موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٧

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٧

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٢٠

ووقف أبو السرايا على القنطرة فخرج إليه رجل من أهل بغداد وجعل يشتمه بالزنا ، فلمّا همّ أن ينصرف حمل عليه أبو السرايا حتّى قتله ثمّ حمل على عسكرهم حتّى خرج من خلفهم ثمّ رجع ودعا بغلام من غلمانه ونفر من أصحابه وأمره أن يمضي بهم حتّى يصير من وراء جنود بغداد كميناً ، فمضى الغلام مع من معه قاصداً لما أمره به. ووقف أبو السرايا على القنطرة طويلاً حتّى ظنّ أن الكمين الذي بعثه قد انتهى إلى حيث أمره. ثمّ ضرب فرسه وأومأ بيده نحو الكمين الذي بعثه وصاح بأهل الكوفة! احملوا ، وحمل وتبعوه ، والتفت عسكر زهير نحو إشارة أبي السرايا! وكان إلى جانبه غلامه سيّار فخالط هو وغلامه العسكر وتبعه أهل الكوفة ، ثمّ صاح بغلامه أن يحمل على صاحب العلم فحمل عليه حتّى قتله وسقط علمهم وانهزموا! وتبعهم أبو السرايا يناديهم : من نزل عن فرسه فهو آمن! فأخذوا يترجّلون وأصحاب أبي السرايا يركبون ، وتبعوهم حتّى جاوزوا قرية «شاهي» من قرى الكوفة. وكان أبو السرايا يتابع ابن المسيّب فالتفت إليه هنا وناداه : ويحك! أتريد هزيمة أكثر من هذه؟! إلى أين تتبعني؟! فتركه أبو السرايا وعاد.

وصار أهل الكوفة إلى عسكر زهير بن المسيّب وقد أُقيمت مطابخه وأُعدّت ، فغنموا من عسكره غنيمة لم يغنموا مثلها ، وأكلوا ذلك الطعام وقد أصابهم جهد وجوع شديد. وعاد أبو السرايا ومن معه إلى الكوفة وقد لبسوا السلاح ، وركبوا الخيول وفي صدورها رؤوس كثيرة وعلى الرماح ، ومعهم خلق كثير من الأسرى (١).

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٣٤٩ ـ ٣٥٢ عن نصر بن مزاحم وغيره.

٥٨١

جنود بغداد إلى الكوفة ثانية :

تسيّب ابن المسيّب حتّى استتر في بغداد ، وبلغ خبره إلى الحسن بن سهل فأمر بإحضاره ، وادخل عليه وبيده عمود حديد فلمّا رآه رماه به فشتر عينه وأمر بقتله فشفعوا له حتّى عفى عنه.

ثمّ دعا الحسن عبدوس بن عبد الصمد وضمّ إليه ألف فارس وثلاثة آلاف راجل فحلف له أن يبيح الكوفة ويقتل مقاتليها ويسبى ذراريها ثلاثاً! وأمره الحسن أن لا يأخذ على الطريق الذي انهزم فيه ابن المسيّب ، لئلّا يرى أصحابه بقايا قتلى عسكره فيجبنوا من ذلك ، فأخذ الطريق الجامع.

وبلغ خبره إلى أبي السرايا ، فصلّى الظهر ثمّ جرّد من يثق به من فرسانه وأغذّ السير بهم حتّى قرب من الطريق الجامع ، فوقف وفرّق أصحابه ثلاث فرق : فهو في جانب السوق وغلامه سيّار على الطريق الجامع وغلامه أبو الهرماس على طريق القُريّة ، وجعل شعارهم : يا فاطمي يا منصور! وليحملوا دفعة واحدة من جوانب عسكر عبدوس.

ففعلوا ذلك وقتلوا منهم مقتلة عظيمة وجعل الجُند يتهافتون في الفرات طلباً للنجاة فغرق كثير منهم والفصل شتاء. ولقى أبو السرايا عبدوس فكشف خوذته عن رأسه وصاح : أنا أبو السرايا وحمل عليه ، فولّى عبدوس وتبعه أبو السرايا حتّى ضربه على رأسه وخرّ عن فرسه صريعاً! وانهزم الجمع وولّوا الدبر. وانتهبوا عسكر عبدوس فأصابوا منهم غنيمة عظيمة ، وانصرفوا إلى الكوفة بأسلحة وقوة.

وبلغ خبرهم إلى ابن طباطبا بالكوفة وهو طريح فراش الموت ، ودخل عليه أبو السرايا فقال له ابن طباطبا : أنا أبرأ إلى الله مما فعلت! فما كان لك أن تبيّتهم ولا نقاتلهم حتّى تدعوهم! وما كان لك أن تأخذ من معسكرهم إلّاما أجلبوا به من السلاح علينا.

٥٨٢

فقال أبو السرايا : يابن رسول الله ، كان هذا من تدابير الحرب ولا اعاود مثله (١)!

مصير ابن طباطبا وخليفته :

روى الاموي الزيدي عن نصر بن مزاحم وغيره قالوا : لما دنا أجل ابن طباطبا وعنده أبو السرايا قال له : اوصيك بتقوى الله والمقام على الذبّ عن دينك ، ونصرة «أهل بيت» نبيّك صلى‌الله‌عليه‌وآله! فإنّ أنفسهم موصولة بنفسك ، وولّ الناس الخيرة في من يقوم مقامي من «آل علي» فإن اختلفوا فالأمر إلى علي بن عبيد الله (الأعرج) فإني قد بلوت طريقته ورضيت دينه! ثمّ مات ، وكتم أبو السرايا موته حتّى كان الليل فأخرجه مع نفر من «الزيدية» إلى «الغريّ» فدفنه هناك.

فلمّا كان الغد جمع الناس فخطب ونعى إليهم محمّدَ بن إبراهيم وعزّاهم عنه ، فأعظموا موته وارتفعت أصواتهم بالبكاء عليه ، ثمّ قال لهم : وقد أوصى أبو عبد الله إلى من اختاره وهو أبو الحسن علي بن عبيد الله (الأعرج) فإن رضيتم به وإلّا فاختاروا لأنفسكم (٢).

هذا وقد مرّ الخبر عن «عمدة الطالب» : أن ابن طباطبا أوصى بالأمر إليه ، فإن لم يقبل فلأحد ابنيه عبيد الله ومحمّد ، فلم يقبل وصيته ولا أذن لابنيه بالخروج إليه (٣) وعن النجاشي قال : أراده ابن طباطبا ليبايع له أبو السرايا بعده فأبى عليه ، وردّ الأمر إلى محمّد بن محمّد بن زيد بن علي (٤).

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٣٥٢ ـ ٣٥٣ عن نصر بن مزاحم وغيره.

(٢) المصدر السابق : ٣٥٤.

(٣) عمدة الطالب : ٣٢١.

(٤) رجال النجاشي : ٢٥٦ برقم ٦٧١.

٥٨٣

وافترض أبو الفرج حضور محمّد بن محمّد بن زيد وهو غلام حدث السن! قال : فقام وقال : يا آل عليّ! إنّ دين الله لا يُنصر بالفشل ، وليست يد هذا الرجل عندنا بسيئة وقد أدرك الثأر وشفى الغليل! وافترض أبو الفرج حضور علي بن عبيد الله (الأعرج) وأنّ محمّداً قال له : امدد يدك نبايعك فقد وصّانا بك! فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال له فيما قال : فامض رحمك الله لأمرك واجمع شمل ابن عمك ، فقد قلّدناك الرياسة علينا وأنت «الرضا» عندنا الثقة في أنفسنا! ورضي به أبو السرايا فجذبوا يده وبايعوه (١).

عمّال الزيدي على البلاد :

قال أبو الفرج الزيدي : ثمّ فرّق محمّد بن محمّد بن زيد ـ وهو غلام حدث السنّ ـ عمّاله :

فولّى إسماعيل بن علي بن إسماعيل الجعفري خلافته على الكوفة ، وولّى روح بن الحجاج شرطته ، وولّى أحمد بن السريّ الأنصاري رسائله ، وولّى عاصم بن عامر القضاء ، وولّى نصر بن مزاحم المنقري التميمي السوق. وعقد لابراهيم بن موسى بن جعفر على اليمن ، وولّى أخاه زيد بن موسى بن جعفر الأهواز ، وولّى العباس بن محمّد الجعفري البصرة ، وعقد لجعفر بن محمّد بن زيد بن علي والحسين بن إبراهيم الحسني على واسط ، وولّى الحسين بن الحسن الحسيني الأفطس مكة والموسم ، فخرجوا إلى أعمالهم ، وتوجّه الأفطس إلى مكة للموسم فلم يمنعه أحد فأقام الحج سنة (١٩٩ ه‍).

وخرج إبراهيم بن موسى بن جعفر إلى اليمن فكانت بينهم وقعة في مدة يسيرة ثمّ أذعنوا له بالطاعة!

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٣٥٤.

٥٨٤

وخرج جعفر الزيدي والحسين الحسني إلى واسط ، وكان عليها نصر البجلي فخرج إليهما وتقاتلا قتالاً شديداً ثمّ انهزم البجلي ، فدخلا واسط وتألفا الناس وجبيا الخراج.

وخرج الجعفري صاحب البصرة إليها ، وخرج زيد بن موسى بن جعفر إلى الأهواز واجتمع بالجعفري بالبصرة في طريقه إلى الأهواز ، وكان على البصرة الحسن بن علي المأمون البادغيسي فخرج إليهما يقاتلهم فقاتلوه حتّى هزموه وحووا عسكره. ودخل زيد بن موسى البصرة فأحرق دور بني العباس بها فلُقّب بزيد النار (١)!

ابن أعين لأبي السرايا واستيلاؤه على المدائن :

كان المأمون بعد قتل الأمين أوكل أمر العراق إلى الحسن بن سهل وأرسل طاهر بن الحسين إلى الجزيرة ، واستردّ إليه هرثمة بن أعين ، واشتغل ابن سهل بأمر ابن طباطبا وأبي السرايا وخرج هرثمة نحو خراسان ، وكأنه اضطرّ ابن سهل إلى هرثمة ، وخشي أن لا يجيبه إلى ما يريد وكان السندي بن شاهَك أقرب إليه فدعا الحسن بالسنديّ وكتب معه إلى هرثمة يأمره بالقدوم عليه وسأله التعجيل وترك التلوّم.

فخرج السندي بكتاب الحسن إلى هرثمة فلحقه في حُلوان (في طريق كرمانشاهان) فأوصل الكتاب إليه يسأله فيه العود إلى بغداد لحرب أبي السرايا ، فامتنع وأبى. وتوسّل ابن سهل إليه بالمنصور بن المهدي العباسي فكتب كتاباً إلى هرثمة بذلك ، فلمّا قرأه أخذ يدعو على الحسن وقال : فعل الله بالحسن بن سهل

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٣٥٥.

٥٨٥

وفعل! فإنه عرّض هذه الدولة للذهاب وأفسد ما صلح منها! نوطئ نحن الخلافة ونمهّد لهم أكنافها ، ثمّ يستبدّون بالأُمور ويستأثرون بالتدبير علينا! فإذا انفتق عليهم فتق بسوء تدبيرهم وإضاعتهم الأُمور أرادوا أن يصلحوه بنا! ثمّ أمر فضربوا الطبول وانكفؤوا بالخيول حتّى صار إلى النهروان قُبيل بغداد. وكان أولياء العباسيين وقوّاد أهل بغداد تواعدوا لاستقباله ، فاستقبلوه إلى النهروان وترجّلوا ودعوا له ، فدخل بغداد في جمع عظيم ودخل منزله.

وأمر الحسن فنقلوا إليه دواوين الجيوش ليختار منهم ، وأطلق له بيوت الأموال! وجعل معسكره في الياسرية ، فصار في نحو ثلاثين ألف ما بين فارس وراجل ، ثمّ نادى بالرحيل إلى الكوفة.

وكان على المدائن الحسين بن علي أبو البط عامل بغداد ، فعقد لها أبو السرايا لمحمد بن إسماعيل بن الأرقط من أحفاد علي بن الحسين عليه‌السلام ومعه العباس الطبطبي والمسيّب في جمع عظيم ، وبلغ خبرهم إلى أبي البط فخرج بجمعه إليهم فالتقوا في ساباط المدائن واقتتلوا قتالاً شديداً ، حتّى هُزم أبو البط واستولى محمّد بن إسماعيل الحسيني على المدائن (١).

فوجّه الحسن بن سهل : عليّ بن أبي سعيد وحمّاد التركي بجمع معهم إلى المدائن ، فقاتلوا محمّد بن إسماعيل الحسيني فهزموه واستردّوا المدائن. وكأن الخبر بلغ إلى أبي السرايا فمضى من فوره ليلاً يريد المدائن ، فوجد المسوِّدة (العباسية) قد استولوا عليها ووجد أصحابه قد اخرجوا منها ، وكانت بينهم مناوشة ومعه غلامه أبو الهرماس فأصابه حجر عرّادة فقُتل ، فدفنه بها وعاد نحو قصر ابن هبيرة (٢).

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٣٥٦ ـ ٣٥٧ عن نصر بن مزاحم وغيره.

(٢) مقاتل الطالبيين : ٣٦١.

٥٨٦

ابن أعيَن يلاحق أبا السرايا :

قالوا : لما خرج ابن أعيَن لأبي السرايا عسكر في شرقيّ نهر صَرصر .. فلمّا صار أبو السرايا في رحب قصر ابن هُبيرة ، صار هرثمة إليه فلحقه هناك فقاتله قتالاً شديداً فهُزم أبو السرايا فمضى حتّى نزل الجازيّة فتبعه هرثمة وكسر الفرات فصبّه في الآجام والغيظان في شرقي الكوفة فقطع الفرات عن الجازية ، ثمّ نهد هرثمة من نحو الرصافة إلى الكوفة.

وخرج إليه أبو السرايا فعبّأ له أصحابه ، على الميمنة الحسن بن هُذيل ، وللميسرة جُرير بن الحصين ، وهو في القلب فحمل حملة في من معه فانهزم أصحاب هرثمة حتّى عبروا الفرات ، فعاد أبو السرايا بهم إلى الكوفة. وأخبره جاسوسه أنّ هرثمة يريد حربه في تاسع ذي القعدة فخرج فيه إلى نحو الرصافة تحت القنطرة وعبّأهم ولم يبعد حتّى أقبلت خيل هرثمة فاقتتلوا قتالاً شديداً ، وقُتل الحسن بن الحسين بن زيد بن علي ، وقُتل غلام أبي السرايا : أبو كُتلة ، وكشف أبو السرايا رأسه وجعل يحرّضهم ثمّ حمل فخرج إليه قائد من قوّادهم فتناوشا حتّى ضربه أبو السرايا فقدّ بيضته إلى سرج فرسه ، فانهزمت المسوّدة (العباسيّة) هزيمة قبيحة ، وتبعهم أهل الكوفة حتّى بلغوا قرية تُدعى صعنب ، فنادى أبو السرايا : يا أهل الكوفة ، احذروا كرّهم بعد الفرّة فإن «العجم» قوم دُهاة!

وكان هرثمة قد خلّف من عسكره خمسة آلاف عليهم عبيد الله بن الوضّاح ، فناداهم : يا «أهل خراسان» وحثّهم وحمل بهم على أهل الكوفة فقتل منهم مقتلة عظيمة. وكان عبد سندي أسود قد أسر هرثمة فوجدوه فقتلوا العبد وحلّوا وثاق هرثمة وعاد إلى معسكره. وتكررت الوقائع في كل يوم أو يومين (١).

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٣٦١ ـ ٣٦٣ عن نصر بن مزاحم وغيره.

٥٨٧

مَكر هرثمة وخطبة أبي السرايا ومصيره :

وصاح هرثمة : يا أهل الكوفة! إن كان قتالكم إيانا كراهة لإمامنا ، وإن أحببتم إخراج الأمر من ولد العباس فانصبوا إمامكم ونتّفق ليوم الاثنين نتناظر فيه! فناداهم أبو السرايا ويحكم إنّ هذه حيلة من هؤلاء «الأعاجم» فاحملوا عليهم! فامتنعوا وقالوا : لا يحلّ لنا قتالهم وقد أجابوا! فعاد بهم إلى الكوفة ، في آخر يوم من عام (١٩٩ ه‍).

فلمّا كان يوم الجمعة للحادي عشر من محرم سنة (٢٠٠ ه‍) خطبهم أبو السرايا فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال لهم : يا أهل الكوفة! يا قتلة عليّ ويا خذلة الحسين! إنّ المعتزّ بكم لمغرور وإنّ المعتمد على نصركم لمخذول ، وإنّ الذليل لمن أعززتموه! والله ما حمد علي عليه‌السلام أمركم فنحمده ، ولا رضي مذهبكم فنرضى به ، ولقد حكّمكم فحكمتم عليه ، وائتمنكم فخنتم أمانته ووثق بكم فحلتم عن ثقته ؛ ثمّ لم تنفكّوا عليه مختلفين! ولطاعته ناكثين! إن قام قعدتم وإن قعد قمتم ، وإن تقدّم تأخّرتم وإن تأخّر تقدّمتم ، خلافاً عليه وعصياناً لأمره! حتّى سبقت فيكم دعوته فخذلكم الله بخذلانكم إياه! إنّما أنتم كفيء الظل تهزمكم الطبول بأصواتها وتملأ قلوبكم الخِرق «بسوادها» أما والله لأستبدل بكم قوماً يعرفون الله حق معرفته ، ويحفظون محمّداً في «عترته» ثمّ أنشأ يقول شعراً :

ومارست أقطار البلاد فلم أجد

لكم شبهاً فيما وطئت من الأرض!

خلافاً وجهلاً وانتشار عزيمة

ووهناً وعجزاً في الكريهة والخفض!

لقد سبقت فيكم إلى الحشر «دعوة»

فلا عنكم راض ، ولا فيكم مرضي!

سأبعد داري عن قلاً عن دياركم

فذوقوا إذا ولّيت عاقبة البغض!

فقام جمع منهم وقالوا : لقد صبرنا في ركابك وثبتنا مع لوائك حتّى أفنتنا الوقائع وما بعد فعلنا غاية إلّاالموت ، فامدد يدك نبايعك على الموت لا نرجع

٥٨٨

حتّى يفتح الله لنا أو يقضي قضاءه! فأعرض عنهم ولم يجبهم إليه ، ولكنّه نادى فيهم بالخروج لحفر الخندق.

فخرج الناس لحفر الخندق عليهم يوم السبت (١٢ محرم عام ٢٠٠ ه‍) وأوعز إلى قوم من أهل الكوفة من الأعراب ، وإلى نفر من العلويين معه فارتحل هو ومحمّد بن محمّد بن زيد في أواخر الثلث الأول من ليلة الأحد (١٣ محرم) إلى القادسية ، فأقام بها ثلاثاً حتّى لحق به من أراد من أصحابه ثمّ مضى على طريق البرّ أسفل الفرات نحو البصرة وهو يرى أنها في حكمه! هذا وقد قصدها خلق كثير من المسوّدة (العباسية) فتغلّبوا بها ونفوا عمّاله عنها ، ولقيه أعرابي منها فأخبره خبرها ، فعدل عنها وأراد أن يسير إلى واسط فأخبره الرجل أنها بمثل ما ذكر له عن البصرة! فاستشاره أين يسلك؟ فقال له : أرى أن تعبر دجلة إلى ما بين جوخى والجبل ، فيلحق بك من أراد صحبتك من أعراب السواد وأكراده ومن يرى رأيك من أهل الأمصار والطساسيج (القرى).

فسلك أبو السرايا ذلك الطريق ، فجعل لا يمرّ بناحية إلّاجبى خراجها وباع ما جمع من غلّاتها ، حتّى صار إلى الشوش ، ثمّ عمد إلى الأهواز ، وكان عليها الحسن بن علي المأموني فوجّه إلى أبي السرايا : أنّه يكره قتاله ويسأله الانصراف عنه إلى حيث يريد ، فأبى أبو السرايا إلّاقتاله ، فخرج المأموني إليه ، وخرج أهل الشوش فأتوهم من خلفهم ، وثبت العلويون مع محمّد بن محمّد بن زيد و «الزيدية» ثمّ هُزموا وتبعهم أصحاب المأموني يقتلونهم حتّى تقطعت دوابّهم وأجنّهم الليل فتفرقّوا.

ومضى أبو السرايا إلى طريق خراسان حتّى نزلوا قرية تدعى «برقان» وكان يتقلّد تلك الناحية حمّاد الگُندگوش ، فأخبره رجل بخبرهم فأعطاه عشرة آلاف درهم! ووجّه إليهم خيلاً ولحقهم بنفسه فآمنهم على أنفسهم على

٥٨٩

أن يرسلهم إلى الحسن بن سهل ببغداد ، وقبلوا منه ذلك فحملهم إليه ، فقتل الحسن أبا السرايا وغلامه أبا الشوك ثمّ أمر برأسه فصُلب في الجانب الشرقي وصُلب بدنه في الجانب الغربي ومعه غلامه أبو الشوك.

وحُمل محمّد بن محمّد إلى المأمون فتعجّب المأمون من حداثة سنّه ، لكنّه أمر له بدار مفروشة وخادم فأسكنه فيها أربعين يوماً ، ثمّ دسّ إليه شربة مسمومة فكان تختلف حشوته حتّى توفي في مرو (١).

أمّا أهل الكوفة فإنهم لما افتقدوا أبا السرايا ومن معه خرج جمع منهم إلى هرثمة فسألوه الأمان للناس ، فأجابهم وآمنهم وولّى عليهم غسّان بن الفرج ، وأقام أياماً بظهر البلد حتّى أمنوا ثمّ ارتحل إلى بغداد (٢).

جمع من الشيعة عند الرضا عليه‌السلام :

في سنة (١٩٩ ه‍) سنة أبي السرايا ولعلّه في موسم الحج ، حضر ستة عشر رجلاً من شيعة بغداد معهم المتكلمان : هشام بن الحكم ويونس بن عبد الرحمن مولى آل يقطين ، على باب أبي الحسن الثاني الرضا عليه‌السلام فخرج إليهم مسافر غلام الرضا عليه‌السلام فاستأذنوه للدخول إليه ، فدخل إليه وخرج وقال : يونس بن عبد الرحمن وآل يقطين (يدخلون) ثمّ يدخل الباقون رجلاً رجلاً.

قال الراوي : هشام بن إبراهيم الجبلي المشرقي البغدادي : سلّمنا وجلسنا ، فقال له جعفر بن عيسى : يا سيدي نشكو إلى الله وإليك ما نحن فيه من أصحابنا! فقال : وما أنتم فيه منهم؟ قال : جعفر : هم والله يا سيدي يزندقوننا ويكفّروننا

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٣٦٣ ـ ٣٦٦ عن نصر بن مزاحم وغيره.

(٢) المصدر السابق : ٣٦٤.

٥٩٠

ويتبرأون منا! فقال : وهكذا كان أصحاب علي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر وموسى ، ولقد كان أصحاب زرارة يكفّرون غيرهم وغيرهم كانوا يكفّرونهم!

قال الراوي هشام المشرقي البغدادي : وكان الشيخان يونس وهشام حاضرَين ، فقلت له : يا سيدي نستعين بك على هذين الشيخين يونس وهشام فهما علّمانا هذا الكلام ، فإن كنا يا سيدي على هدى ففزنا ، وإن كنا على ضلال فهذان أضلّانا فمرنا نتركه ونتوب إلى الله منه ، وادعُنا إلى دين الله نتّبعك يا سيدي.

فقال : ما أعلمكم إلّاعلى هدى! جزاكم الله على الصحبة القديمة والحديثة خيراً!

فقال جعفر : إن صالحاً وأبا الأسد حكيا أنهما حكيا لك شيئاً من الكلام ، فقلتَ لهما : ما لكما والكلام إنه يثنيكم إلى الزندقة! فقال : ما قلت لهما ذلك ، أنا قلت ذلك؟! والله ما قلت لهما!

وقال يونس : جعلت فداك ؛ إنهم يزعمون أنا زنادقة! فقال له : لو كنت مؤمناً فقالوا : هو زنديق ما كان يضرك منه؟! ولو كنت زنديقاً فقالوا لك : هو مؤمن ما كان ينفعك من ذلك؟!

فقال جعفر : عندنا «كتاب الجامع» فيه جميع ما تكلم الناس فيه عن آبائك عليهم‌السلام وإنما نتكلم عليه ، وقلتُ مثله فقال : فإذا كنتم لا تتكلمون بكلام آبائي عليهم‌السلام فتريدون أن تتكلموا بكلام أبي بكر وعمر (١)؟!

محمّد بن سليمان على المدينة :

لم يذكر الأموي الزيدي تعيين أبي السرايا أو محمّد بن محمّد الزيدي

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٤٩٨ ، ٤٩٩ ، الحديث ٩٥٦.

٥٩١

عاملاً على المدينة ، وذكره الطبري قال : والذي وجّهه إلى المدينة محمّد بن سليمان بن داود بن الحسن المثنّى ، وكان الوالي على مكة والمدينة داود بن عيسى العباسي ، ولم يقاوم أحد محمّد بن سليمان (١).

وروى الصدوق بطريق إلى محمّد بن الأثرم الذي جعله محمّد بن سليمان على شرطته قال : اجتمع عليه أهل بيته وغيرهم من قريش فبايعوه ، ثمّ قالوا له : لو بعثت إلى أبي الحسن علي بن موسى عليه‌السلام فكان معنا وكان أمرنا واحداً. قال محمّد بن الأثرم : فقال لي محمّد بن سليمان : اذهب إليه فاقرأه السلام وقل له : إنّ أهل بيتك اجتمعوا وأحبوا أن تكون معهم ، فإن رأيت أن تأتينا فافعل.

قال ابن الأثرم : وكان أبو الحسن علي بن موسى يومئذٍ في حمراء الأسد (على ثمانية أميال من المدينة) فذهبت إليه فأديت إليه ما أرسلني به ، فقال لي : اقرأه مني السلام وقل له : إذا مضى عشرون يوماً أتيتك. قال ابن الأثرم : فعدت وأبلغت محمّد بن سليمان ما أجاب به أبو الحسن علي بن موسى. ثمّ مكثنا أياماً فلمّا كان اليوم الثامن عشر من ذلك جاءنا ورقاء بن جميل قائد الجلودي فقاتلنا وهُزمنا ، وخرجت أنا هارباً نحو الصورَين (من ضواحي المدينة) ورأيت أبا الحسن فقال لي : مضت العشرون يوماً أم لا (٢)؟!

وحسين الحسيني الأفطس على مكة :

مرّ الخبر أنّ محمّد بن محمّد الزيدي ولّى ابن عمه الحسين بن الحسن بن زيد مكة. وكان العباسيون يكسون الكعبة سوادهم ، فأمر أبو السرايا أن يصنع

__________________

(١) تاريخ الطبري ٨ : ٥٣١ ـ ٥٣٢.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٠٧ ، الحديث ٩.

٥٩٢

للكعبة كِسوة من قزّ رقيق أبيض ويكتب عليها : «أمر به الأصغر بن الأصغر أبو السرايا داعية «آل محمّد» لكسوة بيت الله الحرام وأن يطرح عنه كسوة الظلمة من ولد العباس لتطهر من كسوتهم. وكتب في سنة تسع وتسعين ومئة» ووجّه بها إلى الأفطس ليكسو بها الكعبة (١).

فمضى حسين بن الحسن يريد مكة ، فلمّا بلغ داود بن عيسى العباسي توجيه أبي السرايا الحسين بن الحسن إلى مكة لإقامة الحجّ للناس قال : لا أستحل القتال في الحرم ، وانحاز داود من مكة إلى ناحية المُشاش في طريق العراق ، وافتعل كتاباً من المأمون بتولية ابنه محمّد بن داود على صلاة الموسم وقال له : اخرج (يوم التروية) فصلّ بالناس بمنى الظهر والعصر والمغرب والعشاء وبِت بمنى وصلّ بهم الصبح ، ثمّ اركب دوابك إلى عرفة فخذ على يسارك في شعب عمرو إلى طريق المُشاش ببستان ابن عامر.

وتوقّف حسين بن الحسن في منزل سَرف يرهب أن يدخل مكة فيقاتل دونها ، فخرج إليه قوم من أهلها ممن يميل إلى الطالبيين فأخبروه أنّ مكة ومنى وعرفة قد خلت من السلطان وأنهم قد خرجوا إلى العراق. فدخل حسين بن الحسن فطافوا بالبيت وسعوا بين الصفا والمروة ثمّ مضوا إلى عرفة فأدركوا عرفة مساءً فوقفوا بها ساعة ليلاً ، ثمّ عاد إلى المزدلفة سحراً فصلّى بهم فجراً ، ثمّ أقام أيام الحج بمنى وبقي بها حتّى انقضت سنة (١٩٩ ه‍) (٢).

فلمّا تفرق الحجاج وفي أول يوم من المحرم عام (٢٠٠ ه‍) دخل حسين الأفطس بجمعه إلى المسجد الحرام وطُرحت له نمرقة خلف المقام فأمر بنزع

__________________

(١) تاريخ الطبري ٨ : ٥٣٦.

(٢) تاريخ الطبري ٨ : ٥٣٢ ـ ٥٣٣.

٥٩٣

كسوة الكعبة ثمّ كساها الثوبين الرقيقين من القزّ الذَين بعث بهما أبو السرايا ، وأمر بالكسوة السابقة فقُسّمت بين العلويين من أصحابه وأتباعهم على قدر منازلهم عنده ، ثمّ عمد إلى ما في خزانة الكعبة من مال فأخذه. ثمّ لم يسمع بوديعة لأحد من ولد العباس عند أحد إلّاهجم عليه في داره ، فإن وجد شيئاً أخذه وإلّا حوّله على رجل معه من أهل الكوفة يدعى محمّد بن مَسلمة أنزله في دار خالصة عند الحنّاطين ، فيحبسه ويعذّبه حتّى يفتدي نفسه بما يقدر عليه ، ويقر بمحضر الشهود أنّ ذلك «للمسودّة» من بني العباس وأتباعهم ، وحتّى عمّ ذلك خلقاً كثيراً ، فسمي ذلك الدار «دار العذاب» وخاف الناس فهرب منهم خلق كثير من أهل النعم ، فتعقّبوهم بهدم دورهم (١)!

محمّد بن جعفر بعد محمّد بن محمّد :

شاطر بعض أبناء الصادق عليه‌السلام في تفريق شيعة أبيه بعده ، منهم محمّد بن جعفر أخو موسى عليه‌السلام من أُم واحدة هي حميدة. دخل ذات يوم على أبيه وهو صبي صغير فاشتدّ يعدو نحوه فعثر بقميصه وسقط لوجهه ، فقام الإمام وحمله وقبّل وجهه ومسح التراب عنه بثوبه وضمه إلى صدره وقال : قال لي أبي محمّد بن علي : «يا جعفر إذا ولد لك ولد يُشبهني فسمّه باسمي وكنّه بكنيتي فهو شبيهي وشبيه رسول الله وعلى سنّته» وكان يحيى بن أبي السمط حاضراً فاكتفى بهذا كأ نّه نصّ في إمامة محمّد بن جعفر ، فقال بعده بإمامته ، وتبعه بعض شيعة أبيه فقيل لهم «السمطية» نسبة إلى ابن أبي السمط يحيى (٢).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٨ : ٥٣٦ ـ ٥٣٧.

(٢) فرق الشيعة : ٧٦ ، وعنه في المقالات والفرق : ٨٦.

٥٩٤

هذا وقد قال فيه المفيد : إنّه كان يرى رأي الزيدية في الخروج بالسيف (١) فلعلّه إنّما رأى رأيهم في هذا فقط ، وإلّا فهو قد وافق قول ابن أبي السمط بإمامته ، بل ترجّى أن يكون هو القائم المهديّ! فقد نقل الزيدي الأموي : أنّه أصاب إحدى عينيه شيء فأثّر فيها فسرّ بذلك وقال : إنّي لأرجو أن أكون القائم المهدي! فقد بلغني أنّ في إحدى عينيه شيئاً! وأ نّه يدخل في هذا الأمر وهو له كاره (٢)! وهو يعني بهذا نفسه يدعى أنّه لم يدخل في دعوى الحكم والدولة بل وإمرة المؤمنين إلّا كارهاً لها!

فإنّه لمّا بلغ الأفطس هزيمة هرثمة لأبي السرايا وفراره من الكوفة والبصرة ، وطرْد من بهما من العلويين والطالبيين ، وعودة الولاية بها للعباسيين ، اجتمع هو وأهله على محمّد بن جعفر فقالوا له : أبرز شخصك نبايع لك بالخلافة ، فإنك إن فعلت ذلك لم يختلفوا عليك! فأبى ، ووافقهم ابنه علي بن محمّد فلم يزل هو والأفطس على محمّد بن جعفر حتّى غلباه على رأيه (٣).

وخالفه الإصفهاني فلم يذكر ذلك ، بل روى عن ابن عقدة الزيدي بسنده : أنهم جاؤوه على كتاب بسبّ جميع «أهل البيت» بما فيهم فاطمة ابنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقرؤوه عليه ، فقام ودخل بيته فخرج عليهم وقد تقلّد سيفه ولبس درعه وهو يتمثل يقول :

لم أكن من جُناتها ، علم الله

وإني بحرّها اليوم صالي

وبايعه الطالبيون بإمرة المؤمنين : الحسين بن الحسن الأفطس ، ومحمّد بن

__________________

(١) الإرشاد ٢ : ٢١١.

(٢) مقاتل الطالبيين : ٣٥٩ وانفرد بهذه الدعوى المرفوعة خلافاً للمرويات فيه (عج).

(٣) تاريخ الطبري ٨ : ٥٣٧.

٥٩٥

الحسن السَيلق ، وعلي بن الحسين بن عيسى بن زيد ، وعلي بن الحسين بن زيد ، وعلي بن جعفر (ابنه) ومحمّد بن سليمان بن داود بن الحسن المثنى (١) وقد مرّ أنّه كان على المدينة لأبي السرايا ، فيُعلم أنّ هذا كان بعد هزيمته وفراره من المدينة إلى مكة. وأرّخه الطبري بالسادس من ربيع الثاني من عام (٢٠٠ ه‍) (٢).

فلمّا ظهر ودعا إلى نفسه ودُعي أمير المؤمنين! وبويع بالخلافة بمكة ، دخل عليه ابنا أخيه موسى بن جعفر : علي عليه‌السلام وإسحاق فقال له علي عليه‌السلام : يا عم! لا تكذِّب أباك (الصادق) وأخاك (الكاظم) فإنّ هذا الأمر لا يتم! فأبى. قال إسحاق : ثمّ خرج أبو الحسن عليه‌السلام وخرجت معه إلى المدينة ، فلم نلبث إلّاقليلاً حتّى قدم الجُلودي (٣) لحربه وقتاله.

سقوط حكم العلوي بمكة :

مرّ خبر مصير محمّد بن سليمان الحسني بالمدينة وهزيمته بقتال ورقاء بن جميل من قوّاد عيسى بن يزيد الجُلودي القائد العباسي ، فورقاء هذا بعد أن فرغ من أمر محمّد بن سليمان بالمدينة توجّه تلقاء مكة. وكان على اليمن إسحاق بن موسى العباسي وقد خرج منها نحو مكة فنزل قريباً منها في طريق العراق وهو في الخيل والرجال ، والتقى به ورقاء بن جميل في أصحابه ومن كان معه من أصحاب الجُلودي فقالوا له : ارجع معنا إلى مكة ونحن نكفيك قتال محمّد بن جعفر العلوي.

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٣٥٩. وفيه : علي بن جعفر بن محمد ، والصحيح : ما أثبتناه ، فإنّ علي بن جعفر لم يكن معهم.

(٢) تاريخ الطبري ٨ : ٥٣٧.

(٣) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٠٧ ، الباب ٤٧ ، الحديث ٨.

٥٩٦

فعاد معهم إلى مكة حتّى نزلوا بمنزل المُشاش إلى جهة عرفات. وعرف بالخبر أصحاب محمّد بن جعفر العلوي فبعثوا إلى من حولهم من الأعراب ففرضوا لهم وخندقوا بأعلى مكة ليقاتلوا فيه ، فاجتمع إلى محمّد بن جعفر من كان معه من غوغائها ومن سودان أهل المياه ومن فرضوا له من الأعراب ، فعبّأهم في بئر ميمون.

وأقبل إليهم إسحاق بن موسى العباسي وورقاء بن جميل قائد الجُلودي بمن معهما من القواد والجند فقاتلهم ببئر ميمون فكان بينهم قتلى وجرحى يوماً وآخر حتّى بدأت هزيمة أصحاب العلوي ، فلمّا رأى ذلك أحضر قاضي مكة ورجالاً من قريش وأرسلهم يسألون لهم الأمان حتّى يخرجوا من مكة ويذهبوا حيث شاؤوا. فأجابهم إسحاق وورقاء إلى ذلك في ثلاثة أيام ، وذلك في جمادى الآخرة (٢٠٠ ه‍).

وكان الجُلودي قد أرسل ورقاء والياً على مكة ، فدخلها في اليوم الثالث ، وتفرّق الطالبيون من مكة فذهب كل قوم ناحية (١).

إبراهيم بن موسى على اليمن :

يظهر من خبر أنّ إبراهيم بن موسى بن جعفر عليه‌السلام والذي كان يكنى به أبوه الكاظم عليه‌السلام كان يواكب الواقفة في التوقف عن الإذعان بوفاته ؛ فقد روى الصدوق بسنده عن بكر بن صالح قال : سألته : ما قولك في أبيك؟ فقال : هو حي! قلت : فما قولك في أخيك أبي الحسن؟ قال : هو صدوق ثقة! قلت : فإنه يقول إنّ أباكما قد مضى! قال : هو أعلم وما يقول (٢).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٨ : ٥٣٩.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٤٦ ، الباب ٥ ، الحديث ٤.

٥٩٧

وروى الكليني قبله مثله بسنده عن علي بن أسباط أنّه أخبر الرضا عليه‌السلام فقال له : إنّ رجلاً عنى أخاك إبراهيم ، فذكر له (أخوك إبراهيم) أنّ أباك في الحياة وأنت تعلم ذلك؟ فقال الرضا عليه‌السلام : سبحان الله يموت رسول الله ولا يموت موسى؟! قد ـ والله ـ مضى كما مضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكن الله تبارك وتعالى لم يزل منذ قُبض نبيه وهلم جَرّاً يمن بهذا الدين على «أولاد الأعاجم» ويصرفه عن قرابة نبيّه وهلم جَرّاً! فيعطي هؤلاء ويمنع هؤلاء. لقد قضيت عنه في هلال ذي الحجة ألف دينار بعد أن أشفى على عتق مماليكه وطلاق نسائه! ولكن سمعت منه ما لقي يوسف من إخوته (١) وهو الحسد!

وقد مرّ الخبر أنّ محمّد بن محمّد الزيدي عقد له على اليمن ، وبلغه ذلك وهو وجماعة من أهل بيته بمكة ، فخرج بهم يريد اليمن ، ووالي اليمن المقيم بها من قِبل المأمون : إسحاق بن موسى العباسي ، وكان قد بلغه ما كان من فعل عمه داود بن عيسى العباسي بمكة والمدينة حيث كره القتال بها ، فلمّا سمع بإقبال إبراهيم بن موسى العلوي وقربه من صنعاء كره قتاله ، فخرج بجميع من في عسكره من الخيل والرجال من اليمن إلى طريق نجد وخلّى اليمن وأقبل يريد مكة ، حتّى نزل المُشاش فعسكر هناك.

ودخل إبراهيم صنعاء وصنع بها من قتل الناس والسبي وأخذ الأموال ما أصبح يقال له الجزّار لكثرة من قتل من الناس (٢).

قال المفيد : وتقلّد الإمرة على اليمن في أيام المأمون من قِبل محمّد بن محمّد بن زيد بن علي الذي بايعه أبو السرايا بالكوفة ، ومضى إليها ففتحها

__________________

(١) أُصول الكافي ١ : ٣٨٠ ، الباب ٩٠ الحديث ٢ وصدره في عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٥٩ ، الباب ٢٩ الحديث ١٠٥.

(٢) تاريخ الطبري ٨ : ٥٣٦.

٥٩٨

وأقام بها مدّة إلى أن كان من أمر أبي السرايا ما كان ، فاخذ له الأمان من المأمون ، وكان كريماً شجاعاً سخياً (١).

وقال التستري : أراد المفيد بذلك الفضل النفساني لا الديني ، فإنّ تقلده إمرة اليمن من قبل أبي السرايا مخالف لطريقة الأئمة عليهم‌السلام (٢).

وكان مع إبراهيم بن موسى رجل من ولد عقيل بن أبي طالب ، فوجهه إبراهيم في جند كثيف ليحجّ بالناس سنة (٢٠٠ ه‍). وكان الحسن بن سهل قد أرسل أبا إسحاق بن هارون الرشيد ومعه قواد كثيرون أميراً للموسم ، منهم حمدويه بن علي بن عيسى بن ماهان ، أميراً على اليمن ، وعيسى بن يزيد الجُلودي في قواده وجنوده. فلمّا وصل العَقيلي إلى سنان بن عامر بلغه ذلك فأقام هناك ، فمرت به قافلة من التجار من بغداد ومعهم كسوة الكعبة وطيبها ، فأخذها وأموالهم وسلبهم وعراهم وتركهم ، فدخلوا مكة كذلك وبلغ ذلك إلى أبي إسحاق وذلك في الخامس من ذي الحجة عام (٢٠٠ ه‍) فشاور القواد فقال الجلودي : أنا أخرج إليه في خمسين من نخبة أصحابي وخمسين أختارهم من سائر القواد. فخرج في مئة منهم حتّى صبّح العقيلي وأصحابه في بستان ابن عامر فأحدق بهم وأخذ منهم كسوة الكعبة والطيب وأموال التجار ، ثمّ قنع كل واحد منهم عشرة أسواط وخلّاهم فرجعوا إلى اليمن عراة ومات أكثرهم في الطريق عرياً وجوعاً (٣)!

__________________

(١) الإرشاد ٢ : ٢٤٥ ـ ٢٤٦.

(٢) قاموس الرجال ١ : ٣٠٦ برقم ٢١٨. وإليه ينتهي نسب السيدين الشريفين الرضي والمرتضى.

(٣) تاريخ الطبري ٨ : ٥٤١.

٥٩٩

مصير محمّد بن جعفر العلوي :

خرج محمّد بن جعفر إلى بلاد جُهينة على الساحل ، وأقام حتّى انقضى موسم الحج لعام (٢٠٠ ه‍) وهو يجمع الجموع. وكان والي المدينة يومئذ هارون بن المسيّب ، فلمّا علم بموضع محمّد بن جعفر وتجميعه الجموع أراد أن يرسل إليه فيأخذه. فلمّا علم بذلك محمّد بن جعفر توجّه بمن اجتمع عنده إلى ميقات الشجرة قرب المدينة يريدها ، فلمّا علم بذلك هارون بن المسيّب خرج إليه بمن معه فقاتله ، فقتل من أصحاب محمّد بن جعفر بشر كثير ، وأصابت نشّابة عينه ، فعاد بمن بقي معه إلى موضعه السابق في بلاد جُهينة عند الساحل (١).

وروى الأموي الزيدي ، عن أحمد بن عبيد الله بن عمّار ، عن علي بن محمّد بن سليمان النوفلي ، ووصفه أبو الفرج : بأنّ علي بن محمّد كان يقول بالإمامة ، وأنّ أكثر حكاياته بل سائرها لا تتجاوز أباه محمّد بن سليمان النوفلي موقوفة عليه ، وهو يومئذٍ مقيم بالبصرة لا يعلم بشيء من أخبار القوم إلّاما يسمعه من ألسنة العامة فيسطره في كتابه! قال : إنّهم رجعوا فأقاموا في جبل ثَبير مدّة ، وطلب هارون بن المسيب من ابن أخي محمّد بن جعفر : علي بن موسى أن يرسله إليه فأرسله فلم يُصِغ إلى رسالته وأقام على الحرب.

ثمّ روى عن محمّد بن علي بن حمزة : أن الجُلودي وجّه إليه خيلاً ، وكان الموضع حصيناً لا يوصل إليه فحاصروه في موضعه ثلاثة أيام فنفد ماؤهم وزادهم ، فجعل أصحابه يتفرقون ويتسللون يميناً وشمالاً ، فلمّا رأى ذلك لبس بُرداً ونعلاً وصار إلى مضرب عسكر الجُلودي فدخل إليه وسألهم الأمان لأصحابه (٢).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٨ : ٥٣٩.

(٢) مقاتل الطالبيين : ٣٦٠.

٦٠٠