا عليه لكان مجمعا عليه عندهم على ما هو الظاهر من طريقتهم ، فلا حاجة فيه إلى التمسّك بالخبر ، فضلا عن الحمل على التقيّة لأن يصح الفتوى والعمل.

ولو لم يكن إجماعا عندهم يكون الخبر المعمول به عند الجميع حجّة بلا شبهة ، ومعارضة يكون من الشواذّ التي لا عمل عليها عندهم ويجب طرحها بلا شبهة ، من دون توقّف على التمسّك بموافقته للعامّة ، إذ‌

٥٣

الشذوذ علّة لطرح الخبر ، والتقيّة علّة أخرى ، بل الشذوذ موجب لطرح الخبر على أيّ حال بخلاف الموافقة للعامّة ، إذ الموافق لهم ربما يعمل به ويفتي من جهة موافقته للكتاب والسنّة وغيرهما ، إذا كان أقوى من الموافقية لهم ، كما حقّق في محلّه ، وبالجملة : المدار على ما هو أقوى وأحرى ، ومن جهة اجتماع المرجّحات أو القرائن للمرجّح في خصوص المقام.

على أنّه على تقدير أن لا يكون متفقا عليه بل يكون القائل به هو المشهور وجلّ الفقهاء فهو أيضا راجح من جهة الشهرة بين الأصحاب ، لأنّها من المرجّحات المستقلّة من دون حاجة إلى انضمامها إلى المخالفة للعامة ، بل هي علّة للعمل وطرح المعارض ، والمخالفة للعامّة علّة أخرى ، كلّ واحدة منهما علّتان مستقلّتان ، فإذا تحقّق الشهرة فلا حاجة إلى ضمّ المخالفة ، نعم يكون من المقوّمات والمؤيّدات.

مع أنّه لم يظهر في المقام قائل بالاستحباب سوى ابن الجنيد ، وهو رحمه‌الله في أمثال المقام موافق للعامّة ، وطريقته طريقة العامّة ، مثل قوله بحجيّة القياس ونقض الوضوء ببعض الأشياء التي يقول به العامّة ، وأمثال ذلك ممّا لا يحصى ، ولا يعتني بخلافه أحد ، بل يحكمون بأنّ الأخبار الدالة عليها محمولة على التقيّة بلا شبهة ، بل وإن انضمّ إلى قوله قول بعض آخر ، مثل مسّ باطن الدبر في نقض الوضوء (١) وغير ذلك.

والحاصل : أنّ علّة الحمل على التقيّة في مقام التعارض ليست إلاّ كون العامّة يقولون بمضمونه ، بل لا يجب أن يكون الكلّ قائلين به ، بل‌

__________________

(١) انظر الفقيه ١ : ٣٩ ، والمعتبر ١ : ١١٣.

٥٤

العامّة الذين كانوا في عصر صدور الرواية ، بل لا يجب أن يكون كلّهم يقولون به ، بل المشهور منهم في ذلك العصر ، بل لا يجب أن يكون كلّهم ، بل المشهور منهم في بلد الراوي أو المعصوم عليه‌السلام ، بل لا يجب أن يكون كلّهم ، بل المتسلّط منهم أو الحاكم منهم ، كما حقّق في محلّه ، ودل عليه العقل والنقل ، ولم يشترط أحد من الفقهاء في أصول الفقه وفروعه وكتب الاستدلال ما ذكراه ، بل [ هو ] (١) خلاف ما ذكره الكلّ ، وخلاف ما دل عليه العقل والنقل ، وخلاف طريقة كلّ الفقهاء حتى المحقق والشارح ، وخلاف طريقة الشيعة في الأعصار السابقة في زمن الأئمّة عليه‌السلام : إنّهم متى رأوا ما يشبه طريقة العامّة قالوا : أعطاك من جراب النورة (٢) ، والأئمّة عليه‌السلام كانوا يقولون بترك ما يشبه قول العامّة ، ويقولون : « الرشد في خلافهم » (٣) وإن لم يتحقّق مذهب في تلك المسألة بين الشيعة ، كما لا يخفى على من لاحظ الأخبار ، ولم يأمروا قطّ بالجمع بين إخبارهم المتعارضة بالحمل والتأويل ، فما ذكراه خلاف قول المعصوم من جهتين : عدم الحمل ، والبناء على اعتبار الموافقة للعامّة.

وممّا يؤيّد رواية زرارة : أنّه ورد عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : « أصحاب أبي كانوا يأتونه ويفتيهم بمرّ الحق ، ويأتوني شكّاكا فأفتيهم بالتقيّة » (٤) ، بل‌

__________________

(١) أضفناه لاستقامة العبارة.

(٢) كمال الدين : ٣٦١ ، التهذيب ٩ : ٣٣٢ / ١١٩٥ ، الاستبصار ٤ : ١٧٤ / ٦٥٧ ، الوسائل ٢٦ : ٢٣٨ أبواب ميراث ولاء العتق ب ٢ ح ١٦ الضعفاء الكبير للعقيلي ٢ : ٩٧.

(٣) الوسائل ٢٧ : ١٠٦ أبواب صفات القاضي ب ٩.

(٤) التهذيب ٢ : ١٣٥ / ٥٢٦ ، الاستبصار ١ : ٢٨٥ / ١٠٤٣ ، الوسائل ٤ : ٢٦٤ أبواب المواقيت ب ٥٠ ح ٢ ، بتفاوت.

٥٥

صدر هذا المضمون منه عليه‌السلام في غير واحد من الأخبار. مع أنّ بالاستقراء يظهر أنّ الأمر كما ذكره عليه‌السلام ، إذ ندر ما كان خبره موافقا للتقيّة إن كان.

وأيضا كان الباقر عليه‌السلام لا يتقي من العامّة من جهة أنّ جابرا الأنصاري كان يصل إلى خدمته مكرّرا بعنوان الإخلاص ، وكان العامّة يقولون : إنّه يأخذ الحكم عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بواسطة جابر. والسبب الآخر أنّ جابرا كان مأمورا من قبل الرسول بإبلاغ السلام إليه وقوله : « إنّه يبقر علم الدين بقرا » (١). وكان هذا ظاهرا على العامّة غاية الظهور. والسبب الآخر أنّ بني أميّة وبني العباس كانوا مشغولين بأنفسهم ، ومن هذا ارتفعت التقيّة في ذلك الزمان بالمرّة ، بخلاف زمان الكاظم عليه‌السلام فإنّه كان في غاية الشدّة من التقيّة.

وممّا يؤيّد أيضا أنّ التقيّة تظهر لنا من قول فقهائنا القدماء ، كسائر المرجّحات مثل العدالة والأعدلية والشهرة بين الأصحاب و [ الشذوذ ] (٢) وغير ذلك ، والقدماء (٣) صرّحوا بأنّ هذا الخبر موافق للعامّة ، ولسنا نعمل به ، كما قال الشيخ في كتابيه وغيره ( ووافقه غيره حتى من المتأخّرين أيضا ، وقال العلاّمة قال ) (٤) مع أنّ الشيخ هو الذي روى هذه الرواية ولم يروها غيره ، وهو أعرف بحال ما خرج من يده ، فتدبّر (٥).

__________________

(١) رجال الكشي ١ : ٢١٨ ، إرشاد المفيد ٢ : ١٥٩ ، مناقب آل أبي طالب ٤ : ١٩٧ بحار الأنوار ٤٦ : ٢٢٢ / ٦ ، وفي « ا » : يبقر العلم بقرا.

(٢) بدل ما بين المعقوفين في النسخ : الشدّة ، والأنسب ما أثبتناه.

(٣) في « أ » و « و » زيادة : ما.

(٤) التهذيب ٢ : ١٦٢ ، الاستبصار ١ : ٣١٣ ، وانظر الذكرى : ١٨٩ ، والحبل المتين : ٢٢٩ ، والمفاتيح ١ : ١٣٣ ، وكشف اللثام ١ : ٢١٦ ، وراجع ص ٤٨ ـ ٤٩ ، وما بين القوسين ليس في « ب » و « ج » و « د ».

(٥) في « ب » و « ج » و « د » زيادة : مع أنّه مرّ عن العلاّمة أنّ الاستحباب مذهب الجمهور كافّة.

٥٦

ومن المرجّحات أنّ الراوي زرارة ، وورد فيه : « أنّ أحدا ليس بأصدع بالحقّ منه » (١) وورد فيه وفي نظرائه : « أنّهم حفّاظ دين الله وأمناء في حلال الله وحرامه ، لولا هؤلاء لاندرست آثار النبوّة ، وأنّه إذا أراد بأهل الأرض سوءا صرف بهم ، [ هم ] نجوم شيعتي ، بهم يكشف الله كلّ بدعة ، ينفون عن هذا الدين انتحال المبطلين وتأويل الغالين » (٢) إلى غير ذلك من أمثال ما ذكر. مع اشتهار أصله عند الشيعة كالشمس ، وخصوصا هذا الحديث ، لما عرفت من الاشتهار التامّ والإجماعات المنقولة ، لو لم يكن هنا إجماع يقيني ، مع أنّ الظاهر ذلك ، فتأمّل ، ومرّ أنّ فعل الرسول يجب اتباعه في المقام وما يخالف السنّة وطريقته يجب طرحه ، إلى غير ذلك.

قوله : لأنّ الثانية أوضح سندا وأظهر دلالة. ( ٣ : ٣٥٨ ).

هذا أيضا فاسد ، لأنّ رواية زرارة رواها الشيخ رحمه‌الله بطريق صحيح ( في التهذيب وبطريق صحيح ) (٣) في الاستبصار مفتيا في كلّ واحد من كتابيه بمضمون هذه الصحيحة ، والصدوق أيضا رواها بطريق صحيح مفتيا بمضمونه ، والطريق في غاية الصحّة ، ويعضد هذه الصحيحة صحيحة أخرى رواها عن زرارة عن الباقر عليه‌السلام ذكرناها (٤).

ويعضدها أيضا : ما رواه في الكافي في الصحيح أنّه سئل الصادق عليه‌السلام عن القراءة خلف الإمام ، فقال : « أمّا الصّلاة التي لا يجهر فيها بالقراءة فذلك‌

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٦ / ١٠ ، الاستبصار ١ : ٢١٩ / ٧٧٦ ، رجال الكشي ١ : ٣٥٥ ، الوسائل ٤ : ٦٠ أبواب أعداد الفرائض ب ١٤ ح ٥.

(٢) رجال الكشي ١ : ١٣٦ ، ١٣٧ ، ٣٩٨ ، الوسائل ٢٧ : ١٤٢ ـ ١٤٥ أبواب صفات القاضي ب ١١ ح ١٤ ، ٢١ ، ٢٥ ، وما بين المعقوفين أضفناه من المصدر.

(٣) ما بين القوسين ليس في « ج » و « د ».

(٤) راجع ص ٥٠.

٥٧

جعل إليه فلا تقرأ خلفه ، وأمّا التي يجهر فيها فإنّما أمر بالجهر لينصت من خلفه (١). الحديث.

ويعضدها أيضا : ما ورد في غير هذه الصحيحة من الأخبار الكثيرة من لفظ « تجهر » فيها و « لا تجهر » (٢) الظاهر في الاستمرار شرعا الظاهر في كون المقرّر كذلك في الشرع.

ويعضدها أيضا : أنّ الصدوق روى في الفقيه ـ مع ضمانه صحّة جميع ما يروي فيه ـ عن الفضل ، عن الرضا عليه‌السلام : العلّة التي جعل من أجلها الجهر في بعض الصلوات دون بعض أنّ الصلاة التي يجهر إنّما هي في أوقات مظلمة فوجب ان يجهر فيها ليعلم المار أنّ هناك جماعة (٣). وفي الفقيه أيضا عن الصادق عليه‌السلام بطريقه إليه : علّة الجهر في صلاة الجمعة والمغرب والعشاء والفجر أنّ الله تعالى أمر نبيّه بالإجهار فيها لكذا وكذا (٤) ، فتأمّل.

هذا مضافا إلى أنّ هذه الصحيحة والصحيحة الأخرى أفتى بمضمونها جميع الأصحاب سوى شاذّ منهم على النهج الذي ذكرنا في الحاشية السابقة ، بل ذكرنا في صدر المسألة الإجماع على مضمونها ، كما نقل الشارح رحمه‌الله الإجماع كذلك ، إلى غير ذلك ممّا مرّ في الحاشيتين ، مضافا إلى ما ورد في الأخبار ، وأنّ زرارة كان أصدع بالحقّ من غيره ، وأنّه لولاه لاندرست آثار النبوة ، إلى غير ذلك ممّا ظهر من الرجال.

__________________

(١) الكافي ٣ : ٣٧٧ / ١ ، الوسائل ٨ : ٣٥٦ أبواب صلاة الجماعة ب ٣١ ح ٥.

(٢) انظر الوسائل ٨ : ٣٥٥ أبواب صلاة الجماعة ب ٣١.

(٣) الفقيه ١ : ٢٠٤ / ٩٢٧ ، الوسائل ٦ : ٨٢ أبواب القراءة في الصلاة ب ٢٥ ح ١.

(٤) الفقيه ١ : ٢٠٢ / ٩٢٥ ، الوسائل ٦ : ٨٣ أبواب القراءة في الصلاة ب ٢٥ ح ٢.

٥٨

وأمّا صحيحة علي بن جعفر فلم يروها غير الشيخ ، وهو أعرف بحالها من الشارح وغيره البتّة ، ولم يفت بها بل صرّح بأنّها واردة في مقام التقيّة ( ولم يفت بها غيره أيضا ، لعدم روايتهم إيّاها ، بل من قال بعدم الوجوب صرّح بأنّه مستحبّ مؤكّد ، وهذه ينفي الاستحباب أيضا بظاهرها ) (١).

وأمّا كونها أظهر دلالة ففاسد أيضا ، لأنّ ظاهرها عدم رجحان الجهر في ما يجهر فيه أصلا ورأسا ، وهذا مخالف للإجماع من الكلّ ، وهذا مضعّف للدلالة بالبديهة ، للاحتياج إلى التأويل ، والمؤوّل ليس بحجّة ، مع كونه مذهب العامّة ، بل الحجّة إنّما هو الظاهر والظاهر متروك ، مضافا إلى ما في متنها من الاختلاف والتشويش ، كما لا يخفى على من لا حظ الكتابين ، فتأمّل ، ومرّ عن الشارح رحمه‌الله أنّ الحديث الذي ظاهره متروك لا يكون حجّة (٢).

وأمّا الاعتضاد بالأصل ـ فمع أنّه محلّ نزاع ، إذ قال بعض الأصحاب : إنّه سبب للمرجوحيّة (٣) كما ذكر في محلّه ـ معلوم أنّ الأصل ( لا يجري في العبادات ، ومع ذلك ) (٤) لا يقاوم الدليل والمرجّحات الشرعية ، وإلاّ لينسدّ باب الفقه بالمرّة ، كما لا يخفى.

مع أنّ اشتغال الذمّة اليقيني مستصحب شرعا حتى يثبت خلافه وحتى يتحقّق عرفا إطاعته ، ولا يثبت (٥) الخلاف في العبادات التوقيفية إلاّ‌

__________________

(١) ما بين القوسين ليس في « ج » و « د ».

(٢) المدارك ٣ : ٣٥١.

(٣) انظر مبادئ الوصول : ٢٣٧.

(٤) ما بين القوسين ليس في « ب » و « ج » و « د ».

(٥) في « ا » زيادة : دلائل.

٥٩

أن يراعى الجهر والإخفات ، كما مرّ عن الشارح نظائره.

وأمّا قوله : وظاهر القرآن ، ففيه ما عرفت من أنّه لو لم يضرّه لم ينفعه.

على أنّ الظاهر من القرآن حرمة الجهر من حيث إنّه جهر ، وكذا الإخفات من حيث إنّه إخفات ، ولفظ : ( صلاتك ) مطلق لا عموم فيه بحسب اللفظ ، بل مقتضى ما هو بحسب اللفظ الصلاة في الجملة ، فلا يخرج من جهته ما هو مقتضى لفظ ( لا تَجْهَرْ ) و ( لا تُخافِتْ ) ( خصوصا بعد ملاحظ فعل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) (١) فظاهر الآية من مؤيّدات روايتي زرارة ومبعّدات رواية علي بن جعفر ، كما لا يخفى ، سيّما مع ظهورها من قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفعله وفعل الأئمة عليه‌السلام.

قوله : لا يجب عليهنّ الجهر في موضع الجهر. ( ٣ : ٣٥٨ ).

تخصيص عدم الوجوب بالجهر ربما يشعر بأنّ الإخفات ليس كذلك ، وأنّه واجب عليهنّ في الموضع الذي يجب على الرجل ، ولا دليل على هذا ، والأصل براءة ذمّتها ، وهو مقتضى الإطلاقات والعمومات ، وما دل على وجوب مراعاة الإخفات مختصّ بالرجل ، ويدل على وجوب مراعاة الجهر أيضا من دون تفاوت أصلا.

وقال مولانا المقدّس الأردبيلي : لا دليل على وجوب الإخفات عليها (٢). وفي الذخيرة : ربما أشعر بعض العبارات بثبوت التخيير لها (٣) ، والظاهر أنّ الأمر كذلك ، وإن كان الأحوط إخفاتها في الظهرين وأخيرتي‌

__________________

(١) ما بين القوسين أثبتناه من « و ».

(٢) مجمع الفائدة ٢ : ٢٢٨.

(٣) الذخيرة : ٢٧٥.

٦٠