السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات دليل ما
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣١
قسم قسمه أبو بكر للنساء ، فقالت : أتراشوني عن ديني ؟ فقالوا : لا ، فقالت : أتخافون أن أدع ما أنا عليه ؟ فقالوا : لا ، فقالت : والله لا آخذ منه شيئاً أبداً ، فرجع زيد إلى أبي بكر فأخبره بما قالت ، فقال أبو بكر : ونحن لا نأخذ مما أعطيناها شيئاً أبداً ( ابن سعد وابن جرير ).
أقول : وهذا الخبر صريح في استعمال الرشوة لتثبت أمر الحكم ، فمن قول أبي بكر : نحن الأمراء وأنتم الوزراء ، وهذا الأمر بيننا وبينكم نصفين كقدّ الأبلمة ، ومن أمر القسمة بين الناس حتى النساء ، ورفض العجوز النجارية أن تقبل ما جاء به زيد بن ثابت إليها من قسمها ، وقولها : أتراشوني عن ديني ، يبدوا أمر اعطاء الرشى كان من جملة وسائل تثبيت الحكم.
وهذا ما نقرؤه في صنع أبي بكر مع معاذ بن جبل وأبي سفيان ممن ترك لهم ما في أيديهم من مال المسلمين.
أما خبر معاذ وقد بعثه النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم على طائفة من اليمن أميراً ليجبره ، فمكث معاذ باليمن أميراً ، وكان أول من اتجر في مال الله هو ، ومكث حتى أصاب وحتى قبض النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فلما قدم قال عمر لأبي بكر : أرسل إلى هذا الرجل فدع له ما يعيشه وخذ سائره ، فقال أبو بكر : إنّما بعثه النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ليجبره ، ولست بآخذ منه شيئاً إلا أن يعطيني.
فانطلق عمر إلى معاذ إذ لم يطعه أبو بكر ، فذكر ذلك عمر لمعاذ ، فقال : انّما أرسلني رسول الله صلىاللهعليهوسلم ليجبرني ولست بفاعل ، ثم لقي معاذ عمر فقال : قد أطعتك وأنا فاعل ما أمرتني به ، إنّي رأيت في المنام أنّي في حومة ماء قد خشيت الغرق فخلصتني منه يا عمر ، فأتى معاذ أبا بكر فذكر ذلك له ، وحلف له أنه لم يكتمه شيئاً حتى بيّن له سوطه ، فقال أبو بكر : والله لا آخذه منك قد وهبته لك ... (١).
_____________________
١ ـ أخرجه المتقي الهندي في كنز العمّال ٥ : ٣٤٢ ـ ٣٤٣ ، نقلاً عن عبد الرزاق وابن راهويه.
ثم ولّاه الشام وبقى إلى عهد عمر ، ونحيل القارئ الى كتاب ( علي إمام البررة ) (١) لمعرفة المزيد من حال معاذ أيام حكومة أبي بكر وعمر ، ومدى ما وصلت إليه مكانته عندهما حتى تمنّى عمر عند موته لو كان حياً لاستخلفه ، مع علمه بأنه من الأنصار ، وكان تمنّيه في غير موقعه بعد أن احتج هو وصاحبه أنّ الأمر في قريش ، وأنّ العرب لا ترضى أن تولي من غير قريش عليها.
وكذلك كان أمر أبي بكر مع أبي سفيان الذي كان أرسله النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم جابياً للصدقات ، ولما عاد بعد موت النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وسمع بتولي أبي بكر الخلافة قال : إنّي لأرى عجاجة لا يطفئها إلا الدم ، قال : فكلم عمر أبا بكر فقال : إنّ أبا سفيان قد قدم ، وإنّا لا نأمن شرّه ، فدفع له ما في يده فتركه فرضي (٢).
النص الخامس (٣) : عن عروة أن أبا بكر خطب يوماً فجاء الحسن فصعد إليه المنبر فقال : إنزل عن منبر أبي ، فقال علي : إنّ هذا شيء من غير ملأ منّا ( ابن سعد ).
النص السادس (٤) : عن عبد الرحمن بن الأصبهاني قال : جاء الحسن بن علي إلى أبي بكر وهو على منبر رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : انزل عن مجلس أبي ، قال : صدقت إنّه مجلس أبيك ، وأجلسه في حجره وبكى ، فقال علي : والله ما هذا عن أمري ، فقال : صدقت والله ما اتهمتك ( أبو نعيم والجابري في جزئه ).
أقول : وهذا الخبر وإن اختلف رواته وتفاوتت ألفاظه ، غير أنه يكشف للقارئ ثمة شعور بالسخط لتولي أبي بكر الخلافة لدى أهل البيت صغيرهم وكبيرهم.
_____________________
١ ـ علي إمام البررة ٣ : ٢٥٣ ـ ٢٥٩.
٢ ـ شرح النهج لابن أبي الحديد ٢ : ٤٤.
٣ ـ كنز العمّال ٥ : ٣٥٩ ، برقم : ٢٣٠١.
٤ ـ كنز العمّال ٥ : ٣٥٩ ، برقم : ٢٣٠٢.
١ ـ خلاصة ما مرّ في سطور :
خلاصة ما قرأناه في النصوص الثابتة كان ما يلي :
أ ـ قرأنا أنّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أوصى إلى علي ، كما في حديث ابن عباس وأم سلمة ، فقد قال ابن عباس للذي جاءه فأخبره : انّ عائشة قالت : مات بين سحري ونحري ولم يوص إلى أحد ، فمتى أوصى إليه ، قال ابن عباس : أتعقل ! والله مات وإنه لمستند إلى صدر علي.
وأم سلمة قالت : كان ـ علي ـ أقرب الناس به عهداً ، ومات صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو مستند إلى صدر علي.
غير أنّ عائشة أنكرت ذلك ، وكان انشطار عند المسلمين في ذلك ، وكل فريق يؤيد وجهة نظره ، حتى استنكر بعضهم كيف أن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يأمر أمّته بالوصية ثم هو لا يوصي ؟ وقرأنا الجواب في حديث طلحة بن مصرف ، وقد سمع الهذيل بن شرحبيل : أكان أبو بكر يتأمر على وصي رسول الله ؟
كما قرأنا عن عائشة أنّ علياً كان قد أدخله النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم معه في الثوب الذي كان عليه ، فلم يزل يحتضنه حتى قبض ويده عليه ، كما في الرياض النضرة (١).
ب ـ وقرأنا أنّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم جهز جيش أسامة ، وأدخل فيه أبا بكر ، وعمر ، وأبو عبيدة بن الجراح ، وعثمان ، وسعد بن أبي وقاص ، وعبد الرحمن بن عوف ،
_____________________
١ ـ الرياض النضرة ٢ : ١٨٠.
وطلحة ، والزبير ، وهؤلاء هم الذين جعل لهم حديث العشرة المبشرة ، ومع ما ذكر لهم وفيهم فقد أمرهم النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يخرجوا في جيش أسامة ، ولعن من تخلف عن جيش أسامة ، ومع ذلك فقد تخلفوا حتى مات النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم.
ج ـ وقرأنا انّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لما رأى تقاعس القوم عن الخروج في الجيش ، أراد أن يكتب لامته بمحضر من المهاجرين والأنصار في حجرته ، كتاباً لن يضلّوا من بعده ، فاستدعى بدواة وكتف ، فبادره عمر بكلمته النابية ، « انّه يهجر ، حسبنا كتاب الله » فكانت الرزية كل الرزية ـ كما قال ابن عباس ـ ما حال بين رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وبين ذلك الكتاب.
د ـ وقرأنا أنّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لما مات ، اشتغل أهل بيته علي ومن معه بغسله وتجهيزه ، وذهب سراعاً أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح إلى سقيفة بن ساعدة ، ولم يحضروا الصلاة على النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ولا دفنه.
هـ ـ وقرأنا بأنه بايع عمر وأبو عبيدة أبا بكر بالخلافة ، وتابعه بعض الأنصار على ذلك ، ثم اتوا إلى المسجد يطلبون مبايعة الناس لأبي بكر.
و ـ وقرأنا أنّ علياً عليهالسلام وجميع بني هاشم ومعهم الزبير وجماعة من الصحابة ممن يوالون علياً عليهالسلام أبوا أن يبايعوا ، فكانوا يجتمعون عند الإمام في بيته ، كما عن الطبري وغيره.
ز ـ وقرأنا أنّ أبا بكر أمر عمر بأن يأتيه بالإمام ومن معه بأعنف العنف ـ كما في رواية البلاذري ـ ليبايع ، فأتاه عمر ومعه لفيف من الأعوان ومعهم الحطب ، فهدد عمر باحراق البيت على من فيه إن لم يخرجوا ، فقيل له : إن في الدار فاطمة ، قال : وإن ـ كما عن ابن قتيبة ـ ثم هجموا على البتولة دارها ، وهي تمانعهم عند الباب ، فزحموها حتى أسقطت جنينها المحسن ، وهي تصيح : « يا أبتاه ماذا لقينا بعدك من ابن أبي قحافة وابن الخطاب ».
ح ـ وقرأنا أن عمر وقنفذ وآخرين هم الذين دخلو الدار فأخرجوا الزبير تلاً بعد أن ثار بسيفه فأخذوه وحطموه على صخرة هناك ، وسلّموه إلى خالد بن الوليد وهو واقف لهم خارج الدار ، وأخرجوا علياً وهو ملبب يقاد كالفحل المخشوش ، كما عن معاوية بن أبي سفيان.
ط ـ وأوقفوه بين يدي أبي بكر ، وجرى له معهم من الاحتجاج ما مر ذكره ، فلم يتركه القوم وهددوه بالقتل ، فقال : « تقتلون عبداً لله وأخاً لرسوله » ، فقالوا : أما عبد الله فنعم وأما أخاً لرسوله فلا ، وهذا من أقبح المكابرة والإنكار.
ي ـ وقرأنا أنّ فاطمة عليهاالسلام هي التي أنقذت حياة الإمام بخروجها خلفه ، فكان لخروجها أثر كبير في الناس ، فخشي أبو بكر أن ينفلت الأمر ، والمدينة بعد تغلي كالمرجل ، فقال : لا أكرهه على البيعة ما دامت فاطمة إلى جانبه.
ك ـ وقرأنا انّه كان لعلي من الناس وجه حياة فاطمة ، فلما توفيت فاطمة انصرفت وجوه الناس عنه عند ذلك ، وأنه لم يبايع هو ولا أحد من بني هاشم حتى ماتت فاطمة عليهاالسلام ، كما عند البخاري ، ومسلم ، وعبد الرزاق وغيرهم.
ل ـ وقرأنا أن فاطمة عليهاالسلام طالبت أبا بكر بميراثها ، وبحقها من الفيء ، ونحلتها في فَدَك ، فأبى أبو بكر عليها ذلك ، فغضبت وهجرته ( فلم تزل مهاجرته حتى توفيت ، وعاشت بعد رسول الله ستة أشهر ) كما عند البخاري ومسلم وغيرهما.
م ـ وقرأنا أمور تقشعر لها الجلود ، صدرت من زمرة أضفى عليها المخالفون أبراد القداسة ، بينما هي خالفت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في حياته وبعد مماته ، وكتاب الله تعالى شاهد واعد بقوله : ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (١).
_____________________
١ ـ النور : ٦٣.
وأخيراً ـ ولا نطيل الكلام ـ فإنّ الصحابة الذين كانوا يوم السقيفة يتنازعون فيما بينهم أمر الخلافة ، لم يكونوا يجهلون من هو الأحق بالخلافة ، ومن هو الذي عيّنه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم خليفة له من بعده من يوم بدء الدعوة ، كما في تفسير قوله تعالى : ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) (١).
وإنّما كانوا يتنازعون في الحكم والإمارة إذ لم تكن كلمة ( خليفة ) من الألفاظ التي وقعت في خواطر المسلمين ، أو جرت على ألسنتهم في اجتماعهم يوم السقيفة (٢).
يقول الاستاذ علي عبد الرزاق : ( كانوا يومئذٍ ـ يوم السقيفة ـ إنّما يتشاورون في أمر مملكة تقام ، ودولة تشاد ، وحكومة تنشأ إنشاء ، ولذلك جرى على لسانهم يومئذٍ ذكر الإمارة والامراء ، والوزارة والوزراء ... وتذاكروا قوة السيف والعزة والثروة ، والعدد ، والمنعة ، والبأس والنجدة ، وما كان ذلك إلا خوضاً في الملك ، وقياماً بالدولة ، وكان من أثر ذلك ما كان من تنافس المهاجرين والأنصار وكبار الصحابة ، بعضهم مع بعض ، حتى تمت البيعة لأبي بكر ... فكان أول مَلكٍ في الإسلام ) (٣).
ولم يتجن الرجل على أحد من الصحابة الذين يتنازعون في اقتناص السلطة ، ألم يقل الحباب بن المنذر الأنصاري : منّا أمير ومنكم أمير ؟ ألم يقل أبو بكر للأنصار : نحن الأمراء وأنتم الوزراء ؟ ألم يقل عمر يخاطب الأنصار : انّه والله لا
_____________________
١ ـ الشعراء : ٢١٤ ، راجع كتاب ( علي إمام البررة ) ١ : ٧٢ ـ ٩٢ تجد صور الحديث وهي عشر ، منها التصريح بالخلافة لمن بعده لمن يؤازره في دعوته ، وفي ثمان منها بالوصاية من بعده ، وفي خمس منها بالوزارة ، وفي ثلاث منها بالوراثة ، وفي ثلاث منها بالولاية ، ومع هذا التظافر في النقل يزعم من لا حريجة له في الدين بأن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم مات ولم يوص ، ولم يستخلف ، ولم يول ، ولم يورث ....
٢ ـ عبد الكريم الخطيب : الخلافة والإمامة ، ديانة وسياسة : ص ٣٣٧.
٣ ـ الإسلام وأصول الحكم : ٩٢.
ترضى العرب أن تؤمركم ونبيّها من غيركم ... من ينازعنا سلطان محمد وميراثه ونحن أولياؤه وعشيرته إلا مدل بباطل ، أو متجانف لإثم ، أو متورط في هلكة (١).
والآن فهل من حق القارئ أن يسأل بعد ما قرأ كل الذي مرّ به ، أين هو الإجماع المزعوم على انتخاب أبي بكر للخلافة ؟ وقد تخلف عن الإجماع علي عليهالسلام وجميع بني هاشم ومن تابعهم وشايعهم ، كسلمان ، وأبي ذر ، والمقداد ، وعمّار ، وخالد بن سعيد بن العاص ، وحذيفة ، واُبي بن كعب صاحب المقولة الشهيرة ( هلك أصحاب العقدة ) وبريدة الأسلمي ، وأبو الهيثم بن التيهان ، وأبو أيوب الأنصاري ، وسهل بن حنيف ، وعثمان أخوه ، وهؤلاء هم الذين حاجّوا أبا بكر في المسجد وقد ورد احتجاجهم في كتاب الاحتجاج للطبرسي (٢).
فأي انتخاب واختيار يزعم على صحة خلافة أبي بكر ؟
وسؤال ثان ، ومن حق القارئ أن يسأل : كيف ساغ لأبي بكر وعمر وأبي عبيدة الحضور في السقيفة لتعيين الخليفة ، والثلاثة كلهم جنود محاربون سمّاهم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في جيش أسامة (٣) ، وأمرهم بالخروج معه وتحت إمرته ، وقد لعن من تخلف عن المسير في ذلك الجيش فقال : « لعن الله من تخلف عن جيش أسامة » (٤).
فهاتان مخالفتان واضحتان ، ومعهما كيف يسوغ للثلاثة أن يتولّوا زمام الأمور ، مع أنّهم جنود مأمورون وتحت إمرة أسامة ، حتى روى اليعقوبي استنكار أسامة لذلك (٥).
_____________________
١ ـ راجع بشأن هذه الأقوال الإمامة والسياسة ١ : ٧.
٢ ـ الاحتجاج للطبرسي : ٤٧.
٣ ـ طبقات ابن سعد ٤ : ٤٦ و ١٣٦ ، وتاريخ اليعقوبي ٢ : ٩٣ ، وفتح الباري ٩ : ٢١٨ ـ ٢١٩ ، وغير ذلك.
٤ ـ الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٢٣.
٥ ـ جاء في تاريخ اليعقوبي ٢ / ١٠٦ : وأمر ـ أبو بكر ـ أسامة بن زيد أن ينفذ في جيشه وسأله أن يترك له عمر يستعين به على أمره ، فقال : فما تقول في نفسك ؟ فقال : يا بن أخي فعل الناس ما ترى ، فدع لي عمر وانفذ لوجهك.
وسؤال ثالث ـ ومن حق القارئ أن يسأل ـ : هل كان من حق أبي بكر وعمر وأبا عبيدة أن يطالبوا الإمام علي بن أبي طالب بمبايعته لأبي بكر ، وهم بالأمس القريب كانوا قد بايعوا له في غدير خم (١).
بايعوه وبعدها طلبوا البيعة |
|
منه لله ريب الدهور |
وسؤال رابع ـ ومن حق القارئ أن يسأل ـ : هل من حق أبي بكر أن يجبر أحداً على مبايعته ، وليس معه أي حجة شرعية تسوّغ له ذلك ؟ فلا هو خليفة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بل هو خالفة ـ كما اعترف بذلك لمن سأله (٢) ـ فليس من حقه ذلك وهو غاصب للمقام.
وسؤال خامس ـ ومن حق القارئ أن يسأل ـ : هل كان من حق غاصب المقام أن يأمر بجلب الممتنع بأقسى الوسائل وأعنف العنف ، كما مرّ عن البلاذري وغيره ؟
وسؤال سادس ـ ومن حق القارئ أن يسأل ـ : هل إنّ لأبي بكر أن يحضر الممتنع وإن كان في بيت من بيوت أذن الله بأن ترفع ، وهو نفسه وعمر مثله يعلمون بأنّ بيت علي عليهالسلام من أفاضلها ، وقد روى هو ذلك (٣).
_____________________
١ ـ مبايعة الشيخين مع باقي الصحابة في غدير خم ذكرها الشيخ الأميني رحمهالله في الغدير بتوثيق ، فراجع الجزء الأول.
٢ ـ راجع النهاية لابن الأثير ، والفائق للزمخشري ، ولسان العرب لابن منظور جميعاً في مادة ( خلف ) وكنز العمال ١٤ : ١٧٣ ، تجد أنّ أعرابياً سأل أبا بكر : أنت خليفة رسول الله صلىاللهعليهوسلم ؟ قال : لا ، قال : فما أنت ؟ قال : أنا الخالفة بعده ، أي القاعدة بعده.
٣ ـ أخرج الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل ١ : ٤١٠ ، بسنده عن أنس بن مالك ، وعن بريدة قال : قرأ رسول الله صلىاللهعليهوسلم هذه الآية : ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ ) إلى قوله : ( وَالْأَبْصَارُ ) [ النور : ٣٦ ـ ٣٧ ] ، فقام إليه رجل فقال : يا رسول الله أيّ بيوت هذه ؟ قال : « بيوت الأنبياء » ، فقام إليه أبو بكر فقال : يا رسول الله هذا البيت منها ـ لبيت علي وفاطمة ـ قال : « نعم ، من أفاضلها » ، قال الحاكم : لفظ أبي القاسم ما أصلحت ، وكتبته من أصل سماعه بخط أبي حاتم.
وسؤال سابع ـ ومن حق القارئ أن يسأل ـ : ألم يكن علي ومن معه في بيت فاطمة عليهاالسلام ، ولما داهم البيت عمر ومن معه من عصابته ، وخرجت اليهم فاطمة عليهاالسلام تمانعهم وتقول لعمر : « أتراك محرقاً عليّ بيتي » ـ داري ـ فيقول لها : نعم ، وذلك أقوى مما جاء به أبوك ؟ ألم يروا ولم يسمعوا بأنّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم كان إذا أتى ذلك البيت يقف ويقرأ : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) (١).
ألم يروا ولم يسمعوا بأن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يقول : « فاطمة بضعة منّي فمن أغضبها فقد أغضبني ، ومن آذاها فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله » (٢).
وفي نور الأبصار (٣) : خرج النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو آخذ بيد فاطمة فقال : « من عرف هذه فقد عرفها ، ومن لم يعرفها فهي فاطمة بنت محمد ، وهي بضعة منّي وهي قلبي ، وهي روحي التي بين جنبيّ ، من آذاها فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله ».
وأخرج الدارقطني عن عمر أنه سمع رجلاً يقع في علي فقال : ويحك أتعرف علياً ؟ هذا ابن عمه ـ وأشار إلى قبر رسول الله صلىاللهعليهوسلم ـ والله ما آذيت إلا هذا في قبره (٤).
وروى الإمام أحمد في زوائد المسند بلفظ : إنّك إن انتقصته فقد آذيت هذا في قبره. وأخرج السيوطي في الجامع الصغير نقلاً عن أحمد ، وتاريخ البخاري ، ومستدرك الحاكم في فضائل الصحابة عن عمرو بن شاس مرفوعاً : ( من آذى علياً فقد آذاني ) قال الحاكم : صحيح ، وأقرّه الذهبي ، قال الهيثمي : رجاله رجال الصحيح (٥).
_____________________
١ ـ الأحزاب : ٣٣.
٢ ـ صحيح البخاري ٢ : ٣٠٨ ، باب : مناقب فاطمة.
٣ ـ نور الأبصار للشبلنجي : ٥٢.
٤ ـ فيض القدير ٦ : ١٨.
٥ ـ المصدر نفسه ٦ : ١٨.
وأخرج السيوطي أيضاً في الجامع الصغير نقلاً عن ابن عساكر عن علي مرفوعاً : ( من آذى شعرة منّي فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله ) قال المناوي في فيض القدير (١) : أي أحداً من أبعاضي وإن صغر ، كنى به عن ذلك ، كما قال : فاطمة بضعة منّي. وقال : زاد أبو نعيم والديلمي : ( فعليه لعنة الله ملء السماء وملء الأرض ).
أقول : فماذا بعد الحق إلا الضلال ، فما دام رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قال ذلك ، فلا عتاب على من اتبع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فلعن من عليه لعنة الله ملء السماء وملء الأرض.
فبماذا يفسر العمريون مجيئ عمر بقبس من نار ليحرق بيت علي وفاطمة عليهماالسلام على من فيه ، فاستنكر بعض أصحاب الضمائر الحيّة ذلك ، فقالوا له : إنّ في الدار فاطمة ! قال : وإن ، ـ كما مرّ ـ.
وهذا أمر ثابت تاريخياً ، مع هذا كله وقد تبجح حافظ إبراهيم في عمريته حيث قال بكل صلف :
وقولة لعلي قالها عمرٌ |
|
أكرم بسامعها أعظم بملقيها |
حرّقت دارك لا أبقي عليك بها |
|
إن لم تبايع وبنت المصطفى فيها |
ما كان غير أبي حفص يفوه بها |
|
أمام فارس عدنان وحاميها |
فهل إنّ ذلك كان يرضي الله ورسوله ، لنكفّ ألسنتنا وأقلامنا عن الخوض في تلك الجريمة الشنعاء ؟
أولم تصرخ فاطمة عليهاالسلام مستغيثة بأبيها : « ماذا لقينا بعدك من ابن أبي قحافة وابن الخطاب » ؟ أوليس هذا من شدة الأذى الذي لحق بها.
ألم يخرجوا علياً بأعنف العنف ملبّباً يتلونه تلا ، وأوقفوه حافياً حاسراً بين يدي أبي بكر وقالوا له : بايع ، قال : « فإن لم أفعل » فهددوه بالقتل ، قال : « تقتلون
_____________________
١ ـ المصدر نفسه ٦ : ١٨.
عبداً لله وأخا رسوله » ؟ فقالوا : أما عبد الله فنعم ، وأما أخا رسوله فلا ، فانعطف إلى قبر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم صارخاً : « يا بن أم إنّ القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني » ؟.
وهل هذا ليس فيه شيء من الأذى ؟ إذن ما هو الأذى الذي يستوجب لعنة الله ملء السماء وملء الأرض ؟ ولا شك أنّهم كانوا من الصحابة ، وسمعوا من النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فيمن آذى علياً وآذى فاطمة ، فما الجواب ؟
وما داموا هم صحابة فلا شك أنّهم سمعوا قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا ) (١) ، فلا ضير على من يلعن من لعنه الله سبحانه في الدنيا والآخرة ، وأعد له عذاباً مهيناً.
وسؤال ثامن ـ ومن حق القارئ أن يسأل ـ : هل كانت بيعة أبي بكر بالاختيار ، كما يزعم البكريون ؟ فلماذا إذن المساومة والرشوة ؟ ألم تقل الأنصارية ، وقد ردت ما بعث بها إليها أبو بكر : أتراشونني عن ديني ؟ كما مرت الإشارة إليه (٢).
ألم يقل عمر لأبي بكر ، وقد بلغه مجيئ أبي سفيان بن حرب ، وكان جابياً لبعض الصدقات قد بعثه النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فعاد بعد موت النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فاستنكر خلافة أبي بكر وقال : ما بال هذا الأمر في أرذل حي من قريش ؟ لأملأنّها خيلاً ورجالاً ، وسماه أبا فصيل تحقيراً له ، فقال عمر لأبي بكر أن يعطيه المال الذي جاء به ليسكت ، وقد تم ذلك ، وزاد بتولية ابنه يزيد بن أبي سفيان أن قال : وصلته رحم ، وهذا كله مذكور في التاريخ.
ألم يعطوا معاذ بن جبل المال الذي أتى به من اليمن بعد أن ساومه عمر على ذلك (٣) ، حتى أصبح معاذ ممن يشار إليه في القضاء ؟ لأنهم أخذوا بضبعه.
_____________________
١ ـ الأحزاب : ٥٧.
٢ ـ كنز العمّال ٥ : ٣٥٣ ، نقلاً عن ابن سعد وابن جرير.
٣ ـ كنز العمّال ٥ : ٣٤٢ ـ ٣٤٣ ، نقلاً عن عبد الرزاق وابن راهويه.
وسؤال تاسع ـ ومن حق القارئ أن يسأل ـ : لقد مرّ بنا مكرراً حديث الفلتة ، وانّ عمر نفسه قال ذلك عن بيعة أبي بكر بأنّها فلتة ، وقد روى ذلك البخاري في باب رجم الحبلى ، ورواه غيره كما مرّ ، ولما كانت الفلتة وفيها شر ولكن وقى الله شرها ، فكيف لصاحب تلك البيعة الفلتة وفيها شر ، الحق بأن يستخلف غيره ، وهي باطلة لما فيها من شر ، وما بني على الباطل باطل ؟ وقد سمّاها أحمد أمين المصري ( غلطة ) (١).
وسؤال عاشر ، وآخر وآخر وتبقى الأسئلة تترى ، ولا جواب على صواب غير المكابرة من الاتباع والأذناب ، الا فمن هو أوّل من أسّس أساس الظلم والجور على أهل البيت ؟ فليجيبوا على هذا السؤال بفصيح المقال.
إن المسلم البصير بأمر دينه ، لا يخشى من قراءة تاريخية تكشف له الصفحات المزوّرة ، والأمجاد المفتعلة لشخصيات مهزوزة عقائدياً ومهزومة تاريخياً ، ما دام من حقه النظر بعقل واع ، ومدرك موازين الحق ، فلا يخدعه التقديس الأعمى للموروث ، الذي يخلط الحابل بالنابل ويساوي المظلوم بالظالم ، وآخر دعواه ( عفا الله عما سلف ) وهذه بلية أكثر المسلمين في الأرض ، ولا بدّ من إعادة قراءة التاريخ قراءة واعية كي يمكن لنا تلافي ما قرأناه وسمعناه من أخطاء غيّرت كثيراً من المفاهيم الصحيحة ، فأضفينا الشرعية على حكم كل حاكم ظالم ، لأنّا قرأنا حديثاً مكذوباً : « أطعه وإن ضربك وأخذ مالك ».
وبالتالي تولى سلاطين الجور والحكام الطغاة ، فأحاطوا أنفسهم بحثالات لا تسوى شروى نقير ، فصاروا يروون لهم ما يشاؤون من أكاذيب تدعم سلطانهم حسب الأهواء والشهوات.
_____________________
١ ـ قال في كتابه يوم الإسلام : ٥٤ ، فلما مات النبي صلىاللهعليهوسلم حصل هذا الاختلاف ، فبايع عمر أبا بكر ثم بايعه الناس ، وكان في هذا مخالفة لركن الشورى ، ولذلك قال عمر : إنها غلطة ( كذا ) وقى الله المسلمين شرها ، وكذلك كانت غلطة بيعة أبي بكر لعمر.
وفيما نحن بصدده لا استغناء لنا عن قراءة التاريخ بصفحاته ، لغربلة ما فيه من كذب فاضح ببصماته ، وادانة من أحدث الانحراف وتنكب الطريق الجدد فابتعد عن الصواب ، فأورد الأمة ـ شارب ـ بوءة ، فثارت الفتن حتى اليوم ، وتوالت المآسي يتبعها بعضها بعض كقطع الليل المظلم ، ولا شك أنه سوف يتحمل وزر فعله ووزر من تابعه وشايعه لقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : « من سنّ سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها » (١).
وبتحديد المواقف تتضح هوية الأشخاص قرباً وبعداً من الدين ، وهذا أمر طبيعي لمعرفة المحق من المبطل ، وفيصل الحكم انّما هو القرآن الكريم والسنة النبوية قولاً وفعلاً وتقريراً ، ولا يمكن بأيّ حال من الأحوال التخلّي عن هذين العمودين : ( القرآن والسنة ) ومتى تخلّينا عنهما أو عن أحدهما فلسنا بمسلمين عملاً ، وإن كانت بطاقة الهوية فيما يكتب فيها الديانة مسلم ، فذلك لا يجدي يوم القيامة عند الحساب بين يدي من لا يخفى عليه خافية.
ولما كان النبي الكريم صلىاللهعليهوآلهوسلم قد جاء برسالة فبلّغها ، وشريعة شرّعها ، وترك أمته على النهج الواضح والطريق المستقيم ، ليس من حق أيّ إنسان تبديل حكم من الأحكام ، ولا تعدي حدّ من حدود الإسلام ، لأنه صلىاللهعليهوآلهوسلم : ( وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ ) (٢).
لذلك يجب على من كان مسلماً صحيح العقيدة الإذعان لما جاء به ، قال الله تعالى : ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) (٣) ، وقال تعالى : ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (٤).
_____________________
١ ـ المصنف لابن أبي شيبة ٣ : ١٠٩ ، وراجع موسوعة أطراف الحديث النبوي الشريف ٨ : ٣١٩ ، لمعرفة بقية المصادر.
٢ ـ النجم : ٣ ـ ٤.
٣ ـ الحشر : ٧.
٤ ـ النور : ٦٣.
هذا النبي العظيم الذي أنقذ الأمة من حيرة الجهالة إلى نور الحق والعدالة ، لم يسأل أمته أجراً على جهوده وجهاده طيلة ثلاثة وعشرين عاماً ، سوى مودة أهل بيته ، كما قال تعالى : ( قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ ) (١).
وأقرب الناس إليه هم أهل بيته : ( علي وفاطمة والحسن والحسين ) الذين جللهم بالكساء ، وفيهم نزلت آية التطهير : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) (٢) ، وعرفوا بأهل الكساء ، وقد روى أبو بكر خبر الخيمة التي ضربها عليهم النبي أمام المسلمين وقال : ( رأيت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم خيّم خيمة وهو متكئ على قوس عربية ، وفي الخيمة علي وفاطمة والحسن والحسين فقال : معاشر المسلمين أنا سلم لمن سالم أهل الخيمة ، حرب لمن حاربهم ، وليّ لمن والاهم ، لا يحبّهم إلّا سعيد الجدّ طيّب المولد ، ولا يبغضهم إلّا شقي الجدّ رديء الولادة ) وقد مر هذا برواية المحب الطبري فراجع النص الثامن.
فماذا كان الموقف المحزن المخزي من المسلمين أزاء أهل بيته أولئك ؟ ومَن هو أول من أسس أساس الظلم عليهم ، وبنى عليه بنيانه ؟ ألم يكن أبو بكر هو الذي قال لعمر : إئتني به ـ بعلي ـ بأعنف العنف ؟ ألم يكن هو الذي قال لعمر : فإن أبوا فقاتلهم ؟
ألم يكن هو الذي ندم بعد ما اقترف في حق أهل البيت ، وذلك عند حضور أجله ، فقال في مثلثاته وقد مرّ ذكرها وذكر مصادرها وفيها : ( ليتني لم أكشف عن بيت فاطمة وإن اشتمل على حرب ).
ألم يكن هو الذي كان ينضض بلسانه عند موته ويقول : ( هذا الذي أوردني الموارد ) ؟
_____________________
١ ـ الشورى : ٢٣.
٢ ـ الأحزاب : ٣٣.
وهل تجدي ليتني ؟ قال الشاعر :
ليت وهل تجدي شيئاً ليت |
|
ليت شباباً بوع فاشتريت |
وكيف ينفعه الندم بعدما سمعت اذناه ووعاه قلبه ما قاله النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم مِن لعن مَنْ آذى عترته ، وهو ـ أبو بكر ـ يقول : ( علي عترة رسول الله صلىاللهعليهوسلم ) .
ألم يقل النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : « اشتد غضب الله ، وغضب رسوله ، وغضب ملائكته على من هراق دم نبي وآذاه في عترته » (١). ألم يقل النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : « يا فاطمة إنّ الله يغضب لغضبك ويرضى لرضاك » (٢). ألم يقل صلىاللهعليهوآلهوسلم : « فاطمة بضعة منّي من آذاها فقد آذاني ».
وهنا يقفز إلى الذهن السؤال الطويل العريض :
هل إنّ فاطمة الزهراء ماتت وهي غضبى على أحد ؟ فيكون ذلك فيمن غضب الله تعالى عليه ، وغضب عليه رسوله ، ومن غضب الله عليه ورسوله فمأواه جهنم وساءت مصيراً.
فهل لنا بعد هذا أن نتولّى من أغضب فاطمة عليهاالسلام حتى ماتت وهي غضبى عليه ؟ والله سبحانه يقول في كتابه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ ) (٣).
وأخيراً فهل يجوز لعن من آذى فاطمة عليهاالسلام لقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : « من آذى فاطمة فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله تعالى » والله سبحانه يقول : ( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا * وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ) (٤).
_____________________
١ ـ ذخائر العقبى : ٣٩.
٢ ـ نفس المصدر : ٣٩.
٣ ـ الممتحنة : ١٣.
٤ ـ الأحزاب : ٥٧ ـ ٥٨.
ولتكن لدى القارئ صراحة الحق وجرأة الإيمان ، فيجيب ولا يجمجم في الجواب ، ففاطمة الزهراء عليهاالسلام جابهت وجبهت الشيخين بذلك حين أتياها معتذرين ، فلم تعذرهما وقالت لهما : « أرأيتكما إن حدثتكما حديث عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم تعرفانه وتعملان به » ؟ قالا : نعم ، فقالت : « نشدتكما الله ألم تسمعا رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : رضا فاطمة من رضاي ، وسخط فاطمة من سخطي ، فمن أحب فاطمة ابنتي فقد أحبني ، ومن أرضى فاطمة فقد أرضاني ، ومن أسخط فاطمة فقد أسخطني » ؟ قالا : نعم سمعناه من رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، قالت : « فإنّي أشهد الله وملائكته أنكما أسخطتماني وما أرضيتماني ، ولئن لقيت رسول الله صلىاللهعليهوسلم لأشكونكما إليه » ، فبكى أبو بكر حتى كانت نفسه تزهق وهي تقول : « والله لأدعونّ الله عليكما في كل صلاة أصليها » (١).
فمن غضبت عليه وضلّت تدعو الله عليه لا يجوز لنا أن نتولاه أيّاً كان ذلك الإنسان.
مواقف متباينة وأقوال متضاربة :
قالت عائشة : ما رأيت أحداً كان أصدق منها ـ أي فاطمة ـ الا أن يكون الذي ولدها صلىاللهعليهوسلم (٢).
وقالت أيضاً : ما رأيت أحداً أشبه سمتاً ودلاً وهدياً وحديثاً برسول الله صلىاللهعليهوسلم في قيامه وقعوده من فاطمة بنت رسول الله صلىاللهعليهوسلم (٣).
قالت : وكانت إذا دخلت على رسول الله صلىاللهعليهوسلم قام إليها فقبّلها وأجلسها في مجلسه (٤).
_____________________
١ ـ راجع الإمامة والسياسة لابن قتيبة : ١٣ ـ ١٤.
٢ ـ أخرجه أبو عمر وعنه في ذخائر العقبى : ٤٤.
٣ ـ نفس المصدر : ٤٠.
٤ ـ ذخائر العقبى : ٤١ ، خرّجه الترمذي وأبو داود والنسائي.
هذا قول عائشة لكن أباها أبا بكر أبى تصديق فاطمة عليهاالسلام حين طالبته بفدك بل وطالبها بالبينة.
روى البلاذري في فتوح البلدان (١) : إنّ فاطمة رضياللهعنها قالت لأبي بكر الصديق : أعطني فَدَك فقد جعلها رسول الله صلىاللهعليهوسلم لي ، فسألها البينة ، فجاءت بأم أيمن ورباح مولى النبي صلىاللهعليهوسلم فشهدا لها بذلك ، فقال : إن هذا الأمر لا تجوز فيه إلّا شهادة رجل ( وامرأتين ).
فعش رجباً ترى عجباً ، فاطمة الزهراء بضعة رسول الله صلىاللهعليهوسلم المطهرة المعصومة بنص آية التطهير ، لم يصدّقها أبو بكر ، وقالوا عنه انه الصديق لأنه صدّق رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وها هو يغتصب من ابنته فدكاً نحلتها من أبيها ثم يطالبها بالبينة ، فمن هو الكاذب والصادق ؟ عائشة أم أبوها ؟ ومن هو المحق ؟ ومن هو المبطل ؟
ولا نبتعد عن الجواب إذ لا نجانب الصواب ، ما دامت عائشة تشهد على أبيها بما يدينه وهو من عجائب العجاب.
فقد روى أحمد في مسنده (٢) بسنده عن عروة بن الزبير أنّ عائشة زوج النبي صلىاللهعليهوسلم أخبرته : أنّ فاطمة بنت رسول الله صلىاللهعليهوسلم سألت أبا بكر بعد وفاة رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن يقسم لها ميراثها مما ترك رسول الله صلىاللهعليهوسلم مما أفاء الله عليه ، فقال لها أبو بكر : إنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : لا نورّث ، ما تركنا صدقة ، فغضبت فاطمة فهجرت أبا بكر فلم تزل مهاجرته حتى توفيت ، قال : وعاشت بعد وفاة رسول الله صلىاللهعليهوسلم ستة أشهر.
والآن هل لسائل أن يقول لأبي بكر ومن شايعه : ما دمت لا تعترف لفاطمة عليهاالسلام بالعصمة والطهارة ، وسألتها البينة ، وأتتك بمن أتتك فلم تقبل منها ، هلّا قضيت كما كان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم حين قضى بشاهد ويمين كما في حديث ابن عباس في أول كتاب الأقضية من صحيح مسلم ؟
_____________________
١ ـ فتوح البلدان للبلاذري ١ : ٣٤ ـ ٣٥.
٢ ـ مسند أحمد ١ : ٣٤ ، ح ٢٥.
ثم ما بال النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم خصّك بسماع هذا الحديث ؟ ولم يسمعه غيرك ممن هو أولى منك بسماعه ، لأنّه مورد ابتلائه كابنته وأزواجه ، إنها فرية بلا مرية ، وحبكة من غير حنكة ، ومن يقرأ خطبة الصديقة فاطمة الزهراء عليهاالسلام في احتجاجها على أبي بكر في مسألة الميراث ، يبقى مبهوراً أمام تلك البلاغة الفاطمية ، ولا عجب فإنّها لتفرغ عن لسان أبيها صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وقد تقدم شطر من الخطبة فيما نقلناه عن ابن أبي الحديد : « في الفصل الثالث : نصوص يجب أن تقرأ بامعان » فراجع.
وإنّ من قرأ الخطبة بتمامها ، تتكشف عنه ضبابية الموروث ، ويدرك أن لا مسوّغ لمسلم يوالي من أغضب فاطمة التي يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها ، وقد ماتت وهي غضبى على الشيخين ، ويعني ذلك أنّها لم تعترف بإمامة أبي بكر.
والحديث النبوي الشريف : « من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية » يقضي ببطلان إمامة أبي بكر ، لأنّ فاطمة بضعة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ماتت وهي لا تقر له إمامته ، بل نازعته مراراً في النحلة والميراث والفيء ، وقد ماتت على ذلك وهي غضبى عليه ، فهل يجرأ مسلم يتفوّه ويقول إنّها ماتت ميتة جاهلية ، كيف وهي بضعة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وممن طهرهم الله تعالى من الرجس تطهيراً ، فتكون النتيجة انّ أبا بكر لم يكن إماماً بالحق لتتولاه فاطمة عليهاالسلام وتموت على ولائه ، نعم هي كانت ترى إمامة ابن عمها الذي نصّبه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يوم غدير خم علماً وهادياً ، وقد دافعت عنه كثيراً.
حديث معاشر الأنبياء لا نورّث :
انّ حديث « نحن معاشر الأنبياء لا نورث » حديث مكذوب على النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وهو القائل : « من كذب عليّ متعمداً فليتبوّأ مقعده من النار » (١).
_____________________
١
ـ أخرجه البخاري في صحيحه ١ : ٢٩ باب إثم من كذّب على النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وساق الحديث
بأسانيد =
روى الحديث أبو بكر فقط وفقط ، ثم تتابعت رواة السوء على دعمه في زعمه ، ومهما يكن فلنا أن نسأل من البكريين : ما دام أبو بكر يروي الحديث وطبّقه عملياً مع فاطمة الزهراء عليهاالسلام ، ما باله لم يعامل ابنته كما عامل فاطمة عليهاالسلام في بيتها الذي تملّكته من دون حق تمليك من النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في حياته ، وبقيت من بعده تتصرف فيه تصرف الملاك في أملاكهم ، حتى انّ أبا بكر وعمر دفنا فيه بعد إذنها ، فهل كان يحق له ذلك ؟ وهل كان يحق لها ذلك ؟ مع أنّهم جميعاً أجانب عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فإن كان البيت ميراثاً وجب استئذان جميع الورثة ، وإن كان صدقة وجب استئذان المسلمين ، وإن كان ملكاً لعائشة كذّبها الحديث المشهور : « ما بين منبري وبيتي روضة من رياض الجنة » (١) ولم يرد في حديث : ما بين منبري وبيت عائشة روضة من رياض الجنة.
إنّها مسائل معضلة ، لمن لا يريد فهم المشكلة ، إنّها الدنيا وقد حليت في أعينهم فراقهم زبرجها ، فارتكبوا كل أمر خطير ، والحساب عسير.
ولو سلّم المجادل في صحة ما رواه أبوها وقال : يحق لعائشة في بيتها لا من جهة الإرث ، لأنّه لها التسع من الثمن ، ولكن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ملّكها في حياته ، فلماذا لم تطالب هي ولا واحدة من بقية الأزواج ببينة على أنّ البيوت لهنّ نحلة من النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، كما طولبت الزهراء عليهاالسلام بالبينة على غلتها ، إنّها مفارقات عجيبة.
_____________________
= متعددة عن علي والزبير وأنس وسلمة وأبي هريرة وتفاوت في بعض الألفاظ ، وأخرجه في أماكن اُخرى من صحيحه ، وأخرجه مسلم في صحيحه ١ : ٧ كما في المقدمة ، وذكر حديث علي وأنس وأبي هريرة والمغيرة بن شعبة بأسانيد مختلفة والفاظ متفاوتة ، وأخرجه ابن ماجه ، وأبو داود ، والترمذي ، وأحمد ، والدارمي ، والبيهقي ، وابن حبان وآخرون كثيرون ، راجع عنهم موسوعة أطراف الحديث النبوي الشريف ٤ : ٥٢٤.
١ ـ صحيح مسلم ٤ : ١٢٣ ، عن أبي هريرة ، وعن عبد الله بن زيد المازني في باب ما بين القبر والمنبر روضة من رياض الجنة.