موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٦

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٤١

أيّها الناس ، إنّا نحتمل لكم كلّ لغوبة ما لم يكن عقد راية أو وثوباً على منبر! هذا عمرو بن سعيد وحقّه حقّه وقرابته قرابته ، قال برأسه هكذا (ورفع رأسه) فقلنا بسيفنا هكذا (وأشار إلى الارض) (١).

وزاد ابن الاثير : فإنّي لست بالخليفة المستضعف (يعني عثمان) ولا بالخليفة المداهن (يعني معاوية) ولا بالخليفة المأفون (يعني يزيد)! ألا وإنّي لا اُداوي هذه الأُمّة إلّا بالسيف حتّى تستقيم لي قناتكم! وأنّكم تحفّظوننا أعمال المهاجرين الأوّلين ولا تعلمون بها في أعمالكم! وتامروننا بتقوى الله وتنسون ذلك في أنفسكم! والله لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلّا ضربت عنقه١ ونزل (٢).

وأتاه علي بن عبدالله بن عباس فأعلمه ما لقي أبوه وأهل بيته من ابن الزبير لامتناعهم من بيعته! وأن أباه أوصاه ليلحق به! (فما الفرق؟).

ولمّا أراد ابن مروان الانصراف وقف فقال مشيراً إلى الكعبة : والله إني وددت أنّي تركت ابن الزبير وما تقلّد وأنّي لم أكن أحدثت فيها شيئاً! وأمر بحمل علي بن عبدالله بن عباس وعياله معه إلى المدينة ثمّ الشام!

فوافى المدينة ثانية في أوائل المحرم لعام (٧٦ هـ) فسلّط خطباءه عليهم بغليظ القول ، وكان بعض خطبائه يتكلّم إذ قام إليه محمّد بن عبدالله القارئ وقال له : كذبت لسنا كذلك! فأخذ الحرس يجرونه وبلغ ذلك عبدالملك فأرسل إليهم أن يُرسلوه فأرسلوه ، وقد ظنّ الناس أنّهم قاتلوه! وإنّما أقام عبدالملك بالمدينة ثلاثاً ثمّ انصرف إلى الشام ومعه علي بن عبدالله فأنزله داراً بدمشق (٣).

__________________

(١) تاريخ خليفة : ١٧١.

(٢) الكامل لابن الاثير ٤ : ٣٩١.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٧٤.

٤٦١

مناوشات الروم والخوارج :

ولعلّ غياب عبدالملك من قاعدة المُلك بجوار الروم جرّأهم على التقدّم نحو كورة أعماق قرب دابق بين أنطاكية وحلب ، فتلقّاهم دينار بن دينار وابان بن الوليد بن عقبة فهزمزهم (١).

وقد مرّ أنّ عبدالملك جعل أخاه محمّد بن مروان على موصل والجزيرة. وخرج الروم إلى العمق من ناحية مرعش فغزاهم محمّد بن مروان إلى الصائفة في سنة (٧٥ هـ) (٢).

وفي البحرين كان للنعمان المازني من عبدالقيس بستان بمئة جريب (فِدّان) فبعد أبي فديك الخارجي خرج داود بن النعمان هذا ، وقال له أبوه : دع هذا الرأي ولك بستاني هذا فأبى ، وخرج بجمعه إلى طفّ البصرة ، وكان الحجّاج بعث على البصرة الحكم بن أيوب الثقفي ، فوجّه الحكم إلى داود : عبّاد بن حصين في خيل ، فقتل داود (٣) وتفرّق جمعه.

وعوداً على عمل محمّد بن مروان على أرض الموصل والجزيرة : كان في بلدة دارا صالح بن مسرَّح التميمي الكوفي ومعه جمع من أصحابه يقرأ عليهم القرآن ويقرئهم ويفقّههم ويقصّ عليهم وهو ناسك صاحب عبادة مصفر الوجه ، وانكر ظلم المروانيّين فدعاهم إلى الخروج لانكار ظلمهم وجهاد المخالفين لهم ، فأجابوه (٤).

__________________

(١) تاريخ خليفة : ١٧٠.

(٢) تاريخ خليفة : ١٧١.

(٣) تاريخ خليفة : ١٧٠ ـ ١٧١.

(٤) تاريخ الطبري ٦ : ٢١٦ عن أبي مخنف ، وقيل له : الصُفرى وجماعته الصفرية من الخوارج.

٤٦٢

وكان من أصحابه شبيب بن يزيد الشيباني الكوفي وحجّوا سنة حجّ عبدالملك (٧٥ هـ) وسمعوا خطبه فهمّ شبيب بالفتك به لولا أن مُنع منه ، وعُلم خبرهم واُخبر بهم عبدالملك ، فبعد انصرافه من الحج كتب إلى الحجّاج يأمره بطلبهم ، وكانوا يأتون الكوفة فيقيمون بها بعض الشهور ، وطلبه الحجّاج وبلغه ذلك فخرج إلى الجزيرة (١).

وواعد أصحابه للخروج بهم ليلة الاربعاء أوّل شهر صفر سنة ستّ وأربعين (٢) في مئة وعشرين رجلاً راجلاً ، فقال لهم : إنّ عُظمكم رجّالة ، وهذه دوابّ لمحمّد بن مروان في هذا الرُستاق فشدّوا عليها وتقوّوا بها على عدوّكم. فخرجوا تلك الليلة فأخذوا تلك الدوابّ وركبوها.

وبلغ مخرجهم محمّد بن مروان فبعث إليهم عديّ بن عديّ الكندي وكان رجلاً عابداً يتنسّك في ألف فارس من حرّان (٣) فانهزم عديّ! فوجّه إليه محمّد بن مروان : خالد بن عبدالله السُّلمي والحارث بن جعونة العامري فاقتتلوا قتالاً شديداً ، وانحاز صالح التميمي إلى العراق فتركوه. فوجّه إليه محمّد بن مروان بالاشعث بن عُميرة الهمداني فالتقوا في جوخى بعد خانقين إلى خوزستان ، فاستخلف صالح : شبيب بن يزيد وقاتل حتّى قتل ، وقاتل شبيب حتى انصرف إلى الكوفة ، ومعه امرأته غزالة وقد نذرت ان تصلّي في جامعه ، فدخل شبيب وصلّت امرأته وقتل ناساً وخرج!

فوجّه إليه الحجّاج : زائدة بن قدامة الثقفي في جمع فالتقوا على الفرات واقتتلوا حتّى قُتل زائدة وهُزم جمعه!

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦ : ٢١٥.

(٢) تاريخ الطبري ٦ : ٢١٩.

(٣) تاريخ الطبري ٦ : ٢٢٠.

٤٦٣

فوجّه الحجّاج إليه : عبدالرحمان بن محمّد بن الاشعث الكندي فلم يتلاقوا للقتال.

فوجّه الحجّاج إليه : عثمان بن قطن الحارثي في آخر سنة ستّ وسبعين فقُتل عثمان وانهزم أصحابه!

فوجّه الحجاج اليه : عتّاب بن ورقاء الرياحي التميمي فلقيه في سواد الكوفة فقُتل عتّاب وانهزم أصحابه!

فوجّه إليه الحجّاج : الحارث بن معاوية الثقفي فالتقوا بمنزل زرارة فقُتل الحارث وانهزم أصحابه!

ثم خرج إليه الحجّاج في سنة (٧٧ هـ) فوجّه إليه أبا الورد مولى بني نصر فقتله شبيب وانهزم جمعه!

فوجّه إليه : طهمان من موالي عثمان بن عفّان ، فقتله شبيب وانهزم جمعه!

فخرج إليه الحجّاج في اليوم الرابع بنفسه فاقتتلوا قتالاً شديداً ، فلمّا جنّ الليل عبر شبيب الفرات الى الانبار ، فبعث الحجاج إليه حبيب بن عبدالرحمان الحكمي في ثلاثة آلاف فلقيه بالانبار ، فقاتلا الى الليل ، فسار شبيب ليلاً إلى الاهواز ثمّ سار الى كرمان وعاد الى الاهواز فبعث الحجّاج اليه حبيب بن عبدالرحمان الحكمي وسفيان بن الابرد الكلبي فالتقوا عند جسر دُجيل فاقتتلوا حتّى الليل ثمّ عبر الجسر فقطع به فغرق (١) وتفرّق جمعه ، واستخرج سفيان جسد شبيب فحزّ رأسه ووجّه به إلى الحجّاج في سنة (٧٨ هـ).

وفي أرض جوخي بين الاهواز وخانقين خرج بعد شبيب الشيباني : أبو زياد المرادي ، فوجّه إليه الحجّاج بالجرّاح بن عبدالله الحكمي فلقيه بالفلوجة فقتله.

__________________

(١) تاريخ خليفة : ١٧٢ ـ ١٧٣.

٤٦٤

وبالبحرين مرّة اخرى خرج من عبد القيس أبو معبد العبدي ، وكان عامل البصرة من قبل الحجّاج : الحكم بن أيوب الثقفي فبعثه إليه فخرج إليه وقاتله وقتله وفرّق جمعه (١).

ضرب النقود الإسلامية :

كانت مصر عند الفتح الإسلامي في حكم الروم ، وكانت صناعة القراطيس فيها رومية نصرانيّة قبطيّة تبعا لأكثرهم ، وأصبح المسلمون يستعملونها كما هي ، وكان عليها طراز بالرومية مغفولا عنه ، ولعلّ هذه المناوشات الروميّة الأخيرة بعثت عبد الملك أن يطلب ترجمة ذلك الطراز وإذا هو : باسم الأب والابن وروح القدس!

وكان هذا يطرّز على الأقمشة للستائر والثياب أيضا ، فلمّا ترجم له قال : ما أغلظ هذا في أمر الدين والإسلام! وكان على مصر أخوه عبد العزيز فكتب إليه أن ينهاهم عنه ويأمرهم أن يبدّلوها بصورة التوحيد : «شهد الله انّه لا إله إلّا هو ...» أو بسورة التوحيد. وكتب إلى الآفاق بإبطال ذلك ومعاقبة من وجد عنده بعد النهي شيء منه بالضرب الوجيع والحبس الطويل! ففعلوا ذلك وعملوه.

وحملت القراطيس إلى الروم وإلى ملك الروم (٢) بطراز التوحيد بالخطّ العربي ، وترجم ذلك له فأنكره وغلظ عليه واستشاط غيظا إلّا أنّه أرسل إلى عبد الملك بهدية وكتاب يطلب منه أن يرد الطراز الرومي! فردّ عبد الملك الهديّة والكتاب بلا جواب. فكتب ملك الروم إليه : «لتأمرنّ بردّ الطراز إلى ما كان عليه ،

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٧٥.

(٢) لعلّه بوسطين بانوس (الثالث) وانظر مختصر تاريخ الدول : ١١٢ ولم يذكر هذا الخبر!

٤٦٥

أو لآمرنّ بنقش الدنانير (١) بشتم نبيّك! وإنّك تعلم أنّه لا ينقش منها شيء إلّا ما ينقش في بلادي»! فحبس رسوله.

واستشار عبد الملك أصحابه لذلك فقال له روح بن زنباع الجذامي : إنّك لتعلم المخرج من هذا الأمر ولكنّك تتعمّد تركه! فقال : ويحك من؟ قال : «عليك بالباقي (٢) من أهل بيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال : صدقت ولكنّه ارتج عليّ الرأي فيه!

ثمّ كتب إلى عامل المدينة : أن أشخص إليّ عليّ بن الحسين مكرّما ... فلمّا وافاه أخبره الخبر ، فقال عليه‌السلام : لا يعظم هذا عليك ، فإنّه ليس بشيء من جهتين : إحداهما : أنّ الله عزوجل لم يكن ليطلق ما تهدّد به صاحب الروم في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله! والأخرى : وجود الحيلة فيه. فقال عبد الملك : وما هي؟ قال : تدعو في هذه الساعة بصنّاع يضربون بين يديك سككا .. وتجعل النقش عليها سورة التوحيد في وجه وذكر رسول الله في الوجه الثاني ، وتجعل في مدارها ذكر البلد الذي يضرب فيه والسنة. ثمّ فصّل ذلك حسب أوزان الدراهم والدنانير (٣) وضرب الحجّاج بالعربية أيضا بالعراق (٤).

__________________

(١) في الخبر عطف الدراهم ؛ وهو وهم ، لأنّ الدرهم المتداول يومئذ لم يكن رومّيا وإنّما كان فارسّيا ، وراجع حوادث عام (٤٠ ه‍).

(٢) الخبر في كتاب المحاسن والمساوي للبيهقي (ق ٥ ه‍) ٢ : ٢٣٢ و ٤٦٨ ، ط. ٢ ، وللخبر نسختان ففي نسخة كما ذكرنا ، وفي نسخة : الباقر عليه‌السلام ولا يصحّ ، لحياة أبيه السجاد عليه‌السلام ، والباقر يومئذ دون العشرين من عمره!

(٣) المصدر السابق. وفي دائرة المعارف البريطانية ١٧ : ٩٠٤ : كان ذلك سنة (٧٦ ه‍) الموافقة لسنة (٦٩٥ ه‍). وانظر مقال أخينا السيّد المرتضى في دراسات وبحوث : ١٢٧ ـ ١٣٧.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٨١.

٤٦٦

وقتال الخوارج الأزارقة وغيرهم :

قال اليعقوبي : وألحّ الحجّاج في قتال الأزارقة فجادّهم المهلّب بن أبي صفرة الأزدي فما زال يهزمهم من منزل إلى منزل حتّى انتهى بهم إلى سجستان فقتل هناك من رؤسائهم عطيّة بن الأسود الحنفي التميمي. وصاروا إلى كرمان مع رئيسهم قطريّ بن فجاءة ، ثمّ عثروا على كذبة منه فاستتابوه فأبى أن يوجب على نفسه التوبة فخلعوه! فلما امتنع أن يجيبهم إلى التوبة فيوجد لهم السبيل إلى خلعه. كان في جمعه رجلان يسمّيان بعبد ربّه وقع بأسهم بينهم وانحاز كل واحد منهما في جيش مخالفا لقطري ، فقصد المهلّب عبد ربّه الصغير حتّى قتله ، ثمّ قصد عبد ربّه الكبير وفرّق جمعه.

ولكن بقي مع ذلك قطريّ في اثنين وعشرين ألفا! فصاروا إلى طبرستان ، فأرسل إلى إصبهبدها يسأله أن يدخل بلاده فسمح له وفعل ، فلمّا سمن دوابّهم وبرئ جرحاهم عرض قطري الإسلام على الإصبهبد أو يؤدّي الجزية صاغرا وأنه لا يجوز في ديننا غير هذا! فخرج الإصبهبد يحاربه فانهزم إلى سفيان بن الأبرد الكلبي وهو يومئذ عامل الريّ وقد تهيّأ لقتال الأزارقة ، فأدخله إلى طبرستان من طريق مختصرة. فقتل قطريّا وبعث برأسه إلى الحجّاج سنة (٧٩ ه‍) (١).

وكان على البحرين زياد بن الربيع الحارثي الهمداني فعزله زياد وولّى محمّد بن صعصعة الكلابي على البحرين وعمان ، ومن قرية طاب من قرى الخط (القطيف اليوم) بالبحرين خرج عليه الريان النكري ومعه جيداء الأزديّة فهرب منه الكلابي ، فبعث الحجّاج يزيد بن أبي كبشة فلقي النكري في ميدان الزارة فقتل الريان وجيداء وعامة أصحابهما (٢).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٧٥ ـ ٢٧٦.

(٢) تاريخ خليفة : ١٧٤ ـ ١٧٥.

٤٦٧

ميلاد زيد للسّجاد عليه‌السلام :

من أم ولد أهداها المختار الثقفي للسجاد عليه‌السلام ولدت أربعة أولاد ، خديجة وعليا وزيدا (١) قبل الثمانين للهجرة (٢). وفي تسميته بزيد روى الحلّي عن ابن قولويه عن بعض أصحاب السجاد عليه‌السلام قال : كان إذا صلّى الفجر لم يتكلّم (إلّا بالتعقيب) حتّى تطلع الشمس ، فجاءوه يوما وبشّروه بولادة ولد له بعد الفجر ، وسمع ذلك من حوله فسألهم : ما تروني أن اسمي هذا المولود؟ فقال كلّ منهم : سمّه كذا وسمّه كذا. فالتفت إلى غلامه وقال له : يا غلام عليّ بالمصحف. فجاءه بالمصحف فوضعه في حجره وفتحه ونظر إلى أول الورقة (يمينا) فإذا فيه : (فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً)(٣) فأطبقه ثمّ فتحه ونظر في أول الورقة «يمينا» فإذا فيه : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)(٤) فقال يكرّر : هو والله زيد ، هو والله زيد ، فسمى زيدا (٥).

وقد روى الباقر عن أبيه السجاد عن أبيه الحسين عليهم‌السلام : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال له : يا حسين : يخرج من صلبك رجل يقال له : زيد ، تخطّى هو وأصحابه

__________________

(١) مقاتل الطالبين : ٨٩.

(٢) المصدر السابق : ٨٨ و ٩٢.

(٣) النساء : ٩٥.

(٤) التوبة : ١١١.

(٥) السرائر ٣ : ٦٣٨ ، ٧٣٦.

٤٦٨

يوم القيامة رقاب الناس غرّا محجّلين ، يدخلون الجنة بغير حساب (١). وعليه فالسجّاد عليه‌السلام كان على علم بذلك لمّا تفأل لاسمه بكتاب الله وتكررّت آيات الجهاد والشهادة شهد ذلك بأنه هو فسمّاه زيدا بتسمية النبيّ له (٢).

وفاة ابن جعفر وابن الحنفيّة :

في سنة ثمانين توفّي عبد الله بن جعفر بن أبي طالب (٣) وكان جوادا سخيّا ، ومات بدعائه : إذ أتاه آت يسأله معونته على أمره ولم يكن يحضره ما يعينه به ، فخلع ثيابه عليه ثمّ دعا فقال : اللهمّ إن نزل بي بعد اليوم حقّ لا أقدر على قضائه فأمتني قبله! فمات في يومه ذلك (٤).

وقال المسعودي : في سنة ثمانين كان الطاعون العامّ بالعراق والجزيرة والشام ومصر والحجاز ، فلمّا قلّ مال ابن جعفر سمع يوم الجمعة في المسجد الجامع (؟) يقول : اللهمّ إنّك قد عوّدتني عادة فعوّدتها عبادك ، فإن قطعتها عنّي فلا تبقني! فمات في تلك الجمعة ، وقد ولد في هجرة والديه إلى الحبشة ،

__________________

(١) أمالي الصدوق : ٤٠٨ ، الحديث ٥٢٩ ، المجلس ٩ ، وعيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٤٧٨ ، الحديث ١٨٨.

(٢) وفي مقاتل الطالبيين : ٨٨ : بسنده عن عبد الله بن محمّد بن الحنفية : أنّه مرّ به زيد بن علي (وهو صبيّ) فرقّ له وأخذه وأجلسه عنده وقال له : يابن أخي! أعيذك بالله أن تكون زيدا المصلوب بالعراق! ولا ينظر أحد إلى عورته ولا إليه إلّا كان في أسفل درك من جهنّم! وعليه فهو كان صبيّا يدرج قبل وفاة ابن الحنيفة ، وسيأتي لا حقا.

(٣) تاريخ خليفة : ١٧٦ واليعقوبي ٢ : ٢٧٧ والمسعودي ٣ : ١٦٧.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٧٧.

٤٦٩

وصلّى عليه والي المدينة أبان بن عثمان بن عفّان ، وحين أملق عبد الله وافتقر تزوج الحجّاج بإحدى بناته (١) وإنمّا تزوّج الحجّاج بابنته ليبتذل أو يذل بذلك آل أبي طالب (٢) ولعلّه كان قبل أن ينتقل الحجّاج إلى العراق.

وقال ابن قتيبة : كانت أمّ كلثوم ابنة عبد الله بن جعفر لزينب بنت عليّ عليه‌السلام تزوّجها القاسم ابن عمّها محمّد بن جعفر ، ثمّ تزوّجها الحجّاج بن يوسف! كما تزوّج ابنته الاخرى : أمّ أبيها عبد الملك بن مروان (٣)! ومع ذلك افتقر وأملق قهرا!

وقال في محمّد بن علّي المعروف بابن الحنفيّة : إنّه هرب من ابن الزبير إلى الطائف فمات بها سنة إحدى وثمانين وهو ابن خمس وستّين (٤) ونقل قوله المسعودي ولكنّه اختار أنّه توفي في المدينة وأذن أكبر ولده أبو هاشم عبد الله لوالي المدينة أبان بن عثمان بن عفّان أن يصلّي عليه فصلّى عليه ودفن بالبقيع (٥).

وقال النوبختي : فلمّا توفي محمّد بن الحنفيّة بالمدينة في المحرّم سنة إحدى وثمانين وهو ابن خمس وستّين سنة تفرّق أصحابه على ثلاث فرق :

ففرقة تبعت من أصحابه ابن كرب وهو قال : إنّ محمّد بن الحنفيّة هو المهدي فلا يجوز (يمكن) أن يموت ، بل غاب لا يدرى أين. ولا إمام بعد غيبته ، بل يزعمون أنّ محمّد بن الحنفيّة سيظهر بنفسه بعد الاستتار ينزل إلى الدنيا ويكون أمير المؤمنين ويملك الأرض ، وهذه هي آخرتهم!

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ١٦٧.

(٢) مروج الذهب ٣ : ١٦٩.

(٣) المعارف : ٢٠٧.

(٤) المعارف : ٢١٦.

(٥) مروج الذهب ٣ : ١١٦.

٤٧٠

وفرقة قالت : إنّ محمّد بن الحنفيّة لم يمت بل هو حيّ مقيم بجبال رضوى بين مكّة والمدينة ، وهو عندهم الإمام المنتظر الذي بشّر به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنّه يملأ الأرض عدلا وقسطا ، عن يمينه أسد وعن يساره أسد أو نمر يحفظانه إلى أوان قيامه ومجيئه وخروجه ، تغدو عليه الآرام (الغزلان) وتروح فيشرب من ألبانها ويأكل من لحومها!

وفرقة منهم قالت : إنّ محمّد بن الحنفيّة أوصى إلى أكبر ولده أبي هاشم عبد الله بن محمّد فهو الإمام بعده ، وغالوا فيه وقالوا بأنّه هو المهدي وهو يحيي الموتى ولا يموت (١) وكانت شيعة أبيه تتولّاه ولا عقب له ، وكان عند موته بالشام وعنده محمّد بن علي بن عبد الله بن العباس فأوصى إليه وقال له : أنت صاحب هذا الأمر وهو في ولدك! ودفع إليه كتبه (؟!) وصرف شيعته إليه (٢).

هذا ، وقد روى الكليني بطريقين إلى زرارة وأبي عبيدة عن الباقر عليه‌السلام : أنّ علي بن الحسين عليه‌السلام أخبر ابن الحنفية : أنّ أباه الحسين عليه‌السلام كان أوصى إليه قبل أن يتوجّه إلى العراق وعهد إليه بالإمامة والوصيّة قبل شهادته وأودعه سلاح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ثمّ تحاكم معه إلى الحجر الأسود لينطق بالحقّ بحيث يسمعانه ، فانطلقا وبدأ ابن الحنفيّة فلم يجبه ، ثمّ دعا عليّ بن الحسين عليه‌السلام فأنطق الله الحجر بلسان عربي مبين : أنّ الإمامة والوصيّة بعد الحسين إلى عليّ بن الحسين عليهما‌السلام ، فانصرف ابن الحنفيّة وهو يتولّى علّي بن الحسين عليهما‌السلام (٣).

__________________

(١) فرق الشيعة : ٢٧ ـ ٣١.

(٢) المعارف لابن قتيبة : ٢١٧ ، وفرق الشيعة : ٣٣ وقال : بل افترق أصحابه أربع فرق : ٣١.

(٣) أصول الكافي ١ : ٣٤٨ ، الحديث ٥ ، الباب ٨١ ، كتاب الحجة.

٤٧١

وروى الطبرسي عن الصادق عليه‌السلام : أنّ أبا خالد وردان الكابلي كان يقول بإمامة ابن الحنفيّة فسمعه يخاطب عليّ بن الحسين يقول : يا سيّدي! فسأله عن ذلك فقال له : إنّه حاكمني إلى الحجر الأسود فصرت إليه فسمعته يقول لي : سلّم الأمر إلى ابن أخيك فإنّه أحقّ به منك (١).

وعليه ، فهو كان يدّعي الإمامة أوّلا ثمّ أذعن للحقّ ، ولم يذعن له أبناؤه وأصحابهم كلّهم.

الحجّاج وعبد الرحمان بن الأشعث :

ولي الحجّاج العراقين وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة! وله أربعة بنين : محمّد وأبان وعبد الملك ، والوليد (٢)! وأراد استمالة قوم الأشعث بن قيس الكندي إليه فتزوّج ميمونة بنت محمّد بن الأشعث قتيل المختار لابنه محمّد وهو غلام مراهق! ليكونوا له يدا على من ناوأه. وكان لها أخ يقال له : عبد الرحمان بن محمّد بن الأشعث ، وكان بهيّا جميلا منطيقا وله ابّهة في نفسه ، فألحقه الحجّاج بأفاضل أصحابه وأهل سرّه وخاصّته بل ألزمه بنفسه ، وأجرى عليه العطايا الواسعة صلة ، لصهره ولإتمام الصنيعة إليه وإلى جميع أهله ، فملأه كبرا وفخرا وتطاولا ، حينا من الدهر.

ثمّ كتب له عهدا على سجستان (٣) ووجّه معه الحجّاج بعشرة آلاف منتخب (٤) جيشا كثيفا حسن العدّة حتّى سمّى جيش الطواويس ، لغزو رتبيل ملك

__________________

(١) إعلام الورى ١ : ٤٨٦.

(٢) المعارف : ٣٩٧ ـ ٣٩٨.

(٣) الإمامة والسياسة ٢ : ٣٦ ـ ٣٧.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٧٧.

٤٧٢

زابلستان (١) وكل ملك يلي هذا الصقع من بلاد الهند! يقال له رتبيل (٢) فلمّا صار إلى سجستان أقام في بست وضبط أطرافه ، ثمّ سار يريد رتبيل ملك البلد فلمّا أوغل في بلاده خاف الكمين فرجع إلى بست وكتب إلى الحجّاج يعلمه أنّه أخّر غزو رتبيل إلى العام المقبل فكتب إليه الحجّاج ينسبه إلى العجز ويغلظ له ويتوعّده فيه ، فجمع أطرافه إليه وحرّضهم على الحجّاج ودعاهم إلى خلعه فأجابوه وبايعوا له لبغضهم الحجّاج وسطوته (٣).

وكان في عسكره أيوب بن القريّة التميمي وكان كليما مفوّها ، فسأله أن يصدر رسالة إلى الحجّاج يخلع فيها طاعة الحجّاج ، فكتب له ابن القريّة رسالة فيها :

بسم الله الرحمنِ الرحيم من عبد الرحمان بن محمّد بن الأشعث! إلى الحجّاج بن يوسف ، سلام على أهل طاعة الله وأوليائه الذين يحكمون بعدله ويوفون بعهده ، ويجاهدون في سبيله ويتورعون لذكره ، ولا يسفكون دما حراما ولا يعطّلون للربّ أحكاما ولا يدرسون له أعلاما ، ولا يتنكّبون النهج ولا يسارعون في الغيّ ، ولا يدلّلون الفجرة ولا يتراضون الجورة ، بل يتمكّنون عند الاشتباه ، ويتراجعون عند الإساءة.

أمّا بعد ؛ فإنّي أحمد إليك الله حمدا بالغا في رضاه ، منتهيا إلى الحقّ في الامور الحقيقيّة عليه لله. وبعد فإنّ الله أنهضني لمصاولتك وبعثني لمناضلتك ، حين تحيّرت امورك وتهتّكت ستورك ، فأصبحت عريان حيران مبهتا ، لا توافق وفقا ولا ترافق رفقا ولا تلازم صدقا.

__________________

(١) التنبيه والإشراف : ٢٧١.

(٢) مروج الذهب ٣ : ١٣١.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٧٧ ، والتنبيه والإشراف : ٢٧١.

٤٧٣

أؤمّل من الله الذي ألهمني ذلك أن يصيّرك في حبالك ويسحبك للذقن ، وينصف منك من لم تنصفه من نفسك ، ويكون هلاكك بيدي من اتّهمته وعاديته. فلعمري لقد طالما تطاولت وتمكّنت وأخطيت وخلت أن لن تبور وأنّك في فلك الملك تدور! وستخبر مصداق ما أقول عن قريب!

فسر لأمرك ولاق عصابة خلعتك من حبالها خلعها نعالها! لا يحذرون منك جهدا ولا يرهبون منك وعيدا! يتأمّلون خزايتك وهم عطاشى إلى دمك ويستطعمون الله لحمك ، يحاولونك به على طاعة الله وقد شروا أنفسهم تقرّبا إلى الله! فأغض عن ذلك يابن امّ الحجّاج ، فسنحمل عليك إن شاء الله ، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله ، والسلام على أهل طاعة الله (١).

خطبة الحجّاج على ابن الأشعث :

قال ابن قتيبة : فلمّا ورد الكتاب على الحجّاج أمر فنودي : الصلاة جامعة ، فاجتمع الناس ، فخرج إليهم قد أخذ بطرف ردائه ويجرّ ذيله من خلفه حتّى صعد المنبر وقال فيما قال :

العجب العجب ، وما هو أعجب! من العير الأبتر! أني وجّهته ومن معه من المنافقين ، فانطلقوا في نحور العدو ، ثمّ أقبلوا على راياتهم لقتال أهل الإسلام ؛ من أجل عير أبتر! على حين أننا قد أمّنا الخوارج وأطفأنا الفتن ، فتتابعت الفتن إليهم! فكان من شكركم ـ يا أهل العراق ـ ليد الله فيكم ونعمته عليكم وإحسانه إليكم! جرأتكم على الله وانتهاككم حرمته واغتراركم بنعمته! ألم يأتكم شبيب مهزوما ذليلا؟! فقبحت تلك الوجوه! فما هذا الذي يتخوّف منكم يا أهل العراق؟! والله لقد أكرمنا الله بهوانكم! وأهانكم بكرامتنا في مواطن شتّى تعرفونها وتعرفون أشياء

__________________

(١) الإمامة والسياسة ٢ : ٣٧ ـ ٣٨.

٤٧٤

حرّمكم الله اتّخاذها .. أرى الحزام قد بلغ الطبيين والتقت حلقتا البطان .. أنا ابن العرقية وابن الشيخ الأعزّ! كذبتم وربّ الكعبة! ما الرأي كما رأيتم ولا الحديث كما حدّثتم ، فافطنوا لعيوبكم وإيّاكم أن أكون وأنتم كما قال :

إنّك إن كلّفتني ما لم أطق

ساءك ما سرّك منّي من خلق!

والمخبر بالعلم ليس كالراجم بالظنون ، فالتقدّم قبل التندّم ، وأخو المرء نصيحته! ثمّ أنشد :

لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا

وما علّم الإنسان إلّا ليعلما

ثمّ قال : احمدوا ربّكم ، وصلّوا على نبيّكم صلى‌الله‌عليه‌وآله. ثمّ نزل.

وكان كاتبه مولاه نافع فقال له : يا نافع اكتب : بسم الله الرحمنِ الرحيم ، من الحجّاج بن يوسف إلى عبد الرحمان بن الأشعث ، سلام على أهل النزوع من الزيغ .. فإني أحمد الله الذي خلّاك في حيرتك حتّى أقحمك أمورا أخرجك بها عن طاعته وجانبت بها ولايته! وعسكرت بها في الكفر وذهلت بها عن الشكر! فلا تشكر في السرّاء ولا تصبر في الضرّاء .. أقبلت تستوقد الفتنة لتصلى بحرّها وجلبت لك ولغيرك ضرّها .. وعزة ربك لتكبّن لنحرك وتقلبنّ لظهرك ، ولتدحضنّ حجّتك ، ولتذمّن مقامك ، كأنّي بك تصير إلى غير مقبول منك إلّا السيف ، عند كشوف الحروب عن ساقها ومبارزة أبطالها! والسلام على من إلى الله أناب وسمع وأجاب (١).

سعيد بن جبير إلى ابن الأشعث :

قال ابن قتيبة : اتي إلى الحجّاج بسعيد بن جبير ـ وكان من موالي بني والبة من بني أسد (٢) ـ فقال له : انطلق بهذا الكتاب إلى هذا الطاغية الذي قد فتن وفتن

__________________

(١) الإمامة والسياسة ٢ : ٣٨ ـ ٤٠.

(٢) المعارف : ٤٤٥ ، ولكنّه في الإمامة والسياسة نسبه إلى بني الأشعث بن قيس ، ولا يصحّ.

٤٧٥

فاردعه عن قبيح ما دخل فيه ، وعظيم ما أصرّ عليه ، وحرمة ما انتهك عدوّ الله من حقّ الله! إلى ما في ذلك من سفك الدماء وإباحة الحريم وإنفاق الأموال ، ولو لا معرفتي بأنّك قد حويت علما وأصبت فقها ... فخرج سعيد متوجّها إليه.

فلمّا قرأ عبد الرحمن الكتاب أو سمع به ارتعش هيبة له وجزعا منه وتبيّنت رعشته! وكتم الكتاب وجعل يستخلي بابن جبير فيسمر معه ليلا ويسأله الدخول معه فيما رأى من خلع الحجاج ، ومكث بذلك شهرا وسعيد يأبى ذلك عليه ، ثمّ أجابه إليه (١).

ودعا أبا عمر ذرّ بن ذرّ الهمداني القاصّ ، فكساه ووصله وأمره أن يحضّض الناس على الحجّاج ، فكان كلّ يوم يقصّ للناس فينال من الحجّاج وذلك في سنة إحدى وثمانين (٢).

وكتب إلى رتبيل ملك الهند أن يصالحه فيقف عنه أو يلجأ إليه إن شاء ، وكتب كتابا بينهم على ذلك. واستخلف رجلا من قبله على سجستان وخرج منها (٣) وكتب إلى المهلّب بن أبي صفرة وهو يحاصر بلدي كش ونسف من بلاد خراسان الكبرى في سنة (٨١) ، يدعوه إلى خلع الحجاج ، فانصرف عنهم المهلّب (٤).

وسار عبد الرحمن راجعا لإخراج الحجّاج من العراق ومسألة عبد الملك إبدالهم به ، ولكنّه لما عظمت جموعه ولحق به كثير من أهل العراق ورؤسائهم ونسّاكهم عند قربه منها خلع عبد الملك في اصطخر فارس ، وسمّى نفسه «ناصر المؤمنين».

__________________

(١) الإمامة والسياسة ٢ : ٤٠.

(٢) تاريخ خليفة : ١٧٦.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٧٨.

(٤) تاريخ خليفة : ١٧٥.

٤٧٦

وكان ممّا شاع من قبل في اليمنيّين أن رجلا من قحطان يعيد الملك فيها فهم كانوا ينتظرونه ، وأن اسمه على ثلاثة أحرف! فادعى أنه هو وأن أصل اسمه «عبد» والرحمن خارج عن اسمه (١)!

وقدم لأي بن شقيق السدوسي على الحجّاج فأخبره ، فحمله من ساعته إلى عبد الملك ، فردّه عبد الملك إلى الحجّاج يأمره بالتشمير والجدّ حتّى تأتيه الجنود (٢) وكتب إليه : لعمري لقد خلع طاعة الله بيمينه وسلطانه بشماله وخرج من الدين عريانا! وإنّي لأرجو أن يكون هلاكه وهلاك أهل بيته واستئصالهم في ذلك على يدي أمير المؤمنين! وما جوابه عندي في خلع الطاعة إلّا قول القائل :

أناة وحلما وانتظارا بهم غدا

فما أنا بالواني ولا الضّرع الغمر (٣)!

قتال الأهواز ، وزاوية البصرة :

ورأى الحجّاج أنّ حجّة ابن الأشعث الكندي الكوفي في الكوفة أقوى من حجّة الحجّاج بها ، فسار إلى البصرة ، وبلغ ذلك ابن الأشعث فسار إليه (٤) حتّى لقيه دون شوشتر بسبعة فراسخ (٥) في دير من ديار الأهواز يسمّى جنديشابور (٦)

__________________

(١) التنبيه والإشراف : ٢٧٢ ، وفي مروج الذهب ٣ : ١٣١ : أنّه خلع عبد الملك في بلاد كرمان قبل فارس.

(٢) تاريخ خليفة : ١٧٦.

(٣) مروج الذهب ٣ : ١٣١.

(٤) مروج الذهب ٣ : ١٣١.

(٥) التنبيه والإشراف : ٢٧٢.

(٦) الإمامة والسياسة ٢ : ٤١ وفيه : نيشابور ، خطأ.

٤٧٧

وكان ذلك يوم عيد النحر (الأضحى) (٨٢ ه‍) فالتقوا للقتال (١) فقتل من أنصار الحجّاج ثمانية آلاف (٢) فانكشف الحجّاج راجعا حتّى دخل البصرة ، وتبعه ابن الأشعث.

وكان عامل الخراج للحجّاج على البصرة قادان فرّخ فارسيّا فأشار عليه قال : اخرج له عن البصرة ؛ فالبصريون معه إذا شمّوا أولادهم ونساءهم قعدوا عنه!

فقبل الحجّاج مشورته وخرج إلى ناحية طفّ البصرة ، ودخلها ابن الأشعث فكان كما قال الفارسي : قعد عنه عامّة من كان معه من أهل البصرة ، حتّى سمع مناديه يناديهم : أين الذين بايعوا بالرخج؟! وقعد ابن الأشعث على المنبر يتوعّد الذين يتخلّفون عنه توعّدا شديدا!

ثمّ خرج ابن الأشعث فلقي الحجّاج بالزاوية فاقتتلوا قتالا شديدا (٣) ونزل ابن الأشعث بالخريبة وذلك في أوائل سنة (٨٣ ه‍) فأقاموا يقتتلون نحوا من شهرين! ثمّ بدا لابن الأشعث أن يتغلّب على الكوفة فخرج إليها ليلا بشطر من أصحابه الكوفيّين. وافتقده البصريّون صباحا (٤) بلا خليفة له ، وكان عندهم عبد الرحمان بن العباس بن ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب الهاشمي فقالوا له : إنّه تركنا ولحق بالكوفة وهذا الفاسق منيخ علينا! فبايعهم وسار إلى الحجّاج بالزاوية فقاتله فهزمه الحجّاج فلحق بالكوفة (٥).

__________________

(١) تاريخ خليفة : ١٧٦.

(٢) التنبيه والإشراف : ٢٧٢.

(٣) تاريخ خليفة : ١٧٧.

(٤) التنبيه والإشراف : ٢٧٢.

(٥) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٧٨.

٤٧٨

وقائع دير الجماجم وظهر المربد وحراة :

دخل ابن الأشعث الكوفة ، فكتب الحجّاج كتابا إلى عبد الملك يذكر فيه كثرة جيوش ابن الأشعث ويستنجده ويسأله الإمداد وقال في كتابه (١) : أمّا بعد فياغوثاه ثمّ يا غوثاه! فلمّا قرأ عبد الملك الكتاب كتب إليه : أمّا بعد ، فيا لبّيك ثمّ يا لبّيك ثمّ يا لبّيك (٢)! وأمدّه بجيوش الشام مع أخيه محمّد بن مروان من الجزيرة ، وابنه عبد الله بن عبد الملك ، وسار الحجّاج حتّى نزل دير قرّة ، وخرج ابن الأشعث من الكوفة إلى دير الجماجم ، فاقتتلوا بدير الجماجم نحوا من أربعة أشهر ، في نحو من ثمانين وقعة! وابن الأشعث في ثمانين ألفا ، ودونه الحجّاج ، وقتل منهم جمع كثير ، وسار ابن الأشعث إلى البصرة فتبعه الحجّاج فخرج منها ، فالتقوا بأرض مسكن ، فهزم أهل العراق (الكوفة) وقتلوا قتلا ذريعا ، ومضى ابن الأشعث في من تبعه إلى سجستان (٣) فأتى مدينة زرنج وعليها عبد الله بن عامر فامتنع عليه ، فمضى إلى بست وعليها عياض بن عمرو فدبّر أن يغدر به ويتقرّب به إلى الحجّاج! فأدخلهم (٤).

وقال العصفري البصري : إنّ الأشعث سار إلى خراسان أوّلا ، فاجتمع فلّ عسكره (البصري) على عبد الرحمان بن العباس بن ربيعة الهاشمي أيضا فاقتتلوا بظهر مربد البصرة ثلاثة أيام ثمّ انهزموا فتبعوا عبد الرحمان إلى خراسان ، فتركهم ابن الأشعث وسار إلى سجستان.

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ١٣٢.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٧٨.

(٣) التنبيه والإشراف : ٢٧٢.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٧٨.

٤٧٩

وكان على خراسان ابنا المهلّب : يزيد والمفضّل على هراة ، فلقيهم فهزمهم وأسر ناسا منهم محمّد بن سعد بن أبي وقّاص وبعث به إلى الحجّاج فقتله (١).

قال : وكان قد خرج مع ابن الأشعث خمسمئة من القرّاء كلّهم يرون القتال معه على الحجّاج وبني مروان ، وسمّى خمسا وعشرين رجلا منهم ، منهم من أهل البصرة : الحسن بن أبي الحسن البصري قيل أخرج كرها فلم يقتل ، أخرجه ابن الأشعث لمّا قيل له : إن أحببت أن يقتّلوا حولك كما قتّلوا حول جمل عائشة فأخرجه! ومن أهل الكوفة سعيد بن جبير مولى أسد ، وعامر الشعبي وعبد الرحمان بن أبي ليلى ، والنضر بن أنس بن مالك وأبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود ومحمد بن سعد بن أبي وقاص وعطاء بن السائب مولى ثقيف (٢) وسعد مولى حذيفة ، وأبو البختري مولى بني طيء ، وطلبه الباقون منهم يوم دير الجماجم ليؤمّروه عليهم فقال : أنا رجل من الموالي فأمّروا رجلا من العرب! فأمّروا جبلة أو جهم بن زحر بن قيس الجعفي! وكان كثير منهم قد حلقوا رؤوسهم (٣) شعار الشراة الخوارج. وكانت الهزيمة لأربع عشرة ليلة خلت من جمادى الاولى سنة (٨٢ ه‍) وبعدها في شعبان.

وفي وقعة ظهر المربد آخر المحرّم وأول صفر ، كان مع أبي عمر كثير مولى عنزة بيّاع الكتّان مئتان من الموالي فأتبعهم من قوّاد الحجّاج : سفيان بن الأبرد الكلبي حتّى دخلوا البصرة فقتلهم ثمّ رجع فقتل من لقى منهم أربعمئة أو أكثر (٤).

__________________

(١) تاريخ خليفة : ١٧٨ ـ ١٧٩ وفي الإمامة والسياسة ٢ : ٥٠ أنّهم كانوا بقلعة بأرض فارس ، وهو أولى.

(٢) تاريخ خليفة : ١٨١.

(٣) تاريخ خليفة : ١٧٨.

(٤) تاريخ خليفة : ١٨٠ ، ١٨٩.

٤٨٠