موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٦

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٤١

وأخوك الليلة فإنّي قد أتيتكم بكلّ ما تحبّون. ثمّ مضى إلى باب الفيل فأناخ راحلته ودخل المسجد فقام إلى جنب سارية من سواري المسجد فصلّى النوافل حتّى اقيمت الصلاة فصلّى (بصلاة عامر بن مسعود الجمحي) ثمّ صلّى النوافل حتّى صلّى العصر ثمّ انصرف حتّى مرّ على حلقة همدان فقال لهم : أبشروا فإنّي قد قدمت عليكم بما يسرّكم. ثمّ مضى حتّى نزل داره.

وأتاه عبيدة بن عمرو البدّي الكندي وإسماعيل بن كثير من بني هند فسألهما عن حال «الشيعة».

فقالا له : إنّهم قد اجتمعوا لسليمان بن صرد الخزاعي فهو لا يلبث كثيرا حتّى يخرج.

فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ثمّ قال : أمّا بعد ، فإنّ «المهديّ ابن الوصيّ» : محمد بن علي (ابن الحنفية) بعثني إليكم أمينا ووزيرا ومنتخبا وأميرا ، وأمرني بقتال الملحدين والطلب بدماء أهل بيته ، والدفع عن الضعفاء.

ثمّ أخذ يبعث إلى «الشيعة» فيقول لهم : إنّي قد جئتكم من قبل «وليّ الأمر» ومعدن الفضل ، و «وصيّ الوصي والإمام المهدي» بأمر فيه الشفاء وكشف الغطاء وقتل الأعداء وتمام النعماء! فأنا إنما أعمل على مثال قد مثّل لي وأمر قد بيّن لي ، فيه عزّ وليكم وقتل عدوّكم وشفاء صدوركم ، فاسمعوا منّي قولي وأطيعوا أمري ، ثمّ أبشروا وتباشروا ، فإنّي لكم بكلّ ما تأملون خير زعيم. وإنّ سليمان بن صرد يرحمنا الله وإيّاه إنّما هو يابس من الهزال ليس بذي تجربة للأمور ولا له علم بالحروب ، فهو إنّما يريد أن يخرجكم فيقتل نفسه ويقتلكم (١)!

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٥٧٨ ـ ٥٨٠.

٣٠١

وبعد قدوم المختار إلى الكوفة بثمانية أيّام في يوم الجمعة لثمان بقين من شهر رمضان سنة أربع وستّين قدم عبد الله بن يزيد الأنصاري الخطمي من قبل ابن الزبير أميرا على الكوفة لحربها وثغرها ، ومعه إبراهيم بن محمّد بن طلحة بن عبيد الله التيمي الأعرج أميرا على جزية الكوفة وخراجها (١).

ابن زياد إلى العراق ، والكوفة :

وفي شهر ربيع الأول توجّه مروان إلى مصر ، ووجّه ابن زياد في ستّين ألفا إلى العراق (٢) وكان سليمان الخزاعي قد وعد أصحابه لأوّل شهر ربيع الثاني.

وكان يزيد بن الحارث بن رويم الشيباني من قوّاد ابن زياد ، ولكنّه أوّل من أعلن رفض فرض إمرة ابن زياد بعد موت يزيد ، ولمّا سمع الناس يتحدّثون بخروج «الشيعة» مع الخزاعي لثار الحسين عليه‌السلام خاف على نفسه ، فأتى إلى عبد الله بن يزيد الأنصاري عامل ابن الزبير في الكوفة وقال له : إنّ الناس يتحدّثون أنّ «الشيعة» ستخرج عليك مع سليمان بن صرد ... وقد اجتمع له أمره فهو خارج في هذه الأيام ... وإنّي أخاف إن أقررته حتّى يخرج عليك أن تشتدّ شوكته ويتفاقم أمره.

قال عبد الله : حدّثني ماذا يريد هؤلاء الناس؟ قال : يذكر الناس أنّهم يطلبون بدم الحسين بن عليّ عليه‌السلام.

قال : فأنا قتلت الحسين! لعن الله قاتل الحسين!

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٥٦٠.

(٢) تاريخ خليفة : ١٦٣.

٣٠٢

وكان عبد الله بن يزيد أمير الحرب والثغور ، وكان ابن زياد قد توجّه إلى العراق وبلغ خبره إلى ابن يزيد الأنصاري أنّه على مسيرة ليلة من جسر منبج في ثغور الشام إلى العراق ، وعزم أن يجعل بأس التوّابين على الأمويّين ، ولم يكن أخبر عامل ابن الزبير على خراج الكوفة : إبراهيم بن محمّد بن طلحة بشيء ، حتّى خرج وصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال :

أمّا بعد ، فقد بلغني : أنّ طائفة من أهل هذا المصر أرادوا أن يخرجوا علينا ، فسألت عن الذي دعاهم إلى ذلك ما هو؟ فقيل لي : زعموا أنّهم يطلبون بدم الحسين بن عليّ عليه‌السلام.

وقد دللت على أماكنهم وأمرت بأخذهم وأن أبدأهم قبل أن يبدؤوني! فأبيت ذلك وقلت : إن قاتلوني قاتلتهم وإن تركوني لم أطلبهم ، وعلام يقاتلونني! فو الله ما أنا قتلت حسينا ولا أنا ممّن قاتله ، بل لقد اصبت بمقتله رحمة الله عليه! ورحم الله هؤلاء القوم ، وإنّ هؤلاء القوم آمنون ، فليخرجوا ولينتشروا ظاهرين ليسيروا إلى من قاتل الحسين ، وأنا لهم ظهير!

هذا ابن زياد قاتل الحسين ، وقاتل خياركم وأماثلكم قد توجّه إليكم ، عهد العاهد به على مسيرة ليلة من جسر منبج ، فقتاله والاستعداد له أولى وأرشد من أن تجعلوا بأسكم بينكم فيقتل بعضكم بعضا ويسفك بعضكم دماء بعض ، فيلقاكم ذلك العدو غدا وقد رققتم ، وتلك امنية عدوّكم.

إنّه قد أقبل إليكم أعدى خلق الله لكم ؛ من ولّي عليكم هو وأبوه سبع سنين (كذا) لا يقلعان عن قتل أهل العفاف والدين. هو الذي قتلكم ومن قبله أتيتم ، والذي قتل من تثأرون بدمه (الحسين) قد جاءكم فاستقبلوه بحدّكم وشوكتكم ، واجعلوها به ولا تجعلوها بأنفسكم ، إنّي لم آلكم نصحا. جمع الله لنا كلمتنا وأصلح لنا أئمّتنا!

٣٠٣

وكان عامل ابن الزبير على خراج الكوفة : إبراهيم بن محمّد بن طلحة بن عبيد الله التيمي حاضرا وغير مشاور في الأمر ، فأبى وقام وقال : أيّها الناس ؛ والله لو استقينا (أو : استيقنّا) أنّ قوما يريدون الخروج علينا لنأخذنّ الوالد بولده والمولود بوالده والحميم بالحميم والعريف بما في عرافته ، حتّى يدينوا للحقّ ويذلّوا للطاعة! والله لئن خرج علينا خارج لنقتلنّه! فلا يغرّنكم مقالة هذا المداهن الموادع عن السيف والغشم (الظلم).

وكان ثاني امراء التوابّين : المسيّب بن نجبة الفزاري حاضرا فوثب إليه قاطعا عليه منطقه وقال له : يابن «الناكثين» أنت تهدّدنا بسيفك وغشمك! أنت والله أذلّ من ذلك! وإنّا لا نلومك على بغضنا وقد قتلنا أباك (محمّدا) وجدّك (طلحة بن عبيد التيمي في الجمل بالبصرة) والله إنّي لأرجو أن لا يخرجك الله من بين ظهرانيّ أهل هذا المصر حتّى يثلّثوا بك جدّك وأباك!

ثمّ التفت إلى الأمير عبد الله بن يزيد الأنصاري وقال له : وأمّا أنت ـ أيّها الأمير ـ فقد قلت قولا سديدا ، وإنّي والله لأظنّ من يريد هذا الأمر مستنصحا لك قابلا لقولك.

فقال إبراهيم التيمي : إي والله! ليقتلنّ وقد أدهن ثمّ أعلن!

وكان ثالث امراء التوّابين : عبد الله بن وال حاضرا أيضا فقام وقال لمحمّد : يا أخا بني تيم بن مرّة! ما اعتراضك فيما بيننا وبين أميرنا! فو الله ما أنت علينا بأمير ولا لك علينا سلطان! إنّما أنت أمير الجزية! فأقبل على خراجك ؛ ولعمر الله لئن كنت مفسدا فما أفسد أمر هذه الأمة إلّا والدك وجدّك «الناكثان» فكانت عليهما دائرة السوء!

ثمّ أقبل عبد الله بن وال على عبد الله بن يزيد وقال له : أمّا رأيك ـ أيها الأمير ـ فو الله إنّا لنرجو أن تكون به عند العامّة محمودا ، وأن تكون عند من عنيت مقبولا. فنزل الأنصاري ودخل إلى دار الإمارة.

٣٠٤

وخرج أصحاب سليمان الخزاعي بعد هذا يتجهّزون ويجاهرون بذلك. ومشى شبث بن ربعي اليربوعي ويزيد بن الحارث الشيباني فيما بين الأنصاري وإبراهيم التيمي فأصلحوا بينهما (١).

خروج التوّابين إلى النّخيلة :

كان الشيخ سليمان الخزاعي قد أعدّ لمن تابعه وبايعه ديوانا فكانوا ستة عشر ألفا (٢) وكان واعدهم هلال ربيع الثاني في معسكر الكوفة بالنخيلة. وحين أراد هو الشخوص إليهم بعث إلى وجوه أصحابه فخرج معهم حتّى أتى المعسكر فدار معهم في الناس فوجد قلة في عدّتهم (ألفان)!

فبعث حكيم بن منقذ الكندي والوليد بن غصين الكناني كلّا في خيل إلى الكوفة يناديان بها : يالثارات الحسين! حتّى يبلغا المسجد الأعظم.

وسمعهما من بني كثير من الأزد عبد الله بن خازم لم يكن قد استجاب لهم من قبل ، فوثب ودعا بسلاحه وأمر بإسراج فرسه ولبس ثيابه ، وكانت امرأته سهلة بنت سبرة من أجمل النساء فقالت له : ويحك أجننت! قال : لا والله ولكنّي سمعت داعي الله فأنا مجيبه! أنا مطالب بدم هذا الرجل (الحسين) حتّى أموت أو يقضي الله من أمري ما هو أحبّ إليه! وكان له ابن منها يدعى عزرة ، فقالت له : وإلى من تدع بنيّك هذا؟ قال : إلى الله وحده لا شريك له ، اللهم إنّي أستودعك أهلي وولدي ، اللهمّ احفظني فيهم. وخرج ليلحق بهم ، وقعدت امرأته تبكيه.

وطاف أولئك في الكوفة حتّى وصلوا المسجد بعد العتمة وفيه ناس يصلّون ، فنادوا : يا لثارات الحسين! وكان فيهم أبو عزة القابضي فنادى معهم :

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٥٦١ ـ ٥٦٣.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٥٨٤.

٣٠٥

يالثارات الحسين! أين جماعة القوم؟ قيل : بالنخيلة. فخرج إلى أهله فأخذ سلاحه ودعا بفرسه ليركبه ، فجاءته ابنته الرّوّاع وقالت له : يا أبة ما لي أراك قد تقلّدت سيفك ولبست سلاحك؟ قال لها : يا بنيّة ، إنّ أباك يفرّ من ذنبه إلى ربّه! فأخذت تنتحب وتبكي ، وجاءه أصهاره وبنو عمّه فودّعهم ثمّ خرج فلحق بهم.

فلم يصبح سليمان الخزاعي حتّى أتاه مثل عسكره البارحة (أي صاروا أربعة آلاف)! فدعا بديوانه لينظر فيه إلى عدّة من بايعه فوجدهم ستة عشر ألفا فقال : سبحان الله! ما وافانا من ستة عشر ألفا إلّا أربعة آلاف! وكان حميد بن مسلم الأزدي حاضرا فقال له : كنت عند المختار قبل ثلاث ليال فسمعت نفرا من أصحابه يقولون : قد كملنا ألفي رجل! فهو يثبّط الناس عنك! فقال سليمان : وهب أنّه كان ذلك فهل قعد عنّا عشرة آلاف! أما هؤلاء بمؤمنين! أما يخافون الله! أما يذكرون الله وما أعطونا من أنفسهم من العهود والمواثيق لينصرّن وليجاهدنّ!

فأخذ يبعث ثقات أصحابه إلى من تخلّف عنه يذكّرهم الله وما أعطوه من أنفسهم إلى الثالث من ربيع الثاني ، فخرج إليه نحو من ألف رجل (١) (أي كانوا خمسة آلاف من ستة عشر ألفا).

في الكوفة أو إلى الشام :

مرّ الخبر أنّ عبد الله بن يزيد الأنصاري أمير الكوفة لابن الزبير ، كان قد علم باتّجاه ابن زياد في ستّين ألفا إلى العراق ، فلمّا أنذره يزيد بن الحارث بن رويم الشيباني بأمر التوّابين ، ألقى إليهم الخبر ليصرفهم عن الكوفة فيصرف بهم شرّ جيش الشام وينتصر بهؤلاء على أولئك.

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٥٨١ ، ٥٨٢ عن أبي مخنف.

٣٠٦

وكان من امراء التوّابين : عبد الله بن سعد بن نفيل الأزدي وكأنّه كان حاضرا في خطبة الأنصاري ومتأثّرا بكلامه ، وأشار بذلك على سليمان الخزاعي وقبل منه ذلك سليمان وأجمع على المسير إلى ابن زياد. ولكنّه لعلّه لمّا رأى أنّ من حضر ممّن بايع لا يصل إلى ثلث العدد بدا له في ذلك ، فدخل مع بعض أصحابه على سليمان الخزاعي في معسكر النخيلة ورؤوس أصحابه جلوس عنده وحوله ، فقال له :

إنّي قد رأيت رأيا (جديدا) إن يكن صوابا فالله وفّق ، وإن لم يكن صوابا فمن قبلي ، وإنّي ما آلوكم ونفسي نصحا ، صوابا كان أو خطأ : إنّما خرجنا نطلب بدم الحسين ، وقتلة الحسين كلّهم بالكوفة ، منهم عمر بن سعد (١) ـ وكان في الأيام التي كان سليمان معسكرا بالنخيلة لا يبيت إلّا مع الأمير في قصر دار الإمارة! مخافة أن يأتيه القوم في داره وبيته وهو قايل لا يعلم فيقتل (٢) ـ ورؤوس الأرباع وأشراف القبائل ، فأنى نذهب هاهنا (إلى الشام) وندع الأوتار؟!

فأبى سليمان وقال : لكنّي ما أرى لكم ذلك ، فإنّ الذي عبّأ الجنود إلى صاحبكم (الحسين عليه‌السلام) وقال : لا أمان له عندي حتّى يستسلم فأمضي فيه حكمي : هذا الفاسق ابن الفاسق : ابن مرجانة عبيد الله بن زياد ، فسيروا إلى عدوّكم على اسم الله ، فإن يظهركم الله عليه رجونا أن يكون من بعده أهون شوكة منه ، ورجونا أن يدين لكم من وراءكم من أهل مصركم في عافية! فتنظرون إلى كلّ من شرك في دم الحسين فتقاتلونه ولا تظلموا ، وإن تستشهدوا فإنّما قاتلتم المحلّين ، وما عند الله خير للأبرار والصدّيقين! والله لو قاتلتم غدا أهل مصركم

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٥٨٥ ـ ٥٨٦ عن أبي مخنف.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٥٨٧ عن أبي مخنف.

٣٠٧

ما عدم رجل أن يرى رجلا قد قتل أخاه وأباه وحميمه! أو رجلا لم يكن يريد قتله! فاستخيروا الله وسيروا (١).

ليس للدنيا خرجنا ، فلا ننتظر :

وقام المسيّب الفزاري إلى سليمان وقال له : رحمك الله ، إنّه لا ينفعك الكاره ، ولا يقاتل معك إلّا من أخرجته النيّة (الصادقة) فلا تنتظرنّ أحدا وأسرع في أمرك.

فقام سليمان في الناس متوكئا على قوسه العربيّة وقال لهم : أيّها الناس ؛ من كان إنّما أخرجته إرادة وجه الله وثواب الآخرة فذلك «منّا ونحن منه» ورحمة الله عليه حيّا وميّتا! ومن كان إنّما يريد الدنيا وحرثها فو الله ما نأتي فيئا نستفيئه ، ولا غنيمة نغنمها إلّا رضوان الله ربّ العالمين ، وما معنا من ذهب ولا فضة ولا خزّ ولا حرير ، ما هي إلّا سيوفنا في عواتقنا ورماحنا في أكفّنا ، وزاد قدر البلغة إلى لقاء عدوّنا ، فمن كان ينوي غير هذا فلا يصحبنا!

فقام للكلام صخير بن حذيفة المزني فقال : آتاك الله رشدك ولقّاك حجّتك ؛ والله الذي لا إله غيره ما لنا خير في صحبة من الدنيا نيّته وحمّته! ثمّ التفت إلى الناس وقال لهم : أيّها الناس ، إنّما أخرجتنا «التوبة» من «ذنبنا» والطلب بدم من نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ليس معنا دينار ولا درهم ، وإنّما نقدم على حدّ السيوف وأطراف الرماح! وسكت.

فتنادى الناس من كلّ جانب : إنا لا نطلب الدنيا وليس لها خرجنا (٢)!

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٥٨٦ عن أبي مخنف.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٥٨٤ ـ ٥٨٥ عن أبي مخنف.

٣٠٨

محاولات أمير الكوفة :

مرّ الخبر أنّ عبد الله الأنصاري هو الذي وجّه التوّابين إلى جيش الشام ، وفوجئ إبراهيم التيمي بذلك فاتّهمه بالمداهنة والموادعة ، وكأنّه بدا له فاقتنع بوجهة نظر الأمير ، واليوم لمّا بلغهما خروجهم إلى المعسكر وتهيّؤهم للشخوص إلى الشام بثلث عددهم المتوقّع خمسة آلاف لأكثر من خمسين ألف ، وقد بلغهما إقبال ابن زياد نحو العراق ، نظر الأميران في ذلك فرأيا أن يأتياهم فيعرضا عليهم الإقامة فيكونوا يدا واحدة! وإلّا فيعبّئوا معهم جيشا يجبر لهم قلّة عددهم فيكثروا.

فبعثا إليهم سويد بن عبد الرحمان يقول لهم عنهما : إنّا نريد أن نجيئك الآن لأمر عسى أن يجعل الله فيه صلاحا لك ولنا. وقبل ذلك سليمان ، وقال لرفاعة البجلي : قم فأحسن تعبئة الناس فإنّ هذين بعثا بكذا ، ثمّ دعا رؤوس أصحابه ليكونوا حوله ، وجاء الأمير الزبيريّ الأنصاري في أشراف أهل الكوفة والشرط وكثير من مقاتليهم ، ولكنّه استثنى منهم الرجال المعروفين بالمشاركة في دم الحسين عليه‌السلام وقال لهم : لا تصحبنّي إليهم مخافة أن ينظروا إليهم فيبدؤوا بهم ، وعلى رأسهم عمر بن سعد حيث كان معه في القصر مخافة أن يأتيه القوم في داره وبيته فيقتل ، واستناب بصلاة الظهر إن أبطأ خليفة ابن زياد : عمرو بن حريث المخزومي المعزول! وتبعه إبراهيم التيمي في جماعة من أصحابه.

فلمّا انتهيا إليه دخلا عليه ، فحمد الله عبد الله وأثنى عليه ثمّ ذكر الحديث : «إنّ المسلم أخو المسلم لا يخونه ولا يغشّه» ثمّ قال : وأنتم إخواننا وأهل بلدنا وأحبّ أهل مصر إلينا ، فلا تفجعونا بأنفسكم ولا تستبدّوا علينا برأيكم! ولا تنقصوا عددنا بخروجكم من جماعتنا. أقيموا معنا حتّى نتيسّر ونتهيّأ ، فإذا علمنا أنّ عدوّنا قد شارف بلدنا خرجنا إليهم بجماعتنا ، وقال إبراهيم مثله ، وانتظرا جواب سليمان.

٣٠٩

فحمد الله سليمان الخزاعي وأثنى عليه ثمّ قال لهما : إنّي علمت أنّكما قد محضتما في النصيحة ، واجتهدتما في المشورة ، وقد خرجنا لأمر ونحن نسأل الله العزيمة على الرشد والتسديد لأصوبه ، ولا نرانا إلّا شاخصين إن شاء الله.

فقال عبد الله الأنصاري : فأقيموا حتّى نعبّئ معكم جيشا كثيفا فتلقوا عدوّكم بجمع كثيف وحدّ! يخوّفهم بقلّة عددهم.

فقال سليمان : تنصرفون عنّا ونرى رأينا فيما بيننا وسيأتيكم ذلك إن شاء الله.

فعرضا عليه أن يقيم معهما حتّى يلقوا جموع أهل الشام معا ، فيخصّاه وأصحابه بخراج جوخى!

فقال لهما : إنّا ليس للدنيا خرجنا! فانصرفا عنهم بجمعهما إلى الكوفة.

وقد مرّ أنّهم كانوا قد كتبوا إلى «الشيعة» بالمدائن والبصرة ، ولم يأتهم هؤلاء للموعد ، فحاول ناس من أصحاب سليمان أن يلتزموا بانتظارهم.

فأبى سليمان كذلك وقال لهم : لا تلتزموا (انتظارهم) فإنّي لا أراهم أقعدهم ولا خلّفهم إلّا سوء العدّة وقلّة النفقة ، فأقاموا ليتيسّروا ويتجهّزوا فيلحقوا بكم وبهم قوّة ، وما أسرع القوم في آثاركم ، فإنّي لا أراهم إلّا سيسرعون إليكم لو قد انتهى إليهم خبركم ومسيركم (١).

خطبة سليمان ورحيلهم إلى كربلاء :

ثمّ قام سليمان في الناس خطيبا (الجمعة) ، فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : أمّا بعد ، أيّها الناس ؛ فإنّ الله قد علم بما تنوون وما خرجتم تطلبون ، وإنّ للدنيا

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٥٨٦ ـ ٥٨٨ عن أبي مخنف.

٣١٠

تجارا وللآخرة تجّارا ؛ فأمّا تاجر الآخرة فساع إليها متنصّب (متعب) بتطلابها ، لا يشتري بها ثمنا ، لا يرى إلّا قائما وقاعدا وراكعا وساجدا ، لا يطلب ذهبا ولا فضّة ولا دنيا ولا لذّة. وأمّا تاجر الدنيا ، فمكبّ عليها راتع فيها لا يبتغي بها بدلا.

فعليكم ـ يرحمكم الله ـ في وجهكم هذا بطول الصلاة في جوف الليل ، وبذكر الله كثيرا على كلّ حال ، وتقرّبوا إلى الله بكلّ خير قدرتم عليه ، حتّى تلقوا هذا العدوّ والمحلّ «القاسط» فتجاهدوه ؛ فلن تتوسّلوا إلى ربّكم بشيء هو أعظم عنده ثوابا من الجهاد والصلاة ، فإنّ الجهاد سنام العمل.

جعلنا الله وإيّاكم من العباد الصالحين المجاهدين ، الصابرين على اللأواء.

وإنّا مدلجون الليلة من منزلنا هذا إن شاء الله ، فادلجوا.

وفي عشيّة الجمعة لخمس مضين من شهر ربيع الآخر سنة (٦٥ ه‍) دعا سليمان : حكيم بن منقذ أن ينادي في الناس بالرحيل وأن لا يبيتنّ أحد حتّى نبلغ دير الأعور ، فنادى بذلك وارتحل أكثر من معه وتخلّف كثير منهم! وباتوا بدير الأعور ، متّجهين إلى كربلاء في طريقهم إلى الشام.

ثمّ سار حتّى نزل منزل أقساس مالك على شاطئ الفرات ، وهناك استعرضهم ، فتبيّن تخلّف نحو ألف رجل! فقال سليمان لهم : ما احبّ أن كان معكم من تخلّف عنكم و (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالاً)(١) و (كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ)(٢) وخصّكم بفضله فاحمدوا ربّكم.

وخرجوا من منزل أقساس مساء فأصبحوا في كربلاء (٣).

__________________

(١) التوبة : ٤٧.

(٢) التوبة : ٤٦.

(٣) تاريخ الطبري ٥ : ٥٨٨ ، ٥٨٩ عن أبي مخنف.

٣١١

زيارة الثوار لقبر أبي الأحرار :

لما انتهى الناس إلى قبر الحسين عليه‌السلام ، معلوما ، صاحوا صيحة واحدة وبكوا حتّى ما رئي يوم كان أكثر باكيا منه ، بكوا كلّهم وتمنّى جلّهم أنّه لو كان اصيب معه ، تقدّمهم شيخهم سليمان وقد ناهز أو جاوز الثمانين من السنين رافعا يديه إلى ربّه لدى قبر وليّه باكيا داعيا :

«اللهمّ ارحم حسينا الشهيد ابن الشهيد ، المهديّ بن المهديّ ، والصدّيق ابن الصدّيق : اللهمّ إنّا نشهدك أنّا على دينهم وسبيلهم ، وأعداء قاتليهم وأولياء محبّيهم» (الولاية والبراءة).

ونادوا صيحة واحدة تائبين : «يا ربّ إنّا قد «خذلنا» ابن بنت نبيّنا ، فاغفر لنا ما مضى منّا ، وتب علينا ، إنّك أنت التوّاب الرحيم. وارحم حسينا وأصحابه الشهداء الصدّيقين. وإنّا نشهدك ـ يا ربّ ـ أنّا على «مثل ما قتلوا عليه» فإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننّ من الخاسرين».

ثمّ انصرف سليمان وأصحابه عن القبور ونزلوا ، فأقاموا عنده يومهم ذلك وليلتهم يصلّون ويبكون ويتضرّعون ويستغفرون ، وما انفكّوا يترحّمون عليه وعلى أصحابه ، حتّى صلّوا الفجر عند القبر.

ثمّ أمر سليمان الناس بالمسير ، فكانوا لا يمضون حتّى يأتوا قبره فيقومون ويترحّمون عليه ويستغفرون له ولأصحابه الشهداء ثمّ يركبون ، ولقد كان ازدحامهم على قبره أكثر من ازدحام الناس على الحجر الأسود!

ووقف الأمراء عند قبره : سليمان الخزاعي والمسيّب بن نجبة وعبد الله بن وال التيمي ، والمثنّى بن مخرّبة العبدي ، فكلّما دعا له قوم وترحّموا عليه قال لهم سليمان والمسيّب : الحقوا بإخوانكم رحمكم الله! حتّى بقوا في نحو ثلاثين رجلا من أصحابهم ، فأحاطوا بالقبر ...

٣١٢

فقال سليمان مودّعا : الحمد لله الذي لو شاء لأكرمنا بالشهادة مع الحسين! اللهمّ إذ حرمتناها معه فلا تحرمناها فيه بعده!

وقال المسيّب : وأنا بريء من قتلهم ومن كان على رأيهم ، وإياهم أعادي واقاتل.

وقال عبد الله بن وال التيمي : أما والله إنّي لأظنّ حسينا وأباه وأخاه أفضل امّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وسيلة عند الله يوم القيامة ، أفما عجبتم لما ابتليت به هذه الأمة منهم! إنّهم قتلوا اثنين وأشفوا بالثالث على القتل (١).

وقال المثنّى بن مخرّبة العبدي وهو من الرؤساء الأشراف : إنّ الله جعل هؤلاء الذين ذكرتم بمكانهم من نبيّهم أفضل ممّن هو دون نبيّهم ، وقد قتلهم قوم نحن منهم براء ولهم أعداء! وقد خرجنا من الديار والأهلين والأموال لاستئصال من قتلهم! فو الله لو أنّ القتال فيهم بمغرب الشمس أو منقطع التراب فإنّه يحقّ علينا طلبه حتّى نناله ؛ فإنّ ذلك هو الغنم وهي الشهادة التي ثوابها الجنة!

فقالوا له : صدقت وأصبت ووفّقت. ثمّ سار سليمان من موضع قبر الحسين وساروا معه. وكان رجال من أحيائهم خرجوا معهم يشايعونهم حتّى انتهوا إلى قبر الحسين ، ثمّ انصرفوا عنه ولزموا الطريق ، فعاد هؤلاء المشايعون إلى أحيائهم بالكوفة (٢) وكأنّهم عنوا زيارة قبر الحسين عليه‌السلام ثمّ عادوا.

كتاب الأمير الخطمي وجواب الخزاعي :

وسار سليمان الخزاعي من كربلاء فأخذ على الحصّاصة إلى الأنبار ، ثمّ الصّدود ، ثمّ القيّارة. وبدا للأمير الزبيري على الكوفة عبد الله بن يزيد الأنصاري

__________________

(١) يلوّح بجرح الحسن عليه‌السلام في ساباط المدائن ، وأشفوا أي قربوا من قتله ، فخبر قتله مسموما لم يكن معروفا معلوما ، وإلّا فهو مقتول كأبيه وأخيه ، وإنّما الفرق في الآلة القتّالة.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٥٨٩ ـ ٥٩١ عن أبي مخنف.

٣١٣

الخطمي أن يكتب إلى سليمان فيردّهم إلى اجتماع كلمتهم ، فدعا بالمحلّ الطائي وبعثه بكتابه فلحقهم بمنزل القيّارة ، فتقدّم سليمان أصحابه حتّى سبقهم ثمّ وقف وأشار إلى الناس فوقفوا له ، ليقرأ عليهم كتاب الوالي ، فإذا فيه : بسم الله الرحمنِ الرحيم ، من عبد الله بن يزيد إلى سليمان بن صرد ومن معه من المسلمين ، سلام عليكم ، أمّا بعد فإنّ كتابي هذا إليكم كتاب ناصح .. إنّه بلغني أنّكم تريدون المسير بالعدد اليسير إلى الجمع الكثير ؛ وإنّه من يرد أن ينقل الجبال عن مراتبها تكلّ معاوله ، وينزع وهو مذموم العقل والفعل! يا قوما لا تطمعوا عدوّكم في أهل بلادكم ، فإنّكم خيار كلّكم ، ومتى ما يصبكم عدوّكم ويعلم أنّكم أعلام مصركم يطمعهم ذلك فيمن وراءكم ، يا قومنا (إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً)(١).

يا قوم إنّ أيدينا وأيديكم اليوم واحدة ، وإنّ عدوّنا وعدوّكم واحد ، ومتى تجتمع كلمتنا نظهر على عدوّنا ، ومتى تختلف تهن شوكتنا على من خالفنا! يا قومنا لا تستغشّوا نصحي ولا تخالفوا أمري وأقبلوا حين يقرأ عليكم كتابي ، أقبل الله بكم إلى طاعته وأدبر بكم عن معصيته ، والسلام.

فلما قرئ الكتاب على سليمان وأصحابه التفت إليهم وسألهم : ما ترون؟

فقالوا : قد أبينا هذا عليكم وعليهم ونحن في أهلنا ومصرنا ، فالآن إذ وطّنّا أنفسنا على الجهاد وخرجنا ودنونا من أرض عدوّنا (نعود)؟! ما هذا برأي! فماذا ترى؟ أخبرنا برأيك!

فقال : لا أرى أن تنصرفوا عمّا جمعكم الله عليه من الحقّ وأردتم به من الفضل ، إنّا وهؤلاء مختلفون ؛ إنّ هؤلاء لو ظهروا دعونا إلى الجهاد مع

__________________

(١) الكهف : ٢٠.

٣١٤

ابن الزبير! ولا أرى الجهاد مع ابن الزبير إلّا ضلالا! وإنّا إن نحن ظهرنا «رددنا هذا الأمر إلى أهله»! وإن أصبنا فعلى نيّاتنا «تائبين» من ذنوبنا! إنّ لنا شكلا وإن لابن الزبير شكلا.

ثمّ ساروا إلى هيت حتّى نزلوها فكتب سليمان جواب أمير الكوفة : بسم الله الرحمنِ الرحیم ، للأمير عبد الله بن يزيد من سليمان بن صرد ومن معه من المؤمنين ، سلام عليك ، أمّا بعد ، فقد قرأنا كتابك وفهمنا ما نويت ، فنعم ـ والله ـ الوالي ـ ونعم الأمير ، ونعم أخو العشيرة. أنت ـ والله ـ من نأمنه بالغيب ونستنصحه في المشورة ونحمده على كلّ حال ، إنّا سمعنا الله عزوجل يقول في كتابه : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ...)(١) فالقوم استبشروا ببيعتهم التي بايعوا ، إنّهم قد «تابوا» من عظيم جرمهم ، وقد توجّهوا إلى الله وتوكّلوا عليه ورضوا بما قضى الله (رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)(٢).

موقف قلعة قرقيسياء :

قرقيسياء القديمة تسمّى اليوم البصيرة في سورية عند مصبّ نهر الخابور على الفرات ، وكان عامل الأمويين عليها زفر بن الحارث الكلابي وله أبناء كبار. ومرّ الخبر أنّه كان مع سعيد بن العاص الأشدق في التفرّق بعد موت معاوية بن يزيد وقتل في معركة راهط أبناؤه وفرّ بمن تبقّى معه إلى قرقيسياء فتحصّن فيها.

__________________

(١) التوبة : ١١١ ـ ١١٢.

(٢) الممتحنة : ٤ ، الطبري ٥ : ٥٩٠ ـ ٥٩٣ عن أبي مخنف.

٣١٥

ووجّه مروان ابن زياد إلى العراق قائلا : إن غلبت على العراق فأنت أميرها (١) وكأنّه فتح عليه باب التجنيد من الشام فاستخدم خمسة من الأمراء : الحصين بن نمير السكوني ، وشرحبيل بن ذي الكلاع ، وأدهم بن محرز الباهلي ، وأبا مالك بن أدهم ، وربيعة بن مخارق الغنوي ، وجبلة بن عبد الله الخثعمي ، وبلغ خبرهم إلى زفر بن الحارث الكلابي في قرقيسياء : أنّهم فارقوا الرّقة إلى العراق في حدّ حديد وعدد كثير من مثل الشوك والشجر (٢)! وكأنّه لم تبلغه أخبار الثوار التوّابين فتحصّن منهم وهم بحاجة للزّاد.

وزفر من كندة وهي من مضر ومنها فزارة ومنهم المسيّب ، فدعاه سليمان وقال له : إلق ابن عمّك هذا فقل له : إنّا لسنا إيّاه نريد وإنّما صمدنا لهؤلاء المحلّين! فليخرج لنا سوقا.

فخرج المسيّب حتّى انتهى إلى باب قرقيسياء فناداهم : افتحوا ، ممّن تتحصّنون؟ وعرّف نفسه.

وكان من أبناء زفر الباقين : الهذيل ، أتى أباه وقال له : هذا رجل حسن الهيئة يستأذن عليك ، وسألناه : من هو؟ قال : المسيّب بن نجبة. فقال زفر : أي بنيّ أما تدري من هذا؟ هذا من إذا عدّ عشرة من أشراف مضر فهو أحدهم ، بل هو فارس مضر الحمراء كلّها! وهو بعد رجل ناسك له دين ، ائذن له.

فدخل المسيّب إليه فأجلسه إلى جانبه ولاطفه في مساءلة أحواله ، فقال المسيّب : ما اعترينا إلى شيء إلّا أن تعيننا على هؤلاء القوم الظلمة المحلّين ، فأخرج لنا سوقا ، فإنّا لا نقيم بساحتكم إلّا يوما أو بعض يوم. فدعا زفر ابنه فأمره

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٥٧.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٥٩٤ عن أبي مخنف.

٣١٦

أن يضع لهم سوقا ، وأمر للمسيّب بفرس وألف درهم! فقال المسيّب : أما الفرس فإنّي أقبله لعلّي احتاج إليه إن ضلع فرسي أو غمز تحتي ، وأمّا المال فو الله ماله خرجنا ولا إياه طلبنا!

وأمر زفر ابنه أن يسأل عن وجوه أهل العسكر ، فسمّى له بعد سليمان والمسيّب ـ : عبد الله بن سعد بن نفيل ، وعبد الله بن وال ، ورفاعة بن شدّاد ، وسمّى له أمراء أرباع الكوفة ، فبعث إلى المسيّب بعشرين جزورا وإلى سليمان مثل ذلك وإلى كلّ واحد من الرؤساء الثلاثة بعشر جزائر وطعام وعلف كثير ، وأخرج للعسكر عيرا عظيمة وشعيرا كثيرا مع غلمانه ، وقال غلمانه : هذه عير فاجتزروا منها ما أحببتم ، وهذا شعير فاحتملوا منه ما أردتم ، وهذا دقيق فتزوّدوا منه ما أطقتم!

واخرجت لهم الأسواق والأعلاف والطعام ، فتسوّقوا ، ولكنهم لم يحتاجوا إلى شراء شيء من هذه الأسواق التي وضعت لهم ، وقد كفوهم اللحم والدقيق والشعير ، إلّا أن يشتري الرجل سوطا أو ثوبا ، وظلّ القوم مخصبين ذلك اليوم لم يحتاجوا إلى شيء.

وفي غداة غد لمّا أرادوا الرحيل خرج إليهم زفر ليشايعهم فساير سليمان وأخبره خبر خروج جيش الشام من الرّقة إليهم وقال : وايم الله لقلّ ما رأيت رجالا هم أحسن هيئة ولا عدّة ، ولا أحرى بكلّ خير من الرجال معك! ولكنّه قد بلغني أنّه قد أقبلت إليكم عدّة لا تحصى كثرة!

فأجابه سليمان : على الله توكّلنا وعليه فليتوكّل المتوكّلون. فقال زفر : فإن شئتم فتحنا لكم مدينتنا فتدخلوها فيكون أمرنا واحدا وأيدينا واحدة. وإن شئتم نزلتم هنا على باب مدينتنا ونخرج فنعسكر إلى جانبكم ، فإذا جاء العدو قاتلناهم جميعا؟

٣١٧

فأجابه سليمان : قد أرادنا أهل مصرنا (الكوفة) لمثل ما أردت وذكروا مثل ما ذكرت ، وبعد ما فصلنا كتبوا به إلينا فلم يوافقنا ، فلسنا فاعلين!

فقال زفر : فاقبلوا ما اشير به عليكم : إنّ القوم قد فصلوا من الرّقة فبادروهم إلى مدينة عين الوردة فاجعلوها في ظهوركم ويكون الماء والرستاق (١) في أيديكم ، وأنتم آمنون ممّا بين مدينتكم ومدينتنا! فاطووا المنازل الساعة إلى عين الوردة ، فإنّ القوم يسيرون سير العساكر ، فتأهّبوا لها من يومكم هذا وإنّي أرجو أن تسبقوهم إليها ؛ وإن بدرتم إلى عين الوردة فلا تقاتلوهم في فضاء ، فإنّهم أكثر منكم ، فلا آمن أن يحيطوا بكم فلا تقفوا لهم فإنّه ليس لكم مثل عددهم ، فإن استهدفتم لهم لم يلبثوا أن يصرعوكم ، ولا تصفّوا لهم حين تلقونهم ، فإنّي لا أرى معكم رجّالة بل كلّكم فرسان ، وهم بالرجال والفرسان ، فالفرسان تحمي رجالها والرجال تحمي فرسانها ، وأنتم ليس لكم رجال تحمي فرسانكم ، فالقوهم في الكتائب والمقانب ، بثوها ما بين ميمنتهم وميسرتهم ، واجعلوا مع كلّ كتيبة كتيبة إلى جانبها ، فإن حمل على إحدى الكتيبتين ترجّلت الأخرى فنفّست عنها الخيل والرجال ، ومتى ما شاءت كتيبة ارتفعت ، ومتى ما شاءت انحطّت. ولو كنتم في صفّ واحد فزحفت إليكم الرجال فدفعتم عن الصفّ انتقض فكانت الهزيمة!

فقال له سليمان : نعم المنزول به أنت! أكرمت النزول وأحسنت الضيافة ونصحت في المشورة ؛ وأثنوا عليه كثيرا ودعوا له فوقف وودّعهم.

ثمّ جدّوا في المسير حتّى جعلوا كل مرحلتين مرحلة واحدة يمرّون بالمدن مرورا حتّى بلغوا بلدة ساعا ، فنزل سليمان بها وعبّأ كتائبه كما أمره زفر ، ثمّ ارتحل حتّى بلغ عين الوردة سابقا القوم إليها فنزل في غربيّها ، فاطمأنّوا

__________________

(١) معرّب روستا : القرية.

٣١٨

واستراحوا وأراحوا خيولهم ، وأقاموا بها خمسة أيام لا يبرحون منها (١) ويبدو أنّهم بلغوها في منتصف جمادى الأولى (٢) أي في أربعين يوما من تاريخ خروجهم من النخيلة : ٥ ربيع الآخر ، بلا ذكر لعلّة التأخير.

خطبة الخزاعي في عين الوردة :

ثمّ قام فيهم سليمان الخزاعي فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ ذكر آيات الله في السماء والأرض والجبال والبحار ، وذكر آلاء الله ونعمه ، وذكر الدنيا فزهّد فيها وذكر الآخرة فرغّب فيها ، ثمّ قال : أمّا بعد ، فقد آتاكم الله بعدوّكم الذي دأبتم في المسير إليه آناء الليل والنهار ، تريدون فيما تظهرون «التوبة النصوح» ولقاء الله معذرين ، جئتموهم أنتم في ديارهم وحيّزهم ، فإذا لقيتموهم فاصدقوهم واصبروا «إن الله مع الصابرين» ولا يولينّهم امرؤ دبره «إلّا متحرّفا لقتال أو متحيزا إلى فئة» ولا تقتلوا مدبرا ولا تجهزوا على جريح ، ولا تقتلوا أسيرا من أهل دعوتكم إلّا أن يقاتلكم بعد أسره ، أو يكون من قتلة إخواننا بالطفّ رحمة الله عليهم ، فإنّ هذه كانت سيرة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب في أهل هذه الدعوة.

ثمّ قال سليمان : فإن أنا قتلت فأمير الناس المسيّب بن نجبة ، فإن اصيب المسيّب فأمير الناس عبد الله بن سعد بن نفيل ، فإن قتل عبد الله بن سعد فأمير الناس عبد الله بن وال ، فإن قتل عبد الله بن وال فأمير الناس رفاعة بن شدّاد رحم الله امرأ صدق ما عاهد الله عليه.

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٥٩٣ ـ ٥٩٦ عن أبي مخنف.

(٢) الطبري ٥ : ٥٩٨ عن أبي مخنف.

٣١٩

ثمّ دعا المسيّب بن نجبة وندب له أربعمئة فارس معه وقال له : سر حتّى تلقى أوّل عسكر من عساكرهم فشنّ الغارة عليهم ، فإذا رأيت ما تحبّه ، وإلّا انصرفت في أصحابك إلينا ، وإيّاك أن تنزل أو تدع أحدا من أصحابك ينزل أو يستقتل ، أخّر ذلك إلّا أن لا تجد بدّا منه (١).

غارة المسيّب الفزاري :

عسكروا في غربي عين الوردة خمسة أيام ، ثمّ بعث الخزاعيّ الفزاريّ في أربعمئة فارس ليغير على أوّل عساكر الشام ثمّ يعود إلى عين الوردة ، ويبدو أن ذلك كان في العشرين من جمادى الأولى أي بعد ٤٥ يوما من خروجهم من الكوفة. فساروا يومهم وليلتهم وفي السحر هوّموا تهويمة ثمّ صلّوا الصبح ، ثمّ بعث عبد الله بن عوف في مئة وعشرين وقال له : انظروا أوّل من تلقون فأتوني به (أو بخبره) ثمّ بعث ابن عمّه أبا الجويرية العبدي كذلك ، ثمّ حنش بن ربيعة الكناني كذلك ، وبقي الفزاريّ في مئة منهم.

فالتقى عبد الله بن عوف بأعرابي من بني تغلب (النصارى؟) وبينما هم يسائلونه إذ لحقهم الفزاري ، فأتوه به ، وتفأّلوا بكونه من تغلب بأنّهم سيغلبون ، فقال الفزاري : وإنّ هذا الفأل لهو الفأل الحسن وقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يعجبه الفأل. ويبدو أنّ الأعرابيّ كان على خبر عن جيش الشام فسأله الفزاري : كم بيننا وبين أدناهم منّا؟ قال : أدنى عسكر من عساكرهم منك عسكر ابن ذي الكلاع على رأس ميل! فتركوه.

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٥٩٦ عن أبي مخنف.

٣٢٠