موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٧

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٧

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٢٠

عن ولاية العهد من بعده وأن يستبدل ذلك بولاية عهد ابنه موسى. فبدأ الأمين بعزل أخيه القاسم المؤتمن عن العهد بعد المأمون وعمّا كان ولّاه الرشيد. فلمّا بلغ ذلك إلى المأمون قطع مراسلاته إلى الأمين. وأخذ الأمين يستميل القوّاد بالعطاء وبايع بولاية العهد لابنه موسى ولقّبه بالناطق بالحق ، هذا وهو طفل رضيع! ثمّ أرسل إلى المأمون رسولاً يذكر له أنّه قد سمّى ابنه الناطق بالحق ويطلب منه أن يقدم ذكر موسى على ذكر المأمون. فردّ المأمون ذلك وأباه ودعا الرسول إلى نفسه فبايعه بالخلافة سرّاً. فطلب منه أن يناصحه في العراق ويكتب بالأخبار إليه. فلمّا عاد الرسول وأخبر الأمين بامتناع المأمون عزم على إسقاط اسمه من ولاية العهد (١).

قال المسعودي : فأخذ الأمين يعمل الاحتيال لخلع المأمون ، فكتب إليه يأمره بتسليم بعض عمله إلى من عيّن فامتنع عليه ، فكتب إليه يأمره بالمصير إليه لمعاونته على تدبير الملك أي ليكون معاون الخليفة ، فذكر أُموراً يعتلّ بها ، فأرسل إليه رسولاً يسأله تقديم ابنه موسى على المأمون في ولاية العهد ويذكر له ترغيباً وترهيباً ، فأبى عليه. والفضل بن سهل كان يقوّي عزمه على المقاومة (٢).

ولما همّ بخلعه شاور عبد الملك بن صالح العباسي فأشار عليه يقول : لا يجتمع فحلان في أجمة ، ولكنّه شاور من قوّاده عبد الله بن حازم فحذّره ، فجمع قوّاده لذلك منهم هرثمة بن حازم فحذّره كذلك ودخل علي بن عيسى بن ماهان فتبسّم الأمين وقال : لكن شيخ هذه الدعوة وباب هذه الدولة! لا يخالف إمامه ولا يوهن طاعته ، ورفعه إليه ، فكان علي بن عيسى أول من أجاب من القواد لخلع المأمون (٣).

__________________

(١) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٣٥٥ ـ ٣٥٦.

(٢) التنبيه والإشراف : ٣٠٠.

(٣) مروج الذهب ٣ : ٣٨٩.

٥٦١

وقال اليعقوبي العباسي : كان الذي يحرّضه علي بن عيسى بن ماهان والفضل بن الربيع ، وزيّنا له أن يخلع المأمون ويبايع لابنه بولاية العهد من بعده ، ففعل ذلك وبايع لابنه موسى وذلك لثلاث خلون من شهر ربيع الآخر سنة (١٩٤ ه‍) ، وجمع العهود التي كان كتبها الرشيد بينهما فأحرقها. ومع ذلك كتب إلى المأمون يأمره بالقدوم عليه مع جميع قوّاده! فكتب إليه يعلمه أن لا سمع له في هذا ولا طاعة. فكتب بذلك إلى القواد بخراسان ، فكتبوا إليه : إنّما يلزمنا الوفاء لك ما وفيت لأخيك ، وقد نقضت العهود وأحدثت الأحداث واستخففت بالأيمان والمواثيق (١).

الأمين وطلب الخِصيان :

ذكر الطبري قال : لما ملك محمّد الأمين طلب الخصيان وابتاعهم وغالى فيهم ، وصيّرهم لخلوته في ليله ونهاره ، وقوّام طعامه وشرابه وأمره ونهيه ، وسمّاهم «الجرادية» وفرض لهم رواتب ، وجمعاً من الأحباش وسماهم «الغرابية» ورفض النساء الحرائر والإماء. ووجّه إلى جميع البلدان في طلب المُلهين ، وضمّهم إليه وأجرى لهم الأرزاق. وقسّم ما في بيوت أمواله وما يحضره من الجواهر بين جلسائه ومحدّثيه وخصيانه. وأمر ببناء مجالس لمتنزّهاته ومواضع خلوته ولهوه ولعبه بقصور الخلد والمعلّى وعبدويه وبستان موسى والخيزرانية ورقّة وكلواذه وباب الأنبار وبناوري والهوب. ونافس في ابتياع الدواب الفارهة والطيور والوحوش والسباع! واحتجب عن إخوته وأهل بيته وقوّاده ، واستخفّ بهم.

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٣٦.

٥٦٢

وابتنى الأمين سفينة عظيمة أنفق عليها ثلاثة آلاف ألف (مليون) درهم ، واتّخذ سفينة أُخرى على خلقة شيء يكون في البحر يقال له الدُّلفين ، ونظم أبو نؤاس له شعراً في ذلك.

وكانت هناك نوع من السفن فيها مرامي نيران يُرمى بها العدو ، تسمى الحرّاقة ، فأمر الأمين أن يصنع له خمس حرّاقات في دجلة على هيئة الفرس والأسد والفيل والحية والعُقاب وأنفق في عملها أموالاً عظيمة ، ونظم أبو نؤاس الحسن بن هاني له شعراً في ذلك (١).

وأمر يوماً أن يفرش له على دكة في قصر الخلد ، فبُسط له عليها بساط بلون الزرع ورسمه ، وطُرحت عليه فرش ونمارق مثله ، وهُيّئ له من أواني الذهب والفضة والجوهر شيء عظيم! وأمر قيّمة جواريه أن تهيّئ له مئة من جواريه فيصعدن إليه عشراً عشراً بأيديهن العيدان وهن يغنّين بصوت واحد (٢).

واستعان المأمون بقوّاده :

وانتهت أخبار الأمين هذه إلى المأمون فجمع قوّاده وقال لهم : قد علمتم ما كان قد شرط أبي عليَّ وعلى محمّد ، وقد نكث ونقض العهود ، وأوجد السبُل إلى خلعه بنكثه ونقضه ، وتعرّضه لأموالي وأسبابي وأعمالي ، وتحريقه الشروط والعهود التي عليه ، واستخفافه بحقّ الله فيما نكث من ذلك ، و «اشتغاله بالخصيان».

فاتّفق رأيهم على مراسلته ، فإن رجع وإلّا خلعوه.

__________________

(١) تاريخ الطبري ٨ : ٥٠٨ ـ ٥٠٩.

(٢) تاريخ الطبري ٨ : ٥١٢.

٥٦٣

وبلغ ذلك إلى الأمين فجمع قوّاده وذكر لهم خلع المأمون إيّاه وندبهم إلى الخروج عليه. فاختاروا عصمة بن أبي عصمة السُبيعي ، فسيّر الأمين معه جيشاً كثيفاً ، فخرج حتّى صار إلى حدّ خراسان! ثمّ وقف. وبلغ خبره إلى الأمين فكتب إليه يحثه على المسير فكتب إليه جواباً قال فيه : لقد اخذت علينا البيعة أن لا ندخل خراسان ، واخذت عليك أن لا تدخلها ولا ترسل أحداً إليها! فإن جاءني أحد من قبل المأمون قاتلته وإلّا فلا أجوز الحدّ!

فدعا الأمين بعلي بن عيسى بن ماهان وولّاه خراسان ودفع إليه قيد فضة! وقال له : إذا قدمت خراسان فقيّد بهذا القيد المأمون واحمله إليّ ومن معه ، وضمّ إليه من القواد والجند أربعين ألف مرتزق! وحُملت إليه الأموال.

وكان المأمون قد ولّى من قوّاده طاهر بن الحسين (مولى خزاعة) على كورة بوشنج ، فلمّا بلغه خبر ابن ماهان سنة (١٩٥ ه‍) ندب إليه طاهر بن الحسين وأزاح علته بالأموال والسلاح وأنفذه في خمسة آلاف إلى الريّ يستقبل علي بن عيسى ، فالتقيا بالري (من الري على خمسة فراسخ منه ـ ابن العبري).

وخرج علي بن عيسى وعليه طيلسان أسود طويل وركب برذوناً في نفر يسير يدور حول عسكره ، ورآه طاهر بن الحسين فأسرع إليه في جماعة من أصحابه حتّى لاقاه ، فدافع عن علي أصحابه ثمّ انصرف منهزماً ، فأتبعه طاهر وحده حتّى أدركه وضربه بسيفه حتّى أثخنه وسقط إلى الأرض ، فنزل إليه واحتزّ رأسه ورجع به إلى عسكره! ونصب الرأس على رمح وأمرهم ينادون على عسكره : قُتل أميركم! فانهزموا وأسلموا الخزائن والأسلحة وحوى عسكر طاهر كل ما كان في عسكر ابن ماهان! واستأمن إليه كثير منهم (في عاشر شعبان ١٩٥ ه‍) (١).

__________________

(١) التنبيه والإشراف : ٣٠٠.

٥٦٤

ووجّه طاهر بالرأس مع رجل من أصحابه وكتب بالفتح إلى المأمون بمرو ، وسقط الرأس من الحامل قبل مرو بميلين ، فطلبوه فوجدوه فحُمل إلى الفضل بن سهل فحمله إلى المأمون ، ثمّ قرئ كتاب الفتح على الناس ، وخلع المأمون الأمين وطلب منهم البيعة له بالخلافة فبايعوه؟ وسلّموا عليه بها.

وصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على رسول الله ثمّ قال : أيها الناس! إني قد جعلت لله على نفسي أن أُطيعه فيكم ، ولا أسفك دماً لا تحلّه حدوده وفرائضه ، ولا آخذ مالاً ولا أثاثاً ولا نِحلة تحرم عليَّ ، ولا أحكم بهواي في غضبي ولا رضاي ... فإن غيّرت أو بدّلت كنت للغِير مستأهلاً وللنكال متعرضاً! وأعوذ بالله من سخطه وأرغب إليه في المعونة على طاعته وأن يحول بيني وبين معصيته (١)!

وقال المسعودي : إنهما التقيا ، وجعل الخزاعي جيشه كراديس ، واختار من الخوارزمية ومن معهم سبعمئة فصمد بهم في القلب ، وكان مع ابن ماهان من الفرسان العباس بن الليث مولى المهدي العباسي فخرج إلى طاهر وقصده طاهر وضمّ يديه على سيفه وضربه به بيديه جميعاً فقتله وانهزم جيش ابن ماهان ، واختلط الناس فقصد داود سياه إلى ابن ماهان فضربه بسيفه فصرعه ونزل إليه طاهر بن الراجي فذبحه وتمالأ عليه الرجال وتنازعوا في خاتمه ورأسه! ولضربة طاهر الخزاعي بيديه سمّي «ذا اليمينين» وأُتي طاهر برأس ابن ماهان وجثته فأمر بطرح جثته في بئر ، ولبس خاتمه وكتب إلى الفضل بن سهل بالفتح (٢).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٣٦ ـ ٤٣٨.

(٢) مروج الذهب ٣ : ٣٩٠ ـ ٣٩١ ، وفي مختصر تاريخ الدول : ١٣٣ : داود شاه بدل داود سياه.

٥٦٥

ميلاد الجواد عليه‌السلام :

مرّ الخبر عن ذكر الرضا عليه‌السلام للواقفة أنّه سيرزق ولداً يلي أمر الإمامة من بعده ، كان ذلك في أوائل ما بعد وفاة الكاظم عليه‌السلام عام (١٨٣ ه‍) ، وبعد ١٢ عاماً في سنة (١٩٥ ه‍) تحقّق ما أخبر به وبشّر (١) بميلاد ابنه محمّد الجواد عليه‌السلام في شهر رمضان المبارك ، من أُمه سبيكة النوبية ، وروى أنها كانت من أهل بيت مارية أُم إبراهيم ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢).

هذا ما ذكره الكليني ، ولم يعيّن اليوم ، وذكره الطبري الإمامي قال : ليلة الجمعة للنصف من رمضان (٣) ونقل الطوسي عن أحمد بن عياش الجوهري البغدادي (م ٤٠١ ه‍) أنّه ولد يوم الجمعة لعشر خلون من رجب (٤) وعليه العمل.

وبلاد النوبة من بلاد السودان ، ولذا كان الجواد عليه‌السلام أسمر شديد السمرة.

وقد مرّ في ميلاد الباقر عليه‌السلام أن جدّه الحسين عليه‌السلام كنّاه بأبي جعفر ، فاستنّ به الرضا وكنّى الجواد كذلك أبا جعفر ، فكان أبا جعفر الثاني.

طاهر وهرثمة إلى بغداد :

لمّا قوي طاهر بن الحسين بما صار في يده من الأموال والسلاح والكراع (الأعتدة) كتب المأمون إليه أن يقصد العراق. وكان قد اجتمع في حُلوان قبل همدان جمع من الجند والقوّاد الذين كانوا مع ابن ماهان ، فوجّه الأمين

__________________

(١) تاريخ أهل البيت عليهم‌السلام : ٨٥.

(٢) أُصول الكافي ١ : ٤٩٢.

(٣) دلائل الإمامة : ٢٠١.

(٤) مصباح المتهجد : ٨٠٤ ـ ٨٠٥ ، وليس في مقتضب الأثر.

٥٦٦

عبد الرحمن بن جَبلة وأمره أن يضم إليه من كان في حُلوان فيلاقي طاهراً ، فلقى طاهراً بهمدان في ذي القعدة سنة (١٩٥ ه‍) فقتله طاهر واستباح كل ما في عسكره. فوجّه الأمين إليه محمّد بن حُميد بن قحطبة الطائي (مولاهم) فبلغ بجمعه إلى حلوان ثمّ تراجع عنه (١).

وأمده المأمون بجيش كثيف مع هرثمة بن أعيَن وكتب معه إلى طاهر : أن يخلّي بين هرثمة وبين المسير إلى بغداد ، وأ مّا هو فيسير إليها ولكن عن طريق الأهواز ، فسار طاهر وافتتح الأهواز والبصرة وواسط والمدائن واحتوى على الكوفة ونزل بظهر الغربيّ من بغداد يحاصرها سنة (١٩٦ ه‍) وسار هرثمة حتّى نزل ظهر الشرقي من بغداد سنة (١٩٦ ه‍) (٢) نازلاً بجيشه ممّا يلي النهروان بقرب باب خراسان وثلاثة أبواب أُخرى. وطاهر ممّا يلي باب المحوّل والكُناسة والياسرية ، وهو قد نزل ببستان بجانب باب الكباش الطاهري ، ثمّ نقل طاهر من الياسرية حتّى نزل إلى باب الأنبار وضيّق الحصار على أهل بغداد سنة (١٩٦ ه‍) وترك الأمين قدماء أصحابه وفرّق في المحدَثين من قوّاده خمسمئة ألف درهم (٣).

وكان على كل عشرة من المقاتلين المُشاة عريف ، وعلى كل عشرة عرفاء نقيب ، وعلى كل عشرة نقباء قائد ، وعلى كل عشرة قواد أمير. فيأتي العريف قدّامه عشرة من المقاتلة على رؤوسهم خوذ الخوص ودُرق البواري! وهم خلق من العيّارين وأهل السجون! وهم عُراة إلّامن تبّان ومئزر ، وقد اتخذوا لرؤوسهم دواخل من الخوص سموها الخوذ ، ودرقاً من الخوص والبواري قد قُيّرت

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٣٨.

(٢) التنبيه والإشراف : ٣٠١.

(٣) مروج الذهب ٣ : ٣٩٩ ـ ٤٠٠.

٥٦٧

وحُشيت بالرمل والحصى! وبعث هرثمة زهير بن المسيب الضبّي من الجانب الشرقي فنزل الماطر نحو كلواذة ونزل في رَقّة كلواذه والجزيرة ونصب المنجنيقات على بغداد ، وأخذ يَعشر أموال التجار في السفن الواردة من الواسط والبصرة. وخيله على خيول فارهة وبجواشن ودروع وتجافيف وسواعد ورماح ودُرق «تبّتية» فانهزم العراة ثمّ تحاصروا وأخذتهم السيوف فقُتل منهم خلق كثير. وانحاز إلى جانب طاهر المحاربون الذين بباب الأنبار وباب الحرب وباب قُطربُل ، فتقدمت قوات طاهر إلى أوساط الجانب الغربي من بغداد وأعملوا المنجنيقات ، فكثر الحريق والهدم ببغداد والكرخ ، وأخذ الناس يتنقلون من موضع إلى موضع وقد عمّهم الخوف.

ولم تزل الحرب قائمة بين الفريقين أربعة عشر شهراً ، وضاقت بغداد بأهلها ، وتعطّلت المساجد وتُركت الصلوات ، وحوصر الأمين بقصره في الجانب الغربي ، وكانت في بعض الأيام وقائع تفانى فيها من الفريقين خلق كثير.

منها وقعة بشارع الرقيق هلك فيها خلق كثير وكثرت القتلى في الشوارع والطرقات ، وانتُهبت الدور ، والفوز لمن نجا بنفسه وبما يسلم معه إلى معسكر طاهر فيأمن على نفسه (١).

الوقائع الحاسمة :

تقدم طاهر وضايق القوم وأقبل يقتطع من بغداد الشارع بعد الشارع ويصير أهل تلك الناحية في حيّزه ومعاونين له في حربه ، وجعل يحفر الخنادق بينه وبين أصحاب الأمين وجنده وحاميته وهم العُراة أصحاب خوذ الخوص ودُرق

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ٤٠٣ ـ ٤٠٥.

٥٦٨

البواري كما مرّ ، وأصحاب طاهر في إقبال وقوة ، وأصحاب الأمين في إدبار ونقص ، وأصحاب طاهر يهدمون وأصحاب الأمين يأخذون من الدور الأبواب والأخشاب والثياب وينهبون المتاع ، وقطع الطاهر عنهم موادّ الأقوات القادمة من الطرق من الواسط والبصرة ، فكان رطل الخبز عندهم بدرهم وعند طاهر وأصحابه عشرون رطلاً بدرهم! فاشتدّ الجوع وضاقت النفوس وأيسوا من الفرج ، وتقدم طاهر في مواضع كثيرة ، واشتدّ القتال وعمل السيف والنار وتبادرت الرؤوس ، وفني خلق من العُراة أصحاب مِخلاة الحجارة والآجر (الطابوق أو القرميد) وخوذ الخوص ودرق الحُصُر والبواري ورماح القصب وأعلام الخِرق وبوقات القصب وقرون البقر!

وضاق الحال بالأمين واشتدّ به الحصار فأمر قائدَين من قوّاده ذُريح والهرش أن يتتبعا أصحاب الأموال والودائع والذخائر من المسلمين وغيرهم ، فاجتبيا بذلك أموالاً كثيرة ، وفرّ الأغنياء وهربوا بذريعة الحج. واشتدّ به الحال فباع ما في خزائنه سرّاً وفرقه أرزاقاً في من معه.

واجتمع هؤلاء العراة أصحاب الأمين يوماً فكانوا نحو «مئة ألف» برماحهم القصب ، ونفخوا في أبواقهم القصب وقرون البقر ، وزحفوا من مواضع كثيرة نحو قوات طاهر ، وبعث طاهر إليهم بعدد من قواده وأُمرائه في وجوه كثيرة ، وكثر القتل والقتال إلى الزوال على قوات طاهر ، ثمّ ظهر قواد المأمون على هؤلاء العراة بعد الزوال ، فغرق منهم واحرق وقُتل نحو «عشرة آلاف»!

والأمين باقٍ في مدينة المنصور ، فلمّا اشتدّ الأمر عليه شاور من حضره من خواصّه للنجاة بنفسه ، منهم السندي بن شاهَك ، فقال له بعضهم : تُكاتب طاهراً لعله يجيبك إلى ما تريد منه (١).

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ٤٠٦ ـ ٤١٠.

٥٦٩

وقال لهم : إني لُافارقكم بقلب موجع ونفس حزينة وحسرة عظيمة ، وإني محتال لنفسي ، فأسأل الله أن يلطف بي بمعونته!

ثمّ كتب إلى طاهر : أما بعد ، فإنك عبد مأمور تنصّحت فنصحت ، وحاربت فنُصرت ، وقد يُغلب الغالب ويُخذل المفلح. وقد رأيتُ الصلاح في معاونة أخي! والخروج إليه من هذا السلطان! إذ كان أولى به وأحق! فأعطني الأمان على نفسي وأُمي وجدتي وولدي وخدمي وحاشيتي وأنصاري وأعواني! حتّى أخرج إليك وأتبرّأ من هذا الأمر إلى أخي! فإن رأى لي الوفاء بأمانك ، وإلّا كان أولى وأحق!

فلمّا وصل كتابه إلى طاهر وقرأه قال : الآن لما ضيّق خناقه وانهزم فُسّاقه؟! لا والذي نفسي بيده حتّى يضع يده في يدي وينزل على حكمي!

فلمّا بلغه ذلك كتب إلى هرثمة يسأله النزول على حكم أمانه (١) وراسل هرثمة ، فوعده هرثمة بكل ما يحب ، وأ نّه يمنعه من كل من يريد قتله (٢) كان ذلك في حدود العشرين من المحرم سنة (١٩٨ ه‍).

مصير الأمين :

كان قد بقي مع الأمين أبناء الجند وفتيانهم نحو سبعة آلاف مقاتل ، وتوافقوا فيما بينهم ودخل عليه بعضهم فقالوا له : نحن سبعة آلاف رجل ، وفي اصطبلك سبعة آلاف فرس! وليس معك من ينصحك سوانا ، فتحمل كل واحد منا على فرس ونفتح أبواب المدينة (فهم يدخلون) ونحن نخرج في هذه الليلة ـ الخامسة والعشرين من المحرم ١٩٨ ه‍ ـ ولا يُقدم علينا أحد إلى أن نأتي الجزيرة في ديار

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ٣٩٩.

(٢) مروج الذهب ٣ : ٤١١.

٥٧٠

ربيعة (الموصل) فنجبي الأموال ونجمع الرجال ، ثمّ نتوسط الشام ثمّ مصر فنتكاثر من الأموال والرجال ، فنُعيد الدولة جديدة! فوافقهم.

ولكن كان لطاهر في جوف ديار الأمين غلمان وخدم من خاصة الأمين يبعثون إليه بالأخبار ساعة فساعة ، فخرج هذا الخبر إلى طاهر من وقته! وكان مع الأمين سليمان بن المنصور والسندي بن شاهَك وابن نُهيك فأرسل إليهم وهدّدهم ليزيلوا الأمين عن هذا الرأي ، فأزالوه عنه.

وكان هرثمة قد وعده أن يأتيه الليلة في حَرّاقة إلى مشرعة باب خراسان ، فيصير به إلى عسكره هو ومن أحبّ. وبلغ ذلك إلى طاهر. وأتاه هرثمة في الحرّاقة إلى باب خراسان ، فدعا محمّد بفرسه وخرج بطيلسان أسود وقدّامه شمعة حتّى وصل إلى باب خراسان والمشرعة والحرّاقة واقفة فنزل إلى الحرّاقة واستقبله هرثمة فقبّل ما بين عينيه ، ولم يكن مع هرثمة من رجاله إلّاقليل.

وكان قد بلغ إلى طاهر خروجه ، فبعث بالملّاحين في الزوارق ، ونزل بعضهم في الماء عراة فغاصوا تحت الحرّاقة فقلبوها ، وتعلق هرثمة بزورق وصعد من الماء إليه ومضى إلى عسكره.

أمّا الأمين فقد شق ثيابه وسبح ، وكان غلام طاهر قرين الديراني قد عسكر في السراة ، فوقع الأمين إليهم فأخذه بعضهم ومضوا به إلى قائدهم قرين وحملوه إلى طاهر ، فقيل : قُتل في الطريق ، وأخذوا رأسه ومضوا به إلى طاهر.

فلمّا أصبح طاهر أمر برأسه فنصب على باب الحديد نحو قطرُبُل في غربيّ بغداد ، ودفنت جُثته في بستان هناك. ثمّ حُمل رأسه في منديل إلى المأمون في خراسان (١) بل في مرو.

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ٤١١ ـ ٤١٤ ومثله في اليعقوبي ٢ : ٤٤٠ وفيه : قريش الدنداني بدل قرين الديراني.

٥٧١

وكتب طاهر إلى المأمون كتاباً جاء فيه : أما بعد ، فإنّ المخلوع وإن كان قسيم أمير المؤمنين في النسب واللُّحمة ، فقد فرّق حكم الكتاب بينه وبينه في الولاية والحرمة! لمفارقته عصمة الدين وخروجه من الأمر الجامع للمسلمين ، قوله عزوجل : (يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ) ولا طاعة لأحد في معصية الله ، ولا قطيعة إذا ما كانت القطيعة في ذات الله. ثمّ بشره بانتصاره عليه. وكتب كتاباً آخر يشرح له خبره منذ شخص من خراسان في بلد بعد بلد ويوم بعد يوم (١).

وأمر المأمون بنصب الرأس على خشبة في صحن داره بمرو ، وأمر بإعطاء أرزاق جنوده شريطة لعن الأمين ، وبايعوه البيعة العامة. ثمّ أمر بتطييب الرأس وجعله في سفط وردّه ليدفن إلى جسده (٢).

ثمّ أرسل طاهر بابني الأمين موسى وعبد الله إلى المأمون ، وأبطأ أرزاق جنده فثاروا عليه وأحرقوا باب البستان الذي هو فيه ، وكأنّه لم يجد لهم شيئاً في خزائن الأمين ، ثمّ اعتذر إليه قوّاده ، فاستدان لهم من سعيد بن مالك من مشايخ بغداد عشرين ألف دينار وقال له سعيد : هي صلة لك ، فأمر لجنده برزق أربعة أشهر (٣).

المأمون وابنا سهل :

كانت تلك الانتصارات للمأمون بالعمدة على يد طاهر بن الحسين مولى الخزاعيين حلفاء الهاشميين ثمّ العباسيين منهم ، وقد مرّ أنّ بدايتها كان انتصاره

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٤٢.

(٢) مروج الذهب ٣ : ٤١٤.

(٣) تاريخ الطبري ٨ : ٤٩٧.

٥٧٢

على الخمسين ألفاً ممّن كان مع علي بن عيسى بن ماهان ، وكان طاهر من قوّاد الفضل بن سهل فرأى المأمون عَود الفضل في ذلك إلى الفضل بن سهل ، فعقد له على المشرق من جبل همدان طولاً ومن بحر الديلم (بحر الخزر) إلى بحر فارس (الخليج الفارسي) عرضاً ، ولقّبه «ذاالرياستين» : رياسة السيف والقلم (عسكرياً وسياسياً) وولّى أخاه الحسن بن سهل على ديوان الخراج (وزارة المالية) (١).

وذكر الطبري عن الموصلي قال : لما أرسل طاهر برأس الأمين إلى المأمون قال الفضل بن سهل للمأمون في طاهر : إنا أمرناه أن يبعث به أسيراً فبعث به عقيراً! فسلّ بهذا علينا ألسنة الناس وسيوفهم! فقال له المأمون : فاحتل في الاعتذار منه (٢)!

وكأنه كان من احتياله للتنصّل من قتل أخيه الأمين أن عمد المأمون إلى ما كان افتتحه طاهر بن الحسين من كور الجبال وفارس والأهواز والبصرة والكوفة والحجاز واليمن ، فولّاها الحسن بن سهل أخا الفضل بن سهل ، وكتب إلى طاهر ببغداد بتسليم كل ما بيده من أعمال كل البلدان إلى خلفاء الحسن بن سهل. وأن يشخص هو عنها إلى الرقّة والياً عليها والموصل والجزيرة والشام والمغرب ، وجعل إليه حرب الخارج عليه نصر بن شبث (أو : شبيب).

فقدّم الحسن بن سهل خليفته على خراج العراق : عليّ بن أبي سعيد إلى بغداد (وقد مرّ خبر ضمان طاهر لعسكره أرزاق أربعة أشهر) فدافع طاهر علياً عن تسليم الخراج إليه حتّى وفّاهم أرزاقهم ، ثمّ سلّم العمل إلى أبي سعيد وخرج إلى الرقّة في جُمادى الأُولى (١٩٩ ه‍) (٣).

__________________

(١) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٠٢ في سنة (١٩٦ ه‍).

(٢) تاريخ الطبري ٨ : ٥٠٧.

(٣) تاريخ الطبري ٨ : ٥٢٧ ـ ٥٢٨.

٥٧٣

وكان السريّ بن منصور الشيباني أبو السرايا من رجال هرثمة بن أعيَن ، فماطله في أرزاقه فغضب منه أبو السرايا (١) فخالف السلطان ونابذه وعاث في نواحي سواد العراق ، ثمّ صار إلى ناحية في طريق الحجاز خائفاً على نفسه ومعه غلمانه وفيهم أبو الشوك وأبو الهرماس وسيّار ، وكان علويّ الرأي يتشيّع (٢).

قيام محمّد بن إبراهيم طباطبا :

من أبناء الحسن المجتبى عليه‌السلام من سمّاه باسمه الحسن فلُقّب بالمثنّى ، وابنه إبراهيم ، ثمّ ابنه اسماعيل سمّى ابنه باسم أبيه إبراهيم ، فقيل : كان طفلاً وخيّره أبوه بين قميص وقبا ، فقال : «طباطبا» يعني : قباقبا (٣) وسمّى إبراهيم هذا ابنه محمّداً ، فهو محمّد بن إبراهيم الحسني طباطبا.

وكان محمّد هذا يقارب الناس ويكلّمهم بشأنهم وشأن الهاشميين والعباسيين.

وكان نصر بن شبيب (أو : شبث) من أهل الجزيرة ، في بدء أمره قد قدم حاجّاً ، وكان حسن المذهب «متشيعاً» فلمّا ورد المدينة سأل عن بقايا «أهل البيت» ومن له ذِكر منهم ، فذُكر له بعضهم ومنهم محمّد بن إبراهيم الحسني. فدخل إليه وقال له : حتّى متى توطأون بالخسف؟! وتُهتضم «شيعتكم»؟! ويُنزى على حقكم؟! وذاكره مقتل أهل بيته وغصب الناس إياهم حقوقهم ، وأكثر من القول في هذا المعنى ، إلى أن أجابه محمّد بن إبراهيم وواعده لقاءه بالجزيرة.

__________________

(١) تاريخ الطبري ٨ : ٥٢٩.

(٢) مقاتل الطالبيين : ٣٤٦ وزاد في المعارف : ٣٨٧ : أنّه قتل عامل الأنبار.

(٣) عمدة الطالب : ١٧٢ ، وإليه نُسب السادة الطباطبائيون الحسنيون.

٥٧٤

ثمّ جمع محمّد بن إبراهيم نفراً من أصحابه وشيعته لذلك وخرج بهم إلى الجزيرة (شمال العراق) حتّى قدم على نصر بن شبيب للموعد.

فجمع نصر أهله وعشيرته وعرض عليهم ذلك فأجابه بعضهم وأبى آخرون منهم ، ومنهم ابن عمّه فإنه خلا به وقال له : إن جميع هذا البلد (جزيرة ابن عمر) أعداء لآل أبي طالب! فإن أجابوك طائعين الآن فرّوا عنك غداً منهزمين! وحتّى إن ظفر صاحبك فإن كان غير عدل فما حاجتك إلى تعريض نفسك وأهلك لما لا قوام لهم به ، وإن كان عدلاً كنت عنده بمنزلة الآخرين من أصحابه! وبهذا فترفي نيّته وثناه عن رأيه.

فصار ابن شبث إلى ابن طباطبا وتشبّث عنده باختلاف الناس عليه ورغبتهم عن «أهل البيت» وأ نّه لو كان يظن بهم ذلك ما كان يعده بنصرهم ، وعرض عليه أن يقوّيه بخمسة آلاف دينار! فاستغنى محمّد بالله عنه وعن ماله وانصرف عنه إلى الحجاز (١).

لقاء ابن طباطبا بأبي السرايا :

مرّ الخبر عن أبي السرايا الشيباني : أنّه كان من كيان القائد العباسي هرثمة ، وماطله هرثمة في أرزاق جنوده فتمرّد بهم ، ثمّ أوى إلى ناحية في طريق الحجاز. فلمّا مضى ابن طباطبا راجعاً إلى الحجاز لقى في طريقه أبا السرايا فدعاه إلى نفسه فأجابه وسُرّ بذلك وتواعدا ظهر الكوفة.

فانحدر ابن طباطبا إلى الكوفة يدعو من يثق به إلى ما يريد ، حتّى اجتمع له بشر كثير ، وتأهب لذلك وانتظر موافاة أبي السرايا.

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٣٤٤ ـ ٣٤٥ عن نصر بن مزاحم وغيره.

٥٧٥

وأقبل أبو السرايا لموعده على طريق البر في جريدة من فوارس معه لا راجل فيهم حتّى دخل إلى عين تمر ، ثمّ أخذ على النهرين حتّى وصل إلى نينوى حيث قبر الحسين عليه‌السلام وكانت ليلة ذات ريح ورعد ومطر ، فترجّلوا حتّى سلّموا على الحسين عليه‌السلام وجعل أبو السرايا يتمثل بأبيات في رثائه والأخذ بثاره. وكان هناك جماعات يزورون الحسين عليه‌السلام وفيهم بعض الزيدية ، فناداهم : من كان هاهنا من الزيدية فليقم إليّ! فوثبت إليه جماعات من الناس فدنوا منه ، فخطبهم خطبة طويلة ذكر فيها «أهل البيت» وفضلهم وما خُصوا به ، وذكر فعل الأُمة بهم وظلمهم لهم وقال :

أيها الناس! هبكم لم تحضروا الحسين فتنصروه ، فما يُقعدكم عمّن أدركتموه ولحقتموه؟ وهو غداً «خارج طالب بثأره» وحقّه وتراث آبائه! ولإقامة دين الله! فما يمنعكم من نصرته ومؤازرته؟! إنني خارج في وجهي هذا إلى الكوفة للقيام بأمر الله والذبّ عن دينه والنصر «لأهل بيت نبيّه»! فمن كان له نية في ذلك فليلتحق بي! ثمّ مضى بأصحابه إلى الكوفة (١).

خروج محمّد للقاء أبي السرايا :

في اليوم الذي واعد محمّد بن إبراهيم أبا السرايا للاجتماع به بظهر الكوفة ، أظهر نفسه ، وكان قد تواعد مع أصحابه بالكوفة فانبثّوا مثل الجراد على غير نظام ولا قوة ولا سلاح! إلّاالعصيّ والسكاكين والآجر (الحجر) (٢).

وكان الوالي العباسي على الكوفة الفضل بن العباس بن عيسى العباسي ،

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٣٤٦ ـ ٣٤٧ عن نصر بن مزاحم.

(٢) المصدر السابق : ٣٤٧.

٥٧٦

وكانت له دار بظهر الكوفة فخرج إليها وخندق حول داره وأقام مواليه في السلاح للحرب (١).

وخرج ابن طباطبا بمن معه إلى ظَهر الكوفة ينتظرون أبا السرايا فتأخر عليهم حتّى أيسوا منه وشتمه بعضهم ، وأخيراً طلع عليهم من ناحية الجُرف خيل يتقدمهم علَمان أصفران ، وإذا هو أبو السرايا ومن معه ، فتنادى الناس بالبشارة وكبّروا.

ولما أبصر أبو السرايا ابن طباطبا ترجّل وأقبل إليه حتّى انكبّ عليه وقال له : ادخل البلد فما يمنعك منه أحد! ودخلوا إلى موضع بالكوفة يُعرف بقصر الصرّتين! فهناك خطب الناس ودعاهم إلى البيعة إلى «الرضا» أو «الرضيّ من آل محمّد» والدعوة إلى كتاب الله وسنة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والسيرة بحكم كتاب الله ، فازدحم الناس وتكابّوا عليه وبايعه جميع الناس. وكان ذلك في العاشر من جمادى الأُولى سنة (١٩٩ ه‍) (٢).

ويُظنّ من هذا التاريخ أنّ زيارتهم لمرقد الحسين عليه‌السلام لعلها كانت في نصف رجب ولذا كان الزوّار مجتمعين بما فيهم الزيدية كما مرّ خبره آنفاً.

وهل كان معهم علي الأعرجي؟ :

روى الأموي الزيدي عن نصر بن مزاحم وغيره : أنّ نصر بن شبيب لما ورد المدينة وسأل عن من له ذِكر من بقايا «أهل البيت» ذُكر له ثلاثة ، منهم :

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٣٤٨ ـ ٣٤٩.

(٢) مقاتل الطالبيين : ٣٤٨ وهذا التاريخ أتى به الأموي الزيدي بطرقهم عن زيد بن علي ، وحتّى عن جابر الجعفي عن الباقر عليه‌السلام! وقال : يباهى الله به الملائكة!

٥٧٧

علي بن عبيد الله بن الحسين (١) بن علي بن الحسين عليهما‌السلام ثمّ قال : فأما علي بن عبيد الله (الأعرج) فإنه كان مشغولاً بالعبادة لا يأذن لأحد (٢) ثمّ ناقض نفسه فقال : وخرج محمّد بن إبراهيم وبرز وظهر إلى ظهر الكوفة ومعه علي بن عبيد الله بن الحسين بن علي بن الحسين عليهما‌السلام (٣) إلّاأن يكون سواه.

صحب علي الأعرجي الكاظم عليه‌السلام وكتب كتاباً كلّه عنه عليه‌السلام في الحج ، واختصّ به وكان أزهد آل أبي طالب في زمانه وأعبدهم (٤) وفي أوائل عهد الرضا عليه‌السلام كان يحب أن يدخل فيسلّم عليه إلّاأ نّه كان يتّقي عليه ، وكان يعلم أنّ سليمان بن جعفر يلتقي بالإمام عليه‌السلام فشكى إليه ذلك. قال سليمان : فاعتل الرضا عليه‌السلام علة خفيفة وعاده الناس ، فالتقيت بعلي بن عبيد الله وقلت له : قد جاءك ما تريد : قد اعتلّ أبو الحسن علة خفيفة وقد عاده الناس ، فإن أردت الدخول عليه فاليوم. فجاء إلى أبي الحسن عائداً ، فلقيه أبو الحسن بكل ما يحبّ من التكرمة والتعظيم ، ففرح بذلك علي بن عبيد الله فرحاً شديداً.

ثمّ مرض علي بن عبيد الله فعاده أبو الحسن وأنا معه ، فجلس حتّى خرج من كان في البيت ثمّ خرج.

وكان علي متزوجاً ابنة عمه أُم سلمة ابنة عبد الله بن الحسين بن علي بن الحسين عليهما‌السلام ، قال سليمان : فأخبرتني مولاة لها : أنّه لما خرج أبو الحسن خرجت أُم سلمة وانكبّت على موضعه تقبّله وتتمسح به! ثمّ أخبرني علي بن عبيد الله بفعلها ، فأخبرتُ به أبا الحسن فقال : يا سليمان إن ولد علي وفاطمة عليهما‌السلام

__________________

(١) هنا في الطبعتين : الحسن ، ويتكرر ذكره فيهما : الحسين ، وأثبتنا الصحيح.

(٢) مقاتل الطالبيين : ٣٤٤.

(٣) مقاتل الطالبيين : ٣٤٧.

(٤) رجال النجاشي : ٢٥٦ برقم ٦٧١.

٥٧٨

إذا عرَّفهم الله هذا الأمر لم يكونوا كالناس! يا سليمان إنّ علي بن عبيد الله وامرأته وولده من أهل الجنة (١)!

وفي «عمدة الطالب» : أنّ أبا الحسن علي بن عبيد الله الأعرج ، أُمه أُم ولد ، وكان كريماً ورعاً من أهل الفضل والزهد ، بل كان مستجاب الدعوة ، ولذا أوصى إليه ابن طباطبا ، فإن لم يقبل فلأحد ابنيه عبيد الله ومحمّد ، فلم يقبل وصيته له ولا لابنيه ولم يأذن لهما في الخروج معه (٢) وعبّر النجاشي عن هذا قال : لما أراده ابن طباطبا ليبايع أبو السرايا له بعده أبى عليه. وكان مع ابن طباطبا محمّد بن محمّد بن زيد بن علي ، فردّ (الأعرجي) الأمر إليه (٣).

مصير الكوفة وأميرها العباسي :

أنفذ ابن طباطبا أبا السرايا إلى قصر الأمير العباسي الفضل بن العباس وأمره أن لا يبدأه بقتال حتّى يدعوه إلى بيعته. فصار إليه ومعه أهل الكوفة كالجراد المنتشر ، فدعاهم فلم يُصغوا. وكان بين شُرفتين من سور القصر غلام أسود يرمى فلا يسقط له سهم ، فقتل أو جرح رجلاً ممن مع أبي السرايا فوجّه به إلى ابن طباطبا فأمره بقتالهم ، فأمر أبو السرايا غلامه أن يرمي الرامي فرماه بين عينيه فسقط على رأسه فمات وفرّ سائرهم. ومضى الفضل بن العباس إلى الحسن بن سهل ببغداد ، وفُتح باب القصر فدخل من مع أبي السرايا ينتهبون فمنعهم أبو السرايا (٤).

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٥٩٣ ، الحديث ١١٠٩ ، وفي أُصول الكافي ١ : ٣٧٧ ذيل الخبر.

(٢) عمدة الطالب : ٣٢١.

(٣) رجال النجاشي : ٢٥٦ برقم ٦٧١.

(٤) مقاتل الطالبيين : ٣٤٩ عن نصر بن مزاحم وغيره.

٥٧٩

جنود بغداد إلى الكوفة :

لما وصل الفضل العباسيّ عامل الكوفة منكفئاً إلى الحسن بن سهل ببغداد ، دعا الحسن زهير بن المسيّب وندبه إلى المسير نحو أبي السرايا وضمّ إليه الرجال وأمده بالأموال ، وأن يودّعه فوراً ويمضي لوجهه ولا ينزل إلّابالكوفة! فسار ابن المسيّب ومعه ابنه أزهر حتّى ورد قصر ابن هُبيرة فنزل به ، وأخرج له مقدمة وجّهها مع ابنه أزهر حتّى نزل سوق أسد.

ووصل الخبر إلى أبي السرايا فخرج من الكوفة بالفوارس من أصحابه عصراً حتّى وصل ليلاً إلى معسكر أزهر بسوق أسد وهم غارّون آمنون فبيَّتَهم وطحنهم وأكثر القتل فيهم ، وانقطع الباقون في الليل منهزمين حتّى وافوا زهيراً بقصر ابن هبيرة. وغنم أبو السرايا أسلحتهم ودوابهم وعاد إلى الكوفة.

وكأن الخبر وصل إلى بغداد فوافت خريطة من جند الحسن إلى ابن المسيّب يأمره أن لا ينزل إلّابالكوفة. فزحف زهير ومضى حتّى نزل قبل القنطرة في عشية باردة.

ووصل خبره إلى الكوفة ونادى أبو السرايا في الناس بالخروج ، فخرجوا حتّى صادفوا زهيراً على قنطرة الكوفة ، فنزلوا وباتوا يوقدون النيران يستدفئون بها ، ويتحارسون طول ليلتهم حتّى أصبحوا.

فلمّا أصبح ابن المسيّب نهد إليهم بعسكره ، وأصوات الطبول والبوقات مثل الرعد العاصف وهم على تعبئة حسنة من الدروع والبيض والجواشن وحلف زهير أن لا يتغدى إلّافي المسجد الجامع بالكوفة! وأبو السرايا يسكّن من معه ويحثهم.

وكان مع أهل الكوفة الحسن بن هذيل الزيدي من أصحاب الحسين الحسني قتيل فخّ ، فأخذ يمرّ عليهم ناحية فناحية ويناديهم : يا معشر «الزيدية» السعيد من حاط دينه والرشيد من وفى لله بعهده وحفظ محمّداً في «عترته» ونحو هذا.

٥٨٠