موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٦

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٤١

الهمداني ليستحضرا المختار إلى الأمير ، فذهبا إليه فإذا على باب داره أصحابه وفي داره منهم جمع كثير ، ودخلا إليه وقالا له : أجب الأمير ، فأمر بإسراج فرسه ودعا بثيابه ليذهب معهما ، فلمّا رأى ذلك زائدة قرأ قول الله تعالى : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ...)(١) وكان المختار قد لبس ثيابه فألقاها وجلس وقال : إنّي لأجد قفقفة (رجفة) شديدة ما أراني إلّا قد وعكت ألقوا عليّ القطيفة! وارجعا أنتما إلى ابن مطيع (كذا بدون لقب الأمير) فأعلماه حالي التي أنا عليها. قالا : فأقبلنا إلى ابن مطيع فأخبرناه بشكواه وعلّته فصدّقنا ، ولها عنه (٢).

حنفيّ يتحرّى إذن ابن الحنفية :

في منزل سعر بن أبي سعر الحنفي التميمي اجتمع جمع من أشرافهم منهم عظيم الشرف عبد الرحمان بن شريح الشبامي الهمداني ، والأسود بن جراد الكندي وسعيد بن منقذ الثوري وقدامة بن مالك الجشمي ، وتقدّم مقدّمهم الشبامي الهمداني فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : أمّا بعد ، فإنّ المختار يريد أن يخرج بنا ، وقد بايعناه ولا ندري أرسله إلينا ابن الحنفية أم لا؟ فانهضوا بنا إلى ابن الحنفية لنخبره بما قدم به علينا وبما دعانا إليه ، فإن رخّص لنا في اتّباعه اتّبعناه ، وإن نهانا عنه اجتنبناه ، فو الله ما ينبغي أن يكون شيء من أمر الدنيا آثر عندنا من سلامة ديننا!

قالوا له : أرشدك الله! فقد أصبت ووفّقت ، اخرج بنا إذا شئت. فأجمع رأيهم أن يخرجوا في تلك الأيام (أيام موسم الحج) وخرجوا حتّى قدموا على

__________________

(١) الأنفال : ٣٠.

(٢) تاريخ الطبري ٦ : ١١ ـ ١٢.

٣٤١

ابن الحنفية يقدمهم إمامهم وخطيبهم الشبامي الهمداني ، فقالوا له : إنّ لنا إليك حاجة (وكان عنده ناس) فقال : أفسرّ هي أم علانية؟ قالوا : بل سرّ ، فمكث قليلا ثمّ قام فتنحى جانبا ودعاهم ، فقاموا إليه.

فبدأ ابن شريح الشبامي فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : أمّا بعد فإنّكم «أهل بيت» خصّكم الله بالفضيلة وشرّفكم بالنبوّة ، وعظّم حقّكم على هذه الأمة ، فلا يجهل حقّكم إلّا مغبون الرأي مخسوس النصيب.

وقد أصبتم بحسين «رحمة الله عليه» عظمت مصيبة ، اختصصتم بها بعد ما عمّ بها المسلمون!

وقد قدم علينا المختار بن أبي عبيد «يزعم لنا أنّه قد جاءنا من تلقائكم» وقد دعانا إلى كتاب الله وسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله والطلب بدماء «أهل البيت» والدفع عن الضعفاء ، فبايعناه على ذلك ، ثمّ إنّا رأينا أن نأتيك فنذكر لك ما دعانا إليه وندبنا له ، فإن أمرتنا باتّباعه اتّبعناه ، وإن نهيتنا عنه اجتنبناه.

فلما فرغ حمد الله وأثنى عليه وصلّى على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ثمّ قال : أمّا بعد ، فأمّا ما ذكرتم ممّا خصّنا الله به من فضل ؛ ف (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) فلله الحمد.

وأمّا ما ذكرتم من مصيبتنا بحسين ؛ فهي ملحمة كتبت عليه وكرامة أهداها الله إليه ، رفع بما كان منها درجات قوم عنده ووضع بها آخرين ، وكان ذلك في الذكر الحكيم ؛ وكان أمر الله قدرا مقدورا!

وأمّا ما ذكرتم من دعاء من دعاكم إلى الطلب بدمائنا ؛ فو الله لوددت أنّ الله انتصر لنا من عدوّنا بمن شاء من خلقه! أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.

٣٤٢

فخرجوا من عنده وهم يقولون : قد قال : لوددت أنّ الله انتصر لنا من عدوّنا بمن شاء من خلقه! ولو كره لقال : لا تفعلوا. فقد أذن لنا. فلم يكن غير شهر وزيادة شيء حتّى أقبلوا على رواحلهم وتوافقوا على أن يدخلوا على المختار رأسا فيبشّروه بأنّهم أمروا بنصرته (١).

المختار يبشّر الأنصار :

دخل هؤلاء النفر على المختار ، وكان قد عرفهم أنّهم رحلوا إلى الحجاز للتثبّت في أمره ، فلمّا رآهم سألهم : ما وراءكم؟ فقالوا : قد أمرنا بنصرتك! (كذا) فقال : الله أكبر! أنا أبو إسحاق! اجمعوا إليّ «الشيعة». فجمع له من كان قريبا منه ، فلمّا اجتمعوا قال لهم المختار :

يا معشر «الشيعة» إنّ نفرا منكم أحبّوا أن يعلموا مصداق ما جئت به ، فرحلوا إلى «إمام الهدى» والنجيب المرتضى ابن خير من طشى ومشى (٢) حاشا النبيّ المجتبى ، فسألوه عمّا قدمت به عليكم ، فنبّأهم أنّي : وزيره وظهيره! ورسوله وخليله وأمركم باتّباعي وطاعتي (كذا) فيما دعوتكم إليه من قتال المحلّين ، والطلب بدماء «أهل بيت نبيّكم» المصطفين.

فلمّا سكت قام عبد الرحمان بن شريح الشبامي الهمداني فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : أمّا بعد «يا معشر الشيعة» فإنّا قد كنّا أحببنا أن نستثبت

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦ : ١٢ ـ ١٤ عن أبي مخنف.

(٢) جاء هذا الوصف لابن الحنفية وأبيه عليّ عليه‌السلام عن لسان المختار فيما جاء في رجال الكشي : ١٢٦ ، الحديث ٢٠٠ ، عن الباقر عليه‌السلام ليونس بن يعقوب وأبي بصير ، وفيه : أنّ المختار كتب إلى ابن الحنفية بذلك ، وفسّر الخبر الطشي بالحياة. ولا يخفى أن ذلك يعني القول بأفضلية عليّ عليه‌السلام بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

٣٤٣

لأنفسنا خاصّة ولجميع إخواننا عامّة ، فقدمنا على «المهديّ» ابن عليّ عليه‌السلام فسألناه عن حربنا هذه وعمّا دعانا إليه المختار. فأمرنا بمظاهرته ومؤازرته وإجابته إلى ما دعانا إليه (هكذا بتخصيص العامّ من كلام ابن الحنفية) فأقبلنا طيّبة أنفسنا منشرحة صدورنا ، قد أذهب الله منها الشكّ والغلّ والريب ، واستقامت لنا بصيرتنا في قتال عدوّنا. فليبلّغ ذلك شاهدكم غائبكم واستعدّوا وتأهّبوا. ثمّ سكت وجلس وقام من كان معه منهم وصدّقه بنحو كلامه.

فاستجمعت له «الشيعة» وحدبت عليه (١) بفضل فعل الشبامي الهمداني.

ودعت همدان سيّدها إبراهيم :

كان ابن شريح من شبام همدان الذي شبّ لتأكيد أمر المختار بادّعاء تأييد ابن الحنفية له ، ويغلب على ظنّي أنّ شبام همدان شاءت إلى جانبها النخع من همدان من خلال فتاها الشريف إبراهيم بن الأشتر النخعي ، وإن كان الشعبي الهمداني ينسب اقتراح دعوته على المختار إلى عبد الله بن شدّاد وعبد الله بن كامل وأحمر بن شميط الأحمسي ويزيد بن أنس الأسدي أنّهم توافقوا فيما بينهم أن يقترحوا على المختار دعوة ابن الأشتر ، فقالوا له : إنّ أشراف أهل الكوفة سيجتمعون على قتالك مع ابن مطيع العدوي ، فإن جامعنا على أمرنا إبراهيم بن الأشتر رجونا القوة على عدوّنا بإذن الله ، وأن لا يضرّنا خلاف من يخالفنا ؛ فإنّه فتى بئيس (قويّ البأس) وابن رجل شريف بعيد الصيت ، وله عشيرة ذات عزّ وعدد!.

فقال لهم المختار : فالقوه فادعوه ، وأعلموه الذي أمرنا به (كذا) من الطلب بدم الحسين عليه‌السلام وأهل بيته.

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦ : ١٤ ـ ١٥ عن أبي مخنف.

٣٤٤

قال الشعبي الهمداني : فخرجوا إليه وأنا فيهم وأبي شراحيل بن عبد ، ومقدّمهم يزيد بن أنس الأسدي ، فلمّا دخلوا عليه تقدّم الأسديّ فقال : إنّا قد أتيناك في أمر نعرضه عليك وندعوك إليه ، فإن قبلته كان خيرا لك ، وإن تركته فقد أدّينا إليك النصيحة ، ونحبّ أن يبقى عندك مستورا ، إنّما ندعوك إلى أمر قد اجتمع عليه رأي الملأ من «الشيعة» إلى كتاب الله وسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والطلب بدماء «أهل البيت» وقتال المحلّين والدفع عن الضعفاء! وسكت.

ثمّ تكلّم أحمر بن شميط الأحمسي فقال : إنّ أباك كان سيّد الناس ، وفيك منه خلف إن رعيت حقّ الله ، وقد دعوناك إلى أمر إن أجبتنا إليه عادت لك منزلة أبيك في الناس.

فقال لهم إبراهيم الأشتر : فإنّي اجيبكم إلى ما تدعوني إليه من الطلب بدم الحسين وأهل بيته على أن تولّوني الأمر!

فقالوا له : أنت أهل لذلك ولكن لا سبيل إلى ذلك فهذا المختار قد جاءنا من قبل «المهدي» (؟) وهو الرسول المأمور بالقتال. فسكت ولم يجبهم.

فانصرفوا من عنده إلى المختار فأخبروه بجوابه (١).

أمر ابن الحنفية لابن الأشتر؟! :

كان ابن الحنفية قد كتب قبل هذا إلى ابن الأشتر ، باسمه واسم أبيه : محمّد بن عليّ عليه‌السلام وكأن المختار كان قد عرف ذلك وعلم أنّه لو يواجه بكتاب منه إلى ابن الأشتر بدعوته ليكون مع المختار لأجاب ، فكتب له كتابا جاء فيه : بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمّد «المهدي» إلى إبراهيم بن مالك الأشتر ، سلام عليك ،

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦ : ١٥ ـ ١٦ عن أبي مخنف عن الشعبي الهمداني.

٣٤٥

فإنّي أحمد إليك الله الذي لا إله إلّا هو. أمّا بعد : فإنّي قد بعثت إليكم بوزيري وأميني ، ونجيبي الذي ارتضيته لنفسي ، وقد أمرته بقتال عدوي والطلب بدماء أهل بيتي ، فانهض معه بنفسك وعشيرتك ومن أطاعك ؛ فإنّك إن نصرتني وأجبت دعوتي وساعدت وزيري ، كانت لك بذلك أعنّة الخيل ، وكلّ مصر ومنبر وثغر ظهرت عليه فما بين الكوفة إلى أقصى بلاد الشام ، وعليّ الوفاء بذلك على عهد الله! فإن فعلت ذلك نلت به عند الله أفضل الكرامة! وكانت لك عندي بذلك فضيلة. وإن أبيت هلكت! هلاكا لا تستقيله أبدا! والسلام عليك!

وبعد ثلاثة أيام (من الدعوة السابقة) دعا المختار بضعة عشر رجلا من وجوه أصحابه ليلا وأخبرهم بأمره ، وفيهم شراحيل بن عبد الشعبي وابنه عامر وإليه دفع الكتاب ، ولم يعلمهما بما يريد وتقدّمهم يسير بهم ويقدّ بيوت الكوفة قدّا حتّى وقف على باب إبراهيم بن الأشتر فاستأذن لهم عليه ، فأذن لهم فدخلوا عليه.

فبدأ المختار كلامه فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على محمّد ثمّ قال : أمّا بعد ، فإنّ معنا كتابا إليك من «المهدي» محمّد بن أمير المؤمنين «الوصيّ» وهو خير أهل الأرض اليوم! وابن خير أهل الأرض قبل اليوم بعد أنبياء الله ورسله ، وهو يسألك أن تنصرنا وتؤازرنا ، فإن فعلت اغتبطت ، وإلّا فهذا الكتاب حجّة عليك ، وسيغني الله محمّدا «المهدي» وأولياءه عنك. ثمّ قال لعامر الشعبي : ادفع إليه الكتاب ، فدفعه إليه مختوما ، فدعا بالمصباح وفضّ خاتمه وقرأه ، فلمّا قضى إبراهيم قراءة الكتاب قال للمختار : لقد كتبت إلى ابن الحنفية قبل اليوم ولقد كتب إليّ ، فما كان يكتب إلّا باسمه واسم أبيه! فقال المختار : إنّ ذلك زمان وهذا زمان!

وكان المختار قد أخبر بذلك جماعة أصحابه بأمر الكتاب ، وقال لهم إبراهيم : فمن يعلم أنّ هذا كتاب ابن الحنفية إليّ؟ فشهد كلّهم بذلك إلّا الشعبي وأباه! فعند ذلك قام إبراهيم عن صدر فراشه وأخذ بيد المختار فأقامه وأجلسه

٣٤٦

عليه وقال له : ابسط يدك ابايعك! فبسط المختار يده فبايعه إبراهيم. ثمّ دعا لهم بشراب من عسل وفواكه فأكلوا وشربوا ثمّ نهضوا ، فخرج ابن الأشتر مع المختار راكبا حتّى أبلغه رحله ، ومعه من قومه عبد الرحمن بن عبد الله النخعي.

ولمّا كان الكتاب بيد عامر الشعبي وهو لم يشهد مع الشاهدين بصحّة نسبة الكتاب ولا حظ ذلك ابن الأشتر ، فلمّا أراد إبراهيم الرجوع إلى رحله أخذ بيد الشعبي وقال له : انصرف معنا ، ومضى به مع أبيه حتّى دخل رحله ثمّ قال له : يا شعبي ، إنّي قد حفظت عليك أنّك لم تشهد ولا أبوك بالكتاب ، أفترى هؤلاء شهدوا على حقّ؟!

وكان الشعبيّ يتّهم القوم في شهادتهم ، ولكنّه كان يرى رأيهم ويحبّ تمام الأمر للمختار ويعجبه الخروج (والثورة) فلم يعلمه بما في نفسه وقال له : إنّهم قد شهدوا بذلك وهم فرسان العرب ومشيخة المصر وسادة القرّاء! ولا أرى مثل هؤلاء يقولون إلّا حقّا! فقال له ابن الأشتر : فاكتب لي بأسمائهم فإنّي لست أعرف كلّهم. ثمّ دعا بدواة وصحيفة فكتب له الشعبي : بسم الله الرحمنِ الرحيم ، هذا ما شهد به السائب بن مالك الأشعري ، ويزيد بن أنس الأسدي ، وأحمر بن شميط الأحمسي ، ومالك بن عمرو النهدي و... شهدوا : أنّ محمّد بن علي كتب إلى إبراهيم بن الأشتر يأمره بمؤازرة المختار ومظاهرته على قتال المحلّين ، والطلب بدماء «أهل البيت». وشهد بشهادة هؤلاء النفر : عبد الرحمن بن عبد الله النخعي وشراحيل بن عبد الشعبي الفقيه! وابنه عامر (١)!

ثمّ دعا إبراهيم إخوانه وعشيرته ومن أطاعه إلى ما هو عليه ، وأقبل يروح في كلّ عشية عند المساء إلى المختار فيمكث عنده حتّى تصوّب النجوم ثمّ

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦ : ١٦ ـ ١٨ عن أبي مخنف عن الشعبي.

٣٤٧

ينصرف إلى أهله ، حتّى اجتمع رأيهم على أن يخرجوا ليلة الخميس لأربع عشرة من ربيع الأوّل سنة ستّ وستّين (١) أي بعد سنة من ليلة هلاك يزيد.

مقابلة قوّات الكوفة :

لعلّ اجتماع آراء أنصار المختار على مختارهم في خروجهم لليلة الخميس القابل ، كان في أوائل الأسبوع ، وكأن ابن المطيع قد أطاع ابن عمر فأطلق المختار ، وكان قد جعل على شرطته في الكوفة إياس بن مضارب العجلي فاطّلع على الخبر وأتى إلى ابن المطيع وقال له : إنّ المختار خارج عليك إحدى ليلتين (كذا).

ففي يوم الاثنين جمع ابن المطيع رؤساء الأسباع فعيّن عبد الرحمن بن سعيد العبدي لجبّانة السبيع وقال له : اكفني قومك لا اوتينّ من قبلك ، وأحكم أمر الجبّانة التي قبلك لا يحدثنّ بها حدث فأوليك العجز والوهن! وعيّن كعب بن أبي كعب الخثعمي لجبّانة بشر ، وعيّن زحر بن قيس الكندي لجبّانة كندة ، وعيّن شمر بن ذي الجوشن الكلابي الضّبابي لجبّانة سالم ، وعيّن عبد الرحمن بن مخنف بن سليم الأزدي لجبّانة الصائديّين الهمدانيين ، وعيّن يزيد بن الحارث بن رويم الشيباني لجبّانة مراد ، وأوصى كلّ رجل منهم أن يكفيه قومه وأن يحكم الوجه الذي وجّهه فيه فلا يؤتى من قبله ، وعيّن شبث بن ربعي اليربوعي التميمي إلى السبخة ، وقال له : إذا سمعت صوت القوم فوجّه نحوهم ، فخرج هؤلاء إلى أماكنهم يوم الاثنين فنزلوا منازلهم (٢).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦ : ١٨.

(٢) تاريخ الطبري ٦ : ١٨ ـ ١٩ عن أبي مخنف.

٣٤٨

قال حميد بن مسلم الأزدي : فلمّا كان عند غروب الشمس من يوم الاثنين قام إبراهيم بن الأشتر فأذّن ثمّ استقدم فصلّى بنا المغرب ، فلمّا اشتدّ الظلام بعد المغرب خرج بنا يريد المختار (١) وخرجت معه من منزله بعد المغرب ليلة الثلاثاء ونحن معه كتيبة نحو من مئة ، علينا الدروع قد سترناها بالأقبية ، ونحن متقلدوا السيوف في عواتقنا ليس معنا سلاح سواها. فلمّا مررنا بدار سعيد بن قيس وجزناها إلى دار اسامة قلنا لإبراهيم : مرّ بنا على دار خالد بن عرفطة ثمّ امض بنا إلى بجيلة نمرّ في دورهم حتّى نخرج إلى المختار.

وكان إبراهيم فتى حدثا شجاعا لا يكره أن يلقاهم فقال : والله لأمرّن على دار عمرو بن حريث إلى جانب القصر وسط السوق! ولارعبنّ به عدوّنا ولارينّهم هوانهم علينا! فأخذ بنا على دار هبّار ثمّ أخذ بنا ذات اليمين على دار عمرو بن حريث حتّى إذا جاوزها ألفينا إياس بن مضارب في الشرط عليهم أسلحتهم ، فقال لنا : من أنتم وما أنتم؟! فقال له إبراهيم : أنا إبراهيم بن الأشتر. قال إياس : وما هذا الجمع معك؟ وما تريد؟ وقد بلغني أنّك تمرّ كلّ عشية هاهنا! فما أنا بتاركك حتّى آتي بك الأمير فيرى فيك رأيه! قال إبراهيم : لا أبا لغيرك خلّ سبيلنا! قال : كلّا والله لا أفعل.

وكان مع إياس رجل من همدان يقال له أبو قطن ومعه رمح طويل ، فقال له ابن الأشتر : يا أبا قطن ادن مني ، فدنا أبو قطن من إبراهيم ، فتناول إبراهيم رمحه من يده وقال : إنّ رمحك هذا لطويل! ثمّ حمل به على إياس فطعنه في ثغرة نحره فصرعه ، وأمر رجلا من قومه أن ينزل إليه فيحتزّ رأسه ، فنزل إليه واحتزّ رأسه وحمله معه ، وتفرّق أصحابه راجعين إلى القصر! واخبروا بذلك ابن مطيع ،

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦ : ١٨.

٣٤٩

وكان ابن مطيع قد بعث راشد بن إياس العجلي على جند في الكناسة ، فبعث إليه الليلة وجعله مكان أبيه على الشرطة! وبعث مكانه إلى الكناسة سويد بن عبد الرحمن المنقري التميمي (١).

يالثارات الحسين عليه‌السلام :

وأقبل إبراهيم بن الأشتر تلك الليلة (٢) حتّى دخل عليه وقال له : إنّا اتّعدنا للخروج الليلة القابلة ليلة الخميس ، وقد حدث أمر لا بدّ من الخروج الليلة! فقد عرض لي إياس بن مضارب في الطريق ليحبسني فقتلته ، وهذا رأسه مع أصحابي على الباب.

فقال المختار : بشّرك الله بخير! فهذا أوّل الفتح إن شاء الله ، فهو طير (تفؤّل) صالح (٣)!

وكان قد بايع المختار حتّى ذلك النهار اثنا عشر ألفا (٤)! وكان قد تواعد معهم لليلة الخميس ، وأن يشعل لذلك النيران في القصب في سطح داره وينادي مناديه بشعار الأنصار في بدر : يا منصور أمت ، ويالثارات الحسين عليه‌السلام.

فالتفت هنا المختار إلى سعيد بن منقذ وقال له : يا سعيد قم فأشعل النيران في هراديّ القصب ، وارفعها للمسلمين. وأنت يا عبد الله بن شدّاد قم فناد :

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦ : ١٩ ـ ٢٠ عن أبي مخنف.

(٢) الخبر عن حميد بن زياد وفيه اضطراب فقد مرّ أنّ خروج ابن الأشتر هذا كان مساء الاثنين ليلة الثلاثاء ، وهنا قال : ليلة الأربعاء وهذا الثاني هو الأولى.

(٣) تاريخ الطبري ٦ : ٢٠ عن أبي مخنف.

(٤) تاريخ الطبري ٦ : ٢٣ عن أبي مخنف.

٣٥٠

يا منصور أمت ، وأنت يا سفيان بن ليلى ويا قدامة بن مالك فنادوا : يالثارات الحسين عليه‌السلام ودعا بدرعه وسلاحه فلبسها.

ويظهر أنّ ابن الأشتر كان يبايع للمختار ، فقال له : لو أنّي خرجت بمن معي من أصحابي حتّى آتي قومي فيأتيني من بايعني منهم ، ثمّ سرت بهم في نواحي الكوفة داعيا بشعارنا ، فيخرج إلينا من أراد الخروج معنا ، ويأتيك منهم من يقدر ، فإذا فرغت من هذا الأمر عجّلت إليك في الخيل والرجال؟

قال المختار : فاعجل في ذلك ، وإيّاك أن تسير فتقاتل أحدا إلّا أن يبدأك أحد بقتال (١).

إبراهيم يجمع من بايع ويقاتل بهم :

فخرج إبراهيم من عنده في كتيبته حتّى أتى قومه النخع من همدان فاجتمع إليه جلّ من كان بايعه ، فسار بهم في سكك الكوفة طويلا من الليل حتّى انتهى إلى مسجد السّكون من كندة ، وكان عليها زحر بن قيس الجعفي (الكندي) فقال إبراهيم : من صاحب الخيل في جبّانة كندة؟ فقيل له : زحر بن قيس ، فقال : انصرفوا بنا عنهم. وعجلت إليه خيل منهم بلا أمير ولا قائد ، فقال إبراهيم : اللهمّ إنّك تعلم أنّا غضبنا «لأهل بيت» نبيّك ، وثرنا لهم ، فانصرنا عليهم ، وتمّم لنا دعوتنا! فلمّا انتهى إليهم هو وأصحابه شدّ عليهم بهم فكشفوهم حتّى دخلوا جبّانة كندة ، وركب بعضهم بعضا ، كلمّا لقيهم دخل طائفة منهم في زقاق ، فقال لأصحابه : انصرفوا عنهم ، فانصرفوا يسيرون.

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦ : ٢٠ ـ ٢١ عن أبي مخنف.

٣٥١

حتّى انتهوا إلى جبّانة اثير ، فوقف فيها ونادى أصحابه بشعارهم ، وكان فيها على الخيل سويد بن عبد الرحمن المنقري التميمي ، فبلغه مكانهم فسار بجمعه إليهم ، فلم يشعر ابن الأشتر إلّا وهم معه في الجبّانة ، فلمّا رأى ابن الأشتر ذلك قال لأصحابه : يا شرطة الله! انزلوا ، فإنّكم أولى بالنصر من الله من هؤلاء الفساق الذين خاضوا في دماء «أهل بيت» رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. ثمّ شدّ إبراهيم عليهم بأصحابه فضربوهم حتّى أخرجوهم إلى الصحراء منهزمين يركب بعضهم بعضا! ولم يزل يهزمهم حتّى أدخلهم كناسة الكوفة. ثمّ قال لأصحابه : سيروا بنا إلى صاحبنا حتّى نكون على علم من أمره فإنّي لا آمن أن يؤتى ، وحتّى يؤمن الله وحشته بنا ويزداد هو وأصحابه بصيرة وقوّة إلى قواهم وبصيرتهم ، ويعلم هو أيضا ما كان من عنائنا.

ثمّ أقبل إبراهيم حتّى مرّ بمسجد الأشعث الكندي ثمّ مضى حتّى وصل إلى دار المختار (١).

أوائل قتال المختار :

استجاب لشعار المختار من أنصاره أحمر بن شميط الأحمسي ويزيد بن أنس الأسدي في جموع ممّن بايعه. وجاءه من قبل السبخة شبث بن ربعي اليربوعي التميمي ، فعبّأ المختار له يزيد بن أنس الأسدي ، وجاءه حجّار بن أبجر العجلي فجعل المختار في وجهه أحمر بن شميط الأحمسي ، فبينما هم كذلك وإذا بإبراهيم جاءهم من قبل دار الإمارة ، فبلغ أصحاب الحجّار أنّ إبراهيم جاءهم من ورائهم فتفرّقوا في الأزقّة والسكك ، وجاء قيس بن طهفة النهدي من أصحاب المختار في مئة رجل منهم فحمل على أصحاب شبث بن ربعي حتّى خلّوا لهم

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦ : ٢١ ـ ٢٢ عن أبي مخنف.

٣٥٢

الطريق فاجتمعوا بأصحاب المختار ، فخرج المختار بهم حتّى نزل في ظهر دير هند ممّا يلي بستان زائدة في السبخة.

وكان في جبّانة بشر من قبل ابن مطيع : كعب بن أبي كعب الخثعمي ، وكان في جبّانة بشر الشاكريون من همدان ، وقد اجتمعوا في دورهم يخافون أن يظهروا في الميدان لقرب كعب الخثعمي منهم ، فخرج أبو عثمان النهدي من أصحاب المختار فنادى في بني شاكر فأخرجهم إلى المختار ، فلمّا بلغ الخثعمي أنّ شاكرا تخرج أقبل يسير حتّى نزل بالميدان وأخذ عليهم بأفواه سككهم وطرقهم ، فنادى النهدي في أصحابه : يالثارات الحسين! يا منصور أمت ، يا أيّها الحيّ المهتدون ، ألا إنّ أمير آل محمّد ووزيرهم قد خرج فنزل دير هند ، وبعثني إليكم مبشّرا وداعيا ، فاخرجوا إليه يرحمكم الله! فخرجوا من دورهم يتداعون : يالثارات الحسين! ثمّ ضاربوا الخثعمي حتّى خلّى لهم الطريق فأقبلوا إلى المختار حتّى نزلوا في عسكره.

وكان مئتان من خثعم قد بايعوا المختار فخرج بهم الليلة عبد الله بن قراد الخثعمي ، فعرض لهم كعب الخثعمي ، ولمّا عرفهم أنّهم قومه خلّى لهم الطريق حتّى لحقوا بالمختار فنزلوا في عسكره.

وكان على جبّانة السبيع من قبل ابن مطيع : عبد الرحمن بن سعيد ، واجتمع من جمع المختار من شبام إلى جبّانة مراد فبعث إليهم عبد الرحمن : أن إذا كنتم تريدون اللحاق بالمختار فلا تمرّوا بي في جبّانة السّبيع! فلحقوا بالمختار من طريق آخر.

حتّى توافى إليه من اثني عشر ألفا كانوا بايعوه : ثلاثة آلاف وثمانمئة رجل! اجتمعوا له قبل الفجر فعبّأهم حتّى أصبح (١).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦ : ٢٢ ـ ٢٣ عن أبي مخنف.

٣٥٣

استعداد الوالي ومقابلة المختار :

نادى المنادون : ألا برئت الذمّة من رجل لم يحضر المسجد الليلة (السحر قبل الفجر) فاجتمع الناس في المسجد. وكان ابن مطيع قد جعل على الشرطة بعد إياس ابنه راشد العجلي فبعثه إلى المختار في أربعة آلاف من الشرط. وبعث شبث بن ربعي في ثلاثة آلاف ، قبل أن يصلّي بهم!

ولمّا أصبح المختار استقدم في غلس الفجر فصلّى بهم فقرأ في الأولى بعد الفاتحة (النَّازِعاتِ) وفي الثانية (عَبَسَ وَتَوَلَّى) وكان فصيحا في قراءته.

فلمّا انصرفوا سمعوا أصواتا مرتفعة فيما بين بني سليم وسكّة البريد ، فقال المختار لمن حوله : من يعلم لنا ما هؤلاء؟ وكان فيهم من الموالي أبو سعيد الصيقل فقال : أنا ، فقال المختار : فألق سلاحك وادخل فيهم كأنّك من النظّار ثمّ ائتني بخبرهم.

قال الصيقل : فدنوت منهم فإذا مؤذّنهم يقيم للصلاة ثمّ تقدّم شبث فصلّى فقرأ بعد الحمد (إِذا زُلْزِلَتِ) وفي الثانية بعد الحمد (وَالْعادِياتِ) فقال له بعضهم : لو قرأت سورتين أطول! فقال : ترون الديلم (١) قد نزلت بساحتكم وتقولون : لو قرأت سورة البقرة وآل عمران (٢) وكانوا ثلاثة آلاف.

قال الصيقل : فعدت إلى المختار ، فلما أتيته أتاه معي سعر الحنفي من قبل جبّانة مراد وفيها راشد بن إياس فأخبر المختار بخبر راشد وأخبرته بخبر شبث ، فسرّح للراشد إبراهيم بن الأشتر في ستمئة فارس وستمئة راجل ، وبعث نعيم بن هبيرة الشيباني ـ أخا مصقلة ـ في ثلاثمئة فارس وستمئة راجل لمقابلة شبث التميمي ، وقال لهما : لا ترجعا إليّ حتّى تظهرا أو تقتلا!

__________________

(١) ممّا يدل على كثرة الموالي في عسكر المختار.

(٢) يلاحظ أن المقروء بعد الحمد لهم سور لا آيات منها.

٣٥٤

وقدّم المختار أمامه يزيد بن أنس الأسدي في تسعمئة إلى موضع مسجد شبث (١).

نكسة الشيباني :

قال الصيقل : توجّه نعيم بن هبيرة الشيباني ومعه سعر الحنفي التميمي وأنا معهم إلى شبث بن ربعي التميمي ، فجعل الشيباني الحنفي التميمي على الخيل ومشى هو بالرجّالة ، فقاتل الأشعث ومن معه قتالا شديدا حتّى أشرقت الشمس وانبسطت فهزمهم ، ثمّ نادى شبث بن ربعي أصحابه : يا حماة السوء! بئس فرسان الحقائق أنتم! أمن «عبيدكم» تهربون! فآبت إليه جماعة منهم فشدّ بهم على نعيم الشيباني وصبر هذا له فقتل ، وانهزم أصحابه وتفرّقوا ، واسر منهم سعر الحنفي وخليد مولى ابن محدوج والراوي الصيقل.

قال الصيقل : وكان خليد مولى ابن محدوج وسيما جسيما وكان قد اعتق فكان يبيع إداما من السمك يسمّى الصحنا ، فلما احضر عند شبث قال له : يابن (كذا) كان جزاء من أعتقك أن تعدو بسيفك عليه تضرب رقابه! اضربوا عنقه! فقتل.

قال الصيقل : ورأى الرّبعي التميمي سعرا الحنفي التميمي في الأسرى فعرفه فناداه : أنت أخو بني حنيفة (من تميم)؟! قال : نعم ، قال : ويحك قبّح الله رأيك! ما أردت من اتّباعك هؤلاء «السبائية» (٢) دعوا هذا. فتركوه. قال الصيقل : فقلت في نفسي : قتل المولى وترك العربي ، فلو عرفني أنّي مولى قتلني.

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦ : ٢٤ ، والصيقل أبو سعيد من الموالي بالكوفة.

(٢) لعلّ هذا أقدم خبر جاءت فيه هذه النسبة «السبائية» تعييرا بالتهالك في حبّ عليّ وأبنائه.

٣٥٥

فلما عرضت عليه سألني : من أنت؟ أعربيّ أنت أو مولى؟! قلت : لا بل عربيّ من آل زياد بن خصفة! فقال : بخ بخ ذكرت الشريف المعروف! الحق بأهلك! قال الصيقل : وكانت لي بصيرة في قتال القوم فقلت في نفسي : والله لآتينّ أصحابي فلاواسينّهم بنفسي ، فقبّح الله العيش بعدهم! فأتيتهم وقد سبقني إليهم سعر الحنفي وخبر مقتل نعيم بن هبيرة الشيباني وهزيمة أصحابه ، وأقبل الأشعث بخيله إلى المختار ، فدخل من ذلك على أصحاب المختار أمر خطير! وجاء شبث حتّى أحاط بالمختار وأصحابه ، وجاء يزيد بن الحارث بن رويم في ألفين من قبل ابن مطيع حتّى وقفوا في أفواه سكك جرير. فولّى المختار على خيله يزيد بن أنس ، وهو التزم الرجّالة (١).

حملة شبث ومقابلته :

روى أبو مخنف الأزدي عن الحارث بن كعب الأزدي الوالبي وكان مع يزيد بن أنس في خيل المختار ، قال : قال لنا يزيد بن أنس : يا معشر «الشيعة» قد كنتم تقتّلون ، وتقطّع أيديكم وأرجلكم ، وتسمل أعينكم ، وترفعون على جذوع النخل في حبّ «أهل بيت» نبيّكم ، وأنتم مقيمون في بيوتكم وطاعة عدوّكم! فما ظنّكم إن ظهر عليكم اليوم هؤلاء القوم؟! إذا ـ والله ـ لا يدعون منكم عينا تطرف ، وليقتلنّكم صبرا! ولترون منهم في أولادكم وأزواجكم وأموالكم ما الموت خير منه! والله لا ينجيكم منهم إلّا الصبر والصدق ، والطعن الصائب في أعينهم ، والضرب المتدارك على هامهم! فتيسّروا للشدّة وتهيّؤوا للحملة ، فإذا حرّكت رايتي مرّتين فاحملوا. قال الحارث : فتهيّأنا وانتظرنا أمره.

وفي هذه الأثناء ...

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦ : ٢٥ ـ ٢٦ عن أبي مخنف.

٣٥٦

حملات إبراهيم النخعي :

توجّه إبراهيم بن الأشتر إلى راشد بن إياس وكان في أربعة آلاف من مراد ، فقال النخعيّ لأصحابه : لا يهولّنكم كثرة هؤلاء ، فو الله لربّ رجل خير من عشرة ، و (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)(١) ثمّ سرّح إليهم خزيمة بن نصر العبسي في خيله ، والتزم هو بالرجّالة ورايته بيد مزاحم بن الطفيل ، وقال له : امض برايتك وازدلف بها قدما قدما! وبدأ القتال واشتدّ ، وبصر خزيمة العبسي براشد بن إياس فحمل عليه فطعنه فقتله ونادى : قتلت راشدا وربّ الكعبة ، فانهزم أصحابه ، وتراجع عنهم خزيمة العبسي وإبراهيم النخعي.

وبعث إبراهيم النعمان بن أبي الجعد إلى المختار بشيرا بقتل راشد والفتح للمختار.

وسرّح ابن مطيع حسّان بن فائد العبسي في ألفين ليعترض طريق النخعيّ ليردّه عن أصحاب ابن مطيع في السبخة ، وبلغ خبره النخعيّ فقدّم خزيمة العبسي في خيله ، والتزم هو بالرجّالة ، فلم يلبث جمع حسّان العبسي دون أن انهزموا بلا قتال ؛ وخلفهم أميرهم حسّان العبسي وعثر به فرسه فوقع وآمنه خزيمة العبسي وطلب فرسه وحمله عليه وقال له : الحق بأهلك!

وكان على أفواه سكك الكوفة نحو السبخة يزيد بن الحارث بن رويم ، فلمّا أقبل النخعيّ نحوهم أقبل يزيد ليصدّهم عن الحملة على شبث وأصحابه ، فقال النخعيّ لخزيمة العبسي : أغن عنّا يزيد بن الحارث ، وصمد هو في بقيّة أصحابه نحو شبث ، فلمّا أقبل نحوهم أخذ شبث وأصحابه ينكصون رويدا رويدا ، وحمل إبراهيم عليهم ، وحمل عليهم يزيد بن أنس ، فانكشفوا حتّى انتهوا إلى أبيات

__________________

(١) البقرة : ٢٤٩.

٣٥٧

الكوفة. ولكنّ يزيد بن الحارث كان قد وضع رماة فوق البيوت على أفواه السكك ، فلمّا أقبل المختار بجمعه إليهم رماهم اولئك الرماة بالنبال فصدّوهم عن دخول الكوفة من هناك.

فمضى المختار من السبخة إلى الجبانة إلى بيوت منفردة شاذّة من أحمس وبارق ومزينة فنزل عند بيوتهم ومسجدهم ، فاستقبلوهم بالماء. وقال المختار : نعم مكان المقاتل هنا (١)!

خطبة ابن مطيع وحملة النخعي :

وقال عمرو بن الحجّاج الزبيدي لابن مطيع : أيّها الرجل لا يسقط في خلدك ، ولا تلق بيدك (إلى التهلكة) اخرج إلى الناس فاندبهم إلى عدوّك فاغزهم! فإنّ الناس كثير عددهم وكلّهم معك إلّا هذه الطاغية التي خرجت على الناس! والله مخزيها ومهلكها! وأنا أوّل منتدب ، فاندب معي طائفة ومع غيري طائفة!

فخرج ابن مطيع وقام خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال أيّها الناس! إنّ من أعجب العجب عجزكم عن عصبة منكم قليل عددها! خبيث دينها! ضالّة مضلّة! اخرجوا إليهم فامنعوا منهم حريمكم! وقاتلوا عن مصركم وامنعوا منهم فيئكم! وإلّا فو الله ليشاركنّكم في فيئكم من لا حقّ له فيه! (الموالي) فو الله لقد بلغني أنّ فيهم خمسمئة من محرّريكم وأميرهم منهم! وإنّما ذهاب عزّكم وسلطانكم وتغيّر دينكم حين يكثرون هؤلاء (الموالي)! ثمّ سكت ونزل (٢).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦ : ٢٧ ـ ٢٩ عن أبي مخنف.

(٢) تاريخ الطبري ٦ : ٢٨ عن أبي مخنف ، عن يحيى بن هانئ بن عروة المرادي ، وكان مع الناس في المسجد وليس مع المختار وأصحابه.

٣٥٨

وبعث عمرو بن الحجّاج في ألفي رجل ، فخرج على أصحاب المختار من سكّة الثوريّين الهمدانيين ، فدعا المختار يزيد بن أنس فأمره أن يصمد لعمرو بن الحجّاج ، فمضى نحوه ، وبعث المختار إلى إبراهيم أن لا تقم على ابن الحجّاج واطوه ، فطواه إبراهيم وانبعث المختار خلفه ، فمضوا جميعا حتّى انتهى المختار إلى مصلّى خالد بن عبد الله فوقف ، وأمر إبراهيم أن يمضي على وجهه حتّى يدخل الكوفة من الكناسة ، فمضى نحوها.

وأقبل شمر بن ذي الجوشن في ألفين : فسرّح المختار إليه سعيد بن منقذ الهمداني ، وبعث إلى إبراهيم أن امض على وجهك واطوه ،. واقف سعيد الهمداني شمرا ، وطواه إبراهيم حتّى انتهى إلى سكّة شبث ، وإذا نوفل بن مساحق بن مخرمة القرشي في ألفين أو خمسة آلاف.

فلمّا أقبل ابن الأشتر بأصحابه قال لهم : انزلوا ، فنزلوا ، فقال لهم : قرّبوا خيولكم بعضها من بعض ثمّ امشوا إليهم بسيوفكم .. فإنّ هؤلاء لو قد وجدوا حرّ السيوف انصفقوا عن ابن مطيع انصفاق المعزى عن الذئب. وكان ابن الأشتر قد تمنطق بحاشية برد أحمر ، ورفع أسفل قبائه فادخله في منطقته ، وكان قد ستر درعه تحت قبائه ، ثمّ قال لأصحابه : شدّوا عليهم فدى لكم عمّي وخالي! ثمّ هجم عليهم فما لبّثهم حتّى هزمهم يركب بعضهم بعضا ، وانتهى ابن الأشتر إلى ابن مساحق فأخذ بلجام فرسه ورفع سيفه إليه فأنشده الله فخلّى سبيله! ثمّ ساروا في آثارهم حتّى دخلوا السوق والمسجد وحصروا القصر على ابن مطيع (١).

حصر ابن مطيع في القصر :

لجأ الأمراء إلى الأمير الزبيري ابن مطيع العدوي القرشي في دار الإمارة ،

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦ : ٢٩ ـ ٣٠ عن أبي مخنف.

٣٥٩

إلّا عمرو بن حريث المخزومي حيث خرج خارج الكوفة ، وجاء المختار حتّى نزل جانب السوق ، وولّى ابن الأشتر لحصار القصر من بابه إلى المسجد ، وولّى يزيد بن أنس سكّة دار الرّوميين وراء دار الإمارة إلى بني حذيفة ، وولّى أحمر بن شميط الأحمسي ما يلي دار أبي موسى الأشعري ودار عمارة بن عقبة بن أبي معيط الأموي. ومكث ابن مطيع في القصر يرزق أصحابه الدقيق (١).

وفي العشيّ أشرف من القصر عبد الله الليثي على أصحاب المختار يشتمهم ، فرماه أبو نمران مالك النهدي بسهم قطع جلدة حلقه (٢).

ولما اشتد الحصار قام شبث إلى ابن مطيع وقال له : والله ما عندك ومن معك غناء عنك ولا عن أنفسهم ، فانظر لهم ولنفسك! فقال ابن مطيع : أشيروا عليّ برأيكم. فقال شبث : خذ من هذا الرجل أمانا لنا ولنفسك! فكره ذلك ابن مطيع وقال : هذا والأمور مستقيمة لأمير المؤمنين بالحجاز والبصرة! فقال شبث : فتخرج من حيث لا يشعر بك حتّى تنزل منزلا بالكوفة عند من تثق به حتّى تخرج فتلحق بصاحبك! وكان عنده أسماء بن خارجة الفزاري وعبد الرحمان بن سعيد بن قيس الهمداني وعبد الرحمان بن مخنف الأزدي وآخرون فقال لهم : فما ترون في هذا الرأي؟ قالوا : ما نرى إلّا ما أشار به عليك. فقال : فرويدا حتّى نمسي.

فلما أمسى اليوم الثالث من الحصار دعاهم فذكر الله بما هو أهله وصلّى على نبيّه ثمّ قال :

أمّا بعد ، فقد علمت الذين صنعوا هذا من هم! وإنّما هم أراذلكم وسفهاؤكم وأخسّاؤكم وطغامكم ما عدا الرجل أو الرجلين! وإن أشرافكم وأهل الفضل منكم

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦ : ٣١ عن أبي مخنف.

(٢) تاريخ الطبري ٦ : ٣٢ عن أبي مخنف.

٣٦٠