السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات دليل ما
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣١
٣ ـ نصوص ثابتة يجب أن تقرأ بإمعان :
والآن سنقرأ من النصوص الثابتة ما يدحض معاذير علماء التبرير التي ساقوها ، ايغالاً في التحوير والتزوير ، ليخفوا حقائق الأمر الواقع ، ستراً على الشخوص والرموز ، وانصياعاً مع قداسة الموروث.
وقد يكون الكثير من القرّاء خصوصاً من لا يزال تحت ضغط الرواسب ، لم يطلع عليها من قبل ، أو اطّلع عليها فشك في صحتها ، وتمادى به الشك حتى أنكرها وولّى عنها مستكبراً ، وتحامل بظلم على أصحابه فرماهم بالعظائم مما هم بريئون منه ، وأدنى ما قال فيهم أنهم من الشيعة ، أو رواتهم من الشيعة ، أو ، أو ، كما مرّ في وقفة مع المصادر ، وكأنّه لم يقرأ ولم يسمع قوله تعالى : ( أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَىٰ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) (١).
لذلك فسوف نقرأ النصوص من مصادر موثوقة جميعها من التراث السني ، لما قدمناه أول الرسالة وكررنا ذكره ، انّ ذلك أبلغ في اقناع المنكرين ، وأدحض لحجة المستنكرين ، وأبعد من تهمة المعاندين المستكبرين ، فإذا كان كل ما سنقرأ بروايات أئمة حفاظهم من المحدّثين والمؤرّخين ، كذباً على أبي بكر وبقية رموز المشايعين والمتابعين ، فما ذنب الذين يحتجون عليهم بمروياتهم ، وهم أصحاب التراث السني الكبير الكثير ؟
_____________________
١ ـ يونس : ٣٥.
والآن لنقرأ حديث أبي بكر مع عبد الرحمن بن عوف في مرضه الذي مات فيه ، وما لحقه من ايهام واستبهام مما ينصب أكثر من علامة استفهام ، فليقرأه أبناء الإسلام.
في إعتراف أبي بكر كشف خطير :
أخرج الطبري في تاريخه (١) ، وابن عبد ربه المالكي الأندلسي في كتابه العقد الفريد (٢) ، وغيرهما كالجوهري والطبراني ممّن يمكن الرجوع إليهم لغرض المقارنة والتأكيد على صحة جوهر النص ؛ لأن التفاوت في المنقول قد يوحي بالشك في صحة المنقول ، ولمّا كانت رواية الطبري وابن عبد ربه أوفى سنداً من رواية غيرهما ، فعنهما نذكر النص ، وهو كما يلي :
قال الطبري : حدّثنا يونس بن عبد الأعلى ، قال : حدّثنا يحيى بن عبد الله بن بكير ، قال : حدّثنا الليث بن سعد ... ، وقال ابن عبد ربه : قال أبو صالح : أخبرنا محمد بن وضاح ، قال : حدّثني محمد بن ... بن المهاجر التميمي ، قال حدّثني الليث بن سعد (٣) قال : حدّثنا علوان ، عن صالح بن كيسان ، عن عمر (٤) بن عبد الرحمن بن عوف ، عن أبيه أنّه دخل على أبي بكر في مرضه الذي توفي فيه ، فأصابه مهتمّاً (٥) فقال له عبد الرحمن : أصبحت والحمد لله بارئاً ! فقال أبو بكر :
_____________________
١ ـ تاريخ الطبري ٣ : ٤٢٩ ـ ٤٣١.
٢ ـ العقد الفريد ٤ : ٢٦٧.
٣ ـ من هنا يتفق سند الطبري مع سند ابن عبد ربه ، فنسوق الخبر برواية الطبري , ونشير إلى الإختلاف بين الروايتين سنداً ومتناً.
٤ ـ كذا في الطبري وفي العقد الفريد : عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف ، وسيأتي ذكره في أحد اسنادين آخرين في آخر الخبر عند الطبري.
٥ ـ في العقد : ( مفيقاً ).
أتراه ؟ قال : نعم ، قال : ( أما إنّي على ذلك لشديد الوجع ، ولما لقيت منكم يا معشر المهاجرين أشد عليّ من وجعي ) (١).
إنّي وليت أمركم خيركم في نفسي ، فكلكم ورم أنفه من ذلك ، يريد أن يكون الأمر له دونه ، ورأيتم الدنيا قد أقبلت ولمّا تقبل ، وهي مقبلة ، حتى تتخذوا ستور الحرير ونضائد الديباج ، وتألموا الاضطجاع على الصوف الأذري (٢) كما يألم أحدكم أن ينام على حسك ( شوك السعدان ) والله لأن يُقدّم أحدكم فتضرب عنقه في غير حدّ خير له من أن يخوض في غمرة الدنيا ، وأنتم أول ضالّ بالناس غداً ، فتصدونهم عن الطريق يميناً وشمالاً ، يا هادي الطريق إنّما هو الفجر أو البجر (٣).
فقلت له : خفض عليك رحمك الله ، فإنّ هذا يهيضك في أمرك ، إنّما الناس في أمرك بين رجلين : إما رجل رأى ما رأيت فهو معك ، وإما رجل خالفك فهو مشير عليك ، وصاحبك كما تحب ، ولا نعلمك أردت إلّا خيراً ، ولم تزل صالحاً مصلحاً ، وأنّك لا تأسى على شيء من الدنيا.
قال أبو بكر : أجل ، إنّي لا آسى على شيء من الدنيا إلّا على ثلاث فعلتهنّ وددت أنّي تركتهنّ ، وثلاث تركتهنّ وددت أنّي فعلتهنّ ، وثلاث وددت أنّي سألت عنهنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
فأمّا الثلاث اللاتي وددت أنّي تركتهنّ : فوددت أنّي لم أكشف بيت فاطمة عن شيء ، وإن كانوا قد غلقوه على حرب ، ووددت أنّي لم أكن حرقت الفجاءة السُلمي (٤) ، وانّي كنت قتلته سريحاً أو خلّيته نجيحاً (١) ، ووددت أنّي يوم سقيفة بني
_____________________
١ ـ ما بين القوسين من العقد الفريد.
٢ ـ نسبة إلى آذربيجان.
٣ ـ البجر ـ بالفتح والضم ـ الداهية والأمر العظيم .
٤
ـ كان قد أتى أبا بكر فادعى الإسلام ، وطلب إليه مشاركته في جهاد المرتدين وأن
يحمله ، فحمله =
ساعدة كنت قذفت الأمر في عنق أحد الرجلين ـ يريد عمر وأبا عبيدة ـ فكان أحدهما أميراً وكنت وزيراً.
وأما اللاتي تركتهنّ : فوددت أنّي يوم أتيت بالأشعث بن قيس أسيراً كنت ضربت عنقه ، فإنّه تخيل إليّ أنّه لا يرى شراً إلّا أعان عليه ، ووددت أنّي حين سيّرت خالد بن الوليد إلى أهل الردة كنت أقمت بذي القصة (٢) ، فإن ظفر المسلمون ظفروا ، وإن هربوا كنت بصدد لقاء أو مدداً.
ووددت أنّي كنت إذ وجّهت خالد بن الوليد إلى الشام ، كنت وجهت عمر بن الخطاب إلى العراق ، فكنت قد بسطت يديّ كلتيهما في سبيل الله ـ ومدّ يديه ـ ، ووددت أنّي كنت سألت رسول الله صلىاللهعليهوسلم لمن هذا الأمر ؟ فلا ينازعه أحد ، ووددت أنّي كنت سألته هل للأنصار في هذا الأمر نصيب ؟ ووددت أنّي كنت سألته عن ميراث ابنة الأخ والعمة ؟ فإنّ في نفسي منهما شيئاً.
قال لي يونس : قال لنا يحيى : ثم قدم علينا عُلوان بعد وفاة الليث ، فسألته عن هذا الحديث فحدّثني به كما حدّثني الليث بن سعد حرفاً حرفاً ، وأخبرني أنّه هو حدّث به الليث بن سعد ، وسألته عن أبيه ، فأخبرني أنّه علوان بن داود.
_____________________
= وأعطاه سلاحاً فشد غارة على كل مسلم ، ولمّا أمكنت الفرصة منه وجيىء به إلى أبي بكر أمر فأوقدوا ناراً ثم أمر به فرموه مقموطاً فيها. وقول أبي بكر : كنت قتلته سريحاً أو خلّيته نجيحاً.
١ ـ القتل السريح : السريع ، والنجيح : الوشيك.
٢ ـ موضع بينه وبين المدينة أربعة وعشرون ميلاً ، وبه نزل أبو بكر في خلافته لما وجّه خالد بن الوليد لقتال أهل الردة ( معجم البلدان ). وقال عبد الله الليثي : ـ وكانت بنو عبد مناة من المرتدة ـ وهم بنو ذبيان ـ في ذلك الأمر بذي القصة وبذي حمى :
أطعنا رسول الله ما كان بيننا |
|
فيالعباد الله ما لأبي بكر |
أيورثها بكراً إذا مات بعده |
|
وتلك لعمر الله قاصمة الظهر |
فهلا رددتم وفدنا بزمانه |
|
وهلاً خشيتم حس راغية البكر |
وإن التي سالوكم فمنعتمُ |
|
لكالتمر أو أحلى إليّ من التمر |
تاريخ الطبري ٣٤٠ : ٢٤٦ ، وأوردها دون البيت الرابع الأصبهاني في الأغاني ٣ : ١٥٧ ، منسوبة للحطيئة.
وحدّثني محمد بن إسماعيل المرادي ، قال : حدّثنا عبد الله بن صالح المصري ، قال : حدّثني الليث ، عن عُلوان ، عن صالح بن كيسان ، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف ، أنّ أبا بكر قال : ـ ثم ذكر نحوه ، ولم يقل فيه ( عن أبيه ) ـ.
إلى هنا انتهى النص ، وقد عقب عليه الطبري بإسنادين آخرين لروايته زيادة في التوثيق.
وقد مرّت الإشارة إلى أن هذا الخبر قد رواه أحمد بن عبد العزيز الجوهري ( كان حياً سنة ٣٢٠ هـ ) ، في كتاب السقيفة ، وما ذكره رواه عنه ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة (١) ، حيث انتصب قاضي القضاة عبد الجبار المعتزلي مدافعاً عن أبي بكر ، وما طعن به عليه من هذا الخبر ، وذكر ابن أبي الحديد ردّ الشريف المرتضى عليه في كتابه الشافي ، وسيأتي ذكر ذلك.
كما سيأتي ذكر أكثر من عشرة آخرين رووا الخبر بتفاوت رواياتهم ، وجرى عليه من بعضهم محاولات بائسة ويائسة ، تكتماً وتلعثماً ، حتى أنّ بعضهم ذكر خبر عيادة عبد الرحمن بن عوف وتبرم أبي بكر ، لكنّه ألغى ذكر جميع المثلثات ، وآخر ذكرها دون ذكر ( كشف بيت فاطمة ) فكنّى عنه بقوله : ( كذا وكذا ).
وثالث ذكرها وسمى البيت بيت علي ، تهرباً من ذكر بيت فاطمة التي يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها ، غافلاً أو متغافلاً عن أنّ بيتهما واحد ، وهما في الحرمة سيان ، وبيتهما من أفاضل تلك البيوت التي أمر الله سبحانه وتعالى بأن تصان حرمتها ويعرف قدرها ، كما في رواية أنس وبريدة ، وقد رواها الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل (٢) ، والسيوطي في الدر المنثور (٣) في ذيل تفسير قوله تعالى : ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ) (٤) في سورة النور قال :
_____________________
١ ـ شرح نهج البلاغة ٢ : ٤٥ ـ ٤٧ ، وأشار إليه ثانية في ١٧ : ١٤.
٢ ـ شواهد التنزيل ١ : ٤١.
٣ ـ الدر المنثور ٥ : ٥٠.
٤ ـ النور : ٣٦.
وأخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك وبريدة قالا : قرأ رسول الله صلىاللهعليهوسلم هذه الآية : ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ ) فقام إليه رجل فقال : أيّ بيوت هذه يا رسول الله ؟ قال : « بيوت الأنبياء » ، فقام إليه أبو بكر فقال : يا رسول الله هذا البيت منها ـ لبيت علي وفاطمة ـ قال : « نعم ، من أفاضلها » ـ من أفضلها.
وهذا فيما أحسب هو الذي حدا بجمع من المحدّثين والمؤرّخين التستر على شناعة المثلثات ، وما فيها من إدانة لأبي بكر والطعن عليه ، خصوصاً ذكر ( كشف بيت فاطمة ) فذكره يعني الاعتراف بالإساءة والمهانة ، وهو حقيق بالإدانة.
ولئلا يظن ظان مستنكر أو متعال مستكبر أنّ ذلك منّا مجرّد تهويل ؛ فلنعرض أمام القرّاء ما لحق مثلثات أبي بكر من تضليل ، فنقول :
إنّ أول من وقفت عليه مستعظماً ذكر ( كشف بيت فاطمة ) صراحة ، هو أبو عبيد القاسم ابن سلام ( ت ٢٢٤ هـ ) ، في كتابه ( الأموال ) ، فقد ذكر الخبر وبادر إلى الكناية عن ( كشف بيت فاطمة ) فقال : ( أما الثلاث التي فعلتها ، ووددت أنّي لم أفعلها : فوددت أنّي لم أكن فعلت كذا وكذا لخلة ذكرها لا أريد ذكرها ) ، وهذا ما جعلنا نهزأ منه حتى قلنا : إنّها لملكية فوق الملك.
فأبو بكر نفسه يذكر الخلّة ـ كشف بيت فاطمة ـ نادماً عليها وأبو عبيد يأبى ذكرها !
وللإنصاف أن نقول له : إنّ حميد بن زنجويه ( ت ٢٥١ هـ ) ، الذي أتى بعدك زماناً ، وهو أقل ذكراً وشأناً ، كان أفصح بياناً وأقوى جناناً ، فقد ذكر الخبر مرّتين في كتابه الأموال ، كانت الأولى في صفحة ٣٠٣ ـ ٣٠٥ ، فذكر الخبر بنصّه وفصّه لم يغير شيئاً مما يمس جوهر القضية ، وحتى في إسناده كان رجاله ثقاة (١).
_____________________
١ ـ كتاب الأموال لحميد بن زنجويه ١ : ٣٠٣ ـ ٣٠٥.
لكنه في المرّة الثانية في صفحة / ٣٤٧ فقد ذكر النص بسند آخر. فقال فيه : ( أما اللاتي وددت أنّي تركتهنّ ، فوددت أنّي لم أكن فعلت كذا وكذا ، لشيء ذكره ... ) وهذا منه مستغرب بعد ذكره أولاً كما مرّ ، ولا أحسبه إلّا أنّه إنهار أمام تهديد أو وعيد ، فاتقى الشر فذكره كناية.
أما ثالث القوم الذين تلاعبوا بالنص بصورة غير ذكية ، فهو أبو العباس المبرد في كتابه الكامل (١) ، فقد ذكر الخبر مقتصراً على حديث أبي بكر مع عبد الرحمن بن عوف من دون ذكر المثلثات ، وهذا ممّا يؤاخذ عليه.
ورابعهم كان المسعودي الشافعي ( ت ٣٤٥ هـ ) ، فهو ليس بدون من تقدّمه في تعامله مع النص بغير مسوّغ ، فقد ذكره في كتابه مروج الذهب (٢) ، فقال : ( ومرض أبو بكر قبل وفاته بخمسة عشر يوماً ، ولمّا احتضر قال : ما آسى على شيء إلّا على ثلاث فعلتها وددت أنّي تركتها ... ، فوددت أنّي لم أكن فتشت بيت فاطمة ، وذكر كلاماً كثيراً ) ، فعدم ذكره ذلك الكلام الكثير مما يؤاخذ عليه.
وخامسهم الباقلاني ( ت ٤٠٣ هـ ) ، فقد ذكر في كتابه إعجاز القرآن (٣) ، عيادة عبد الرحمن بن عوف لأبي بكر ، وحديث أبي بكر وتبرّمه من أصحابه ، ولم يذكر عن المثلثات شيئاً ، فحذفها جملة وتفصيلاً ، وقد مرّ في نظرة إلى المصادر ما في طبعتي الكتاب ، وعمل المحققين فيه فراجع.
وسادس هذا النمط المفرط في الايهام والاستبهام ، أبو نعيم الاصبهاني ( ت٤٣٠ هـ ) ، فقد ذكر في كتابه حلية الأولياء (٤) حديث أبي بكر مع عبد الرحمن
_____________________
١ ـ الكامل ١ : ٦.
٢ ـ مروج الذهب ٢ : ٣٠٨.
٣ ـ إعجاز القرآن للباقلاني ٢١٠ ـ ٢١١.
٤ ـ حلية الأولياء ١ : ٣٤.
بن عوف الا ذكر المثلثات ، فلم يأت بشيء عنها أبدا ، لماذا ذلك ؟ والجواب لا يخفى على أولي الألباب.
نعم ، ذكر نصاً يوحي بندامة أبي بكر على ما فرّط ، فقد قال : إنّ عمر دخل على أبي بكر وهو يجبذ لسانه ، فقال له عمر : مه ؟ غفر الله لك ، فقال أبو بكر : إن هذا أوردني الموارد (١).
وسابع تابع لم يتخلّف عن المسيرة ، وذلك هو الحافظ الهيثمي ( ت ٨٠٧ هـ ) ، فقد ذكر الحديث في مجمع الزوائد (٢) ، وقال : رواه الطبراني وفيه علوان بن داود البجلي وهو ضعيف ، وهذا الأثر مما أنكر عليه.
وثامنهم المتقي الهندي ( ت ٩٧٥ هـ ) ، ذكر الخبر في كنز العمّال (٣) ، وذكر في الكنز مصادره التي روى الخبر عنها فقال : ( أبو عبيد في كتاب الأموال ، عق ، وخيثمة بن سليمان الإطرابلسي في فضائل الصحابة ، طب ، كر ، حن ) وقال : إنّه حديث حسن إلّا أنّه ليس فيه شيء عن النبي صلىاللهعليهوسلم ، وقد أخرج ( خ ) في كتابه غير شيء من كلام الصحابة ).
أقول : إنّ المتقي الهندي أشار إلى المصادر التالية :
١ ـ كتاب الأموال لأبي عبيد ، وقد تقدم ذكره ، وإنّ المطبوع ليس فيه التصريح بكشف بيت فاطمة ، فراجع.
_____________________
١ ـ حلية الأولياء ١ : ٣٣ ، قال الجوهري في الصحاح : ١٠٥٩ ، وفي حديث أبي بكر حيث دخل عليه عمر وهو ينصنص لسانه ، ويقول : هذا أوردني الموارد ، قال أبو عبيد هو بالصاد لا غير ، قال : وفيه لغة أخرى ليست في الحديث نضنضت بالضاد ، وكذا جاء في لسان العرب ، وتاج العروس وغيرهما في مادتي : ( نص ) و ( نض ) ، فراجع.
٢ ـ مجمع الزوائد ٥ : ٢٠٢ ـ ٢٠٣.
٣ ـ كنز العمال ٥ : ٣٦٨.
٢ ـ عق = يعني كتاب الضعفاء للعقيلي (١) ( ت ٣٢٢ هـ ) ، وهو قد ذكر الخبر في ترجمة عُلوان بن داود بأربعة أسانيد ، ومع ذلك فقد جرح عُلوان فوصفه : بأنّه منكر الحديث.
٣ ـ خيثمة = يعني خيثمة بن سليمان الإطرابلسي ، ( ت ٣٤٣ هـ ) ، له كتاب فضائل الصحابة ، والخبر فيه في ترجمة أبي بكر.
٤ ـ طب = يعني الطبراني ، ذكر الخبر في المعجم الكبير (٢).
٥ ـ كر = يعني ابن عساكر في تاريخ دمشق ، والخبر فيه في ترجمة أبي بكر.
٦ ـ ص = يعني سعد بن منصور ( ت ٢٢٧ هـ ) ، والخبر في سننه.
فهذه ستة مصادر سبق ذكر الأول منها فقط ، وتضاف الخمسة الباقية إلى الأرقام الثمانية التي استعرضنا ما عند أصحابها ممّن لم يستمرؤا طعم مرارة الاعتراف ، ولم يخضعوا لقبول الحق والإنصاف ، فتحامل بعضهم على الرواة ، وأجهز بعضهم على الخبر فبتر منه ما ظن يجديه ، وما درى أن الحذف أو الاضمار ليس يغنيه ، مهما فعل حفاظاً على قداسة الموروث مما يعنيه ، فأبو بكر نفسه قال ذلك واعياً جازماً ، وآسفاً نادماً.
وأجدى بهم لو قالوا لأتباعهم وأشياعهم إنّه قال ذلك هجراً من غلبة الوجع عليه ، كما سبق لهم أن قالوا تبعاً لعمر بن الخطاب ومن شايع وتابع ، حين قال في النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم مثل ذلك ، كما في حديث الرزية كل الرزية ويرويه حبر الأمة عبد الله بن عباس ويبكي حتى يبلّ بدموعه الحصباء ، وحديثه في البخاري ومسلم وغيرهما من الصحاح والسنن والسيرة.
_____________________
١ ـ الضعفاء ٣ : ٤١٩ ـ ٤٢٠.
٢ ـ المعجم الكبير ١ : ٦٢.
ولكنّهم تشبثوا في المقام بنسائج العنكبوت ، وأقوى من شمّر فاشتهر بحرارة الدفاع وطول الباع ، هو قاضي القضاة عبد الجبار المعتزلي في كتابه المغني ، إلا أنّه لم يحسن قيلاً ولم يغن فتيلاً ، ولقد انبرى لتفنيد مزاعمه وأباطيله ، وكشف تدجيله وأضاليله ، الشريف المرتضى علم الهدى رحمهالله (١) في كتابه الشافي ، وهو شافٍ وكافٍ ، وقد لخصه الشيخ الطوسي رحمهالله.
ومن الخير أن أعرض أمام القارئ ملخص ما قاله الأول ـ عبد الجبار ـ وما رد الثاني ـ الشريف المرتضى ـ في خصوص المقام نقلاً عن تخليص الشافي ؛ لئلا يظن بنا ظان غير الحق والصدق.
كما ننقل ذلك برواية ابن أبي الحديد الشافعي المعتزلي في كتابه شرح نهج البلاغة ، فهو قد نقل النص عن الشافي بواسطة تلخيصه ، وإن لم يصرّح بذلك.
ما ذكره قاضي القضاة عبد الجبار المعتزلي :
روى ابن أبي الحديد في شرح النهج (٢) ، قال : قال : قاضي القضاة ... : ومما طعنوا به على أبي بكر أنه قال عند موته : ليتني كنت سألت رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن
_____________________
١ ـ أقول : وشمّر ابن أبي الحديد عن ساعديه ، وانبرى ناصباً من نفسه قاضياً ، فعقّب على كلام الشريف المرتضى وناقشه في رده على قاضي القضاة ، في مسألة الشك في الإمامة ، وتمني أبي بكر السؤال عنها من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ورده على القاضي في الاستشهاد بالآية المباركة في مسألة إبراهيم عليهالسلام ، وأطال في ذلك فمن أراده فليراجعه.
ويعنينا في المقام تعقيبه على تمني أبي بكر عدم كشف بيت فاطمة عليهاالسلام ، وقد أنكره قاضي القضاة وأثبته الشريف المرتضى ، قال ابن أبي الحديد : وأما حديث الهجوم على بيت فاطمة عليهاالسلام فقد تقدم الكلام فيه ، والظاهر عندي صحة ما يرويه المرتضى والشيعة ، ولكن لا كل ما يزعمونه ، بل كان بعض ذلك ، وحقٌ لأبي بكر أن يندم ويتأسّف على ذلك ، وهذا يدل على قوة دينه وخوفه من الله تعالى ، فهو بأن يكون منقبة له أولى من كونه طعناً عليه ....
٢ ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٧ : ١٦٤.
ثلاثة : فذكر في أحدها : ليتني كنت سألت هل للأنصار في هذا الأمر حق ؟ قالوا : وذلك يدل على شكه في صحة بيعته.
وربما قالوا : قد روي أنّه قال في مرضه : ليتني كنت تركت بيت فاطمة لم أكشفه ، وليتني في ظلة بني ساعدة كنت ضربت على يد أحد الرجلين ، فكان هو الأمير وكنت الوزير.
قالوا : وذلك يدلّ على ما روي من إقدامه على بيت فاطمة عليهاالسلام ، عند اجتماع علي عليهالسلام والزبير وغيرهما فيه ، ويدلّ على أنّه كان يرى الفضل لغيره لا لنفسه.
قال قاضي القضاة : والجواب أنّ قوله : ( ليتني ) لا يدل على الشك فيما تمنّاه ، وقول إبراهيم عليهالسلام : ( رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَىٰ وَلَـٰكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) (١) أقوى من ذلك في الشبهة ، ثم حمل تمنّيه على أنه أراد سماع شيء مفصل ، أو أراد : ليتني سألته عند الموت لقرب العهد ، لأنّ ما قرب عهده لا يُنسى ، ويكون أردع للأنصار على ما حاولوه.
ثم قال : على أنّه ليس في ظاهره أنّه تمنى أن يسأل : هل لهم حق في الإمامة أم لا ؟ لأنّ الإمامة قد يتعلّق بها حقوق سواها ، ثم دفع الرواية المتعلّقة ببيت فاطمة عليهاالسلام ، وقال : فأمّا تمنيه أن يبايع غيره : فلو ثبت لم يكن ذماً ، لأنّ من اشتد التكليف عليه فهو يتمنّى خلافه.
ثم قال ابن أبي الحديد (٢) : اعترض المرتضى رحمهالله هذا الكلام فقال : ليس يجوز أن يقول أبو بكر : ( ليتني كنت سألت عن كذا ) إلّا مع الشك والشبهة ؛ لأنّ مع العلم واليقين لا يجوز مثل هذا القول ، هكذا يقتضي الظاهر ، فأمّا قول
_____________________
١ ـ البقرة : ٢٦٠.
٢ ـ شرح النهج ١٧ : ١٦٥ ـ ١٦٦.
إبراهيم عليهالسلام ، فإنّما ساغ أن يعدل عن ظاهره لأنّ الشك لا يجوز على الأنبياء ويجوز على غيرهم ، على أنّه عليهالسلام قد نفى عن نفسه الشك بقوله : ( بَلَىٰ وَلَـٰكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) أي لآمن توعد عدوك لي بالقتل ... وأيّ شيء يريد أبو بكر من التفضيل أكثر من قوله : ( إنّ هذا الأمر لا يصلح إلّا لهذا الحي من قريش ) وأيّ فرق بين ما يقال عند الموت ، وبين ما يقال قبله إذا كان محفوظاً معلوماً ، لم ترفع كلمة ولم تنسخ.
فأمّا قوله : إنّا قد بيّنا أنّه لم يكن منه في بيت فاطمة ما يوجب أن يتمنّى أنّه لم يفعله ، فقد بينّا فساد ما ظنّه فيما تقدم ، فأمّا قوله : إنّ من اشتد التكليف عليه قد يتمنى خلافه ، فليس بصحيح ؛ لأنّ ولاية أبي بكر إذا كانت هي التي اقتضاها الدين ، والنظر للمسلمين في تلك الحال ، وما عداها كان مفسدة ، ومؤدياً إلى الفتنة ، فالتمني لخلافها لا يكون إلا قبيحاً.
نصوص الإدانة :
والآن فلنستعرض نصوص الإدانة ، ننقلها بأمانة من مصادر موثوقة عند الخصوم ، وليقرأها القارئ بإمعان وتدبّر ؛ ليعرف مدى الظلم الذي ألحقه نفرٌ من الصحابة بالقرابة ، مع قرب العهد بوصايا الرسول الكريم صلىاللهعليهوآلهوسلم بهم ، وهو بعدُ لم تجنّه أكفانه ، اكتنفه أهله الأدنون ومعهم من قوي إيمانه ، وعافهم من خفّ ميزانه وغرّه أعوانه ، فكانت السقيفة ، وتنصيب الخليفة ، وتتابعت الأحداث على علي والزهراء عليهماالسلام حتى ماتت بغصّتها أسيفة.
وسنأتي على ذكر النصوص حسب تسلسلها في مصادر المؤرّخين الذين مرّ ذكرهم والتعريف بهم ، وربما أشرنا إلى ما عند غيرهم مما يوافق ما عندهم.
فماذا عندهم ؟
ما ذكره ابن إسحاق :
أولاً : ماذا عند محمد بن إسحاق ( ت ١٥١ هـ ) ؟
النص الأوّل : قال ابن إسحاق : ولمّا قبض رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، انحاز هذا الحي من الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة ، واعتزل عليّ بن أبي طالب ، والزبير بن العوام ، وطلحة بن عبيد الله في بيت فاطمة ، وانحاز بقية المهاجرين إلى
أبي بكر ، وانحاز معهم أسيد بن حضير في بني عبد الأشهل ، فأتى آتٍ إلى أبي بكر وعمر ، فقال : إنّ هذا الحي من الأنصار مع سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة قد انحازوا إليه ، فإن كان لكم بأمر الناس حاجة ، فأدركوا قبل أن يتفاقم أمرهم ، ورسول الله صلىاللهعليهوسلم في بيته لم يُفرغ من أمره ، قد أغلق
دونه الباب أهلُه ، قال
عمر : فقلت لأبي بكر : انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار حتى ننظر ما هم عليه (١).
فهذا الخبر صريح بأنّ الانقسام والتحزب ظهر عند الصحابة حين قبض النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ولا يعقل ولا يقبل أن يقال بحدوثه مقارناً لظهوره ، بل إن جذور الخلاف كانت موجودة قبل ذلك الحين ، إذ لا يكون ظهور إلّا بعد خفاء ، وهذا ما نجد له شواهد في عهد النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وقد عرف ذلك منهم ، فحذّرهم مغبّة العواقب السيّئة ، وأنذرهم بسوء العاقبة ، ودعاهم إلى وحدة الكلمة وتوحيد الصف ، وأبان لهم أنّه تركهم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها.
كما أنّ الخبر صريح بأنّ رموز الصحابة من مهاجرين وأنصار ـ عدا أهل البيت عليهمالسلام ـ قد تركوا الجثمان الطاهر ، وانصرفوا يتنازعون أمر الخلافة.
والخبر صريح بأنّ أهل البيت عليهمالسلام قد أغلقوا دونه الباب ، وهنا تبدو إشارة خفيّة إلى أنّ ابن إسحاق قد غصّ بذكر أسماء من هم أهله الذين أغلقوا دونه الباب وعمّن أغلقوه ؟ ولا ضير فإنّ ابن إسحاق يعيش في كنف العباسيين ، وهو بمثابة مؤرّخ دولة رسمي عندهم ، فكيف يجرأ على أن يذكر الأسماء ، ولا بد له من ذكر علي عليهالسلام في أولهم وفي مقدمتهم ، ثم يذكر العباس وابنه الفضل ، وهذا ما لا يرضاه أولياء نعمته ، ففي الكتمان السلامة ، وإن لحقته في ذلك الملامة.
النص الثاني : قال ابن إسحاق : وكان من حديث السقيفة حين اجتمعت بها الأنصار ، انّ عبد الله بن أبي بكر حدّثني عن ابن شهاب الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن عبد الله بن عباس ، قال : أخبرني عبد الرحمن بن عوف ـ قال : وكنت في منزله بمنى أنتظره ، وهو عند عمر في آخر حجة حجّها
_____________________
١ ـ انظر : السيرة النبوية لابن هشام في أمر سقيفة بني ساعدة : ق ٢ / ٦٥٦.
عمر ـ قال : فرجع عبد الرحمن بن عوف من عند عمر ، فوجدني في منزله بمنى أنتظره ـ وكنت أقرئه القرآن ـ.
قال ابن عباس : فقال عبد الرحمن بن عوف : لو رأيت رجلاً أتى أمير المؤمنين فقال : يا أمير المؤمنين هل لك في فلان يقول : والله لو قد مات عمر بن الخطاب لقد بايعت فلاناً ، والله ما كانت بيعة أبي بكر إلا فلتة فتمت ، قال : فغضب عمر ، فقال : إنّي إن شاء الله لقائم العشية في الناس ، فمحذّرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمرهم.
قال عبد الرحمن : فقلت : يا أمير المؤمنين لا تفعل ، فإن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم ، وإنّهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس ، وإنّي أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطير بها اولئك عنك كل مطير ، ولا يعوها ولا يضعوها على مواضعها ، فأمهل حتى تقدم المدينة ، فإنّها دار السنة ، وتخلّص بأهل الفقه وأشراف الناس ، فتقول ما قلت بالمدينة متمكناً ، فيعي أهل الفقه مقالتك ، ويضعوها على مواضعها ، قال : فقال عمر : أما والله إن شاء الله لأقومنّ بذلك أول مقام أقومه بالمدينة.
قال ابن عباس : فقدمنا المدينة في عقب ذي الحجة ، فلما كان يوم الجمعة عجّلت الرواح حين زالت الشمس ، فأجد سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل جالساً إلى ركن المنبر ، فجلست حذوه ، تمسّ ركبتي ركبته ، فلم أنشب أن خرج عمر بن الخطاب ، فلمّا رأيته مقبلاً قلت لسعيد بن زيد : ليقولنّ العشية على هذا المنبر مقالة لم يقلها منذ استخلف ، قال : فأنكر عليّ سعيد بن زيد ذلك ، وقال : ما عسى أن يقول ما لم يقل قبله ؟.
فجلس عمر على المنبر
، فلمّا سكت المؤذنون قام فأثنى على الله بما هو أهل له ، ثم قال : أمّا بعد ، فإنّي قائل لكم اليوم مقالة ، قد قدّر لي أن أقولها ،
ولا أدري
لعلّها بين يدي أجلي ، فمن عقلها ووعاها فليأخذ بها حيث انتهت به راحلته ؛ ومن خشي أن لا يعيها فلا يحل لأحد أن يكذب عليّ :
إنّ الله بعث محمداً وأنزل عليه الكتاب ، فكان مما أنزل عليه آية الرجم ، فقرأناها وعلمناها ووعيناها ، ورجم رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ورجمنا بعده ، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل : والله ما نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله ، وإنّ الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء ، وإذا قامت البينة ، أو كان الحبل أو الاعتراف.
ثم إنّا قد كنّا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله : ( لا ترغبوا عن آبائكم ، فإنّه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم ) ألا إنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : ( لا تطروني كما أُطري عيسى بن مريم ، وقولوا : عبد الله ورسوله ).
ثم إنّه قد بلغني أنّ فلاناً قال : والله لو قد مات عمر بن الخطاب لقد بايعت فلاناً ، فلا يغرنّ امرأ أن يقول : إن بيعة أبي بكر كانت فلتة فتمت ، وإنّها قد كانت كذلك ، إلا أنّ الله قد وقى شرّها ، وليس فيكم من تنقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر ، فمن بايع رجلاً عن غير مشورة من المسلمين ، فإنّه لا بيعة له هو ولا الذي بايعه تغرّة أن يقتلا.
إنّه كان من خبرنا حين توفى الله نبيّه صلىاللهعليهوسلم أنّ الأنصار خالفونا ، فاجتمعوا بأشرافهم في سقيفة بني ساعدة ، وتخلّف عنّا علي بن أبي طالب والزبير بن العوّام ومن معهما ، واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر ، فقلت لأبي بكر : إنطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار ، فانطلقنا نؤمهم حتى لقينا منهم رجلان صالحان ، فذكرا لنا ما تمالأ عليه القوم ، وقالا : أين تريدون يا معشر المهاجرين ؟ قلنا : نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار ، قالا : فلا عليكم أن لا تقربوهم يا معشر المهاجرين ، اقضوا أمركم ، قال : قلت : والله لنأتينّهم.
فانطلقنا حتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة ، فإذا بين ظهرانيهم رجل مزمّل (١) ، قلت : من هذا ؟ فقالوا : سعد بن عبادة ، فقلت : ما له ؟ فقالوا : وجع.
فلما جلسنا تشهّد خطيبهم ، فأثنى على الله بما هو له أهل ، ثم قال : أما بعد ، فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام ، وأنتم يا معشر المهاجرين رهط منّا ، وقد دفّت دافّة من قومكم (٢) ، قال : وإذا هم يريدون أن يحتازونا من أصلنا ، ويغصبونا الأمر.
فلمّا سكت أردت أن أتكلم ، وقد زوّرت (٣) في نفسي مقالة قد أعجبتني ، أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر ، وكنت أداري منه بعض الحد ، فقال أبو بكر : على رسلك يا عمر ، فكرهت أن أغضبه ، فتكلم وهو كان أعلم منّي وأوقر ، فوالله ما ترك من كلمة أعجبتني من تزويري إلا قالها في بديهته أو مثلها أو أفضل حتى سكت.
قال : أما ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل ، ولن تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش ، هم أوسط العرب نسباً وداراً ، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين ، فبايعوا أيّهما شئتم ، وأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح ، وهو جالس بيننا ، ولم أكره شيئاً ممّا قاله غيرها ، كان والله أن أقدم فتضرب عنقي لا يُقرّبني ذلك إلى إثم أحبّ إليّ من أن أتأمّر على قوم فيهم أبو بكر.
قال قائل من الأنصار : أنا جُذيلها المحكك (٤) وعذيقها المرجب (٥) ، منّا أمير ومنكم أمير ، يا معشر قريش ، قال : فكثر اللغط وارتفعت الأصوات ، حتى تخوّفت
_____________________
١ ـ مزمّل : ملتفٌ في كساء أو غيره.
٢ ـ الدافة : القوم يسيرون جماعة سيراً ليس بالشديد ؛ وفي المقام كناية عن بوادر غير محمودة لهضم حقوق الأنصار.
٣ ـ زوّرت مقالة : أصلحتها وحسّنتها.
٤ ـ الجذيل : تصغير جذل ، وهو عود يكون في وسط مبرك الإبل تحتك به ، وتستريح إليه ، فتضرب به المثل للرجل يستشفى برأيه ووجد عنده الراحة.
٥ ـ العذيق : تصغير عذق وهي النخلة بنفسها ، والمرجب الذي تبنى إلى جانبه دعامة ترفده لكثرة حمله ، يضرب به المثل في الرجل الشريف الذي يعظمه قومه.
الاختلاف ، فقلت : ابسط يدك يا أبا بكر ، فبسط يده فبايعته ، ثم بايعه المهاجرون ، ثم بايعه الأنصار ، ونزونا (١) على سعد بن عبادة ، فقال قائل منهم : قتلتم سعد بن عُبادة ؛ قال : فقلت : قتل الله سعد بن عبادة (٢).
وفي هذا الخبر عدّة وقفات تدعو إلى التأمّل ، نشير إلى بعضها لغرض تنبيه القارئ عليها ، وله رأيه في تفسيرها :
أ ـ التكتم على اسم الرجل الذي أتى عمر فقال له : « هل لك في فلان يقول » ، فمن هو ذلك الرجل النمّام ؟ ومن هو فلان القائل : « والله لو قد مات عمر ... لقد بايعت فلاناً ؟ » ، وأخيراً : فمن هو فلان الذي يريد مبايعته ؟
تكتّم يبعث على الريبة في الرواة بدءاً من ابن إسحاق ومروراً برجال إسناده ، وانتهاءً بعبد الله بن عباس وعبد الرحمن بن عوف ، وإن كانا هما آخر من تتوجه اليهما أصابع الاتهام ، لأنّهما كانا يرويان ما هو أشد إدانة.
أما ابن عباس فمروياته في تلك الأحداث سابقاً ولاحقاً كثيرة ، وفي محاججته مع عمر في أمر الخلافة ما يرفع عنه إصر الإتهام ، وأما عبد الرحمن بن عوف ، فلا مجال لتهمته في المقام بعد أن قرأنا له فيما سبق روايته مثلثات أبي بكر ، وهي تكفي في الإدانة ، فتبقى أطراف الشبهة بين الأربعة :
أولهم : ابن إسحاق ، وقد مرّ التعريف به.
وثانيهم : شيخه عبد الله بن أبي بكر محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري ، أثنى عليه علماء الرجال ، فوثّقه ابن معين ، وأبو حاتم ، والنسائي وغيرهم.
وثالثهم : محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ، وهذا هو أقرب إلى التهمة من غيره ، فقد كان مبالغاً في ركاب الأمويين ، وله روايات عديدة كتم فيها اسم الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام ، وردت في مصنّف عبد الرزاق وغيره ، فراجع.
_____________________
١ ـ وثبنا عليه ووطئناه.
٢ ـ السيرة النبوية لابن هشام : ق ٢ ، ٦٥٧ ـ ٦٦٠.
ورابعهم : عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، وهو أحد فقهاء المدينة ، تابعي كثير الحديث ، وثّقه وأثنى عليه غير واحد ، فهو بعيد عن التهمة.
ب ـ وفي الخبر إشعار بأنّ هناك اُناس يتربصون موت عمر ليبايعوا من يرونه أهله ، وقد أقلق ذلك عمر ، فصار يعدّ لتحذير الناس منهم عدّته ، وأراد أن يفاجأ الناس في أيام منى ، لولا أنّ عبد الرحمن بن عوف حذّره مغبة ذلك ، فأخذ بنصيحته.
ج ـ وفي الخبر تصريح خطير من عمر في المدينة في ذكره آية الرجم : ( فقرأناها وعلمناها ووعيناها ) وليس في كتاب الله أيّ آية في ذلك ، وقد شرق أصحاب الحديث وغرّبوا في توجيه ذلك ، وسيأتي ما يتعلق به فيما عند البخاري.
د ـ وفي الخبر كذلك ما ذكر من قراءته في كتاب الله : ( لا ترغبوا عن آبائكم فإنّه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم ) وهذا ما خلا منه كتاب الله ، ولأئمة الحديث في توجيهه كسابقه كلام طويل عريض.
هـ ـ إقرار عمر بأنّ بيعة أبي بكر كانت فلتة ، وإنّ الله قد وقى شرّها. فهي فلتة عن غير سابق مشورة بين المسلمين ، ولا عهد من النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وقد تمت ، وفيها شرّ إلّا أنّ الله قد وقى شرها.
و ـ وفي الخبر ذكر تخلف علي بن أبي طالب والزبير بن العوام ومن معهما ، وفي إقراره بتخلّف هؤلاء يكفي لنسف زعم الإجماع على خلافة أبي بكر.
ذ ـ وفي الخبر : « واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر » ، وتكرر ذكر المهاجرين مرّة أخرى ، ولم يصرّح باسم واحدٍ غير أبي عبيدة بن الجراح كان معه ، فمن هم أولئك المهاجرون الذين كانوا معه ؟
ح ـ وفي الخبر قول أبي بكر في حجته : ( ولن تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش ... ) فأين هذا من مزاعم حيكت له من بعد كدعوى تقديمه في الصلاة ، وصحبة الغار و و ....
ط ـ وفي الخبر قول أبي بكر : ( وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيّهما شئتم ... ) وكأن ولاية الأمر إليه مفوضة ، وله أن يرشح من يرضاه.
ي ـ وفي الخبر قول الأنصاري : ( منّا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش ... ) وهذا يدلّ على أنّ الاجتماع كان لاقتسام السلطة بين من حضر من قريش وبين الأنصار ، وليس ثمة عهد نبوي ، ولا هناك حساب لآخرين من المهاجرين لم يحضروا.
ك ـ وأخيراً تمت البيعة بقول عمر : ( ابسط يدك يا أبا بكر ، فبسط يده فبايعته ... ).
ما ذكره عبد الرزاق الصنعاني :
ثانياً : ماذا عند عبد الرزاق بن همام الصنعاني ؟
عنده عدّة نصوص نختار منها ما يلي :
النص الأول : لقد روى في كتابه المصنّف (١) عن معمر قال : وأخبرني أيوب عن عكرمة قال : قال العباس بن عبد المطلب : والله لأعلمنّ ما بقاء رسول الله صلىاللهعليهوسلم فينا ، فقلت : يا رسول الله لو اتخذت شيئاً تجلس عليه يدفع عنك الغبار ، ويردّ عنك الخصم ، فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : « لأدعنّهم ينازعوني ردائي ويطؤون عقبي ، ويغشاني غبارهم حتى يكون الله يريحني منهم » ، فعلمت أنّ بقاءه فينا قليل.
قال : فلما توفي رسول الله صلىاللهعليهوسلم قام عمر فقال : إنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم لم يمت ، ولكن صعق كما صعق موسى ، والله أنّي لأرجو أن يعيش رسول الله صلىاللهعليهوسلم حتى يقطع أيدي رجال وألسنتهم من المنافقين يقولون : إنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم قد مات.
فقام العباس بن عبد المطلب فقال : أيّها الناس هل عند أحد منكم عهدٌ أو عقدٌ من رسول الله صلىاللهعليهوسلم ؟ قالوا : اللهم لا ، قال : فإنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم لم يمت حتى وصل
_____________________
١ ـ مصنف عبد الرزاق ٥ : ٤٣٣.