ذكرى الشيعة في أحكام الشّريعة - ج ١

محمّد بن جمال الدّين مكّي العاملي الجزيني [ الشهيد الأول ]

ذكرى الشيعة في أحكام الشّريعة - ج ١

المؤلف:

محمّد بن جمال الدّين مكّي العاملي الجزيني [ الشهيد الأول ]


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-103-6
الصفحات: ٤٧١

ولا حاجة الى إضافة ( غير الضرورية ) إلى التعريف ، لخروجها بالأدلة من حيث إنّ الضروري يقابل الاستدلالي ، أو أنّ العلم بها وحدها لا يكون فقها ، لا من حيث كونها ضرورية بل من حيث إنّ الكل لا يصدق على الجزء.

وإذا فسّر العلم بـ : الاعتقاد الجازم عن موجبه ، خرج سؤال الظنون لدخولها فيه.

وإذا قيل : بتجزؤ الاجتهاد ، لم تكن لام الاحكام للاستغراق. ولا يدخل المقلد ، لعدم استدلاله على الأعيان.

الإشارة الثانية : يجب التفقّه ، لتوقّف معرفة التكليف الواجب عليه. ولا يرد الندب والمكروه والمباح على عموم وجوب التفقّه ، لأنّ امتياز الواجب والحرام انما يتحقّق بمعرفة كل الأحكام ، إذ التكليف باعتقادها على ما هي عليه ، وهو موقوف على معرفتها.

ووجوبه كفاية ، لقوله تعالى ( فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ) (١).

وللزوم الحرج المنفي بالقرآن العزيز (٢).

وعليه أكثر الإمامية ، وخالف فيه بعض قدمائهم (٣) وفقهاء حلب (٤) ـ رحمة الله عليهم ـ فأوجبوا على العوام الاستدلال ، واكتفوا فيه : بمعرفة الإجماع الحاصل من مناقشة العلماء عند الحاجة إلى الوقائع ، أو النصوص الظاهرة ، أو أن الأصل في المنافع الإباحة وفي المضار الحرمة ، مع فقد نص قاطع في متنه ودلالته والنصوص محصورة.

ويدفعه : إجماع السلف والخلف على الاستفتاء من غير نكير ولا تعرض لدليل بوجه من الوجوه ، وما ذكروه لا يخرج عن التقليد عند التحقيق ، وخصوصا‌

__________________

(١) سورة التوبة : ١٢٢.

(٢) إشارة إلى قوله تعالى ( وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) ، سورة الحج : ٧٨.

(٣) كالسيد المرتضى في جوابات المسائل الرسية الأولى ٢ : ٣٢٠.

(٤) كابن زهرة الحلبي في الغنية : ٤٨٦.

٤١

عند من اعتبر حجية خبر الواحد ، فان في البحث عنه عرضا عريضا.

الإشارة الثالثة : يعتبر في الفقيه أمور ثلاثة عشر ، قد نبّه عليها في مقبول عمر بن حنظلة عن الإمام الصادق عليه‌السلام : « انظروا الى من كان منكم قد روى حديثنا ، ونظر في حلالنا وحرامنا ، وعرف أحكامنا ، فارضوا به حكما فاني قد جعلته عليكم حاكما ، فإذا حكم بحكمنا ولم يقبله منه ، فإنما بحكم الله استخف ، وعلينا ردّ ، وهو رادّ على الله (١) ، وهو على حدّ الشرك بالله ، فإذا اختلفا فالحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما » (٢).

الأمر الأول : الإيمان ، لقوله : « منكم » ، لأن غير المؤمن يجب التثبّت عند خبره ، وهو ينافي التقليد.

الثاني : العدالة ـ لذلك أيضا ـ وعليه نبّه بقوله : « أعدلهما ».

الثالث : العلم بالكتاب.

الرابع : العلم بالسنّة ، ويكفي منهما ما يحتاج إليه ولو بمراجعة أصل صحيح.

الخامس : العلم بالإجماع والخلاف لئلاّ يفتي بما يخالفه.

السادس : العلم بالكلام.

السابع : العلم بالأصول.

الثامن : العلم باللغة والنحو والصرف وكيفيّة الاستدلال ، وعلى ذلك دلّ بقوله : « وعرف أحكامنا » ، فإن معرفتها بدون ذلك محال.

التاسع : العلم بالناسخ والمنسوخ ، والمحكم والمتشابه ، والظاهر والمؤوّل ، ونحوها مما يتوقّف عليه فهم المعنى والعمل بموجبه ، كالمجمل والمبين والعام والخاص.

__________________

(١) في الكافي والتهذيب : « والراد علينا الراد على الله ».

(٢) الكافي ١ : ٥٤ ، وقطعة منه في الكافي أيضا ٧ : ١٤٢ ، والفقيه ٣ : ٥ ح ١٨ ، والتهذيب ٦ : ١٢٨ ح ٥٤١.

٤٢

العاشر : العلم بالجرح والتعديل ، ويكفي الاعتماد على شهادة الأولين به كما اشتمل عليه كتب الرجال ، إذ يتعذّر ضبط الجميع مع تطاول الأزمنة. وفي الكافي ومن لا يحضره الفقيه والتهذيب بلاغ واف وبيان شاف (١) ، والى ذلك أشار بقوله : « وروى حديثنا » (٢).

الحادي عشر : العلم بمقتضى اللفظ لغة وعرفا وشرعا.

الثاني عشر : أن يعلم من المخاطب إرادة المقتضى إن تجرّد عن القرينة ، وارادة ما دلّت عليه القرينة ان وجدت ليثق بخطابه ، وهو موقوف على ثبوت الحكمة.

الثالث عشر : أن يكون حافظا ، بمعنى : أنّه أغلب عليه من النسيان ، لتعذّر درك الأحكام من دونه.

والأولى جواز تجزّئ الاجتهاد ، لأنّ الغرض الاطلاع على مأخذ الحكم وما يعتبر فيه وهو حاصل ، ويندر ويبعد تعلّق غيره به فلا يلتفت اليه ، لقيام هذا التجويز في المجتهد المطلق ، وعليه نبّه في مشهور أبي خديجة عن الصادق عليه‌السلام : « أنظروا الى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا ، فاجعلوه بينكم فانّي قد جعلته قاضيا » (٣).

الإشارة الرابعة : يجب اجتهاد العامي ومن قصر عن الاستدلال في تحصيل المفتي بإذعان العلماء له واشتهار فتياه. فان تعدّد وجب اتباع الأعلم الأورع ـ كما تضمّنه الحديث ـ لزيادة الثقة بقوله. فان تقابل الأعلم والأورع ، فالأولى : تقليد الأعلم ، لأنّ القدر الذي فيه من الورع يحجزه عن الاقتحام على ما لا يعلم ، فيبقى ترجيح العلم (٤) سالما عن المعارض.

__________________

(١) هذا إشارة إلى القول بكفاية اتفاق المشايخ الثلاثة ـ الكليني والصدوق والطوسي ـ على إخراج رواية الرجل في وثاقته والاعتماد على خبره.

(٢) تقدم في : ٤٢ الهامش ٢.

(٣) الكافي ٧ : ٤١٢ ح ٥ ، الفقيه ٣ : ١٠ ح ١ ، التهذيب ٦ : ٢١٩ ح ٥١٦.

(٤) في ط : الأعلم.

٤٣

وإن استويا في العلم والورع ، فالأولى : التخيير ، لفقد المرجّح ، وان بعد وقوعه حتى منعه بعض الأصوليين ، لامتناع اجتماع أمارتي الحرمة والحلّ.

فإذا اتّبع عالما في حكم فله اتباع الآخر في غيره ، وليس له اتّباعه في نقيضه ، وربّما قيل : بجوازه مع تساويهما في واقعة اخرى.

الإشارة الخامسة : لا يشترط مشافهة المفتي في العمل بقوله ، بل يجوز بالرواية عنه ما دام حيا ، للإجماع على جواز رجوع الحائض إلى الزوج العامي إذا روى عن المفتي ، وللعسر اللازم بالتزام السماع منه.

وما يوجد في بعض العبارات : لا يجوز الإفتاء للعامي بقول المفتي ، محمول على تصرّفه في الحكم تصرّف المفتي.

وهل يجوز العمل بالرواية عن الميت؟

ظاهر العلماء المنع منه ، محتجّين بأنّه لا قول له ، ولهذا انعقد الإجماع مع خلافه ميتا.

وجوّزه بعضهم ، لإطباق الناس على النقل عن العلماء الماضين ، ولوضع الكتب من المجتهدين ، ولأن كثيرا من الأزمنة أو الأمكنة تخلو عن المجتهدين وعن التوصّل إليهم ، فلو لم تقبل تلك الرواية لزم العسر المنفي.

وأجيب : بأن النقل والتصنيف يعرّفان طريق الاجتهاد من تصرفهم في الحوادث والإجماع والخلاف لا التقليد ، وبمنع جواز الخلو عن المجتهد في زمان الغيبة.

والأولى : الاكتفاء بالكتابة مع أمن التزوير ، للإجماع على العمل بكتب النبي والأئمة عليهم الصلاة والسلام في أزمنتهم ، ولأنّ المعتبر ظنّ الإفتاء وهو حاصل بذلك.

الإشارة السادسة : الإشارة السادسة : في قول وجيز في الأصول يبعث الهمّة على طلبه من مظانّه ، وهي أربعة :

أحدها الكتاب ، وهو : الكلام المنزل لمصالح الخلق ، والإعجاز بسورة‌

٤٤

منه. وينقسم لفظه إلى :

حقيقة ، وهي : اللفظ المستعمل فيما وضع له في اصطلاح التخاطب ، كالسماء والدابة والصلاة.

ومجاز ، وهو : اللفظ المستعمل فيما لم يوضع له في اصطلاح التخاطب للعلاقة ، مثل ( جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ ) (١).

ومضمر ، وهو : ما دلّ الدليل على إرادته وتقديره في الكلام ، مثل : ( وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ ) (٢).

ومشترك ، وهو : ما وضع لحقيقتين فصاعدا وضعا أولا من حيث هو كذلك كالقرء ، ويسمى : مجملا بالنسبة إلى كل واحد من معنييه.

ومنفرد ، وهو : ما يقابل المشترك.

ومنقول ، وهو : المستعمل في غير موضوعه لا لعلاقة مع الأغلبية ، ويسمّى : المرتجل.

وأمر ، وهو : اللفظ الدال على طلب (٣) الفعل مع الاستعلاء ، مثل : ( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ) (٤) ، ( فَكاتِبُوهُمْ ) (٥) ، ( وَاسْتَشْهِدُوا ) (٦).

ونهي ، وهو : اللفظ الدال على طلب الكفّ مع الاستعلاء ، مثل ( وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى ) (٧) ، ( وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً ) (٨).

ومطلق ، وهو : اللفظ الدال على الماهية لا بقيد ، مثل : ( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ

__________________

(١) سورة الكهف : ٧٧.

(٢) سورة يوسف : ٨٢.

(٣) « طلب » ساقطة من م ، س.

(٤) سورة البقرة : ٤٣.

(٥) سورة النور : ٣٣.

(٦) سورة البقرة : ٢٨٢.

(٧) سورة الإسراء : ٣٢.

(٨) سورة الإسراء : ٣٧.

٤٥

مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّا ) (١).

ومقيّد ، وهو مقابله ، مثل ( وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ) (٢).

وعامّ ، وهو : اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له بوضع واحد ، مثل : ( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) (٣).

وخاصّ ، وهو مقابله ، مثل ( يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلاّ قَلِيلاً ) (٤).

ومبيّن ، وهو : المستغنى عن البيان ، مثل ( فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ) (٥) ، وما لحقه البيان ، مثل : الصلاة.

وناسخ ، وهو : الرافع حكما شرعيا بخطاب شرعي متراخ عنه على وجه لولاه لكان ثابتا ، مثل ( يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً ) (٦).

ومنسوخ ، مثل ( مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ ) (٧).

ثم دلالة اللفظ على معناه : أمّا خالية عن الاحتمال وهو النصّ ، مثل : ( فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ ) (٨) ، ويقابله المجمل المذكور. وأمّا مع الاحتمال الراجح على المنطوق وهو المأوّل ، مثل ( وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ) (٩). وأمّا مع احتمال مرجوح وهو الظاهر.

وأنواعه أربعة : الراجح بحسب الحقيقة الشرعية كدلالة الحجّ على المناسك المخصوصة ، والراجح بحسب الحقيقة العرفية كدلالة‌ ( أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ

__________________

(١) سورة المجادلة : ٣.

(٢) سورة النساء : ٩٢.

(٣) سورة التوبة : ٥.

(٤) سورة المزمل : ٢.

(٥) سورة النساء : ١٣٦.

(٦) سورة البقرة : ٢٣٤.

(٧) سورة البقرة : ٢٤٠.

(٨) سورة محمد : ١٩.

(٩) سورة الرحمن : ٢٧.

٤٦

الْغائِطِ ) (١) على الحدث ، والمطلق والعام بالنسبة إلى مدلولهما.

تنبيه :

قد يتّفق اجتماع النصّ والمجمل باعتبارين ، مثل ( وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ) (٢) ، فإنّه نصّ في دلالته على الاعتداد ، ومجمل بالنسبة إلى قدر العدّة وتعيين المعتدّة.

الأصل الثاني : السنّة ، وهي : طريقة النبي أو الإمام المحكية عنه ، فالنبي بالأصالة والإمام بالنيابة ، وهي ثلاثة : قول ، وفعل ، وتقرير.

أمّا القول فأقسامه المذكورة في الكتاب.

والفعل إذا علم وجهه ، أو وقع بيانا ، فيتبع المبيّن في وجوبه وندبه وإباحته ، سواء كان البيان مستفادا من الصريح ، مثل قوله عليه‌السلام : « صلّوا كما رأيتموني أصلّي » (٣) ، و « خذوا عني مناسككم » (٤) أو من القرينة كقطع يد السارق اليمنى.

ويشترط في الفعل أن لا يعلم أنّه من خواصه عليه الصلاة والسلام ، كتجاوز الأربع في النكاح ، والوصال في الصيام.

وما لم يعلم وجهه ، فالوقف بين الواجب والندب إن علم قصد القربة فيه ، وإلاّ فللقدر المشترك بينهما وبين الإباحة.

والتقرير يفيد الجواز ، لامتناع التقرير على المنكر إن علمه عليه‌السلام ، وإلاّ فلا حجة فيه ، مثل : كنا نجامع ونكسل فلا نغتسل (٥) ، إذ مثله قد يخفى ،

__________________

(١) سورة المائدة : ٦.

(٢) سورة البقرة : ٢٢٨.

(٣) مسند أحمد ٥ : ٥٣ ، سنن الدارمي ١ : ٢٨٦ ، صحيح البخاري ١ : ١٦٢ ، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان ٣ : ٨٥ ح ١٦٥٦ ، سنن الدار قطني ١ : ٢٧٣ ، السنن الكبرى ٣ : ١٢٠.

(٤) مسند أحمد ٣ : ٣١٨ ، صحيح مسلم ٢ : ٩٤٣ ح ١٢٩٧ ، سنن أبي داود ٢ : ٢٠١ ح ١٩٧٠ ، سنن النسائي ٥ : ٢٧٠. مسند أبي يعلى ٤ : ١١١ ح ٢١٤٧.

(٥) المصنف لابن أبي شيبة ١ : ٨٧.

٤٧

والمفهوم من « كنا » مطابقة المتكلم وحده ، أو هو مع جماعة قد يخفى حالهم.

ثم من السنّة :

متواتر ، وهو : ما بلغ رواته الى حيث يحصل العلم بقولهم ، كخبر الغدير.

وآحاد ، وهو بخلافه.

ومنه المشهور ، وهو : ما زادت رواته عن ثلاثة ، ويسمى : المستفيض ، وقد يطلق على ما اشتهر العمل به بين العلماء.

والصحيح ، وهو : ما اتّصلت روايته الى المعصوم بعدل إمامي ، ويسمّى : المتّصل والمعنعن ، وإن كان كل منهما أعمّ منه. وقد يطلق الصحيح على سليم الطريق من الطعن وان اعتراه إرسال أو قطع.

والحسن ، وهو : ما رواه الممدوح من غير نصّ على عدالته.

والموثّق : ما رواه من نصّ على توثيقه مع فساد عقيدته ، ويسمّى : القوي.

وقد يراد بالقوي مرويّ الإمامي غير المذموم ولا الممدوح ، أو مروي المشهور في التقدم عن (١) الموثّق.

والضعيف يقابله. وربما قابل الضعيف الصحيح والحسن والموثق. ويطلق الضعيف بالنسبة إلى زيادة القدح ونقصانه.

والمقبول ، وهو : ما تلقوه بالقبول والعمل بالمضمون.

والمرسل : ما رواه عن المعصوم من لم يدركه بغير واسطة ، أو بواسطة نسيها أو تركها. وقد يسمى : منقطعا ومقطوعا بإسقاط واحد ، ومعضلا بإسقاط أكثر.

والموقوف : ما روي عن مصاحب المعصوم ، وقد يطلق عليه الأثر ان كان الراوي صحابيا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

والشاذّ والنادر : ما خالف المشهور ، ويطلق على مرويّ الثقة إذا خالف‌

__________________

(١) في س ، ط : غير.

وفي الرواشح السماوية : ٤٢ : وفي عدّة نسخ من الذكرى معوّل على صحتها مكان « غير الموثق » : « عن الموثق ».

٤٨

المشهور.

والمتواتر قطعي القبول ، لوجوب العمل بالعلم.

والواحد مقبول بشروطه المشهورة ، وشرط اعتضاده بقطعي : كفحوى الكتاب ، أو المتواتر ، أو عمومهما ، أو دليل العقل ، أو كان مقبولا ، حتى عدّه الشيخ أبو جعفر ـ رحمه‌الله ـ من المعلوم المخبر (١) ، أو كان مرسله معلوم التحرّز عن الرواية عن مجروح. ولهذا قبلت الأصحاب مراسيل ابن أبي عمير ، وصفوان ابن يحيى ، وأحمد بن أبي نصر البزنطي (٢) لأنّهم لا يرسلون إلاّ عن ثقة ، أو عمل الأكثر.

وأنكره جلّ الأصحاب (٣) كأنّهم يرون أنّ ما بأيديهم متواتر أو مجمع على مضمونه وان كان في حيّز الآحاد.

ويردّ الخبر لمخالفة مضمونه القاطع من الكتاب والسنّة والإجماع لامتناع ترجيح الظنّ على العلم ، أو باعراض الأكثر عنه ، أو معارضة أقوى إسنادا أو متنا ، أو مرجّحا لوجوه المرجّحات. ويأوّل ما يمكن تأويله.

وقد كفانا السلف رحمهم‌الله مئونة نقد الأحاديث وبيان هذه الوجوه ، فاقتصرنا على المقصود منها بإيراد طرف من الحديث ، أو الإشارة إليه ايجازا ، والله الموفق.

الأصل الثالث : الإجماع ، وهو : اتّفاق علماء الطائفة على أمر في عصر ، وجدواه (٤) لا مع تعيين المعصوم فإنه يعلم به دخوله ، والطريق إلى معرفة دخوله أن يعلم إطباق الإماميّة على مسألة معينة ، أو قول جماعة فيهم من لا يعلم نسبه بخلاف قول من يعلم نسبه ، فلو انتفى العلم بالنسب في الشطرين فالأولى‌

__________________

(١) الاستبصار ١ : ٤.

(٢) راجع : عدة الأصول : ٣٨٦.

(٣) راجع : جواب المسائل التبانيات ١ : ٢١ ، السرائر : ٤ ، الغنية : ٥٣٧.

(٤) في الحجرية هكذا : عصر واحد لا مع.

٤٩

التخيير كالخبرين المتعارضين ، ولوجوب التبيين على الإمام لو كان أحدهما باطلا.

وقيل : بالرجوع الى دليل العقل (١) لأنّ غيبة الإمام لخوفه تمنع من تبيينه الحق ، واللوم فيه على المكلّف.

سؤال : جاز في كل واحد من علماء الأمة المجهولي النسب أن يكون هو الإمام ، فلم خصّصتم بالإمامية؟

قلنا : لما قام البرهان العقلي والنقلي على تضليل من خالف أصول الطائفة امتنع كون الإمام منهم.

قيل : جاز أن يظهر تلك الأحوال تقية.

قلنا : قد يقطع بكونه متدينا بذلك ، ومع التجويز للتقية نلتزم باعتبار قوله في الإمامية فلعلّه الإمام ، واستبعاد انحصار علماء الإمامية يستلزم أولوية استبعاد حصر غيرهم ، والجواب واحد.

والحقّ أن أعصار الأئمة الطاهرين تحقّق فيها ذلك بالقطع في أكثر خصوصيات المذهب ـ كالمسح على الرجلين ، وترك الماء الجديد والكتف ، والتأمين ، وبطلان العول والعصبة ـ وان لم يتواتر الخبر بقول معصوم بعينه ، ومن ثم ضعف الشك في الثلاثة الأول بل اضمحل.

فروع :

الأول : الإجماع السكوتي‌ ليس إجماعا ولا حجّة ، لاحتماله غير الرضا.

الثاني : يثبت الإجماع بخبر الواحد‌ ما لم يعلم خلافه ، لأنّه أمارة قوية كروايته. وقد اشتمل كتاب الخلاف ، والانتصار ، والسرائر ، والغنية ، على أكثر هذا الباب ، مع ظهور المخالف في بعضها حتى من الناقل نفسه.

__________________

(١) قاله السيد المرتضى في جوابات المسائل التبانيات ١ : ٢.

٥٠

والعذر : إمّا بعدم اعتبار المخالف المعلوم المعين ، كما سلف. وإمّا تسميتهم لما اشتهر إجماعا. وإمّا بعدم ظفره حين ادعى الإجماع بالمخالف. وإمّا بتأويل الخلاف على وجه يمكن مجامعته لدعوى الإجماع وان بعد ، كجعل الحكم من باب التخيير. وإمّا إجماعهم على روايته ، بمعنى تدوينه في كتبهم منسوبا إلى الأئمة عليهم‌السلام.

الثالث : يمنع احداث ثالث إذا استلزم رفع الإجماع ، أو مخالفة المعصوم ، والا جاز ، لامتناع مخالفه القطعي.

الرابع : إذا أفتى جماعة من الأصحاب ، ولم يعلم لهم مخالف ، فليس إجماعا قطعا وخصوصا مع علم العين ، للجزم بعدم دخول الإمام حينئذ. ومع عدم علم العين لا يعلم أن الباقي موافقون ، ولا يكفي عدم علم خلافهم ، فإن الإجماع هو : الوفاق لا عدم علم الخلاف.

وهل هو حجة مع عدم متمسك ظاهر من حجة نقلية أو عقلية؟ الظاهر ذلك ، لأن عدالتهم تمنع من الاقتحام على الإفتاء بغير علم ، ولا يلزم من عدم الظفر بالدليل عدم الدليل ، خصوصا وقد تطرق الدروس الى كثير من الأحاديث ، لمعارضة الدول المخالفة ، ومباينة الفرق المنافية ، وعدم تطرق الباقين الى الردّ له ، مع ان الظاهر وقوفهم عليه وانّهم لا يقرّون ما يعلمون خلافه.

فان قلت : لعل سكوتهم لعدم الظفر بمستند من الجانبين.

قلت : فيبقى قول أولئك سليما عن المعارض ، ولا فرق بين كثرة القائل بذلك أو قلته مع عدم معارض. وقد كان الأصحاب يتمسكون بما يجدونه في شرائع الشيخ أبي الحسن بن بابويه ـ رحمة الله عليهم ـ عند إعواز النصوص ، لحسن ظنهم به ، وان فتواه كروايته ، وبالجملة تنزل فتاويهم منزلة روايتهم.

هذا مع ندور هذا الفرض ، إذ الغالب وجود دليل دال على ذلك القول عند التأمّل.

الخامس : ألحق بعضهم المشهور بالمجمع عليه ، فان أراد في الإجماع فهو‌

٥١

ممنوع ، وان أراد في الحجة فقريب لمثل ما قلناه ، ولقوة الظن في جانب الشهرة ، سواء كان اشتهارا في الرواية ـ بأن يكثر تدوينها أو راووها (١) بلفظ واحد ، أو ألفاظ متغايرة ـ أو الفتوى. فلو تعارضا ، فالترجيح للفتوى إذا علم اطلاعهم على الرواية ، لأن عدولهم عنها ليس الا لوجود أقوى.

وكذا لو عارض الشهرة المستندة إلى حديث ضعيف حديث قوي ، فالظاهر : ترجيح الشهرة ، لأن نسبة القول الى الإمام قد تعلم وان ضعف طريقه ، كما تعلم مذاهب الفرق بأخبار أهلها وان لم يبلغوا التواتر ، ومن ثم قبل الشيخ ـ رحمه‌الله ـ رواية الموثقين مع فساد مذاهبهم (٢).

الأصل الرابع : دليل العقل ، وهو قسمان :

الأوّل : قسم لا يتوقّف على الخطاب ، وهو خمسة :

الأول : ما يستفاد من قضية العقل‌ ـ كوجوب قضاء الدين ، ورد الوديعة ، وحرمة الظلم ، واستحباب الإحسان ، وكراهية منع اقتباس النار ، وإباحة تناول المنافع الخالية عن المضار ـ سواء علم ذلك بالضرورة أو النظر ـ كالصدق النافع والضار ـ ، وورود السمع في هذه مؤكد.

الثاني : التمسّك بأصل البراءة عند عدم دليل ، وهو عام الورود في هذا الباب ـ كنفي الغسلة الثالثة في الوضوء ، والضربة الزائدة في التيمم ، ونفي وجوب الوتر ـ ويسمى : استصحاب حال العقل. وقد نبّه عليه في الحديث بقولهم عليهم‌السلام : « كل شي‌ء فيه حلال وحرام فهو لك حلال ، حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه » (٣) ، وشبه هذا.

الثالث : لا دليل على كذا فينتفي ، وكثيرا ما يستعمله الأصحاب ، وهو تام‌

__________________

(١) في س : ورودها.

(٢) عدة الأصول : ٣٨٢.

(٣) الكافي ٥ : ٣١٣ ح ٤٠ ، الفقيه ٣ : ٢١٦ ح ١٠٠٢ ، التهذيب ٧ : ٢٢٦ ح ٩٨٨ ، و ٩ : ٧٩ ح ٣٣٧.

٥٢

عند التتبع التام ، ومرجعه إلى أصل البراءة.

الرابع : الأخذ بالأقل عند فقد دليل على الأكثر‌ ـ كدية الذمي عندنا ـ لأنّه المتيقن ، فيبقى الباقي على الأصل وهو راجع إليها.

الخامس : أصالة بقاء ما كان‌ ـ ويسمى : استصحاب حال الشرع وحال الإجماع ـ في محل الخلاف ، كصحة صلاة المتيمم يجد الماء في الأثناء ، فنقول : طهارة معلومة والأصل عدم طارئ أو : صلاة صحيحة قبل الوجدان فكذا بعده.

واختلف الأصحاب في حجيته ، وهو مقرر في الأصول.

القسم الثاني : ما يتوقّف العقل فيه على الخطاب ، وهو ستة :

أوّلها : مقدمة الواجب المطلق ، شرطا كانت كالطهارة في الصلاة ، أو وصلة ، كفعل الصلوات الثلاث عند اشتباه الفائتة ، وغسل جزء من الرأس في الوجه ، وستر أقل الزائد على العورة ، والصلاة الى أربع جهات ، وترك الآنية المحصورة عند تيقّن نجاسة واحدة منها.

وثانيها : استلزام الأمر بالشي‌ء النهي عن ضده ، كما يستدل على بطلان الواجب الموسّع عند منافاة حق آدمي.

وثالثها : فحوى الخطاب ، وهو : أن يكون المسكوت عنه أولى بالحكم ، كالضرب مع التأفيف.

ورابعها : لحن الخطاب ، وهو : ما استفيد من المعنى ضرورة ، مثل قوله تعالى ( أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ ) (١) ، أي : فضرب فانفلق.

وخامسها : دليل الخطاب ، وهو المسمى بالمفهوم ، وأقسامه كثيرة :

الوصفي والشرطي ، وهما حجّتان عند بعض الأصحاب ، ولا بأس به وخصوصا الشرطي.

والعددي ، وله تفصيل معروف بحسب الزيادة والنقصان.

__________________

(١) سورة الشعراء : ٦٣.

٥٣

والغائي ، مثل : ( أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ) (١) وهو راجع الى الوصفي.

والحصر ، وهو حجة.

أمّا اللقبي فليس حجّة ، لانتفاء الدلالات الثلاث ، واستفادة وجوب التعزير من قوله : ( أنا لست بزان ) من قرينة الحال لا من المقال.

وسادسها : ما قيل : ان الأصل في المنافع الإباحة وفي المضار الحرمة ، وتحقيقه في الأصول.

الإشارة السابعة : يجب التمسّك بمذهب الإمامية لوجوه تسعة :

الأول : قد تقرّر في الكلام عصمة الإمام ، والمعصوم أولى بالاتباع.

الثاني : قوله تعالى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ ) (٢) ‌

وغير المعصوم لا يعلم صدقه ، فلا يجب الكون معه.

الثالث : قوله تعالى : ( إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (٣). وفيه من المؤكدات واللطائف ما يعلم من علمي المعاني والبيان ، وذهاب الرجس ووقوع التطهير يستلزم عدم العصيان والمخالفة لأوامر الله ونواهيه. وموردها في النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلي عليه‌السلام وفاطمة والحسن والحسين ، اما عند الإمامية وسائر الشيعة فظاهر إذ يروون ذلك بالتواتر.

وأمّا العامة :

فروى مسلم في الصحيح عن عائشة ، قالت : خرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذات غداة ، وعليه مرط مرحل (٤) من شعر ، فجاء الحسن بن علي فادخله فيه ،

__________________

(١) سورة البقرة : ١٨٧.

(٢) سورة التوبة : ١١٩.

(٣) سورة الأحزاب : ٣٣.

(٤) مرط : كساء من صوف أو خز كان يؤتزر به ، مرحّل : هو الموشّى عليه صورة رحال الإبل. مجمع البحرين ـ مادتي مرط ، رحل.

٥٤

ثم جاء الحسين فادخله فيه ، ثم جاءت فاطمة فأدخلها فيه ، ثم جاء علي فادخله فيه ، ثم قال ( إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (١).

وروى أحمد بن حنبل ـ في المناقب ـ والطبراني ـ في معجمة ـ عن أبي سعيد الخدري في قوله تعالى ( إِنَّما يُرِيدُ اللهُ ) الآية ، قال : نزلت في خمسة : في رسول الله ، وعلي ، وفاطمة ، والحسن ، والحسين (٢).

وروى أحمد عن أنس : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يمر بباب فاطمة ستة أشهر إذا خرج الى الفجر ، يقول : « الصلاة يا أهل البيت » ، ( إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (٣).

قال الحاكم في المستدرك : هذا حديث صحيح الإسناد على شرط مسلم ولم يخرجه (٤).

وروى الترمذي في الجامع عن عمر بن أبي سلمة ـ ربيب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قال : نزلت هذه الآية على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( إِنَّما يُرِيدُ اللهُ ) الآية في بيت أم سلمة ، فدعا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاطمة وحسنا وحسينا فجلّلهم بكساء ، وعلي خلف ظهره (٥) ثم قال : « اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا ». قالت أمّ سلمة : وأنا معهم يا رسول الله؟ قال : « أنت على مكانك ، وأنت إلى خير » (٦).

وروى أيضا الترمذي عن أمّ سلمة : ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جلّل على‌

__________________

(١) صحيح مسلم ٤ : ١٨٨٣ ح ٢٤٢٤ ، وفي : جامع البيان ٢٢ : ٥ ، المستدرك على الصحيحين ٣ : ١٤٧ ، السنن الكبرى ٢ : ١٤٩.

(٢) مناقب الصحابة ، المعجم الصغير ١ : ١٣٥ ، جامع البيان ٢٢ : ٥.

(٣) مسند أحمد ٣ : ٢٥٩ ، وفي : جامع البيان ٢٢ : ٥ ، الجامع الصحيح ٥ : ٣٥٢ ح ٣٢٠٦.

(٤) المستدرك على الصحيحين ٣ : ١٥٨.

(٥) في المصدر زيادة : فجلله بكساء.

(٦) الجامع الصحيح ٥ : ٦٦٣ ح ٣٧٨٧ ، وفي : جامع البيان ٢٢ : ٧ ، مشكل الآثار ١ : ٣٣٥.

٥٥

الحسن والحسين وعلي وفاطمة كساء ، وقال : « اللهم هؤلاء أهل بيتي وحامتي ، أذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا » قالت أم سلمة : وأنا معهم يا رسول الله ، قال : « إنك على خير ». ثم قال الترمذي : هذا [ حديث ] حسن صحيح (١).

وأخرج معناه الحاكم في المستدرك ، انّها نزلت في بيت أم سلمة .. الى آخره ، وقال : هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجه (٢).

لا يقال : صدر الآية وعجزها في النساء فتكون فيهن.

قلنا : يأباه الضمير وهذا النقل الصحيح ، والخروج من حكم الى آخر في القرآن كثير جدا.

الرابع : قوله تعالى ( فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ) (٣) نزلت فيهم عليهم‌السلام. وقد رواه مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري ، قال : أمر معاوية سعدا أن يسبّ عليا فأبى ، فقال : ما يمنعني من شتمه إلاّ ما نزل ، الى قوله : ولما نزلت هذه الآية ( فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ) دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليا وفاطمة والحسن والحسين ، وقال : « اللهم هؤلاء أهلي » (٤).

وفيها دلالة على انه لا مساوي لهم في الفضل ، وعلى أنّهم أهل بيته ، ولا يجوز ترك الفاضل واتباع المفضول.

الخامس : روى الحاكم في المستدرك‌ ـ وحكم بصحته على شرط مسلم ـ عن ابن عباس : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال : « يا بني عبد المطلب اني‌

__________________

(١) الجامع الصحيح ٥ : ٦٩٩ ح ٣٨٧١ وليس فيه : صحيح وأنظره في متن تحفة الاحوذي بشرح جامع الترمذي ٥ : ٣٧٢ ح ٣٩٦٣ ففيه كما في المتن.

(٢) المستدرك على الصحيحين ٢ : ١٤٦.

(٣) سورة آل عمران : ٦١.

(٤) صحيح مسلم ٤ : ١٨٧١ ح ٢٤٠٤ عن سعد بن أبي وقاص. وفي : الجامع الصحيح ٥ : ٦٣٨ ح ٣٧٢٤ ، وترجمة الإمام علي عليه‌السلام من تاريخ ابن عساكر ١ : ٢٢٥ ح ٢٧١ ، المناقب للخوارزمي : ٥٩.

٥٦

سألت الله لكم ثلاثا : ان يثبّت قائمكم ، وأن يهدي ضالكم ، وان يعلّم جاهلكم » (١).

وروى أيضا ـ وحكم بصحته ـ عن أبي ذر ، وهو آخذ بباب الكعبة ، قال : من عرفني فقد عرفني ، ومن انكرني فأنا أبو ذر ، سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : « الا انّ مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح ، من ركبها نجا ، ومن تخلّف عنها هلك » (٢).

ودلالة الخبرين على المطلوب ظاهرة البيان.

السادس : ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قرنهم بالكتاب العزيز‌ الذي يجب اتباعه ، فيجب اتباعهم قضية للعطف وللتصريح به أيضا ، وذلك مشهور نقله الشيعة تواترا.

ورواه مسلم في صحيحه عن زيد بن أرقم ، قال : قام فينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خطيبا ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : « أما بعد ، أيّها الناس : إنّما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيبه ، فاني تارك فيكم الثقلين : أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور ، فتمسّكوا بكتاب الله عزّ وجلّ وخذوا به » فحثّ على كتاب الله ورغّب فيه ، ثم قال : « وأهل بيتي أذكّركم الله عزّ وجلّ في أهل بيتي » ـ ثلاث مرات ـ (٣).

ورواه غيره من العامة (٤) بعبارات شتى ، تشترك في وجوب التمسّك‌

__________________

(١) المستدرك على الصحيحين ٣ : ١٤٨ ، ورواه أيضا الطبراني في المعجم الكبير كما في مجمع الزوائد ٩ : ١٧٠ وكنز العمال ١٢ : ٤٢ ح ٣٣٩١٠.

(٢) المستدرك على الصحيحين ٣ : ١٥٠ و ٢ : ٣٤٣ ، ورواه البزار والطبراني في الثلاثة كما في مجمع الزوائد ٩ : ١٦٨ ، وابن المغازلي في مناقب الامام علي بن أبي طالب عليه‌السلام : ١٣٣ ح ١٧٥ ، والخوارزمي في مقتل الامام الحسين عليه‌السلام ١ : ١٠٤.

(٣) صحيح مسلم ٤ : ١٨٧٣ ح ٢٤٠٨.

(٤) مسند أحمد ٤ : ٣٦٧ ، سنن الدارمي ٢ : ٤٣١ ، الجامع الصحيح ٥ : ٦٦٣ ح ٣٧٨٨ ، المستدرك على الصحيحين ٣ : ١٠٩ ، السنن الكبرى ١٠ : ١١٣.

٥٧

بالكتاب وأهل البيت عليهم‌السلام.

السابع : روى الحاكم في المستدرك‌ على الصحيحين عن عبد الرحمن بن عوف ، انه قال : خذوا عني من قبل أن تشاب الأحاديث بالأباطيل ، سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : « أنا الشجرة ، وفاطمة فرعها ، وعلي لقاحها ، والحسن والحسين ثمرتها ، وشيعتنا ورقها ، وأصل الشجرة في جنة عدن ، وسائر ذلك في الجنة » (١). وهذا ظاهر في التلازم بينهم وبين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبين الشيعة.

الثامن : ما روته الإمامية في ذلك ، وهو يملأ الصحف ويبلغ التواتر ، فمنه :

ما روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « في كل خلف من أمتي عدل من أهل بيتي ، ينفي عن هذا الدين تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين » (٢).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « مثل أهل بيتي كمثل نجوم السماء ، فهم أمان لأهل الأرض كما أنّ النجوم أمان لأهل السماء » (٣).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « يا علي : الإمامة فيكم ، والهداية منكم » (٤).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ان من أهل بيتي اثني عشر نقيبا ، نجباء ، محدثين ، مفهّمين ، في آخرهم القائم بالحق » (٥).

التاسع : اتّفاق الأمة على طهارتهم ، وشرف أصولهم ، وظهور عدالتهم ، مع تواتر الشيعة إليهم والنقل عنهم مما لا سبيل إلى إنكاره ، حتى ان أبا عبد الله‌

__________________

(١) المستدرك على الصحيحين ٣ : ١٦٠ ، عن ميناء بن أبي ميناء مولى عبد الرحمن بن عوف.

(٢) نحوه في الكافي ١ : ٢٤ ح ٣ ، الغيبة للنعماني ١ : ٦٧ ، بصائر الدرجات ١ : ٣١.

(٣) علل الشرائع : ١٢٣ ، أمالي الشيخ الطوسي ١ : ٣٨٨. وهذا الحديث روته العامّة أيضا .. فهو متفق عليه.

(٤) أخرجه المحقق الحلي في المعتبر ١ : ٢٤.

(٥) الكافي ١ : ٤٤٨ ح ١٨ ، المناقب لابن شهر آشوب ١ : ٣٠٠.

٥٨

جعفر بن محمد الصادق عليه‌السلام كتب من أجوبة مسائله أربعمائة مصنّف لأربعمائة مصنّف ، ودوّن من رجاله المعروفين أربعة آلاف رجل من أهل العراق والحجاز وخراسان والشام ، وكذلك عن مولانا الباقر عليه‌السلام. ورجال باقي الأئمة معروفون مشهورون ، أولوا مصنّفات مشتهرة ومباحث متكثّرة ، قد ذكر كثيرا منهم العامة في رجالهم ، ونسبوا بعضهم الى التمسّك بأهل البيت عليهم‌السلام.

وبالجملة اشتهار النقل والنقلة عنهم عليهم‌السلام يزيد أضعافا كثيرة عن النقلة عن كل واحد من رؤساء العامة ، فالإنصاف يقتضي الجزم بنسبة ما نقل عنهم إليهم عليهم‌السلام. فحينئذ نقول : الجمع بين عدالتهم ، وثبوت هذا النقل عنهم مع بطلانه مما يأباه العقل ويبطله الاعتبار بالضرورة.

هذا مع ما شاع عنهم من إنكار ما عليه العامة من القياس والاستحسان ، ونسبة ذلك إلى الضلال والقول في الدين بغير الحق. ومن رام إنكار ذلك فكمن رام إنكار المتواتر من سنة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو معجزاته وسيرته وسيرة من بعده. ومن رام معرفة رجالهم والوقوف على مصنّفاتهم ، فليطالع : كتاب الحافظ ابن عقدة ، وفهرست النجاشي وابن الغضائري والشيخ أبي جعفر الطوسي ، وكتاب الرجال لأبي عمرو الكشيّ ، وكتب الصدوق أبي جعفر بن بابويه القمي ، وكتاب الكافي لأبي جعفر الكليني فإنه وحده يزيد على ما في الصحاح الستة للعامة متونا وأسانيد ، وكتاب مدينة العلم ومن لا يحضره الفقيه قريب من ذلك ، وكتابا التهذيب والاستبصار نحو ذلك ، وغيرها ممّا يطول تعداده ، بالأسانيد الصحيحة المتصلة المنتقدة والحسان والقويّة ، والجرح والتعديل والثناء الجميل ، فالإنكار بعد ذلك مكابرة محضة ، وتعصّب صرف.

لا يقال : فمن أين وقع الاختلاف العظيم بين فقهاء الإمامية إذا كان نقلهم عن المعصومين وفتواهم عن المطهرين؟

لأنا نقول : محل الخلاف : إمّا من المسائل المنصوصة ، أو مما فرّعه العلماء.

٥٩

والسبب في الثاني اختلاف الأنظار ومبادئها ، كما هو بين سائر علماء الأمة. وأمّا الأول ، فسببه اختلاف الروايات (١) ظاهرا ، وقلّما يوجد فيها التناقض بجميع شروطه ، وقد كانت الأئمة في زمن تقية واستتار من مخالفيهم ، فكثيرا ما يجيبون السائل على وفق معتقده ، أو معتقد بعض الحاضرين ، أو بعض من عساه يصل اليه من المناوئين ، أو يكون عاما مقصورا على سببه ، أو قضية في واقعة مختصّة بها ، أو اشتباها على بعض النقلة عنهم ، أو عن الوسائط بيننا وبينهم كما وقع في الإخبار عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، مع أنّ زمان معظم الأئمة كان أطول من الزمان الذي انتشر فيه الإسلام ووقع فيه النقل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان الرّواة عنهم أكثر عددا ، فهم بالاختلاف أولى.

ثم إنّه تلخّص جميع الاختلاف وانحصر في أقوال متأخري فقهاء الأصحاب ـ كما تزعم العامة أنّ مذاهب المسلمين انحصرت في عدد خاص ـ فلذلك أوردنا في هذا الكتاب ذكرهم ، وأعرضنا عمن تقدم منهم ، لدخول قوله فيهم ، وليس الغرض منه انتشار المذهب وتبدّد الأقوال ، بل تصحيح ما ينهض عليه الاستدلال ، والله المستعان على كل حال.

__________________

(١) في س : الرواة.

٦٠