موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٧

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٧

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٢٠

محمّد الحسني وإسماعيل الجعفري :

قال موسى بن عبد الله الحسني : كان بنو معاوية بن عبد الله بن جعفر مع أخي محمّد ، وجاؤوا بعمّهم إسماعيل بن عبد الله بن جعفر ليبايع ، وهو شيخ كبير ضعيف قد ذهبت رجلاه فهم يحملونه حملاً! وقد ذهبت إحدى عينيه! فدعاه محمّد إلى بيعته! فقال إسماعيل : يابن أخي ، إني شيخ كبير ضعيف وأنا إلى برّك وعونك أحوج! فقال : لابدّ من أن تبايع! قال إسماعيل : وأي شيء تنتفع به من بيعتي؟! والله إني لُاضيق عليك مكان اسم رجل إن كتبته! قال : لابدّ لك أن تفعل!

وكأنه علم بامتناع أبي عبد الله عليه‌السلام وحبسه ، فقال له : ادع لي جعفر بن محمّد عليه‌السلام فلعلّنا نبايع جميعاً! فلمّا طمع فيها محمّد دعا إليه جعفر عليه‌السلام فلمّا جيء به قال له إسماعيل :

جعلت فداك! إن رأيت أن تبيّن له لعلّ الله يكفّه عنّا.

قال أبو عبد الله : قد أجمعت أن لا اكلّمه! فليرَ فيّ برأيه!

فقال إسماعيل : أنشدك الله ، هل تذكر يوماً أتيت أباك محمّد بن علي عليهما‌السلام وعليَّ حلتان صفراوان ، فأدام نظره إليّ وبكى! فقلت له : ما يبكيك؟ فقال لي : يُبكيني أنك في كِبر سنّك تُقتل ضياعاً فلا ينتطح في دمك عنزان! قلت : فمتى ذاك؟ قال : إذا نظرت إلى الأحول مشؤوم قومه ، ينتمى من آل الحسن ، على منبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يدعو إلى نفسه وقد تسمّى بغير اسمه ـ المهدي ـ فأحدث عهدك واكتب وصيتك! فإنك مقتول في يومك أو في غده!

فقال أبو عبد الله : نعم! وهذا ـ وربّ الكعبة ـ لا يصوم من شهر رمضان هذا إلّا أوّله! فأستودعك الله يا أبا الحسن وأعظم الله أجرنا فيك ، وأحسن الخلافة على من خلّفت ، وإنا لله وإنا إليه راجعون!

٣٢١

قال موسى : فردّ جعفر (الصادق عليه‌السلام) إلى الحبس ، وحملوا إسماعيل إلى الحبس ، فوالله ما أمسينا حتّى دخل عليه بنو أخيه معاوية بن عبد الله بن جعفر ، فتوطّؤوه حتّى قتلوه!

وبعث محمّد فخلّى سبيل جعفر عليه‌السلام ثمّ استهلّ شهر رمضان (١).

وخرج الصادق عليه‌السلام من المدينة إلى مالفه بالفُرع (على ثمانية بُرُد إلى مكة) معتزلاً ، ثمّ عاد بعد (٢).

هذا في حين أن مالك بن أنس لما استفتى في ذلك وقيل له : وفي أعناقنا بيعة المنصور! قال : إنّما بايعتم مكرهين ، وليس على مُكره يمين. فأسرع الناس إلى بيعة محمّد ، ولكنّه لزم داره ولم يحضر القتال (٣).

كتاب المنصور إليه وجوابه :

نقل «الكامل» عن الكلبي قال : لما بلغ المنصور خروج محمد (الحسني) كتب إليه :

من أمير المؤمنين أبي جعفر إلى محمد بن عبد الله ، قال الله تعالى : (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ ...* ... فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٤)) ولك عليَّ عهد الله وميثاقه وذمّته وذمّة رسوله! إن تبت ورجعت من قبل أن أقدر عليك فأنت آمن ، وجميع ولدك وإخوتك وأهل بيتك ومن اتّبعك ، على دمائهم وأموالهم ،

__________________

(١) اصول الكافي ١ : ٣٦٣ ـ ٣٦٤.

(٢) تذكرة الخواص ٢ : ٤٥٨ عن الواقدي.

(٣) مقاتل الطالبيين : ١٩٠ ، وانظر تاريخ الطبري حوادث سنة (١٤٥ ه‍) ، وتاريخ الخلفاء للسيوطي : ٣١٧.

(٤) المائدة : ٣٣ و ٣٤.

٣٢٢

وأعطيك ألف ألف (مليون) درهم! وانزلك أيّ البلاد أحببت ، واطلق مَن في حبسي من أهلك! وإن شئت أن تستوثق لنفسك فابعث إليّ من شئت ليأخذ لك الأمان والمواثيق والعهود ، والسلام.

فكتب إليه محمد بن عبد الله : من محمد بن عبد الله «المهدي» إلى عبد الله بن محمد (العباسي) : (طسم* تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ* ... مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (١)) وأنا أعرض عليك الأمان مثل ما عرضت عليَّ! وإنما ادّعيتم هذا الأمر بنا ، وخرجتم له «بشيعتنا» وحظيتم بفضلنا ، وإنّ أبانا كان هو «الوصي والإمام» فكيف ورثتم ولايته وولده أحياء؟!

ثمّ قد علمت أنّه لم يطلب هذا الأمر أحد له نسبنا وشرفنا! لسنا من أبناء «الطلقاء» ولا الطرداء ولا اللعناء! ولا يمتّ أحد من بني هاشم بمثل ما نمتّ به من القرابة والسابقة والفضل! فإنا بنو فاطمة بنت رسول الله في الإسلام دونكم ، ووالدنا علي أول الناس إسلاماً وأول من صلّى مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .. فأنا أوسط بني هاشم نسباً وأشرفهم أباً! لم تنازع في «أُمهات الأولاد» ولم تعرق فيّ «العجم»!

وأما قولك عن الإمان فأيّ الأمانات تعطيني؟! أمان عمّك عبد الله بن علي؟! أو أمان أبي مسلم؟! أو أمان (يزيد بن عمر) ابن هُبيرة؟! والسلام.

فكتب إليه المنصور : أما بعد ، فقد وقفت على كتابك فإذا جلّ فخرك بقرابة النساء! لتضلّ به الجفاة والغوغاء! ولم يجعل الله النساء كالعمومة والإناث «كالعصبة» والأولياء! فإنّ الله جعل العمّ أباً! وزعمت أنك لم تلدك أُمهات الأولاد ، فقد فخرت على من هو خير منك! وما خياركم إلّامن أُمهات الأولاد ، لأ نّه ما ولد فيكم بعد رسول الله مثل علي بن الحسين وأُمه أُم ولد ، وهو خير منك

__________________

(١) القصص : ١ ـ ٦.

٣٢٣

ومن جدك! وكذا محمد بن علي بن الحسين أُمه أُم ولد (كذا!) وما كان فيكم مثله ولا مثل ابنه جعفر وأُمه أُم ولد (كذا!). وأما قولكم : إنكم بنو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فالله يقول : (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ (١)) وأنتم بنو ابنته وهي لا تحوز «الميراث» مع «العصبة» (٢).

مواجهة الحسني والعباسيّين :

مرّ الخبر أن عيسى بن موسى العباسي عمّ المنصور حمل معه محمّد بن زيد بن علي ، والقاسم بن الحسن بن زيد ، فلمّا وصل منزل فيد قبل المدينة ، كتب كتاب أمان لمحمد الحسني ولأهل المدينة معه ، وبعث به مع هذين. وكان محمّد الحسني قد أشاع فيهم موت المنصور ليجرّيهم على القيام معه. فلمّا وصل هذان إلى المدينة تقدم محمّد بن زيد فناداهم : والله لقد تركت أمير المؤمنين حياً! وهذا عيسى بن موسى قد أتاكم يعرض عليكم الأمان. وتكلم القاسم بن الحسن بمثل ذلك. فقال أهل المدينة : قد خلعنا أبا الدوانيق! وعكس الأمر محمّد الحسني فكتب إلى عيسى يدعوه إلى طاعته ويعطيه الأمان!

وحين دنا عيسى العباسي من المدينة قال محمّد لأهل المدينة : أشيروا عليَّ في الخروج من المدينة أو المقام بها. فاختلفوا عليه ، فترك الخروج وأقام ، فخندق على المدينة على خندق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وخندق على أفواه السكك.

__________________

(١) الأحزاب : ٤٠.

(٢) الكامل للمبرّد ٢ : ٣٨٣ ـ ٣٨٥ وأنساب الأشراف ٢ : ٩٩ ـ ١٠٥ ، الحديث ١٠٦ وبهامشه مصادر أُخرى وتعليقات قيّمة ، وتذكرة الخواص ٢ : ٨٣ ـ ٩٠ وبهامشه مصادر أُخرى وتعليقات حقة.

٣٢٤

وسلك عيسى بطن فراة حتّى ظهر على الجُرف فنزل قصر سليمان بن عبد الملك ، صبيحة اثنتي عشرة ليلة من شهر رمضان سنة (١٤٥ ه‍) يوم السبت ، وكان يريد تأخير القتال إلى شهر شوال ، وبلغه أن محمّداً يقول : إنّ أهل خراسان على بيعتي ، وقد بايعني حميد بن قحطبة الطائي وسنفلت منهم! فعاجلهم عيسى ، يوم الاثنين للنصف من شهر رمضان فأحاط بهم.

وكان عيسى بن زيد بن علي على شرطة محمّد الحسني فتولّى قتال عيسى العباسي ، وجلس محمّد في أول القتال في المصلّى ، فلمّا اشتدّ الأمر بينهم جاء محمّد فباشر القتال بنفسه ، فقال عيسى العباسي لحميد بن قحطبة : أراك مداهناً! وأمره بالتجرّد لقتال محمّد فتولّى قتاله. وجعل محمّد ابن السفّاح بإزاء جُهينة ، وكثير بن حُصين الخزاعي بإزاء صالح ويزيد ابني معاوية بن عبد الله بن جعفر ، فأرسلا إليه يطلبان الأمان فلم يؤمّنهما عيسى العباسي فهربا! ورماهم أهل خراسان بالنشاب فأكثروا فيهم الجراح فتفرقوا عن محمّد ، واقتتلوا إلى الظهر ، فتراجع محمّد إلى دار مروان فصلّى فيها الظهر واغتسل وتحنّط للقتل. واستمر القتال إلى العصر ، فقال عيسى العباسي لحميد بن قحطبة : أراك قد أبطأت في أمر هذا الرجل! فولّ حربه حمزة بن مالك. فقال : أحين قتلت الرجال ووجدت ريح الفتح! ثمّ دخل على محمّد من زقاق أشجع ، فلمّا قابله محمّد قال له : ألم تبايعني؟! فما هذا؟! قال : هكذا نفعل بمن يفشي سرّه إلى الصبيان!

وكان محمّد يفري الناس بسيفه ما يقاربه أحد إلّاقتله ، ودهمته الخيل فوجد الموت فتحامل على جفن سيفه فكسره ، وضربه رجل بسيفه دون شحمة أُذنه اليمنى فبرك لركبتيه وجعل يذب عن نفسه ويقول : ويحكم! أنا ابن نبيّكم! مُحرج مظلوم! وصاح حميد بن قحطبة : لا تقتلوه! فكفّوا عنه حتّى جاءه حميد فحزّ رأسه (١).

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ١٨٠ ـ ١٨٣.

٣٢٥

هذا ما رواه الأموي الزيدي. وجاء في خبر أخيه موسى الحسني : كان على مقدمة محمّد : يزيد بن معاوية بن عبد الله بن جعفر فهزم ، وتقدّم عيسى العباسي إلى المدينة فنزل بجبل ذُباب ، ودخل العسكر العباسي من خلفنا ، وخرج محمّد في أصحابه حتّى بلغ السوق ، ثمّ تبعهم حتّى انتهى إلى مسجد بيّاعي الخامات ، ثمّ استقدم حتّى انتهى إلى شعب فرارة ، ثمّ دخل إلى هُذيل ، ثمّ مضى إلى بني أشجع ، فهناك خرج عليه الفارس الذي أخبره به أبو عبد الله (الصادق عليه‌السلام) من خلفه من سكة هُذيل فطعنه فلم يصنع فيه شيئاً ، وحمل على الفارس فضرب خيشوم فرسه بالسيف فطعنه الفارس فأنفذ سنانه في درع محمّد ، وانثنى عليه محمّد يضربه فهو مدبر على الفارس يضربه إذ خرج عليه حميد بن قحطبة من زقاق آل أبي عمّار (العمّاريين) فطعن محمّداً طعنة أنفذ سنانه فيه وانكسر رمحه ، وحمل محمّد على حميد فطعنه حميد بزجّ رمحه فصرعه ، ثمّ نزل إليه فضربه حتّى أثخنه وقتله وأخذ رأسه (١).

وجاء حتّى وضع رأسه بين يدي عيسى العباسي ، وأقبل على القوم قائد منهم فقال : أما إنّه خالف أمير المؤمنين وشقّ عصا المسلمين! وإن كان لصوّاماً قوّاماً!

ثمّ دعا عيسى العباسي بالقاسم بن الحسن بن زيد وقدّمه بالبشارة إلى المنصور ، ثمّ دعا بابن أبي الكرام الجعفري فأرسله برأس محمّد إليه.

ثمّ بعثت ابنته فاطمة وأُخته زينب إلى عيسى العباسي : إنكم قد قضيتم حاجتكم في قتل هذا الرجل ، فلو أذنتم لنا فواريناه! فأرسل إليهما : أن وارياه راشدتين. فبعثتا إليه من حمله ودفنه في البقيع (٢) وكان سميناً أسمر (٣).

__________________

(١) أُصول الكافي ١ : ٣٦٥.

(٢) مقاتل الطالبيين : ١٨٥.

(٣) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٨٦.

٣٢٦

وفي علّة هزيمة أصحاب محمّد ذكر اليعقوبي العبّاسي : أن أسماء ابنة عبد الله بن عُبيد الله بن العباس ، كان لها مولى يدعى مجيب العامري ، عقدت خمارها الأسود على قصبة وأعطتها لمجيب وأمرته أن ينصب القصبة على مئذنة المسجد ، ثمّ وجهته أن يدخل عسكر محمّد فيصيح بهم : قد دخل المسودّة المدينة ، فلمّا رأى الناس العلم الأسود على مئذنة المسجد انهزموا إلّاقليلاً (١).

وكان عَلم محمّد الحسني أصفر وعليه صورة حيّة (٢) وقبض المنصور على علي بن محمّد الحسني فسمّى له أصحاب أبيه فحبسهم (٣). بل سجن القرشيين وجلد الأعراب ، أمّا الموالي معه فقطع أيديهم (٤).

بعد أن نصب ألوية في مواضع متفرقة ونادى مناديه : من أتى لواءً من الألوية المنصوبة فهو آمن (٥)!

ومرّ خبر البلاذري أنّ السفّاح كان قد تزوّج لابنه محمد ابنة لمحمد الحسني تدعى زينب ، وكان عمّه ابن السفّاح مع هذا الجيش ، فلما قُتل محمد الحسني أرسل محمد ابن السفّاح إلى عمتها زينب بنت عبد الله بن الحسن : إني أُريد أن أدخل بأهلي فافرغوا لي من أمرها! فأرسلت عمتها إلى عيسى بن موسى : أنّ محمداً (العباسي) أرسل إليّ بكذا ، وقد قتلتم بالأمس أباها ويعرس بها اليوم!

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٧٦.

(٢) مقاتل الطالبيين : ١٩٠.

(٣) مقاتل الطالبيين : ١٩٧.

(٤) الأخبار الموفقيات : ١٨٦.

(٥) أنساب الأشراف ٢ : ١١٢ ، الحديث ١١٣.

٣٢٧

فأرسل عيسى إلى محمد العباسي فلما لقيه تناوله بسوطه وقال له : يا مائق! ما يؤمنك أن تشتمل على سكين فإذا أفضيت إليها قتلتك (١)؟!

ومرّ أن محمد الحسني كان قد أرسل عنه الحسن بن معاوية بن عبد الله بن جعفر عاملاً على مكة ، وكان عليها السريّ بن عبد الله العباسي فاختفى ، فلما بلغهم مقتل محمد الحسني بالمدينة ظهر السريّ العباسي فخرج الحسن الجعفري منها (٢).

وكان قد أرسل عثمان بن إبراهيم التميمي إلى اليمامة ليأخذها ، فلم يبلغها حتى قتل محمد الحسني (٣).

إبراهيم الحسني إلى البصرة :

مرّ خبر الأموي الزيدي عن بيعة عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء في جمع من معتزلة البصرة بعد موسم الحج لسنة (١٤٤ ه‍) في السويقة على يد إبراهيم لأخيه محمّد بمحضر أبيهما عبد الله الحسني (٤) ولم يذكر الخبر أن إبراهيم هاجر معهم إلى البصرة.

لكنه روى عن النميري البصري عن مطهر بن الحرث قال : أقبلنا من مكة مع إبراهيم بن عبد الله نريد البصرة فدخلها قبلنا بليلة ثمّ دخلناها.

__________________

(١) أنساب الأشراف ٢ : ١١٣ ، الحديث ١١٦ قال : ثمّ تزوّجها محمد بعد ذلك ثمّ مات عنها فتزوجها عيسى بن موسى! وخلط السبط فقال : دخل بها ليلة قتل أبوها! تذكرة الخواص ٢ : ٩٤.

(٢) أنساب الأشراف ٢ : ١١٤ ، الحديث ١١٦.

(٣) أنساب الأشراف ٢ : ١١٥ ، الحديث ١١٦.

(٤) مقاتل الطالبيين : ١٩٦.

٣٢٨

ولقد غاب بالنيل (نيل البصرة) وواسط والمدائن والأنبار والموصل ، وما دخل الكوفة قط (١).

ويظهر من الخبر أنّه وإن لم يهاجر مع معتزلة البصرة إليها ، إلّاأن ذلك كان بعدهم بقليل فمرّ بتلك المدن ثمّ عاد فاستقر بالبصرة ، بلا تعيين لتاريخه. واستخفى في دار أبي مروان مولى يزيد بن عمر بن هبيرة ، وإبراهيم بن درست الفقمي ومعاذ بن عون الله. ودعا الناس وهو في دار أبي فروة ، وأول من بايعه بها نُميلة بن مُرّة ، وعفو الله بن سفيان ، وعبد الواحد بن زياد ، وعبد الله بن يحيى الرقاشي وعمر بن سلمة الهجيمي ، ثمّ ندبوا الناس إليه ، فأجابهم فتيان العرب منهم المغيرة بن الفزع السعدي التميمي ، حتّى قيل أن ديوانه أحصى أربعة آلاف ، وشهر أمره فخرج من البصرة إلى واسط في دار أبي مروان مولى بني سليم. ثمّ عاد إلى البصرة.

وجاءه كتاب أخيه محمّد يخبره أنّه قد ظهر ، ويأمره بالخروج فاغتمّ لذلك ، فقال له عفو الله بن سفيان : قد اجتمع لك أمرك ومعك أنا وجماعة منهم الطهوي والمُضاء والمغيرة ، نخرج ليلاً فنقصد السجن فنفتحه فتصبح ومعك عالم من الناس! فطابت نفسه.

وأخذ المنصور أهل الكوفة بلبس السواد حتّى البقّالين! وولّى سلماً مولى حميد بن قحطبة أمر المتهمين منهم بالميل إلى إبراهيم وأمره بقتلهم. فكان ينصب سلماً على منازلهم ليلاً فيقتلهم ويأخذ خواتيمهم (٢).

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٢١١ ، وفيه ذكر بغداد ، هذا وهي بعد غير مسكونة! وكأنه يؤكد على عدم دخوله ولا مروره بالكوفة نفياً لقصة قصّها اليعقوبي ٢ : ٣٧٦ ـ ٣٧٧.

(٢) مقاتل الطالبيين : ٢١٢ ـ ٢١٣.

٣٢٩

خروج إبراهيم الحسني بالبصرة :

وأحسّ المنصور بالشر فوجّه سبعمئة فارس بقيادة جابر بن توبة معونة لوالي البصرة.

وبعد المغرب لأول رمضان بهنيهة ارتفعت تكبيرة وتتابع التكبير ، وصار إبراهيم الحسني في أربعة عشر فارساً فوقفوا في مقبرة بني يشكر الهمدانيين ، وكان فيها قصب يباع ، فأقاموا في كل ناحية من المقبرة أطناناً ألهبوا فيها النار فأضاءت المقبرة ، وبدأ أصحابهم الذين كانوا وعدوهم يأتونهم ، فكلما جاءت طائفة كبّروا ، منذ أول الليل إلى نحو من نصفه ينتظر نميلة بن مرة السعدي ومن وعده من بني تميم ، حتّى جاءوه وتمّ لهم ما أرادوه.

وبعد ما ذهبت طائفة من الليل نحو من نصفه مضوا إلى دار الإمارة ، وقد حملوا معهم النار فألقوه في الرحبة وأدنى القصر فأحرقوه ، ووجدوا دواب أصحاب جابر بن توبة وهي سبعمئة فأخذوها. والأمير سفيان بن معاوية المهلّبي الأزدي طلب الأمان له ولمن معه فنزلوا على الأمان إلى إبراهيم فتركهم (١).

وكان بالبصرة أبناء سليمان بن علي العباسي : محمّد وجعفر فجمعوا من مواليهم ومن والاهم نحو من ثلاثة آلاف وتوجهوا إلى أصحاب إبراهيم (٢) وقد دخل إبراهيم المسجد فصلّى وخطب ، فبينا هو يتكلم إذ أتاه آت فقال : هذا جعفر ومحمّد ابنا سليمان قد أقبلا في مواليهما! فصاح إبراهيم بصاحبيه المُضاء والطهوي وقال لهما : اذهبا فقولا لهما : يقول لكما ابن خالكما : إن أجبتما جوارنا ففي الأمن والرحب لا خوف عليكما ولا على أحد تؤمّنانه! وإن كرهتما جوارنا فاذهبا حيث شئتما ولا تسفكا دماً بيننا وبينكم.

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٢١٣ ـ ٢١٤.

(٢) تاريخ خليفة : ٢٧٧.

٣٣٠

فخرجا بأصحابهما إليهما فالتقوا عند دار ميّة الثقفية فتواقفوا وكلمهم المُضاء والطهوي (١).

فجعل أصحاب سليمان العباسي ينضحونهم بالنبل والنشاب! فوضع الطهوي جبهته على قربوس سرج فرسه وانتضى سيفه وشدّ عليهم ، فضرب يد صاحب علمهم فأبانها وسقط العلم فانهزموا (٢) وخرجا إلى ميسان فتحصّنا في خندق هناك.

وقبض إبراهيم على بيت المال وغيره ، ووجّه إلى الأهواز المغيرة بن الفزع السعدي التميمي فأخرج عاملها محمّد بن الحصين وغلب على البلد. ووجّه يعقوب بن الفضل المطلبي إلى فارس فدخلها وأخرج منها إسماعيل بن علي العباسي عمّ المنصور ، ووجّه هارون بن سعد العجلي إلى واسط فاستولى عليها وحواليها ، ووجّه بُرد بن لبيد اليشكري الهمْداني إلى كسكر فغلب عليها. وتكاثر أصحابه حتّى أحصى ديوانه ستين ألفاً (٣).

وفي أواخر شهر رمضان أو ليلة الفطر التحق به بالبصرة عيسى بن زيد بن علي من فلّ أخيه محمّد فأخبره بخبر أخيه ، ولحقه أخوه موسى ، قال : اخذت المدينة واجلينا هرباً في البلاد ، فانطلقت إلى البصرة حتّى لحقت بأخي إبراهيم فوجدت عيسى بن زيد عنده (٤) فخرج بالناس يوم العيد وفيه الانكسار ، فصلّى

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٢١٥.

(٢) تاريخ خليفة : ٢٧٧.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٧٧ وكان في بيت المال : ألفا ألف درهم ، وفرض لكل شخص خمسين. مقاتل الطالبيين : ٢١٦.

(٤) اصول الكافي ٢ : ٣٦٥.

٣٣١

بهم وأخبرهم بقتل محمّد (١) وقال : اللهم انك تعلم أن محمّداً إنّما خرج غضباً لك وايثاراً لحقك ونفياً لهذه المسوّدة (العباسيين) فارحمه واغفر له واجعل الآخرة خير مردّ ومنقلب له من الدنيا. ثمّ جرض بريقه وترادّ كلامه في فيه وتلجلج ثمّ انفجر باكياً منتحباً ، فبكى الناس (٢) ثمّ رفع صوته وقال : اللهم انك ذاكر اليوم آباء بأبنائهم وأبناءً بآبائهم ، فاذكرنا عندك بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، اللهم وحافظ الآباء في الأبناء والأبناء في الآباء ، احفظ ذرية محمّد نبيك صلى‌الله‌عليه‌وآله. فارتجّ المصلّى بالبكاء (٣) ثمّ دعا إلى نفسه بعد أخيه فتبعوه (٤) وأفتى أبو حنيفة بالخروج معه وكان يجهر به بل كتب إليه يدعوه إلى الكوفة واعتذر هو عن الحضور بودائع كانت عنده للناس ، كما فعل يوم زيد بن علي كما مرّ واعتذر الأعمش بعمشه (٥).

وفي ذي القعدة قام للقتال :

بقي إبراهيم الحسني بالبصرة نافذ الحكم شهري رمضان وشوال ، ولأول ذي القعدة استخلف ابنه الحسن وخرج منها إلى باخمرا من سواد الكوفة لقتال المنصور (٦) في ثلاثين ألفاً (٧). وقال اليعقوبي : بل استخلف نُميرة بن مُرة الأسعدي أو السعدي التميمي ، وكان ديوانه قد أحصى ستين ألفاً ، فأخذ على كسكر.

__________________

(١) تاريخ الطبري ، حوادث سنة (١٤٥ ه‍).

(٢) مقاتل الطالبيين : ٢٢٨.

(٣) مقاتل الطالبيين : ٢٢٤.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٧٨.

(٥) مقاتل الطالبيين : ٢٤٠.

(٦) تاريخ خليفة : ٢٧٧.

(٧) تاريخ مختصر الدول : ١٢٢.

٣٣٢

وكان المنصور قد كتب إلى عيسى بن موسى العباسي يستعجل قدومه ، فلمّا وصله قال له : يا أبا موسى! أنت أولى بالفتح من جعفر ومحمّد ابني سليمان العباسي ، فانفذ ليكمل الله! الظفر على يديك. وبعثهما معه ، فخرج في ثمانية عشر ألفاً (١)! فعسكر إبراهيم في ماجور يريد المنصور ، وعلى ميسرته يزيد بن لبيد اليشكري الهمْداني ، وعلى ميمنته عيسى بن زيد بن علي ومعه الزيدية فلم يرضوا بالبيات على العباسيّين ، ولا برجوع إبراهيم إلى البصرة ليمدّهم بالأمداد ، ولا بحفر الخندق حولهم ، ولا بأن يجعل العسكر كراديس فإذا هُزم كردوس ثبت كردوس متحجّجين بقوله سبحانه : (كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ (٢)).

نزل إبراهيم إلى قرية باخمرا ، وصار عيسى العباسي إلى قرية سُحا ، وقدّم حميد بن قحطبة الطائي للقتال أيضاً ، والتحمت الحرب أشد حرب والدائرة على العباسيّين ، وظهر وانتصر إبراهيم انتصاراً كبيراً على العباسيّين حتّى هزم عسكرهم عدّة مرات ، وزحف حتّى قرب من الكوفة (٣) ، حيث تبع أصحاب إبراهيم عسكر عيسى العباسي وهزموهم هزيمة قبيحة حتّى وصل أوائلهم إلى الكوفة! فأمر المنصور بإعداد الابل والدواب على جميع أبواب الكوفة ليهرب عليها!

وكان إبراهيم واقفاً على فرسه ينظر إلى أصحاب عيسى العباسي وقد ولّوا ومنحوا اكتافهم لأصحاب إبراهيم. ونكص عيسى العباسي برايته وأصحاب إبراهيم يقتلون فيهم ، وعلى إبراهيم قباء أصفر فأذاه الحر فحلّ أزراره.

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٧٧.

(٢) مقاتل الطالبيين : ٢٢٨ ، ٢٢٩ ، ٢٤٢ ، ٢٤٣ و ٢٥١.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٧٨.

٣٣٣

وكان محمّد بن السفّاح معسكراً في ناحية ، فلمّا رأى أصحابه منهزمين لفّ أعلامه وانهزم على مسنّاة إلى الكوفة ، وكان في المسنّاة تعريج ، فنظر أصحاب إبراهيم إليهم وكأنهم من خلفهم فتصايحوا : الكمين الكمين! فانهزموا! وصبر إبراهيم ومعه أربعمئة يضاربون دونه. وحسر إبراهيم عن لُبّته فأتته نُشّابة عائرة فأصابت لُبّته ، فاعتنق فرسه وكرّ راجعاً وأطاف به الزيدية ، وأكبّوا عليه يقبّلون يديه ورجليه وهم يقولون : أردنا أن نجعلك مليكاً فأبى الله إلّاأن يجعلك شهيداً! ونظر الأقطع مولى عيسى العباسي إلى ذلك فعلم أنّه إبراهيم ، وجعل أصحابه يقاتلون دونه لا يبالون ، فلمّا قُتلوا أتاه واحتزّ رأسه وجعله في مِخلاته وأتى مولاه عيسى العباسي وقال له : هذا رأس إبراهيم في مِخلاتي! فقال عيسى لابن أبي الكرام الجعفري معه : اذهب فانظر فإن كان رأسه فاحلف لي بالطلاق حتّى أُصدّقك! فأتاه فأخرجه له ورجع إلى عيسى بخبره ، فأمر أن ينادى فيهم بالأمان فنودي به.

وصار جمع منهم إلى عيسى بن زيد بن علي وانتظروه ما يفعل ، فصبر ملياً ثمّ قال : ما بعد هذا بقاء! وعاد بهم إلى قصر (خراب) ، فلمّا انتصف الليل افتقدوه ، وتوارى في الكوفة في دار علي بن صالح وتزوّج ابنته.

وكان قتل إبراهيم في ارتفاع النهار يوم الاثنين للخامس والعشرين من ذي القعدة سنة (١٤٥ ه‍) وكان مقتله بباخمرا إلى الكوفة على ثمانية عشر ميلاً (٩ كم تقريباً) فأوصل الرأس إلى المنصور بالكوفة ليلة الثلاثاء ، فلمّا أصبح أمر به فاخرج في سفط أحمر في منديل أبيض وأمامه مناد ينادي : هذا رأس الفاسق ابن الفاسق! وكان أقنى خفيف العارضين قد أثر السجود في أنفه وجبهته ، مخضوباً بالحناء ، فنُصب بالسوق ، ثمّ ارسل برأسه إلى مصر (١) وعمره يومئذ

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٢٣٠ ـ ٢٣٣ و ٢٦٩ ـ ٢٨٤.

٣٣٤

ثمان وأربعون سنة (١) وبعد قتل محمّد وإبراهيم تلقّب بالمنصور (٢) وفرّ موسى بن عبد الله أخو إبراهيم مع ابن أخيه عبد الله الأشتر بن محمّد إلى السند (٣).

وكان معه الحسين بن زيد بن علي ففرّ إلى المدينة واختفى ثمّ ظهر بشفاعة أخيه محمّد بن زيد بن علي وكان مع المنصور (٤)!

ولما خرج محمد بالمدينة كان رياح المرّي قد دفع لما كان معه من المال إلى أبي بكر بن أبي سبرة عامله على قبائل أسد وطيء ، فلما قُتل محمد أُخذ أسيراً فطُرح في حبس المدينة ، ولما خرج عيسى بن موسى من المدينة خلف كثير بن الحصين العبدي ، ثمّ وليها عبد الله بن الربيع الحارثي ، فعاث جنده وأفسدوا ، فوثب بهم أهل المدينة وقتلوا منهم وطردوا باقيهم وأخرجوا الحارثي من المدينة! وانتهبوا متاعه. واجتمع الرعاع والسودان فقلّدوا رئاستهم إلى أسود منهم يُدعى أُوتيوا! ويدعونه أمير المؤمنين! وكسروا باب السجن وأخرجوا من فيه.

واجتمع القرشيون فخرجوا إلى الحارثي بأكثر ما نُهب منه وأرضوا من بقي من جنده ، ثمّ أمكنتهم الفرصة فقبضوا على أُوتيوا وأوثقوه ، وتفرق السودان ، ومات أُوتيوا في السجن فإما قتل قتلاً أو مات جوعاً! ثمّ ولّى المنصور ابن عمّه جعفر بن سليمان (٥) بعد انتهاء أمر البصرة.

__________________

(١) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٨٧.

(٢) التنبيه والإشراف : ٢٩٥.

(٣) اصول الكافي ١ : ٣٦٥ ، وانظر بشأن الأشتر مقاتل الطالبيين : ٢٠٦.

(٤) مقاتل الطالبيين : ٢٥٧.

(٥) أنساب الأشراف ٢ : ١٢٢ ، الحديث ١٢٤.

٣٣٥

المنصور والإمام الصادق عليه‌السلام :

روى الأموي الزيدي بسنده عن الصادق عليه‌السلام : أن المنصور لما انتصر على إبراهيم بن عبد الله الحسني في باخمرا ، حشر كل محتلم من بني هاشم من المدينة إلى الكوفة ، وحجبهم شهراً (آخر شهر من عام ١٤٥ ه‍) يتوقعون فيه القتل. ثمّ خرج إليهم حاجبه الربيع بن يونس وقال لهم : أدخلوا على أمير المؤمنين! رجلين منكم من ذوي الحجى. فقام إليه الصادق عليه‌السلام ومعه الحسن بن زيد بن الحسن ومع أن المنصور كان مسبوقاً بلقاء الصادق عليه‌السلام كراراً ومراراً مع ذلك لما صار اليوم بين يديه قال له : أنت الذي تعلم الغيب؟! قال : لا يعلم الغيب إلّاالله! قال : أنت الذي يُجبى إليك الخراج؟! قال : اليك يا أمير المؤمنين! يُجبى الخراج. قال : أتدرون لم دعوتكم؟ قال : لا ، قال : أردت أن اروّع قلوبكم وأعقر نخلكم وأهدم رباعكم واترككم بالسراة (الصحراء) لا يقربكم أحد من أهل الحجاز والعراق ؛ فإنهم مَفسدة لكم!

فقال عليه‌السلام : يا أمير المؤمنين! إن سليمان اعطي فشكر ، وإن أيوب ابتلي فصبر ، وإن يوسف ظُلم فغفر ، وأنت من ذلك النسل! فتبسم وقال : أعد عليَّ! فأعدت ، فقال : مثلك فليكن زعيم القوم ، وقد عفوت عنكم! ووهبت لكم جرم أهل البصرة!

ثمّ قال : حدّثني الحديث الذي حدّثتني به! عن أبيك عن آبائه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

قال : حدّثني أبي عن آبائه عن علي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : صلة الأرحام تعمّر الديار وتطيل الأعمار وإن كانوا كفّار! فقال : ليس هذا!

فقال : حدّثني أبي عن آبائه عن علي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : الأرحام معلّقة بالعرش تنادي : اللهم صِل من وصلني واقطع من قطعني! قال : ليس هذا.

٣٣٦

فقال : حدّثني أبي عن آبائه عن علي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : إنّ الله عزوجل يقول : أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت له اسماً من اسمي! فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته بتّة! قال : ليس هذا.

قال : حدّثني أبي عن آبائه عن علي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أن ملكاً من الملوك في الأرض كان بقي من عمره ثلاث سنين فوصل رحمه فجعلها الله ثلاثين سنة! فقال : هذا الحديث أردت.

ثمّ قال : أيّ البلاد أحبّ إليك؟ فوالله لأصلنّ رحمي إليكم! قال : فقلنا : المدينة (١).

وقد مرّ الخبر : أن محمّداً الحسني كان قد صادر أموال الصادق عليه‌السلام وكان منها عين تسمى عين أبي زياد ، وصادرها بعد محمّد عيسى بن موسى العباسي ، فهنا قال الصادق للمنصور : يا أمير المؤمنين! اردد عليَّ عين أبي زياد آكل من سعفها! فقال : إياي تتكلّم بهذا الكلام؟! لُازهقنّ نفسك!

فقال عليه‌السلام : لا تعجل! قد بلغت ثلاثاً وستين ، وفيها مات أبي وجدي علي بن أبي طالب ، فعليّ كذا وكذا إن آذيتك بشيء أبداً! وإن بقيت بعدك إن آذيت الذي يقوم مقامك!

فكأنه رقّ له وأعفاه ، وسرحهم إلى المدينة (٢).

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٢٣٣ ، ٣٣٤. وفي بحار الأنوار ٤٧ : ١٦٣ ، الحديث ٣ و ١٨٧ ، الحديث ٣٥ عن أمالي الطوسي بتغيير في أوله ، عن عوالي اللآلي وفيه : دخلت أنا وعبد الله بن الحسن ، والصحيح : زيد بن الحسن. وفي ١٩٣ ، الحديث ٣٩ عن مهج الدعوات بتغيير في أوله ، واختزله في : ٢٠٦ الحديث ٤٧ عن كشف الغمة عن الجنابذي البغدادي.

(٢) مقاتل الطالبيين : ١٨٤ عن النميري البصري. والطبري في حوادث (١٤٥ ه‍).

٣٣٧

ذو الدمعة والأفطح والكاظم عليه‌السلام :

منذ قتل زيد بن علي رحمه‌الله بالكوفة ، ترك ذريّة صغاراً منهم الحسين وله أربع سنين ، بُعث به إلى المدينة فتكفّله الصادق عليه‌السلام فنشأ في حجره وربّاه وكان مقيماً عنده ، فأخذ عنه علماً كثيراً (١).

روى ذلك الاموي الزيدي ، ثمّ روى بسنده عنه قال : مررت بعبد الله بن

__________________

وبشأن عين أبي زياد روى الكليني في فروع الكافي (٣ : ٥٦٩ ، الحديث ٢) بسنده عن الراوي قال : قلت للصادق عليه‌السلام : جعلت فداك ، بلغني أنك كنت تفعل في غلّة عين أبي زياد شيئاً احب أن أسمعه منك. قال : نعم ، كنت إذا أدركت الثمرة آمر أن يُثلم في حيطانها ليدخل الناس ويأكلوا. وكنت آمر أن يوضع في كل يوم عشر بنيّات (؟) يقعد على كل بنيّة عشرة ، كلما أكل عشرة جاء عشرة اخرى ، يُلقى لكل نفس منهم مُدّ من رطب.

وكنت آمر لمن لا يقدر أن يجيء فيأكل منها من جيران الضيعة الشيخ والعجوز والصبيّ والمريض والمرأة ، لكل انسان منهم بمدّ.

فإذا كان الجذاذ وفّيت الوكلاء والقوّام والرجال اجرتهم ، وأحمل الباقي إلى المدينة (فهي ضيعة خارج المدينة) ففرقت في أهل البيوتات والمستحقين : الراحلتين والثلاثة والأقل والأكثر على قدر استحقاقهم. وكان غلّتها أربعة آلاف دينار ويحصل لي بعد ذلك أربعمئة دينار (من كل ألف مئة!).

فلذلك طمع فيها محمّد الحسني ثمّ المنصور ، وطلبها الإمام عليه‌السلام ولم يردّها ، بل كانوا يبيعون تمرها.

فروى الكليني فيه (٥ : ٢٢٩ ، الحديث ٥) بسنده عن جميل بن صالح قال : إنهم عرضوا تمرها للبيع ، فأمرت مصادف أن يسأل الصادق عليه‌السلام هل أشتري منهم؟ فقال له : قل له : فليشتره فإنه إن لم يشتره اشتراه غيره.

(١) مقاتل الطالبيين : ٢٥٧.

٣٣٨

الحسن وهو يصلي في مصلّى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فأشار بيده إليّ وهو يصلّي ، فأتيته ، فلمّا انصرف قال لي : رأيتك محتاراً! فأردت أن أعظك لعلّ الله ينفعك بها!

إن الله قد وضعك موضعاً لم يضع به أحداً إلّامن هو مثلك! وإنك قد أصبحت في حداثة سنّ ، والناس يبتدرونك بأبصارهم ، والخير والشر يبتدران إليك! فإن تأت بما يُشبه سلفك فما نرى شيئاً أسرع إليك من الخير! وإن تأت بما يخالف ذلك فو الله لا ترى شيئاً أسرع إليك من الشرّ! وإنّه قد توالى لك آباء ، وإن أدنى آبائك زيد بن علي الذي لم أر فينا ولا في غيرنا مثله! فعليّ فحسين فعليّ عليهم‌السلام.

وكأنه بهذا ونحوه استدرجه إلى مقالة الزيدية بالخروج بالسيف ، وإلى ابنه محمّد بن عبد الله الحسني ، وكأنّ الحسين وهو مقيم بدار الصادق عليه‌السلام أثّر بدوره في عبد الله الأفطح بن الصادق عليه‌السلام فأخرجه معه مع محمّد الحسني بالمدينة ثمّ إلى البصرة مع أخيه إبراهيم ، ثمّ رجعا أدراجهما إلى المدينة وتواريا ، ثمّ لما لم يذكر في من طُلب ظَهرا. وكان الحسين يكثر البكاء على أبيه وأخيه يحيى ، وسألْته امه : ما أكثر بكاءَك! فقال : وهل ترك السهمان والنار سروراً يمنعني من البكاء! يعني بالسهمين ما قتل به أبوه وأخوه ، ولعله بالنار يعني البكاء توبة مما فعل بخروجه معهما.

وروى الاموي الزيدي عنه قوله : شهد مع محمّد بن عبد الله من ولد الحسين بن علي أربعة : أنا وأخي عيسى ، وعبد الله وموسى بن جعفر عليه‌السلام (١).

ونقل هذا المامقاني ولم يعلّق عليه! فعلّق عليه المحقق الشوشتري قال : لكنه خبر مختلَق ، لاشتماله على أن الكاظم عليه‌السلام خرج مع محمّد ، وحاشاه أن يفعل

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٢٥٧ ـ ٢٥٨.

٣٣٩

مثل ذلك ، وحاشا أباه أن يأذن له بذلك .. أما خروج عبد الله الأفطح فهو ممكن لأنه كان مخالفاً لأبيه (١) كما ذكر ذلك في ترجمته.

هذا مع أن محمّداً سجن الإمام عليه‌السلام إلزاماً له على بيعته ، ثم صادر أمواله بما فيها عين أبي زياد.

ويظهر أن المنصور كان يعرف انحراف الأفطح عن أبيه ولذا لم يحتج به عليه ، ولو كان معه موسى لكان لا يترك الاحتجاج به عليه.

ثمّ هو خبر انفرد به الأموي الزيدي ، ولا عهد لنا به عند غيره.

خطبة الوالي المغمور والخليفة المنصور :

لما قتل عيسى العباسي محمّداً الحسني بالمدينة ولّى عليها كُثير بن الحُصين الداري فمكث شهراً فعزله وولّى عليها عبد الله بن الربيع الحارثي (٢) ولا نجد فيما بأيدينا أن يولّاها يومئذ من يُدعى شَبّة بن عقال.

إلّا أن الطوسي روى عن المفيد ـ وليس في أماليه ـ أنّه وليها بعد قتل الأخوين محمّد وإبراهيم ، ولّى المنصور على المدينة رجلاً يقال له شَبَّة بن عقال ، أي لأواخر عام (١٤٥ ه‍) فلمّا حضرت الجمعة قال في خطبته :

أما بعد ، فإن علي بن أبي طالب شقّ عصا المسلمين وحارب المؤمنين! وأراد الأمر لنفسه ومنعه من أهله! فحرمه الله امنيته وأماته بغصّته! وهؤلاء ولده يتّبعون أثره في الفساد وطلب الأمر بغير استحقاق له! فهم في نواحي الأرض مقتّلون وبالدماء مضرّجون!

__________________

(١) قاموس الرجال ٣ : ٤٥٥ برقم ٢١٦١. بل كان عمر الكاظم يومئذٍ دون ١٦ عاماً! ولد (١٢٩ ه‍).

(٢) تاريخ خليفة : ٢٧٦ و ٢٨٣.

٣٤٠