موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٧

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٧

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٢٠

بسوطه فضربني حتّى غشي عليّ ، ثمّ رفعت السياط عني. ثمّ قال لي : أتدري لِمَ هذا؟ هذا فيض فاض مني فأفرغت عليك منه سجلاً (دلواً) ومن ورائه الموت أو تفتدي منه! فانطلِق فائتني بأخويك!

قلت : يا أمير المؤمنين! تبعثني إلى رياح بن عثمان المرّي (١) فيضع عليّ العيون والرصد ، فلا أسلك طريقاً إلّااتبعني رسوله ، ويعلم أخواي بذلك فيهربان مني.

فأرسل معي حرساً أمرهم أن يكتبوا إليه بخبري وكتب إلى رياح : لا سلطان لك على موسى!

فقدمت المدينة فنزلت دار ابن هشام (؟) فأقمت بها شهوراً.

وعن المدائني قال : وكتب رياح إلى أبي جعفر : إن موسى مقيم يتربّص بك الدوائر وليس عنده شيء مما تحب. فأمره أن يحمل موسى الحسني إليه. فحمله إلى المنصور (٢) وقال للرسل معه : إن رأيتم أحداً لحقكم من المدينة في طلبكم فاضربوا عنق موسى (٣).

وقال البلاذري : قالوا : إنّ رياح المري أخذهم فحبسهم وضيق عليهم ، فلما حجّ المنصور سنة (١٤٤ ه‍) حملهم المريّ يتلقى بهم المنصور فتلقاهم بالربذة

__________________

(١) قال خليفة : ٢٧٦ : في سنة (١٤٤ ه‍) ولّى المنصور رياح بن عثمان المرّي على المدينة. وقد كان أبوه واليها للمروانيين فشبّب بامرأة من قريش وشرب خمراً فعزلوه وضربوه حدّين! ولعلّه لهذا ولّاه المنصور!

(٢) مقاتل الطالبيين : ٢٥٩ ـ ٢٦٠.

(٣) مقاتل الطالبيين : ١٧٦ وتمامه : بلغ ذلك محمّداً فعجل بالخروج قبل أن يتم أمر دعاته الذين أنفذهم إلى الآفاق ، فأرسل وأنقذ أخاه موسى من أيديهم. وسيأتي خبره.

٣٠١

وأخبره بخبرهم ، فدعا بهم المنصور ، فلما أغلظ له عبد الله الحسني أمر باصطفاء ماله وبيع متاعه وصيّره في بيت المال بالمدينة (١). ثمّ مضى بالقوم معه إلى مكة ، ثمّ انصرف بهم معه إلى العراق (٢). ويكفينا هنا خبر «الكافي» إلّاأنّ هذا يتلاءم مع خبر الكليني عن خديجة بحمى الصادق عليه‌السلام عشرين يوماً.

المنصور بالربذة مع الصادق عليه‌السلام :

روى الاربلي عن الحميري عن عبد الله بن أبي ليلى قال : كنت مع المنصور بالربذة ، وبعث عليَّ فدعاني ، فلمّا انتهيت إلى الباب سمعته يقول : عجّلوا! عليّ به! قتلني الله إن لم أقتله! سقى الله الأرض من دمي إن لم أسقِ الأرض من دمه! فسألت الحاجب : مَن يعني؟ قال : جعفر بن محمّد! وكان قد وجّه إليه فإذا هو قد اتي به مع عدّة جلاوزة! ورأيته وشفتاه تتململ ، ثمّ رُفع الستر فادخل.

ولكن لما نظر إليه المنصور قال له : مرحباً يابن عمّ! مرحباً يابن رسول الله! وما زال يرفعه حتّى أجلسه على وسادته! ثمّ دعا بالطعام فاتي بجدْي فأخذ يُلقمه بيده ، ثمّ قضى حوائجه ، وأمر بصرفه إلى داره (٣).

وروى ابن طاووس عن الصفّار عن إبراهيم بن جَبَلة قال : لما نزل المنصور بالربذة ، وكان قد أحضر جعفر بن محمّد إليها وأنزله في منزل بها ، وكان يأتي بها مسجد أبي ذر. وكنت عند المنصور فالتفت إليّ وقال لي : يابن جَبَلة! قُم إلى جعفر بن محمّد حتّى تضع ثيابه في عنقه وتأتيني به سحباً!

قال إبراهيم : فخرجت حتّى أتيت منزله فلم اصبه ، فطلبته في مسجد

__________________

(١) أنساب الأشراف ٢ : ٩٢ ، الحديث ٩٧.

(٢) أنساب الأشراف ٢ : ٩٢ ، الحديث ٩٨.

(٣) كشف الغمّة ٣ : ٢٢٤ عن دلائل الحميري وفي الخرائج والجرائح ٢ : ٦٤١.

٣٠٢

أبي ذر فوجدته في باب المسجد ، فأخذت بكُمّه وقلت له : أجب أمير المؤمنين! فقال : إنّا لله وإنّا إليه راجعون! دعني اصلّي ركعتين فتركته صلّاهما وأنا خلفه ثمّ بكى بكاءً شديداً ثمّ دعا : «اللهم أنت ثقتي في كل كرب ورجائي في كلّ شدّة ، وأنت لي في كل أمر نزل بي ثقة وعُدّة ، كم من أمر يضعف فيه الفؤاد وتقلّ فيه الحيلة أنزلته بك وشكوته إليك فكشفته عنّي ...» ثمّ التفت إليّ وقال لي : اصنع ما امرت به! فقلت : والله لا أفعل حتّى ولو ظننتُ أني اقتل! وإنّما أخذت بيده فذهبت به وأنا لا أشك أنّه يقتله! فلمّا انتهيت به إلى باب الستر دعا فقال : يا إله جبرئيل .. فلمّا أتمّ دعاءه أدخلته على المنصور.

فاستوى جالساً وقال : قدّمت رجلاً وأخّرت اخرى تقول : أتنحّى عن محمّد (الحسني) فإن يظفر فإنّما الأمر لي! وإن تكن الاخرى كنت قد أحرزت نفسي! ثمّ قال : أما والله لأقتلنّك!

فقال الصادق عليه‌السلام : يا أمير المؤمنين! ما فعلت ، فارفق بي! فوالله لقلّ ما أصحبك.

فأذن المنصور له أن ينصرف. وكان عمّه عيسى بن علي العباسي عنده فالتفت إليه وقال له :

يا أبا العباس! الحقه فسله : أبي؟ أم به؟ فخرج يشتدّ حتّى لحقه فقال له : يا أبا عبد الله ، إن أمير المؤمنين يقول لك : أبك؟ أم به؟ فقال : لا ، بل بي. فرجع وأخبر المنصور (فاطمأن).

قال إبراهيم : ثمّ خرجت فوجدت الصادق قاعداً ينتظرني وهو يحمد الله ، فعلّمني ما دعا به (١).

__________________

(١) مهج الدعوات : ١٨٨ عن كتاب فضل الدعاء للصفّار ، وكأن المنصور لم يكتف بالمرّة الاولى فأعاد إحضار الإمام عليه‌السلام ، ومختصره في الخرائج والجرائح ٢ : ٦٤٧.

٣٠٣

المنصور إلى العراق :

بلغ المنصور أن منصور الكلابي وثب ببني كلاب في الرقّة ، فانصرف على طريق الشام إلى بيت المقدس ، ثمّ إلى الجزيرة حتّى نزل خارج الرقّة ، واسر الكلابي فأحضره وقتله ، وصار إلى الحيرة ، فحبس عبد الله بن الحسن وأهل بيته (بالهاشميّة)!

وبلغ ابنه محمّداً شدّة ما يلقى أبوه وأهل بيته في الحبس فكتب إليه يستأذنه أن يظهر حتّى يضع يده في أيديهم؟ فأرسل إليه أبوه : يا بني ، إن ظهورك يؤدّي بك إلى القتل ولا يحييني ، فأقم بمكانك حتّى يريح الله بفرج (١)!

وذكر ابن العبري : أن المنصور أخذ من أولاد الحسن بن علي اثني عشر إنساناً ورحّلهم من المدينة إلى الكوفة وحبسهم في بيت ضيق ، لا يتمكّن أحد من مقعده ، يبول بعضهم على بعض وحتّى يتغوّط ، ولا يدخل عليهم رَوح الهواء ، ولا تخرج عنهم رائحة القذارة (٢).

كان ذلك كما مرّ في مرور المنصور بعد حجّه بالربذة في أواخر سنة (٤٤ ه‍) أو أوائل سنة (١٤٥ ه‍) وبعد ستة أشهر لأول شهر رجب الحرام يظهر محمّد الحسني ويُظهر أمره ، وقد بدأ المنصور انتقاله إلى مدينته ببغداد. وبها يستقدم الصادق عليه‌السلام أكثر من مرّة ، وقبلها بالحيرة والكوفة ومنها بحضور أبي حنيفة ، وعليه فنقدّم هنا بعض أخبار لقائه بالصادق عليه‌السلام :

أبو حنيفة والصادق عليه‌السلام :

روى الطوسي بسنده عن ابن شُبْرُمة قاضي الكوفة قال : دخلت أنا

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٧٠.

(٢) تاريخ مختصر الدول : ١٢٢.

٣٠٤

وأبو حنيفة على جعفر بن محمّد (عليهما‌السلام) فسلّمت عليه ثمّ قلت له : أمتع الله بك ، هذا رجل من أهل العراق له فقه وعقل! فقال جعفر عليه‌السلام : لعلّه هو الّذي يقيس الدين برأيه؟! ثمّ أقبل عليّ فقال : هذا النعمان بن ثابت؟ فقال أبو حنيفة : نعم ، أصلحك الله (١) قال ابن شُبْرُمة : ولم أكن أعرف اسمه إلّاذلك اليوم (٢).

ثمّ قال له : يا نعمان! هل تُحسن أن تقيس رأسك؟ قال : لا. قال : فما أراك تُحسن شيئاً ولا فرضك إلّامن عند غيرك! فهل عرفت كلمة أوّلها كفر وآخرها إيمان؟ قال : لا. قال : فهل عرفت ما الملوحة في العينين والمرارة في الاذنين والبرودة في المنخرين والعذوبة في الشفتين؟ قال : لا. قال ابن أبي ليلى (وليس ابن شُبْرُمة) فقلت : جعلت فداك! فسِّر لنا جميع ما وصفت.

فقال : حدّثني أبي عن آبائه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أن الله تبارك وتعالى خلق عيني ابن آدم من شحمتين فجعل فيهما الملوحة ، ولولا ذلك لذابتا فالملوحة تلفظ ما يقع في العين من القذى. وجعل المرارة في الاذنين حجاباً للدماغ ، فليس من دابة تقع فيه إلّاالتمست الخروج! ولولا ذلك لوصلت إلى الدماغ! وجعل العذوبة في الشفتين منّاً من الله عزوجل على ابن آدم ليجد بذلك عذوبة الريق وطعم الطعام والشراب. وجعل البرودة في المنخرين لئلّا تدع في الرأس شيئاً إلّاأخرجته.

قلت : فما الكلمة التي أوّلها كفر وآخرها إيمان؟ قال : قول الرجل : لا إله إلّا الله فأوّلها كفر وآخرها إيمان.

ثمّ قال : يا نعمان ، إياك والقياس ، فقد حدّثني أبي عن آبائه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «من قاس شيئاً بشيء قرنه الله عزوجل مع إبليس في النار!

__________________

(١) أمالي الطوسي : ٦٤٥ ، المسألة ٣٣ ، الحديث ١.

(٢) الأخبار الموفّقيات : ٧٦ وأبو حنيفة مولى تيم.

٣٠٥

فإنه أول من قاس على ربّه» (١) حين قال : (خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (٢)) فدعوا الرأي والقياس وما قاله قوم وليس له في دين الله برهان ؛ فإن دين الله لم يوضع بالآراء والمقاييس (٣).

وروى الصدوق بسنده عن رجال من أهل الكوفة قال : دخلت على أبي حنيفة فإذا غلام من كندة يستفتيه في مسألة كنت رأيته عند أبي عبد الله عليه‌السلام واستفتاه فأفتاه ، وأفتاه أبو حنيفة فيها بخلاف ما أفتاه أبو عبد الله عليه‌السلام. فقمت إليه وقلت له : يا أبا حنيفة ، إني كنت العام حاجّاً وذهبت إلى أبي عبد الله مسلّماً عليه فوجدت هذا الغلام يستفتيه في هذه المسألة بعينها فأفتاه بخلاف ما أفتيته!

فقال أبو حنيفة : وما يعلم جعفر بن محمّد! أنا أعلم منه! أنا لقيت الرجال وسمعتهم ، وجعفر بن محمّد صحفي أخذ العلم من الكتب!

قال الرجل : فحججت ولقيت أبا عبد الله عليه‌السلام فحكيت له الكلام ، فضحك ثمّ قال : أما قوله : إني رجل صحفي ، فقد صدق ، قرأت في صحف آبائي إبراهيم وموسى.

فما لبثت أن استأذن أبو حنيفة فأذن له فدخل وسلّم واستأذن للجلوس ، فأقبل الصادق عليه‌السلام على أصحابه يحدّثهم ولم يلتفت إليه! فأعاد ثانية وثالثة ثمّ جلس بلا إذن منه.

فالتفت الصادق عليه‌السلام إليه وقال له : أنت فقيه أهل العراق؟ قال : نعم ، قال : فبمَ تفتيهم؟ قال : بكتاب الله وسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله. قال : يا أبا حنيفة ؛ أتعرف كتاب الله حقّ معرفته والناسخ والمنسوخ؟ قال : نعم! قال : يا أبا حنيفة ؛ لقد ادّعيت علماً!

__________________

(١) علل الشرائع ١ : ١١٤ ، الباب ٨١ ، الحديث ٦.

(٢) الأعراف : ١٢.

(٣) علل الشرائع ١ : ١١٠ ـ ١١١ ، الباب ٨١ ، الحديث ٤.

٣٠٦

ويلك! ما جعل الله ذلك إلّاعند أهل الكتاب الذين أنزل عليهم ، ويلك! ولا هو إلّا عند الخاص من ذرية نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وما ورّثك الله من كتابه حرفاً! فإن كنت كما تقول ـ ولست كما تقول ـ فأخبرني عن قول الله عزوجل : (سِيرُوا فِيهَا لَيَالِي وَأَيَّاماً آمِنِينَ (١)) أين ذلك من الأرض؟ قال : أحسبه ما بين مكّة والمدينة.

فالتفت أبو عبد الله عليه‌السلام إلى أصحابه وقال لهم : تعلمون أن الناس يُقطع عليهم بين مكّة والمدينة ، فتؤخذ أموالهم ولا يؤمّنون على أنفسهم ويُقتلون! قالوا : نعم ، وسكت أبو حنيفة.

ثمّ قال له : يا أبا حنيفة ، أخبرني عن قول الله عزوجل : (وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً (٢)) أين ذلك من الأرض؟ قال : الكعبة. قال : أتعلم أن الحجّاج بن يوسف حين وضع المنجنيق على ابن الزبير في الكعبة فقتله ، كان آمناً فيها؟ فسكت أبو حنيفة.

ثمّ قال له : يا أبا حنيفة ، إذا ورد عليك شيء ليس في كتاب الله ولم تأت به الآثار والسنّة كيف تصنع؟ فقال : أصلحك الله ، أقيس وأعمل فيه برأيي! قال : يا أبا حنيفة ، إنّ أوّل من قاس ابليس الملعون ، قاس على ربّنا تبارك وتعالى فقال : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (٣)) فسكت أبو حنيفة.

فقال له : يا أبا حنيفة ، أيّهما أرجس : البول أو الجنابة؟ فقال : البول ، قال : فما بال الناس يغتسلون من الجنابة ولا يغتسلون من البول؟! فسكت.

فقال له : يا أبا حنيفة ، أيهما أفضل : الصلاة أو الصوم؟ قال : الصلاة. قال : فما بال الحائض تقضي صومها ولا تقضي صلاتها؟! فسكت.

__________________

(١) سبأ : ١٨.

(٢) آل عمران : ٩٧.

(٣) الأعراف : ١٢ وسورة ص : ٧٦.

٣٠٧

فقال : يا أبا حنيفة ، أخبرني عن رجل كانت له أُم ولد وله منها ابنة ، وكانت له حرّة لا تلد ، فزارت الصبية بنت ام الولد أباها ، فقام الرجل بعد فراغه من صلاة الفجر فواقع أهله التي لا تلد ، وخرج إلى الحمام ، فأرادت الحرّة أن تكيد ام الولد وابنتها عند الرجل ، فقامت إليها بحرارة ذلك الماء فوقعت عليها وهي نائمة فعالجتها كما يعالج الرجل المرأة فعلقت بالجنين ، فأي شيء عندك فيها؟ قال : لا والله ما عندي فيها شيء.

فقال : يا أبا حنيفة ، أخبرني عن رجل كانت له جارية فزوّجها من مملوك له ، وغاب المملوك ، فولد له من أهله مولود ، وولد للمملوك مولود من ام ولد له ، فسقط البيت على الجاريتين ، ومات المولى ، فمَن الوارث؟ فقال : جعلت فداك ، لا والله ما عندي فيها شيء!

ثمّ تكلم أبو حنيفة بما جاء له ، قال : أصلحك الله ؛ إن عندنا بالكوفة قوماً يزعمون أنك تأمرهم بالبراءة من (بعض الصحابة)! قال عليه‌السلام : يا أبا حنيفة ، معاذ الله! لم يكن هذا! فما تأمرني؟! قال : تكتب إليهم. قال : بماذا؟ تسألهم الكفّ عنهما! قال : لا يطيعوني! قال : بلى أصلحك الله إذا كنت أنت الكاتب وأنا الرسول أطاعوني!

قال : يا أبا حنيفة ؛ أبيت إلّاجهلاً! كم بيني وبين الكوفة من الفراسخ؟ قال : أصلحك الله ، ما لا يحصى! فقال : كم بيني وبينك؟ قال : لا شيء! قال : أنت دخلت عليَّ في منزلي فاستأذنت للجلوس ثلاث مرات فلم آذن لك فجلست بغير إذني خلافاً عليَّ! فكيف يطيعني اولئك وهم هناك وأنا هاهنا؟! فقام وقبّل رأس الصادق عليه‌السلام وخرج وهو يقول : إنّه أعلم الناس (١).

__________________

(١) علل الشرائع ١ : ١١١ ـ ١١٣ ، الباب ٨١ ، الحديث ٥.

٣٠٨

وسُئل : مَن أفقه من رأيت؟ فقال : جعفر بن محمّد. ثمّ قال : لما أقدمه المنصور إلى الحيرة ، بعث إليّ وقال : يا أبا حنيفة ، إن الناس قد فُتنوا بجعفر بن محمّد! فهيّئ له من مسائلك الشداد.

فهيّأت له أربعين مسألة! ثمّ بعث إليّ فأتيته ودخلت عليه فإذا جعفر جالس عن يمينه ، فلمّا بصرت به دخلني من الهيبة لجعفر ما لم يدخلني لأبي جعفر (المنصور) فسلّمت عليه فأومى إليّ فجلست. ثمّ التفت إلى الصادق عليه‌السلام وقال له : يا أبا عبد الله ، هذا أبو حنيفة! قال : أعرفه. ثمّ التفت إليّ فقال : يا أبا حنيفة ألقِ على أبي عبد الله من مسائلك.

فجعلت القي عليه فيجيبني فيقول : أنتم تقولون كذا وأهل المدينة يقولون كذا ونحن نقول كذا. فربّما تابعنا وربّما تابعهم وربّما خالفنا جميعاً. حتّى أتيت على الأربعين مسألة ، فما أخلَ بشيء! ثمّ قال أبو حنيفة : أليس إنّ أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس (١)؟!

ولما لم يجد المنصور في مثل هذه الجلسة ما يكسر به فتنة الناس بالصادق عليه‌السلام كما قال ، استقدمه لذلك مرّة اخرى ، فلمّا وافى بابه خرج إليه الحاجب وقال له : اعيذك بالله من سطوة هذا الجبّار! فإني رأيت غضبه عليك شديداً! فقال الصادق عليه‌السلام : عليّ من الله جُنّة واقية تعينني عليه إن شاء الله ، استأذن لي عليه. فاستأذن له ، فأذن له.

فلمّا دخل سلّم ، فردّ عليه‌السلام ثمّ قال له : يا جعفر! قد علمت أن رسول الله قال لأبيك عليّ بن أبي طالب : «لولا أن تقول فيك طوائف من امتي

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٢٧٧ عن مسند أبي حنيفة لأبي القاسم البغار ، وسير أعلام النبلاء ٩ : ٥٤٣.

٣٠٩

ما قالت النصارى في المسيح ، لقلت فيك قولاً لا تمرّ بملأ إلّاأخذوا من تراب قدميك يستشفون به»!

وقال علي عليه‌السلام : «يهلك فيّ اثنان ولا ذنب لي : محبٌّ غالٍ ، ومُفرّط قالٍ» وإنّما قال ذلك اعتذاراً منه أنّه لا يرضى بما يقول فيه الغالي.

ولقد تعلم أنت ما يقال فيك من الزور والبهتان! وإمساكك عن ذلك ورضاك به يسخط الديّان! فقد زعم أوغاد الحجاز ورُعاع الناس أنك حبر الدهر وناموسه ، وحجة المعبود وترجمانه ، و «عيبة علمه» وميزان قسطه ، ومصباحه الذي يقطع به الطالب عرض الظلمة إلى ضياء النور ، وأن الله لا يقبل من عامل جهل حدّك في الدنيا عملاً! ولا يرفع له يوم القيامة وزناً! فنسبوك إلى غير حدّك. وقالوا فيك ما ليس فيك! فقل ، فإن أول من قال الحق جدّك ، «وأول من صدقه عليك أبوك» وأنت حريّ أن تقتفي آثارهما وتسلك سبيلهما.

فهو طلب منه التبرّي عن مثل هذه الأقوال ، فأجابه الصادق عليه‌السلام بقوله : أنا فرع من فروع الزيتونة ، وقنديل من قناديل بيت النبوة ، وأديب (مؤدّب) السَّفرة ، وربيب الكرام البررة ، ومصباح من مصابيح المشكاة التي فيها نور النور ، وصفو الكلمة الباقية في عقب المصطفين إلى يوم الحشر!

فالتفت المنصور إلى جلسائه وقال : هذا قد أحالني على بحر موّاج لا يدرك طرفه ولا يبلغ عمقه ، يحار فيه العلماء ويغرق فيه السُّبحاء! ويضيق بالسابح عرض الفضاء! هذا الشجى المعترض في حلوق الخلفاء الذي لا يجوز نفيه ولا يحلّ قتله! ولما لم يتمكّن من تبرّؤ الصادق عليه‌السلام من تلك المقامات حاول أن يشرك فيها نفسه وأهله ولا يتخلّف عنه ويتهدّده أيضاً فقال : ولولا ما يجمعني وإياه من شجرة طاب أصلها وبسق فرعها ، وعذب ثمرها ، وبوركت في الذر وقدّست في الزّبر! لكان عنّي إليه ما لا يُحمد في العواقب لما يبلغني من شدة عيبه لنا وسوء القول فينا!

٣١٠

فقال الصادق عليه‌السلام : لا تقبل في ذي رحمك ، وأهل الرعاية من أهل بيتك : قول من حرّم الله عليه الجنة وجعل مأواه النار ، فإن النمّام شاهد زور وشريك إبليس في الإغراء بين الناس ، وقد قال الله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (١)).

ونحن لك ولملكك دعائم وأركان ، ما أمرت بالعرف والإحسان ، وأمضيت في الرعية بأحكام القرآن! وأرغمت بطاعتك لله أنف الشيطان ، وإن كان يجب عليك في سعة فهمك وكثرة علمك ومعرفتك بآداب الله : أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمّن ظلمك ، فإن المكافي ليس بالواصل ، إنّما الواصل من إذا قطعته رحمه وصلها ، فصل رحمك يزد الله في عمرك ، ويخفّف عنك الحساب يوم حشرك!

فقال المنصور : قد صفحت عنك لقدرك! وتجاوزت عنك لصدقك.

ثمّ قال له : فحدّثني بحديث من نفسك أتّعظ به ، ويكون لي زاجَر صدق عن الموبقات!

فقال الصادق عليه‌السلام : عليك بالحلم فإنه ركن العلم ، واملك نفسك عند أسباب القدرة ؛ فإنك إن تفعل ما تقدر عليه كنت كمن شفى غيظاً أو تداوى حقداً ، أو يحبّ أن يذكر بالصولة. واعلم بأنك إن عاقبت مستحقاً (للعقوبة) فغاية ما توصف به ليس إلّاالعدل ، ولا أعرف حالاً أفضل من حال العدل ، و (لكن) الحال التي توجب الشكر (على الناس) أفضل من الحال التي توجب الصبر!

فقال المنصور : وعظت فأحسنت وقلت فأوجزت.

ثمّ قال : فحدثني عن فضل جدّك علي بن أبي طالب عليه‌السلام حديثاً لم تؤثره العامة.

__________________

(١) الحجرات : ٦.

٣١١

فقال الصادق عليه‌السلام : حدثني أبي عن أبيه عن جدّه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لما اسري بي إلى السماء عهد إليّ ربّي «جل جلاله» في علي عليه‌السلام ثلاث كلمات : فقال : يا محمّد ، فقلت : لبّيك ربّي وسعديك ، فقال عزوجل : «إنّ علياً إمام المتقين ، وقائد الغرّ المحجّلين ، ويعسوب المؤمنين ، فبشّره بذلك» فبشّره النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك ، فخرّ علي عليه‌السلام ساجداً شكراً لله عزوجل ، ثمّ رفع رأسه فقال : يا رسول الله ، بلغ من قدري حتّى أني اذكر هناك؟! قال : نعم ، وإن الله يعرفك ، وإنك لتُذكر في الرفيق الأعلى»!

فقال المنصور : (ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ) (١).

فالصادق عليه‌السلام حدّث المنصور بحديث قدسي ضمن الحديث النبوي بشأن الوصيّ مما لا يراه الله ورسوله فتنة للناس بعلي عليه‌السلام ، وأرادها المنصور للإمام تهديداً فعاد تأييداً! واستطردنا فيه لما استطرفناه منه ، وهو يحكي لنا نموذجاً آخر من لقاءات المنصور بالصادق عليه‌السلام قبل بغداد فيما يظهر لنا من الخبر. وليس في خبر هاتين المجلسين شيء عن كيفية استقدام الإمام عليه‌السلام إلى العراق ، فلعلّ ذلك كان بعد ما يلي :

الصادق عليه‌السلام في الكوفة :

مرّ الخبر عن إرسال المنصور إبراهيم بن جبلة لجلب الصادق عليه‌السلام لدى المنصور في الربذة ، وهنا يروي الربيع بن يونس الحاجب : أن المنصور بعث إبراهيم بن جبلة ليُشخص جعفر بن محمّد عليه‌السلام من المدينة إلى الكوفة ، فلمّا وافى

__________________

(١) أمالي الصدوق : ٧٠٩ ـ ٧١٢ ، الحديث ١٠ ، المسألة ٨٩ مسنداً عن الربيع بن يونس الحاجب ، ونقله المظفّر في كتابه : الإمام الصادق ١ : ١١٦ ـ ١١٨ ثمّ استنبط منه ستة نقاط مهمة فراجع.

٣١٢

إلى حضرة المنصور ، دخلت فأخبرته بقدوم إبراهيم بجعفر بن محمّد عليه‌السلام فدعا المنصور المسيّب بن زهير الضبّي ودفع إليه سيفاً (خاصاً) وقال له : إذا دخل جعفر بن محمّد فخاطبتهُ وأومأت إليه ، فاضرب عنقه!

قال الربيع : كنتُ إذا حججت الاقي الصادق واعاشره فكان صديقاً لي! فلمّا سمعت ذلك من المنصور خرجت إليه وقلت له : يابن رسول الله ، إنّ هذا الجبّار قد أمر فيك بأمر أكره أن اواجهك به ، فإن كان في نفسك شيء تقوله أو توصيني به! فقال لي : لا يروّعك ذلك ، فإنه لمّا يراني يزول ذلك كلّه! ثمّ أخذ بمجامع الستر وبدأ بالدعاء : يا إله جبرئيل و....

ثمّ دخل ، فنظرت إلى المنصور فما شبّهته إلّابنار صُبَّ عليها ماء فخمدت! ودنا منه جعفر بن محمّد عليه‌السلام إلى سريره ، فوثب المنصور فأخذ بيده ورفعه على السرير ، ثمّ قال له : يا أبا عبد الله ، يعزّ عليَّ تعبك! وإنّما أحضرتك لأشكو إليك أهلك : قطعوا رحمي وطعنوا في ديني ، وألبّوا الناس عليَّ! ولو ولّى هذا الأمر غيري ممّن هو أبعد رحماً مني لسمعوا له وأطاعوا (يشير إلى بني الحسن بعد حبسهم وقبل قتالهم).

فقال له جعفر عليه‌السلام : يا أمير المؤمنين! فأين يُعدل بك عن سلفك الصالح : إنّ أيوب ابتُلي فصبر ، وإنّ يوسف ظُلم فغفر ، وإنّ سليمان اعطي فشكر!

فقال المنصور : قد صبرت وغفرت وشكرت! ثمّ قال : يا أبا عبد الله حدّثنا حديثاً كنت سمعته منك في صلة الأرحام. قال : نعم.

حدثني أبي عن جدي قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «البرّ وصلة الأرحام عمارة الدنيا وزيادة الأعمار»! قال : ليس هذا هو. قال : نعم.

حدّثني أبي عن جدي : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «رأيت رحماً متعلقة بالعرش تشكو إلى الله تعالى من قاطعها ، فقلت لجبرئيل : يا جبرئيل ، كم بينهم؟ قال : سبعة آباء» قال : ليس هذا هو. قال : نعم.

٣١٣

حدّثني أبي عن جدّي قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «احتضر رجل بارّ في جواره رجل عاق ، فقال الله عزوجل لملك الموت : يا ملك الموت كم بقي من أجَل العاق؟ قال : ثلاثون سنة ، قال : حوّلها إلى هذا البار»! (فكأنه كان هذا هو الحديث الذي سمعه المنصور منه سابقاً فرضي الآن به).

فقال للغلام : يا غلام ، ائتيني بالغالية (العِطر الغالي) فأتاه بها ، فجعل يطيّبه بيده ، ثمّ دفع إليه أربعة آلاف! ودعا بدابّته فأتاه بها ، فجعل يقول : قدّم قدّم. إلى أن أتى بها إلى عند سريره فركب جعفر بن محمّد عليه‌السلام وعدوت أنا بين يديه فسمعته يحمد الله ويدعو بدعائه ، فطلبت منه الدعاء فقال : ليس هذا موضعه. فلمّا كان العشاء ذهبت إليه فعلّمني الدعاء (١).

ظهور محمّد الحسني بالمدينة :

كان من أعلام المبايعين له عبد الحميد بن جعفر ، وعُبيد الله بن عمر العدوي ، وعبيد الله بن عمر بن أبي ذئب ، واستبطأ هؤلاء خروجه فدخلوا عليه وقالوا له : ما تنتظر للخروج؟! والله ما تجد هذه الامة أحداً أشأم منك عليها! ما يمنعك أن تخرج؟! ولو وحدك (٢)!

وقد مرّ الخبر : أن المنصور بعث أحدثهم سنّاً موسى بن عبد الله من الربذة إلى المدينة ليأتيه بخبر أخويه محمّد وإبراهيم ، وأرسل معه حرساً أمرهم أن يكتبوا إليه بخبرهم ، وكتب إلى رياح بن عثمان المُرّي عامله على المدينة : أن لا سلطان لك على موسى. فأقام موسى شهوراً ، فكتب رياح المُرّي إلى المنصور :

__________________

(١) مهج الدعوات : ١٩٢ مسنداً ، وعدّها المرة الرابعة لإحضار المنصور الإمام عليه‌السلام.

(٢) مقاتل الطالبيين : ١٧٦ و ١٨٨.

٣١٤

إن موسى مقيم يتربّص بك الدوائر وليس عنده شيء مما تحبّ! فأمره المنصور أن يحمله إليه ، فحمله (١) وقال للرسل : إن رأيتم أحداً لحقكم من المدينة في طلبكم فاضربوا عنق موسى! وبلغ ذلك إلى أخيه محمّد فظهر (٢) محمّد وهو على حمار ومعه مئتان وخمسون راجلاً. فأقبل حتّى إذا خرج من زقاق ابن خضير جاء على التمّارين ودخل من بيّاعي الأقفاص إلى السجن في دار ابن هشام (؟) فدقه وأخرج من كان فيه. وذلك في مساء الثامن والعشرين من جمادى الآخرة سنة (١٤٥ ه‍) هذا وعليه قلنسوة صفراء قد اعتمّ عليها وجُبّة صفراء وقد شدّ عليها عمامة اخرى شدّ بها حِقوبه متوشحاً سيفاً (٣).

وكان رياح المُرّي قد أحسّ بخبر محمّد ، فبعث على جعفر الصادق عليه‌السلام والحسين بن علي بن الحسين ، وعلي بن عمر بن علي ، والحسن بن الحسين ، ورجال من قريش فيهم إسماعيل بن أيوب المخزومي وابنه ، وكان رياح المُرّي في دار مروان وكان على حرسه عقبة بن مسلم بن عقبة الفهري ، فلمّا سمع التكبير من أصحاب الحسني وثب وقال لرياح : أطعني في هؤلاء فاضرب أعناقهم!

فقام الحسين بن علي بن الحسين وقال له : والله ما ذلك لك فإنا على السمع والطاعة! وقام رياح فدخل الدار فاختفى بها. وتسوّر القوم على كناسة في زقاق عاصم بن عمر وتفرقوا (٤).

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٢٦٠.

(٢) مقاتل الطالبيين : ١٧٦.

(٣) مقاتل الطالبيين : ١٧٧. وخروجه بين جمادى ورجب أشاع مقولة : العجب كل العجب بين ... كما في أنساب الأشراف ٢ : ٩٨ ، الحديث ١٠٥.

(٤) مقاتل الطالبيين : ١٧٦ ـ ١٧٧.

٣١٥

وكان رياح قد صعد إلى مشربة في دار مروان ، وأمر فهدمت الدرج إليها ، ودخل أصحاب محمّد فصعدوا إليه وأنزلوه وأخذوا معه أخاه العباس بن عثمان ، وعقبة بن مسلم بن عقبة الفهري (١).

فكان أول ما سئل عنه رياح المُرّي أمر موسى بن عبد الله ، فعرّفهم خبره.

فنادى محمّد : من لي بموسى؟ ثمّ أنفذ فوارس مع ابن خضير ، فاستدار بهم حتّى أتى القوم من أمامهم كأنهم أقبلوا من الطرق فلم ينكروهم حتّى خالطوهم فأخذوا منهم موسى الحسني (٢).

ودخل محمّد المسجد قبل الفجر فخطبهم على المنبر ، فاعترضه بلغمه فلم ير له موضعاً فرفع رأسه ورمى به إلى سقف المسجد! ثمّ نزل فصلّى بهم (٣) ولما خطبهم قال : يا أهل المدينة ، إني والله ما خرجت فيكم للتعزّز بكم فلغيركم أعزّ (وأمنع) منكم ، وما أنتم بأهل قوة ولا شوكة ، ولكنكم أهلي وأنصار جدّي فحبوتكم بنفسي ، والله ما مصر يُعبد الله فيه إلّاوقد أخذ لي دُعاتي فيه بيعة أهله ، ولولا ما انتُهك بي ووُترت به ما خرجت (٤)!

وقال : أما والله لقد أحيا زيد بن علي ما دُثر من سنن المرسلين وأقام عمود الدين إذ اعوج ، ولن ننحو إلّاأثره ولن نقتبس إلّانوره! فزيد إمام الأئمة! وأولى من دعا إلى الله بعد الحسين بن علي عليهما‌السلام (٥) ثمّ نزل فصلّى بهم.

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ١٧٨.

(٢) مقاتل الطالبيين : ١٧٦.

(٣) مقاتل الطالبيين : ١٧٨.

(٤) أنساب الأشراف ٢ : ٩٦ ، الحديث ١٠٥.

(٥) تيسير المطالب للسيد أبي طالب عن مسعدة بن صدقة. فقد أعلن أن حركته زيدية ، يرى زيداً بعد الحسين أفضل من السجاد والباقر والصادق عليهم‌السلام.

٣١٦

وكان على مكة السريّ بن عبد الله بن الحارث بن العباس ، فوجّه محمد إلى مكة الحسن بن معاوية بن عبد الله بن جعفر والياً عليها. فقدّم أمامه عبد الله بن عدي العَبْشمي وهذا قدم أمامه مولاه شلجم ، فتنحى السريّ للحسن حتّى قتل محمّد (١).

صداه والإعداد له ببغداد :

كان المنصور في الكوفة أو الهاشمية لما أمر أمير المدينة المرّي بتسريح موسى بن عبد الله الحسني إليه ليزجّه مع أبيه في سجنه ، وأخبروه بإشراف بناء عاصمته بغداد على الافتتاح ، في أواخر جمادى الثانية أي منتصف عام (١٤٥ ه‍) ، فصار إليها ونزل بها بباب الكوفة التي سمّيت باب الذهب ، ولم يستقر بها إلّاأياماً حتّى أتاه الخبر بخروج محمّد الحسني بالمدينة (٢) بعد تسع ليالٍ وأعطى المخبر ٩ آلاف درهم (٣).

وكان المنصور نازلاً في دَير على شاطئ دجلة من مدينته مدينة السلام ، نائماً في بيته في وقت الهاجرة ، وبوّابه يومئذ غلامه التركي حمّاد ، إذ وصلت خريطة بيد حاجبه الربيع بن يونس بخبر خروج محمّد الحسني ، فحملها الربيع إلى بيت المنصور وقال لحمّاد : يا حمّاد ، افتح الباب. فقال : الساعة هجع أمير المؤمنين! قال : افتح ، ثكلتك امك! فسمع المنصور كلامه فنهض وفتح الباب وتناول الخريطة فقرأها ، ثمّ تلا قوله سبحانه : (وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ

__________________

(١) أنساب الأشراف ٢ : ٩٧ ، الحديث ١٠٥.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٧٤.

(٣) أنساب الأشراف ٢ : ٩٨ ، الحديث ١٠٥.

٣١٧

وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً وَاللهُ لَايُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (١)).

ثمّ جمع أهله وأمرهم أن يدخلوا على عمّه عبد الله بن علي العباسي في السجن فيخبروه بخروج محمّد الحسني ويشاوروه لحربه ، فدخلوا إليه وأخبروه وشاوروه فقال لهم : إن البخل قد قتل ابن سلامة (المنصور)! فمروه فليُخرج الأموال وليُعط الأجناد ، فإن غلَب فما أوشك أن يعود إليه مالهُ ، وإن غُلب لم يقدم صاحبه على درهم! وأن يعجّل الساعة ليأتي الكوفة فيجثم على أكبادهم فإنهم «شيعة أهل البيت» ثمّ يحفظها بالمسالح ، فمن خرج منها أو أتاها ضرب عنقه! ثمّ ليبعث إلى سلم بن قتيبة بالريّ ليأتيه ، وليكتب إلى أهل الشام فليأمرهم ليحملوا إليه على البريد أهل البأس والنجدة ، فليحسن جوائزهم ويوجّهم مع مسلم بن قتيبة. ففعل المنصور كل ذلك.

ثمّ دعا ابن أخيه عيسى بن موسى العباسي وأمره بالمسير لقتال محمّد ، ومعه ابن أخيه محمّد ابن السفاح ، ومحمّد بن زيد بن علي ، والقاسم بن الحسن بن زيد الحسني ، ومحمّد بن عبد الله الجعفري ، وحُميد بن قَحْطبة الطائي ، فنفذ عيسى ومعه أربعة آلاف (٢). وقال المنصور لعيسى : إن فاتك محمد واختفى في المدينة فاقتل منهم من ظفرت به (٣). وقال : لا أُبالي أيّهما قتل صاحبه! ذلك لأنّ عيسى كان ولي عهد السّفاح لما بعد المنصور فالمنصور يكرهه (٤).

__________________

(١) المائدة : ٦٤ فكأنه يحسبهم كاليهود!

(٢) مقاتل الطالبيين : ١٧٩ ـ ١٨٠.

(٣) أنساب الأشراف ٢ : ١٠٨ ، الحديث ١١٠.

(٤) تذكرة الخواص ٢ : ٩٠ ، والكامل للجزري ٥ : ٥٤٤.

٣١٨

محمّد الحسني والصادق عليه‌السلام :

روى الكليني بسنده عن موسى بن عبد الله الحسني قال : لما ظهر أخي محمّد ودعا الناس إلى بيعته فكنت ثالث ثلاثة بايعوه (١) ثمّ لم يختلف عليه عربي ولا أنصاري ولا قرشي. وكان من ثقاته عيسى بن زيد بن علي ، وكان جعله على شرطته ، وكان قد تخلّف عن بيعته وجوه قومه ، فشاور عيسى أن يبعث إليهم. فقال عيسى : إن دعوتهم دعاءً يسيراً لم يجيبوك ، أو تغلظ عليهم فخلّني وإياهم ، وابعث إلى رئيسهم وكبيرهم (يعني الصادق عليه‌السلام) فإنك إذا أغلظت عليه علموا جميعاً أنك تمرّ بهم على الطريق التي أمررت عليها أبا عبد الله عليه‌السلام!

قال موسى : فما لبثنا أن اتي بأبي عبد الله عليه‌السلام حتّى اوقف بين يديه! فقال له عيسى بن زيد : أسلم تَسلم! فقال أبو عبد الله : أحدَثت نبوة بعد محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله؟! فقال محمّد : لا ، ولكن بايع تأمن على نفسك ومالك وولدك! ولا تكلّف حرباً! قال أبو عبد الله : ما فيّ حرب ولا قتال ، ولقد تقدّمت إلى أبيك وحذّرته الذي حاق به! ولكن لا ينفع حذر من قدر! يابن أخي : عليك بالشباب ودع عنك الشيوخ! فقال محمّد : ما أقرب ما بيني وبينك في السن! قال أبو عبد الله : إني لم آتِ لأتقدم عليك في السنّ أو في الذي أنت فيه. فقال محمّد : لا والله لابدّ من أن تبايع! فقال أبو عبد الله : يابن أخي ما فيّ طلب ولا حرب ، وإني لأُريد الخروج إلى البادية وتكلّمني أهلي في ذلك غير مرّة ، فيثقل عليَّ ولا يمنعني منه إلّاالضعف.

فقال : يا أبا عبد الله ، والله قد مات أبو الدوانيق (يعني المنصور)!

فقال أبو عبد الله : فما تصنع بي وقد مات؟ قال : اريد الجمال بك! قال : مالي إلى ما تريد سبيل! لا والله ما مات أبو الدوانيق إلّاأن يكون مات موت النوم!

__________________

(١) وانما تأخر لصغره.

٣١٩

قال : والله لتبايعنّي طائعاً ، أو مكرهاً ولا تحمد في بيعتك! فأبى إباءً شديداً فأمر به إلى الحبس!

فقال عيسى بن زيد : قد خرب السجن وليس عليه اليوم غلق ، فإن طرحناه فيه خيف أن يهرب منه!

فضحك أبو عبد الله ثمّ قال : لا حول ولا قوة إلّابالله العلي العظيم! أوَ تراك تسجنني؟!

قال : نعم ؛ والذي أكرم محمّداً بالنبوة لاسجنّنك ولُاشدّدنّ عليك!

فقال عيسى : احبسوه في مخبأ دار ريطة (بنت عبد الله بن محمّد بن الحنفية زوجة زيد بن علي)!

وقال أبو عبد الله : أما والله إني سأقول ثمّ أصدق! فقطع عليه عيسى وقال : لو تكلمت لكسّرت فمك! فوثب محمّد وصاح بعيسى قال : احبسه واغلظ عليه وشدّد!

فقال له أبو عبد الله : أما والله لكأني بك خارجاً من سُدّة أشجع إلى بطن الوادي ، وقد حمل عليك فارس قد أعلم على نفسه ، على فرس كميت ، فطعنك فلم يصنع فيك شيئاً ، وضربت خيشوم فرسه فطرحته ، وحمل عليك آخر خارج من زقاق آل أبي عمار الدؤليّين ، عليه ظفيرتان قد خرجتا من تحت بيضته ، كثير شعر الشاربين ، فهو والله صاحبك فلا رحم الله رِمّته (عظامه البالية).

فقال محمّد : يا أبا عبد الله! حسبت فأخطأت (فنسب علمه إلى المحاسبات الفلكية!).

وقام إليه السرّاقي فدفع في ظهر الصادق عليه‌السلام حتّى أدخله السجن.

واصطفى محمّد ما كان للصادق عليه‌السلام من مال! وكذا أموال رجال من قومه ممن لم يَقُم معه (١).

__________________

(١) اصول الكافي ١ : ٣٦٢ ـ ٣٦٣.

٣٢٠