موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٧

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٧

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٢٠

قال داود : فقطعت بإمامته (١) مقتنعاً بدلالة «إن شاء الله» على الاستثناء بالمشية الإلهية ، فلعلّها من موارد البَداء من الله لعباده. ولقناعة الرقّي بهذا وعلم الإمام به اكتفى ، وإلّا كان له أن يقول : إنّما أراد السابع من وُلده وهو الرابع من ولدي كما في أخبار أُخرى.

ومنها : ما رووه في شبَه الكاظم عليه‌السلام بالأنبياء السابقين ، ومنهم الحسن بن قياما الصيرفي الواسطي ، دخل على الرضا عليه‌السلام وقال له : جعلت فداك ما فعل أبوك؟ قال : مضى كما مضى آباؤه عليهم‌السلام. قال : فكيف أصنع بحديث حدّثني به زُرعة بن محمّد الحضرمي عن سماعة بن مهران عن الصادق عليه‌السلام قال : إنّ ابني هذا فيه شبَه من خمسة أنبياء! يُحسد كما حُسد يوسف عليه‌السلام ، ويغيب كما غاب يونس ، وذكر ثلاثة آخرين.

فقال عليه‌السلام : كذب زُرعة وليس هكذا حديث سماعة إنّما قال : «صاحب هذا الأمر فيه شبَه من خمسة أنبياء» يعني القائم ، ولم يقل : «ابني» (٢).

فأبدى شبهة ثانية : قال : هل تخلو الأرض من إمام فيها؟ قال : لا. قال : فيكون فيها اثنان؟ قال : لا إلّاوأحدهما صامت لا يتكلم. قال : وإنّما هي في العقب وليس لك ولد فلست بإمام! قال : فوالله لا تمضي الأيام والليالي حتّى يولد لي ذكر من صلبي يقوم مقامي يحيى الحق ويمحق الباطل (٣).

ومنها : أنّ أبالسة الوقف كانوا يلبّسون على الشيعة أنّ الرضا عليه‌السلام في قوله بوفاة أبيه يعمل بالتقية ، ومنه ما احتمله يونس اليقطيني فقال له : «لعلّك منّي في تقية» فنفاها بتأكيده كما مرّ خبره.

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٣٧٣ ، الحديث ٧٠٠.

(٢) اختيار معرفة الرجال : ٤٧٧ ، الحديث ٩٠٤.

(٣) اختيار معرفة الرجال : ٥٥٣ ، الحديث ١٠٤٤. وفي أُصول الكافي ١ : ٣٢٠ ، الحديث ٤ في مكاتبة والحديث ٧ بزيادة.

٥٤١

ومنهم من كان نجومياً فلمّا رأى وقف الواقفة عن اعتبار أخبار وفاة الكاظم عليه‌السلام وانحراف غير قليل من أصحابه معهم وقف هو معهم أولاً ، ثمّ نظر في نجومه فزعم أنّها قطعت بموته فقطع به وخالف أصحابه ، وهو أبو خالد السجستاني (١).

وقد أسند الكشي عن الصادق عليه‌السلام قال في ابنه موسى عليه‌السلام : يَضل به بعد موته قوم من شيعتنا جزعاً عليه فيقولون : لم يمت ، فينكرون الأئمة من بعده (٢) فهم جزعاً على الإمام السابق ينكرون الإمام اللاحق بلا حقّ!

خليط من الاستتار والإظهار :

أسند الصدوق عن أبي الحسن الطيّب قال : لما توفي الكاظم عليه‌السلام دخل الرضا عليه‌السلام السوق فاشترى كبشاً وكلباً وديكاً! فكتب صاحب الخبر بالمدينة بذلك إلى الرشيد فقال : قد أمنّا جانبه (٣).

ثمّ فتح بابه ودعا إلى نفسه فخاف عليه أصحابه فقالوا له : إنك قد أظهرت أمراً عظيماً وإنّا نخاف عليك هذا الطاغي! قال : ليجهد جهده فلا سبيل له عليَ (٤)!

فكتب عبد الله بن مصعب الزبيري الذي ولّاه الرشيد اليمن (٥) كتب إلى الرشيد : إنّ علي بن موسى قد فتح بابه ودعا إلى نفسه! فقال هارون : وا عجباً!

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٦٦١٢ ، الحديث ١١٣٩.

(٢) اختيار معرفة الرجال : ٤٦٢ ، الحديث ٨٨١.

(٣) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٠٥ ، الحديث ٤.

(٤) أُصول الكافي ١ : ٤٨٧ ، الحديث ٢.

(٥) تاريخ خليفة : ٣٠٥.

٥٤٢

إنّ علي بن موسى قد اشترى كبشاً وكلباً وديكاً! ويُكتب فيه بما يكتب (١)!

وكأنّ يحيى البرمكي لم يكن هنا حاضراً واعتماداً على الخبر قال للطاغية : هذا علي بن موسى قد قعد وادعى الأمر لنفسه! يسأل الرشيد ماذا يفعل؟ فقال : ما يكفينا ما صنعنا بأبيه! تريد أن نقتلهم جميعاً؟!

وكان الرشيد عند قتله للكاظم عليه‌السلام قد حلف على أنّه إن ادعى الإمامة أحد بعد موسى عليه‌السلام ضربت عنقه صبراً! وكان قد سمعه منه عيسى بن جعفر العباسي ، فلمّا خرج مع الرشيد من الرّقة للحج سنة (١٨٦ ه‍) ذكّره بحلفه وقال له : وهذا عليّ ابنه يدّعي هذا الأمر ويقال فيه ما يقال في أبيه! فنظر الرشيد إليه مغضباً وقال : فما ترى؟! تريد أن أقتلهم كلّهم (٢)؟!

تولية عهد الرشيد لولديه :

كانت شهادة الكاظم عليه‌السلام لمنتصف عام (١٨٦ ه‍) كما مرّ ، وكأنّه عليه‌السلام قبل ذلك كان قد أخبر الرشيد بأنه سيولّي عهده لابنيه الأمين والمأمون ، فيختلف أمرهما ويظهر تعاد بهما وتتشتّت كلمتهما ، ولا يبرح ذلك حتى تُقتل القتلى بينهما وتُسفك الدماء وتهتك ستور النساء! وحتى يتمنّى كثير من الأحياء أنهم لو كانوا في عداد الموتى!

وأخبر به الرشيد علياً الكسائي البصري ، قال : فقلت : يا أمير المؤمنين! أيكون ذلك لأثر وقع لأمير المؤمنين في مولدهما؟ أو لأمر رؤي في مولدهما (من المنجّمين)؟ فقال : لا والله إلّابأثر واجب حملته العلماء عن الأوصياء عن الأنبياء!

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٠٥ ، الحديث ٤.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٢٦ ، الباب ٥ ، الحديث ٣ و ٤.

٥٤٣

هذا ما رواه المسعودي (١) وقبله نقله الدينوري أنه قالها للأصمعي البصري ثمّ قال : قالوا : (بعد ما جرى بينهما ذلك) كان المأمون يقول : محمد كان أبوه الرشيد سمع من موسى بن جعفر بن محمد جميع ما جرى بيننا (٢).

وروى المسعودي عن الأصمعي البصري مسامر الرشيد : أنه كان يسامره ليلة ، إذ قال الرشيد لمسرور الخادم : عليَّ بيحيى البرمكي ، فما لبث أن أتاه ، فقال له : قد عنيت بتصيير العهد إلى من أرضى سيرته وأحمد طريقته وأثق بحسن سياسته ، وآمن ضعفه ووهنه وهو عبد الله (المأمون) وبنو هاشم (بنو العباس) مائلون بأهوائهم إلى محمد (الأمين) وفيه ما فيه من الانقياد لهواه والتصرّف بطويّته والتبذير لما في يده ومشاركة الاماء والنساء في رأيه! فأشر عليَّ في هذا الأمر. فأشار عليه يحيى فنحّاني الرشيد إلّاأني كنت أسمعهما ، فناظرا طويلاً حتى افترقا على أن يعقد الأمر لمحمد وبعده لعبد الله.

فخرج الرشيد حاجاً سنة (١٨٦ ه‍) ومعه وليّا عهده الأمين والمأمون ، وكتب الشرطين بينهما وعلّقهما في الكعبة. وكان تحليفهما لدى أبيهما في الكعبة ، فلما حلف الأمين بما حلف وأراد الخروج من الكعبة ردّه جعفر البرمكي واستحلفه : إن غدر بأخيه المأمون خذله الله ، فحلف له به ، حتى فعل ذلك ثلاثاً (٣)!

وفي السنة نفسها (١٨٦ ه‍) (قبل هذا) كان قد ثار أبو الخصيب النسأي من نسأ خراسان ، وقد تغلّب على طوس وسرخس ومرو ، فخرج إليه علي بن عيسى بن ماهان بجمعه فقابله وقاتله حتى فلّ جمعه (٤).

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ٣٥١.

(٢) الأخبار الطوال : ٣٨٩.

(٣) مروج الذهب ٣ : ٣٥٣. ونصّ الكتابين في اليعقوبي ٢ : ٤١٦ ـ ٤٢١.

(٤) تاريخ خليفة : ٣٠٢ ، ٣٠٣.

٥٤٤

نكبة البرامكة ومكوّناتها :

وعلمت أُم الأمين بأ نّه ولّاه العراق وولّى المأمون خراسان وفيه العدد والقوّاد ، فدخلت عليه وعاتبته على ذلك. فقال : إني ولّيت ابنك السلم وعبد الله الحرب ، وصاحب الحرب أحوج إلى الرجال من المسالم ، ومع هذا فإنّا نتخوّف ابنك على أخيه عبد الله ، ولا نتخوّف عبد الله عليه.

فلمّا ادخلا الكعبة ليحلفا للرشيد بالوفاء ، وقام الأمين ليخرج ردّه جعفر البرمكي وحلّفه : إن غدر بأخيه المأمون خذله الله! ثلاثاً! وعلمت أُمه بذلك فضغنت على جعفر البرمكي ، فحرّضت الرشيد عليه حتّى بعثته على قتله (١).

ونقل تفصيله المسعودي قال : إنّ العباسة عشقت جعفر وكتبت إليه فردّها ، فقصدت أُمه وألقت إليها ما تريده من الشرف لابنها بمصاهرة الرشيد ، وأ نّه أمان لها ولولدها من السقوط وزوال النعمة! فوعدتها أُم جعفر. ثمّ أقبلت على ابنها جعفر بوصف وصيفة تشتريها له ، ووعدته ليلة كذا ، وبعثت بذلك إلى العباسة فاستعدت وسارت إليها في تلك الليلة. وانصرف جعفر من سهره مع الرشيد نشوان بل سكران ، من فضل شرابه ، وسأل عنها فأُدخلت عليه فحبلت منه ، ثمّ عرّفته بنفسها! ثمّ ولدت غلاماً فوكلته إلى حاضنة تسمى برّة ووكلت بها خادماً يسمى رياش ثمّ وجّهت بهما إلى مكة ثمّ إلى اليمن. وأخبرت زبيدة بذلك الرشيد ، فحجّ ووكّل من يبحث ويفحص فوجد الخبر صحيحاً ، فعاد إلى بغداد ثمّ صار إلى الأنبار ومعه السندي بن شاهك. فلمّا عزم على النكبة ردّ السندي بأمر سرّي إلى بغداد ليوكّل بدور البرامكة وأبنائهم وكتّابهم وقراباتهم من يحفظ عليهم أنفاسهم ريثما يأتيه أمره.

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ٣٥٢ ـ ٣٥٤.

٥٤٥

ولمّا انصرف من عنده جعفر دعا الرشيد ياسر الخادم وأمره أن يمضي إلى جعفر فيأتيه برأسه! فمضى ياسر الخادم فوجد جعفر على لهو وغناء وشراب ، فأخبره فقال لعلّه يمازحني بهذا! قال : لا بل هو جاد! قال : فهو إذاً سكران! قال : لا بل كان شاعراً ما يقول : قال : فارجع إليه فإن كان على رأيه فارجع ونفّذ! قال : لا سبيل إلى ذلك! قال : فأصير معك فإن لم يقبل عذرك ولم يرض إلّابرأسي رجعتَ ففعلت! فقبل بهذا ومضيا إليه ودخل إليه ياسر فقال الرشيد : ائتني به وإلّا قتلتك قبله! فأخرج جعفر منديلاً من جيبه وعصّب عينيه به ومدّ عنقه فضربه ياسر وأخذ رأسه إلى الرشيد. فطلب منه الرشيد أن يأتيه بأعوانه فأتاه بهم فأمرهم أن يقتلوا ياسراً لقتله جعفراً! وقال : لا أقدر أن أنظر إلى قاتل جعفر (١) وكان ذلك في غرة شهر صفر من سنة (١٨٧ ه‍).

وأرسل برأس جعفر وجسده إلى بغداد وأمر أن يُشق جسده نصفين فيجعلان على الجسرين مع رأسه (٢) وقبض على أبيه يحيى وأخيه الفضل وبعث بهما إلى سجن الرَّقة حتّى يموتا. وكتب إلى عمّاله بالقبض على من يعرف منهم وقبض أموالهم (٣) وجميع أولادهم ومواليهم وغلمانهم ، وصادر أموالهم في معسكرهم من مضارب وخيام وسلاح وغيره ، فما دار عليهم أُسبوع حتّى قتل منهم وحواشيهم ألف رجل! وشتّت شملهم في البلاد لا يرجعون إلى أوطانهم ولا يقدرون على كسرة خبز (٤) إلّابالصدقات!

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ٣٧٦ ـ ٣٨٠.

(٢) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٩٨ ـ ١٩٩.

(٣) تاريخ مختصر الدول : ١٢٩.

(٤) إعلام الناس بما وقع للبرامكة من بني العباس : ١٦٤ ـ ١٧٤.

٥٤٦

وكتب الرشيد إلى يحيى البرمكي في حبسه قوله سبحانه : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ ...) (١) أما عن مصداقه كان يقول : لو علمت يميني بالسبب الذي له فعلت هذا ؛ لقطعتها! ولذا اختلف الناس فيه (٢) وبهذا التأكيد على كتمانه ترجّح سبب العبّاسة الناموسي.

الإمام الرضا عليه‌السلام والبرامكة :

نقل الكليني : أنّ الرضا عليه‌السلام حجّ لموسم الحج السابق سابقاً الرشيد سنة (١٨٦ ه‍) وكان على يسار الطريق إلى مكة جبل يُدعى فارعاً ، نظر إليه وقال : باني فارع وهادمه يُقطّع إرباً إرباً! قال الراوي : فلم ندرِ ما يقول. ثمّ وصل الرشيدونزل هناك وأمر جعفر البرمكي أن يُبنى له مجلس على الجبل ثمّ أمر بهدمه ، فعرفنا معنى باني فارع وهادمه! فلمّا عاد إلى العراق قُطّع إرباً إرباً (٣).

فلمّا وقف بعرفة كان يدعو ثمّ طأطأ رأسه ، فسُئل عن ذلك فقال : إنّي كنت أدعو الله على البرامكة بما فعلوا بأبي! فاستجاب الله لي اليوم فيهم (٤)!

فلمّا أفاض إلى منى مرّ يحيى البرمكي مع قوم من آله ، فقال عليه‌السلام : مساكين هؤلاء لا يدرون ما يحلّ بهم في هذه السنة (٥)؟! أي قبل فوات عام على هذا الكلام ، بل بعد (٥٠) يوماً.

__________________

(١) النحل : ١١٢. اليعقوبي ٢ : ٤٢٣.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٢٢.

(٣) أُصول الكافي ١ : ٤٨٨.

(٤) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٢٥ ، الحديث ١ و ٢ الباب ٥٠

(٥) في أُصول الكافي ١ : ٤٩١ ، الحديث ٩.

٥٤٧

الروم وثغورهم :

في سنة (١٨٢ ه‍) ثار الروم على ملكهم قُسطنطين بن لاون فخلعوه وسملوا عينيه ، ولكنّهم ملّكوا امّه إيريني. وفي صيفها غزا المسلمون ثغورهم حتّى بلغوا مدينة أفسوس التي يدّعون أنّها مدينة أصحاب الكهف ، فكأ نّها حملت الملكة إيريني إلى الرشيد أموالاً لتردّ المسلمين عنها حتّى عام (١٨٧ ه‍) حيث خلعها الروم وملّكوا عليهم نيقيفور ، فكتب إلى الرشيد : من نيقيفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب! أما بعد ، فإنّ الملكة إيريني حملت إليك من أموالنا ما كنت أنت حقيقاً بحمل أضعافه إليها ، لكن ذلك من ضعف النساء وحمقهن! فإذا قرأت كتابي هذا فاردد ما أخذت ، وإلّا فالسيف بيننا وبينك! فلمّا وصل كتابه إلى الرشيد وقرأه غضب وكتب بظهره : من هارون أمير المؤمنين إلى نيقيفور زعيم الروم ، قد قرأت كتابك ، والجواب ما تراه دون ما تسمعه!

هذا والرشيد بالرَقّة ، فسار من يومه إلى ثغور الروم حتّى نزل على هِرقلة فأحرق وخرّب (١).

فسأله نيقيفور المصالحة على خراج يحمله كل سنة (٢) وعاد الرشيد إلى الرَقّة فنقض نيقيفور عهده ، فكرّ الرشيد بمشقة شديدة حتّى أناخ بديارهم فخضعوا فعاد عنهم (٣).

وأرسل عليهم في الصيف (١٨٨ ه‍) ابنه القاسم المؤتمن ومعه قوّاد من العباسيين ، فحاصروا حصوناً ، وأصابهم عوز وجوع ، وطلب نيقيفور

__________________

(١) مختصر تاريخ الدول : ١٢٩ وفي تواريخنا : إلى نيقيفور كلب الروم!

(٢) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٩٩.

(٣) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٣٤٦.

٥٤٨

منه الصلح على أن يدفعوا إليهم أسراهم ثلاثمئة وعشرين مسلماً ، فقبل وعاد (١).

فلمّا دخلت سنة (١٨٩ ه‍) أغار الروم على أدرنه والكنيسة السوداء وعين زربه.

ففي العام التالي (١٩٠ ه‍) غزا الرشيد الروم حتّى أقام في طُوانة وفرّق قواده في بلادهم ، فبعث إليه نيقيفور بثلاثين ألف دينار جزية عن رأسه ورأس ابنه ، فانصرف الرشيد (٢) وكان عسكره مئة وخمساً وثلاثين ألفاً (٣).

وفي سنة (١٩٠ ه‍) وثب أهل حِمص على واليهم وخلعوه ، فخرج الرشيد نحوهم إلى منبج فلقيه وفد منهم يستقيلونه ، فعفا عنهم. ونفذ في الصيف إلى الروم ففتح هِرقلة والمطامير (٤).

ومات الفُضيل بن عياض :

قال المسعودي : في سنة (١٨٧ ه‍) توفي أبو علي الفُضيل بن عياض الخراساني (٥) السمرقندي (٦) كان قوياً من قُطاع الطرق بين سَرَخْس وأبيورد ، وعِشق جارية ، وصعد جدارها إليها فسمع من يتلو : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ (٧)) فتأثر وقال : يا رب قد آن!

__________________

(١) تاريخ خليفة : ٣٠٣ ، وتاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٢٣.

(٢) تاريخ خليفة : ٣٠٤.

(٣) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٠٠ وقال : سوى الأتباع والمتطوعة!

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٢٨.

(٥) مروج الذهب ٣ : ٣٥٤.

(٦) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٩٩.

(٧) الحديد : ١٦.

٥٤٩

فرجع وأوى إلى خربة فإذا فيها ركب يقول بعضهم : نرتحل ، ويقول آخرون : إنّ فضيلاً على الطريق يقطع علينا فحتى نُصبح. فعرّفهم بنفسه وآمنهم (١).

ثمّ قدم العراق فالكوفة وسمع من المنصور بن المعتمر وغيره ، ثمّ انتقل إلى مكة وتعبّد بها وأقام حتّى مات. وفي سنة حجّ الرشيد ، وأدخلوه إليه مع سفيان بن عُيينة ، فلمّا عرف الرشيد قال له : أنت يا حسن الوجه! الذي في عنقك ويدك أمر هذه الأُمة؟! لقد تقلّدت أمراً عظيماً! فبكى الرشيد!

ثمّ أمر لهم ببُدر فقبلوها غير فضيل فقال له الرشيد : يا أبا علي ، إن لم تستحلّها فأعطها ذادَين وأشبع بها جائعاً واكسُ بها عرياناً! فاستعفاه وخرج ، فقال له سفيان : ألا أخذتها وصرفتها في أبواب البر؟! فقال له : يا أبا محمّد! أنت فقيه البلد المنظور إليه وتغلط مثل هذا الغلط! لو طابت لأُولئك لطابت لي (٢).

وله كتاب أخبار عن الصادق عليه‌السلام ذكر طريقه إليه النجاشي (٣) ولا يُستبعد أن يكون هو ما دعي بمصباح الشريعة ، قال النوري : أعتقد أنّه جمعه من ملتقطات كلامه في مجالس وعظه ونصيحته ، فلو فُرض فيه شيء يخالف مضمونه بعض ما في غيره وتعذر تأويله فهو منه على حسب مذهبه العامي ، لا من كذبه وفريته فإنّه قد وثّقه النجاشي (٤).

وروى الصدوق أنّه كان يفتي بالتعصيب لعصبة الأب والعمّ ، وأحضره الرشيد فأقرّ أنّه خلاف قول علي عليه‌السلام ، وأ نّه قد جبُن عن الفتوى بقوله عليه‌السلام (٥).

__________________

(١) سفينة البحار ٧ : ١٠٣.

(٢) مروج الذهب ٣ : ٣٥٣ ـ ٣٥٤.

(٣) رجال النجاءك : ٣١٠ ، رقم ٨٤٧.

(٤) مستدرك الوسائل ١٩ : ٢١٥ ـ ٢١٦.

(٥) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٢٣ ـ ٢٢٤.

٥٥٠

الرشيد من الرقّة إلى الرّي :

ثمّ خرج الرشيد إلى الريّ ومعه ابنه القاسم ، فمرّ ببغداد فلمّا صار إلى الجسر ورأى جسد جعفر البرمكي لا زال مصلوباً أمر بإحراقه! فلمّا صار في كرمانشاهان بايع لابنه القاسم بولاية العهد بعد المأمون ، وكتب إلى ابنه الأمين ببغداد يأمره بالخروج إلى الري والإقامة بها. وعزل منصور بن يزيد الحميري عن خراسان وولّاها علي بن عيسى بن ماهان ، وضمّ إليه جماعة من القوّاد منهم رافع بن الليث الليثي ، ولكنّه أمره أن لا يستعمله على بلد بعيد ، وخالف علي بن عيسى فاستعمل رافعاً على سمرقند ، فلم يحُل عليه الحول حتّى خلع وعصى ، وعلي بن عيسى في مرو.

فوجّه الرشيد هرثمة بن أعينَ في أربعة آلاف كأ نّه مدد لعليّ بن عيسى ولكنّه أمره أن يرسل إليه علي بن عيسى مقيداً ، فدخل هرثمة المدينة وصار إلى دار الإمارة بجنوده ، وأخرج كتاب المأمون ودفعه لعليّ بن عيسى ليقرأه ، فلمّا قرأه قال : أفأنت سامع مطيع؟ قال : نعم ، فدعا بقيد ثقيل فقيّده ، ثمّ أخرجه وبعث به مع رسل إلى الرشيد فحُبس (١).

أرمينية في عهد الرشيد :

كان الرشيد قد ولّى الفضل بن يحيى البرمكي على أرمينية ، فقدمها وتوجّه في ناحية باب الأبواب (/ دربند) إلى قلعة حمزين ليغزوها فهزموه ، فاستخلف على عمله عمر بن أيوف الكناني وانصرف هو إلى بغداد ، ثمّ وجّه سعيد بن محمّد الحرّاني اللِّهبي على حرب أرمينية وأبا الصباح على خراجها ، فلمّا تولّى

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٢٥.

٥٥١

أبو الصباح استيفاء خراج برذعة قتلوه وانتقضت أرمينية ، وخرج بها خارجي يدعى أبا مسلم الشاري ، فوجّه الفضل عبد الملك بن خليفة الحرشيّ في خمسة آلاف لقتال الشاري ، فلقوه في رويان واقتتلوا فهزمهم الشاري وانصرف فأخذ قلعة الكلاب (١).

وقد مرّ الخبر عن إيداع الإمام الكاظم عليه‌السلام بأمر الرشيد من الفضل بن الربيع عند الفضل بن يحيى فاتّهمه الرشيد بمسامحة الإمام فأمر بجلده مئة سوط وجرّده من الولاية. فاستعمل بدله على أرمينية العباس بن جرير البجلي ، فوجّه معدان الحمصي إلى أبي مسلم الشاري الخارجي في ستة آلاف والتقيا فقتل مِعدان الحمصي ، وصار الشاري إلى أردبيل ثمّ نزل البيلقان.

فوجّه الرشيد يحيى الحرشي في اثني عشر ألفاً ، ويزيد بن مزيد الشيباني في عشرة آلاف ليجتمعوا على محاربة أبي مسلم الشاري ، ومات الشاري فقام مقامه مولاه السكن بن موسى البيلقاني في البيلقان ، فلمّا بلغه قدوم يحيى الحرشي اختار خيار خيله وجعل عليهم ابنه الخليل بن السكن ووجّه بهم إلى الحرشي ، فأسره الحرشي وزحف إلى البيلقان ، فلمّا بلغ الخبر إلى السكن هرب إلى قلعة الكلاب ، وطلب أهل البيلقان الأمان من الحرشي فآمنهم وهدم حصنها. وحاصر يزيد الشيباني حصن الكلاب ، وبها مع السكن ثمانية آلاف فأستأمنوه فآمنهم ، وأرسل بالسكن إلى الرشيد.

ثمّ ولّى الرشيد أرمينية سعيد بن سلم الباهلي ، وكان على باب الأبواب (/ دربند) النجم بن هاشم فخالفوه في تلعّبه ببطارقة الأرمن ، فعزله سعيد وعيّن عاملاً وأمره بقتل النجم فقتله ، فوثب ابنه حيّون بن النجم وعصى وكاتب خاقان

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٢٦.

٥٥٢

ملك الخزر ، فزحف إليه في خلق عظيم أغار بهم على المسلمين فقتل وسبى خلقاً عظيماً ، وحرّق البلاد ، وقتل النساء والصبيان (١).

هذا ما سرده اليعقوبي بلا عدد ولا تاريخ معيّن ، وعند ابن العبري أنّ ذلك كان (١٨٣ ه‍) أي سنة قتل الإمام الكاظم عليه‌السلام ، قال : فأوقعوا بالمسلمين وأهل الذمة وسبوا أكثر من مئة ألف رأس! وانتهكوا أمراً عظيماً لم يُسمع بمثله في الأرض (٢) والسيوطي قال : في (١٨٣ ه‍) خرج الخزر على أرمينية فأوقعوا بأهل الإسلام ، وسفكوا وسبوا أكثر من مئة ألف نسمة! فجرى على الإسلام أمر عظيم لم يُسمع قبله مثله (٣)!

اليمن خلال عشر سنين :

كان من عبيد الرشيد قبل خلافته حمّاد البربري ، فلمّا استخلف أعتقه ، ثمّ ولّاه اليمن سنة (١٧٩ ه‍) وفيها وثب باليمن الهيصم الهمْداني في جبل مِسور ومعه عمر الحِميري في عَشتان ، والصّباح بناحية حَراز ، فكانت بينهم وبين حمّاد البربري وقائع اتصلت الحرب فيها تسع سنين ، وأسر حمّاد عمر الحمِيري من عَشتان فوجّه به إلى الرشيد.

وأخيراً وبعد تسع سنين وأكثر من عشرين ألف قتيل من الناس ، نزل الهيصم من معقله بجبل مِسور إلى قرية من القرى متنكّراً يتجسّس الأخبار ، وعرفه رجل من البلد فصار إلى حماد البربري وأعلمه بذلك ، فوجّه معه قائداً يدعى حَراد فأخذ الهيصم وحمله على جمل وأدخله إلى صنعاء ، ثمّ وجّه به إلى الرشيد فضرب عنقه.

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٢٦ ـ ٤٢٧.

(٢) مختصر تاريخ الدول : ١٣٩.

(٣) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٣٤٥.

٥٥٣

وانصرف حماد البربري إلى صبّاح ، واستفرد فطلب الأمان فأسره ، وأسر ستمئة رجل من أصحاب الهيصم الهمْداني ووجّه بهم إلى الرشيد ، فقتلهم جميعاً! وصلب صبّاحاً والهيصم معاً (١).

الرشيد إلى مثواه البعيد :

في شعبان سنة (١٩٢ ه‍) خرج هارون يريد خراسان حتّى نزل في قرميسين (كرمانشاهان) في شهر رمضان فأقام وصام فأفطر بها ، ثمّ قصد الري فرآها في شهر ذي الحجة فضحّى بها ، ثمّ خرج منها إلى جرجان (گرگان) وقد اعتلّ فلم يصل قرية سناباد من طوس خراسان إلّاوهو شديد العلة (٢) في سنة (١٩٣ ه‍) فأرسل إلى طبيب فارسي هناك وأعدّ قوارير شتى وخلط قارورة مائه بينها ، فلمّا انتهى الطبيب إلى قارورته قال لهم : ليوص صاحب هذه القارورة فإنّه هالك! ولا بُرء له من هذه العلة! فلمّا سمعه الرشيد أنشد :

ما للطبيب يموت بالداء الذي

قد كان يُبرئ مثلَه فيما مضى؟!

إنّ الطبيب بطبّه ودوائه

لا يستطيع دفاع محذور القضا

ودعا بحمار يركبه فلمّا صار عليه لم يثبت على ظهره! فقال : أنزلوني ، صدق المُرجفون! ثمّ دعا بأكفان فاختار منها ما أراد ، ثمّ أمر بحفر قبره فلمّا حُفر اطّلع عليه وتلا قوله سبحانه : (مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَه* هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَه (٣)) وقال : وا سوأتاه من رسول الله (٤)!

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤١٢ ـ ٤١٣.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٢٩ ـ ٤٣٠.

(٣) الحاقة : ٢٨ ـ ٢٩ ، والخبر في مروج الذهب ٣ : ٣٦٦.

(٤) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٠٠.

٥٥٤

وكان إنّما أخرجه خروج رافع بن الليث وإخوته عليه في سمرقند ، وكان معه ابنه المأمون فسيّره إلى مرو مع جمع من قوّاده ، فأسروا بشير بن الليث أخا رافع وأوصلوه للرشيد بطوس ، فقال له : والله لو لم يبقَ من أجلي إلّا أن أُحرّك شفتي بكلمة ، لقلت : اقتلوه! ثمّ دعا بجزّار وأمره أن يفصله عضواً عضواً (١).

ثمّ دعا من بعسكره من العباسيين فأوصاهم بالأمين والمأمون وأقطع لهم رباعاً وضياعاً وأموالاً كثيرة (٢) فلمّا فرغ من ذلك اغمي عليه ثمّ مات ، وله (٤٤) سنة ، فدفن هناك.

وكان تام الخلقة أبيض أقرب إلى السمن طويلاً جميلاً قد خالطه الشيب ، وله وفرة. واختلّت أُموره بعد البرامكة وبان للناس سوء سياسته وقبح تدبيره (٣).

وكان طبيبه الخاص بختيشوع النصراني وابنه جبرئيل ويوحنّا بن ماسويه السُرياني الذي تولّى تعريب الكتب الطبّية القديمة وكان يدرّسها ويجتمع لديه تلامذة كثيرون (٤).

وكان وفاة الرشيد آخر جمادى الأُولى أو أول جمادى الآخرة (٥) ولكن اليعقوبي (العباسي) قال : لأوّل جمادى الأُولى ، وصلّى عليه ابنه صالح ،

__________________

(١) مختصر تاريخ الدول : ١٣٠.

(٢) مروج الذهب ٣ : ٣٦٦.

(٣) التنبيه والإشراف : ٢٩٩.

(٤) مختصر تاريخ الدول : ١٣٠ ـ ١٣١.

(٥) تاريخ خليفة : ٣٠٥.

٥٥٥

ووصل نعيه إلى بغداد في (١٨) جمادى الأُولى (١) وقيل : توفي في (٣) جمادى الآخرة ووصل خبره بغداد في منتصفها (١٢) يوماً (٢).

ومن مروياته في جلسة خاصة مع بني أعمامه العباسيين قال لهم : بلغني : أنّ العامة يظنون فيّ بغض عليّ بن أبي طالب! ووالله ما أُحبّ أحداً حبّي له! ولكن هؤلاء (أبناؤه) أشدّ الناس بغضاً لنا وطعناً علينا وسعياً في إفساد ملكنا! بعد أخذنا بثارهم! ومساهمتنا إياهم ما حويناه! حتّى إنّهم لأميَل إلى بني أُمية منهم إلينا!

ثمّ قال : فأما وُلده لصلبه فهم سادة الأهل ، والسابقون إلى الفضل ؛ ولقد حدّثني أبي المهدي عن أبيه المنصور عن محمّد بن علي عن أبيه علي بن عبد الله عن أبيه عبد الله بن عباس أنّه سمع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول في الحسن والحسين : «من أحبّهما فقد أحبّني ومن أبغضهما فقد أبغضني» (٣).

وأنا أكاد أقطع بأنه من الأحاديث التي كانوا يثيرون بها الناس على بني أُمية.

ونقل السيوطي : أنّ الرشيد اجتمع بولديه المأمون والأمين لدى مالك بن أنس ليسمعوا منه كتابه الموطّأ (٤) متابعاً بذلك سياسة المنصور في نصرة فقه مالك على فقه أهل البيت عليهم‌السلام.

بدايات خلافة الأمين :

في طوس مات الرشيد ومعه الفضل بن الربيع ، فقام بأخذ البيعة للأمين ممّن حضر من العباسيّين وقوّادهم ، وذلك لأول جمادى الأُولى سنة (١٩٣ ه‍)

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٣٠.

(٢) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٣٥٤.

(٣) تاريخ الخلفاء للسيوطي عن الأوراق للصولي : ٣٥١.

(٤) المصدر : ٣٥٢.

٥٥٦

هذا والأمين في بغداد ، وبلغها رجاء الخادم في ٢٢ من جمادى الأُولى فجُمع الناس ، وصعد المنبر إسحاق بن عيسى العباسي فنعى الرشيد إليهم وذكّرهم بعهده إلى ابنه الأمين ، فبايع الناس ، وذلك يوم الأربعاء ، فلمّا كان يوم الجمعة خطب الأمين فنعى أباه الرشيد ورثاه ، ثمّ أمرهم بالنصح وحثهم على الطاعة ثمّ نزل.

ولأول جمادى الآخرة قدم الفضل بن الربيع بوصية الرشيد وبيوت أمواله وخزائنه (١) وعمره (٢٢) عاماً (٢) وكان أخوه المأمون بمرو خراسان فكتب إلى الأمين بالطاعة والخضوع وامتثال أمره ونهيه ، انقياداً لما تقدم من العهد (٣) وأورد ابن الوردي : أنّ الأمين كان بمرو ، وأخوه صالح مع أبيه الرشيد فصلّى عليه ثمّ كتب إليه مع خادمهم رجاء وأرسل إليه خاتم الخليفة والبردة والقضيب ، فتحول إلى بغداد ، وكانت أُمه زبيدة بالرَّقة ومعها بعض خزائن الرشيد فحملتها إليه فخرج الأمين ومعه أعيان بغداد إلى الأنبار يتلقّاها (٤).

وقال السيوطي : كان شاباً حسن الصورة أبيض جميلاً طويلاً ، قويّاً شجاعاً ، فصيحاً بليغاً ، ذا أدب وفضيلة ، وقد كان سيّئ التدبير كثير التبذير ، أرعن ضعيف الرأي لا يصلح للإمارة (فضلاً عن الخلافة) ففي ثاني يوم بيعته أمر ببناء ميدان بجوار قصر المنصور للّعب بالكرة (٥).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٣٣ ـ ٤٣٤.

(٢) مروج الذهب ٣ : ٣٨٧.

(٣) التنبيه والإشراف : ٣٠٠.

(٤) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٠١.

(٥) تاريخ الخلفاء : ٣٥٥.

٥٥٧

وكانت أُمه زبيدة في أيام الرشيد قد تقدّمت بحفر عين المُشاش فأرادت عمرة رمضان لذلك. وأمدّها ابنها الأمين بعشرين ألف مثقال ذهباً! فجُعلت صفائح لباب الكعبة وعتبتها ، وبَنت زبيدة المصانع وجعلت الحياض والسقايات. وأظهر الأمين إرادة الحج فصرفه الفضل بن الربيع.

وكان عبد الملك صالح العباسي والياً على الجزيرة وجند قنّسرين والعواصم وثغور الروم في عهد الرشيد ، وغضب عليه الرشيد فعزله وصادر أمواله وحبسه وابنه عبد الرحمن وكاتبه قُمامة ، فأخرجهم الأمين ، وردّ عليه أمواله وضياعه ، وولّاه كل ما كان إليه. وغضب الرشيد على علي بن عيسى بن ماهان من قوّاده فصادر أمواله وحبسه ، فأخرجه الأمين وردّ عليه أمواله وولّاه شرطته.

وكان قد غلب على ناحية جرزان من أرمينية إسماعيل بن شعيب مولى محمّد بن مروان الأموي ، وبناحية أُخرى يحيى بن سعيد ، فولّاها الأمين أسد بن يزيد الشيباني فاحتال عليهما حتّى أخذهما.

وكان رافع بن الليث على سمرقند على عهد الرشيد فعصى واستمال أهل الشاش وفرغانة وخُجندة وأشروسنة وبخارى وخوارزم وخُتّل وصغانيان وسائر كور بلخ والسغد وطخارستان وماوراء النهر والترك والمتغزغز إلى ثغور التبّت! وتحصّن بسمرقند ، وكان الرشيد قد وجّه إليه قائده هرثمة بن أعيَن في جيش ، فلم يزل هرثمة محارباً له وقتل جمعاً منهم وأخذ بأكظامهم حتّى ضرع رافع إلى الأمان فآمنه ، فخرج إليه بولده وأهل بيته وأمواله في المحرم سنة (١٩٤ ه‍) ، فكتب هرثمة بذلك إلى المأمون وكتب المأمون بذلك إلى الأمين (١).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٣٤ ـ ٤٣٦.

٥٥٨

وفاة أبي بكر بن عياش :

قال المسعودي : في سنة (١٩٣ ه‍) توفي أبو بكر بن عياش الكوفي الأسدي (مولاهم) بعد موت الرشيد بقليل (١) ملك موسى الهادي العباسي فولّى الكوفة موسى بن عيسى العباسي (٢) وكان عنده عبد الله بن مصعب بن الزبير ، ودخل عليه ابن عياش المقرئ الحنّاط فدعا له بمتّكأ وأدناه ، ولم يعرفه الزبيري فسأل موسى العباسي : من هو؟ قال : هذا فقيه الفقهاء ورأس هذا البلد! فقال الزبيري : إنّه لا كثير ولا طيب ، فلا يستحق كل ما فعلته به! فغضب العباسي وقال للزبيري : اسكت ، فبأبيك (جدك) غُدر ببيعتنا (بيعة علي عليه‌السلام) وبقوله الزور اخرجت امّنا (عائشة) وبابنه (عبد الله) هُدمت كعبتنا! وأحرى أن يخرج بك الدجّال فينا (٣)!

ثمّ لمّا مات موسى الهادي العباسي وملك الرشيد أرسل موسى بن عيسى إلى مصر وولّى الكوفة ابنه العباس بن موسى ، ونوح بن درّاج تلك الأيام على قضائها ، وقضى بكل الإرث للبنت ولم يورّث عمّها بالتعصيب ، ودخل أبو بكر بن عياش على العباس العباسي فقال له : يا أبا بكر ، أما ترى ما أحدث نوح في القضاء؟! إنّه طرح العصبة.

فقال ابن عياش : وما عسى أن أقول لرجل قضى بالكتاب والسنة؟! وكان العباس مستنداً فجلس مستوياً وقال متعجباً : وكيف قضى بالكتاب والسنة؟! فروى ابن عياش له أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لما قُتل حمزة بعث علياً فأتاه بابنة حمزة فسوّغها الميراث كلّه (٤).

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ٣٨٩.

(٢) تاريخ خليفة : ٢٩٤.

(٣) تاريخ بغداد ١٤ : ٣٧٥ ـ ٣٧٧.

(٤) التهذيب ٦ : ٣١٠ ـ ٣١١ وقد مرّ الخبر في نوح بن درّاج.

٥٥٩

وكان يقول في علي عليه‌السلام : لقد ضَرب علي ضربةً ما كان في الإسلام أعزّ منها ؛ ولقد ضُرب علي ضربة ما ضرب في الإسلام أشأم منها (١)!

وقد روى عن الصادق عليه‌السلام ، يدل عليه ما أسنده الكليني عن عبد الرحمن بن الحجاج قال : اشتريت محملاً فأعطيت بعض الثمن وتركته عند صاحبه ثمّ جئته لآخذه فإذا به قد باعه! فتحاكما إلى ابن عياش وكان يعرف ابن الحجّاج بالتشيع فقال له : بقول من تحب أن أقضي بينكما أبقول صاحبك أو غيره؟ قال : بل بقول صاحبي. قال : فقد سمعته يقول : من اشترى شيئاً فجاء بالثمن فيما بينه وبين ثلاثة أيام ، وإلّا فلا بيع له (٢).

ومع ذلك كان ينظر إليهم كاليهود والنصارى! قال أحمد بن يونس : قلت لابن عياش : لي جار «رافضي» مريض فأعوده؟ قال : لا تنو فيه الأجر بل كما تعود اليهودي والنصراني!

وقال «لرافضي» : هل في الدنيا قوم أجهل منكم؟! تزعمون أنّ هذا الأمر كان لصاحبكم (علي عليه‌السلام) فتركه في حياته وسلّمه لغيره ، ثمّ أنتم تبغون أن تأخذوا به له بعد وفاته (٣)!

ونقله الشيخ الشوشتري في «قاموس الرجال» وعلّق عليه (٤).

بداية تغيّر الأمين على المأمون :

قال السيوطي : قيل : إنّ الفضل بن الربيع حثّ الأمين على خلع المأمون

__________________

(١) الإرشاد ١ : ١٠٥.

(٢) فروع الكافي ٥ : ١٧٢.

(٣) تاريخ بغداد ١٤ : ٣٧٥ ـ ٣٧٧.

(٤) قاموس الرجال ١١ : ٢٣٩ برقم ٩٨.

٥٦٠