موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٦

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٤١

وروى الطوسي بسنده عن ابن عباس قال : بينا أنا راقد في منزلي (بالمدينة) إذ سمعت من بيت امّ سلمة زوج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله صراخا عاليا! فقلت لقائدي يقودني إليها فخرج بي ، وأقبلت إليها النساء الهاشميّات ، فهي أقبلت عليهنّ وقالت لهنّ : يا بنات عبد المطلب أسعدنني وابكين معي ، فقد قتل والله سيّدكنّ وسيّد شباب أهل الجنة! قد والله قتل سبط رسول الله وريحانته الحسين! فقلت لها : يا امّ المؤمنين ومن أين علمت ذلك؟ قالت : رأيت رسول الله في المنام الساعة شعثا مذعورا! فسألته عن شأنه ذلك؟ فقال : قتل ابني الحسين وأهل بيته اليوم ، والساعة فرغت من دفنهم!

قالت : فقمت حتّى دخلت البيت وأنا لا أكاد أن أعقل ، فنظرت فإذا بتربة الحسين التي أتى بها جبرئيل من كربلاء وقال : إذا صارت هذه التربة دما فقد قتل ابنك! وأعطانيها النبيّ فقال : اجعلي هذه التربة في قارورة أو زجاجة ولتكن عندك ، فإذا صارت دما عبيطا فقد قتل الحسين! فرأيت القارورة الآن وقد صارت تفور دما عبيطا! وكانت امّ سلمة قد لطّخت بذلك الدم وجهها ، واتّخذت ذلك اليوم مأتما ومناحة على الحسين عليه‌السلام (١).

واختار شيخه المفيد خبرا آخر عن امّ سلمة قالت : خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من عندنا ذات ليلة فغاب عنّا طويلا ، ثمّ جاءنا ويده مضمومة وهو أشعث أغبر! فقلت له : يا رسول الله ما لي أراك شعثا مغبرّا؟! فقال : اسري بي في هذا الوقت إلى موضع من العراق يقال له : كربلاء ، فاريت فيه مصرع الحسين ابني وجماعة من ولدي وأهل بيتي! فلم أزل ألقط (من) دمائهم! فها هي في يدي. وبسطها إليّ

__________________

(١) أمالي الطوسي : ٣١٥ ، الحديث ٧٨ ، المجلس ١١ ، وبعده : ثمّ جاءت الركبان بخبره وأنّه قتل في ذلك اليوم.

٢٠١

وقال : خذيها واحتفظي بها. فأخذتها فإذا هي شبه تراب أحمر! فوضعتها في قارورة وشددت رأسها واحتفظت بها.

فلمّا خرج الحسين من مكّة متوجّها نحو العراق كنت اخرج القارورة في كلّ يوم وليلة وأنظر إليها وأشمّها ثمّ أبكي لمصابه! فلمّا كان اليوم العاشر من المحرّم أخرجتها أوّل النهار فكانت بحالها ، ثمّ عدت إليها آخر النهار فإذا هي دم عبيط! فصحت وبكيت.

قالت : (ولكنّي) كتمت غيظي مخافة أن يسمع أعداؤهم بالمدينة فيسرعوا بالشماتة! ولم أزل حافظة للوقت حتّى جاء الناعي ينعاه ، فحقّق ما رأيت (١).

قال : ولمّا أنفذ ابن زياد برأس الحسين عليه‌السلام إلى يزيد دعا عبد الملك بن أبي الحديث السلمي (٢).

وفي الطبري عن الكلبي : عبد الملك بن أبي الحارث السّلمي ، وأعطاه دنانير وقال له : انطلق ولا تعتلّ ولا يسبقك الخبر ، وإن قامت بك راحلتك فاشتر راحلة ، حتّى تقدم المدينة على أميرها عمرو بن سعيد بن العاص فتبشّره بقتل الحسين (٣)!

قال عبد الملك : فركبت راحلتي وسرت حتّى دخلت المدينة ، فلقيني قرشيّ فسألني ما الخبر؟ فقلت له : تسمعه عند الأمير! فاسترجع وقال : قتل والله الحسين! ودخلت على عمرو بن سعيد فقال لي : ما وراءك؟ قلت له : ما يسرّ الأمير : قتل الحسين بن عليّ! فقال : فاخرج فناد بقتله! فخرجت فناديت بقتله!

__________________

(١) الإرشاد ٢ : ١٣٠ ، وعليه فالصياح والبكاء السابق كان خاصّا ولم يكن عامّا. وكان وفاة امّ سلمة في (٦٣ ه‍).

(٢) الإرشاد ٢ : ١٢٣.

(٣) تاريخ الطبري ٥ : ٤٦٤ عن الكلبي عن عوانة.

٢٠٢

فو الله لم أسمع قطّ واعية مثل واعية نساء بني هاشم حين سمعوا النداء بقتله! فعدت إلى عمرو بن سعيد فلمّا رآني تبسّم ضاحكا ثمّ تمثل بقول عمرو بن معدي كرب الزبيدي :

عجّت نساء بني زياد عجّة

كعجيج نسوتنا غداة الأرنب

ثمّ قال : هذه واعية بواعية عثمان بن عفّان (١).

وروى المعتزلي عن «المثالب» لأبي عبيد القاسم بن سلّام البصري قال :

كتب ابن زياد إلى عمرو بن سعيد يبشّره بقتل الحسين عليه‌السلام ، فقرأ كتابه على المنبر ثمّ أنشد :

يا حبّذا بردك في اليدين

وحمرة تجري على الخدّين

 كأنّما بتّ بمحشدين!

ثمّ أومأ إلى القبر الشريف قائلا : يوم بيوم بدر! فأنكر عليه ذلك قوم من الأنصار (٢)!

وحين سمعت نعي الحسين عليه‌السلام أمّ لقمان بنت عقيل بن أبي طالب خرجت ومعها نساؤها وهي حاسرة وتلوي بثوبها على رأسها وهي تقول :

ماذا تقولون إن قال النبيّ لكم :

ماذا فعلتم! وأنتم آخر الأمم

بعترتي وبأهلي بعد مفتقدي

منهم اسارى ومنهم ضرّجوا بدم (٣)

ما كان هذا جزائي إذ نصحت لكم

أن تخلفوني بسوء في ذوي رحمي (٤)

__________________

(١) الإرشاد ٢ : ١٢٣ ، وتاريخ الطبري ٥ : ٤٦٤.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ٤ : ٧٢ عن كتاب المثالب.

(٣) تاريخ الطبري ٥ : ٤٦١ ، ٤٦٢ عن أبي مخنف.

(٤) الإرشاد ٢ : ١٢٤.

٢٠٣

ولمّا علم الناس بقتل ابني عبد الله بن جعفر (محمّد وعون) مع الحسين عليه‌السلام دخلوا عليه يعزّونه ، وكان له مولى يدعى أبا اللسلاس فقال : هذا ما دخل علينا من الحسين! فخذفه عبد الله بن جعفر بنعاله وقال له : يابن اللخنا! أللحسين تقول هذا؟! والله لو شهدته لأحببت أن لا افارقه حتّى اقتل معه! والله إنّه لمما يسخّي بنفسي عنهما ويهوّن عليّ المصاب بهما : أنهما اصيبا مع أخي وابن عمّي مواسيين له صابرين معه. ثمّ أقبل على جلسائه وقال : الحمد لله عزوجل على مصرع الحسين ، إن لا تكن يديّ آست حسينا فقد آساه ولديّ (١) أو قال : إن لا أكن آسيت حسينا بيدي فقد آساه ولدي (٢).

السبايا في الشام :

روى الصدوق بسنده عن حاجب ابن زياد عن من صحب السبايا إلى الشام قالوا : دخلنا دمشق بالنساء السبايا بالنهار مكشّفات الوجوه! فقال بعض أهل الشام : ما رأينا سبايا أحسن من هؤلاء! فمن أنتم؟ فقالت سكينة بنت الحسين : نحن سبايا آل محمّد.

وكانوا من قبل يوقفون السبايا على درج المسجد الجامع بدمشق ليراهم الناس ، فأقاموهم عليه.

فأتاهم شيخ من أهل الشام فقال لهم : الحمد لله الذي قتلكم وأهلككم وقطع قرن الفتنة! وما زال يشتمهم.

فلما انقضى كلامه قال له عليّ بن الحسين : أما قرأت كتاب الله عزوجل؟

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٤٦٦ عن أبي مخنف.

(٢) الإرشاد ٢ : ١٢٤.

٢٠٤

قال : بلى قد قرأت. قال : أما قرأت هذه الآية : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى)(١)؟ قال : بلى. قال : فنحن أولئك!

ثمّ قال : أما قرأت : (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ)(٢)؟ قال : بلى. قال : فنحن هم!

ثمّ قال : فهل قرأت هذه الآية : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)(٣)؟ قال : بلى. قال : فنحن هم!

فرفع الشيخ الشامي يده إلى السماء وقال ثلاثا : اللهمّ إنّي أتوب إليك. ثمّ قال : اللهمّ إنّي أبرأ إليك من عدوّ آل محمّد ومن قتلة أهل بيت محمّد. لقد قرأت القرآن فما شعرت بهذا قبل اليوم.

ثمّ أدخل نساء الحسين عليه‌السلام على يزيد بن معاوية (٤).

السبايا والسجاد عليه‌السلام عند يزيد :

وجلس يزيد بن معاوية وقد دعا أشراف أهل الشام وأجلسهم حوله ، ثمّ دعا بعليّ بن الحسين عليه‌السلام وصبيانه ونسائه فأدخلوا عليه والناس ينظرون .. فرأى هيئته قبيحة فقال : قبّح الله ابن مرجانة! لو كانت بينه وبينكم رحم أو قرابة ما فعل هذا بكم ، ولا بعث بكم هكذا! فرقّ لهم وأمر لهم بشيء من الألطاف!

وقال لعليّ بن الحسين عليه‌السلام : يا عليّ! أبوك الذي قطع رحمي! وجهل حقي! ونازعني سلطاني! فصنع الله! به ما قد رأيت! فتلا الإمام عليه قوله سبحانه : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها)(٥).

__________________

(١) الشورى : ٢٣.

(٢) الإسراء : ٢٦.

(٣) الأحزاب : ٣٣.

(٤) أمالي الصدوق : ٢٣٠ ، الحديث ٢ ، المجلس ٣١.

(٥) الحديد : ٢٢.

٢٠٥

وكان خالد بن يزيد عند أبيه فقال له أبوه يزيد : اردد عليه! فما درى خالد بماذا يردّ عليه؟ فقال يزيد : قل : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ)(١) ثمّ سكت.

فقام إليه رجل أحمر من أهل الشام وقال له : يا أمير المؤمنين! هب لي هذه الجارية ، وأشار إلى فاطمة بنت الحسين عليه‌السلام! فخافت وأخذت بثياب عمّتها زينب ، فالتفتت إليه زينب وقالت له : كذبت ـ والله ـ ولؤمت! ما ذلك لك ولا له!

فغضب يزيد وقال لها : كذبت والله! إنّ ذلك لي! ولو شئت أن أفعله لفعلت!

فقالت زينب : كلّا ـ والله ـ ما جعل الله ذلك لك! إلّا أن تخرج من ملّتنا وتدين بغير ديننا!

فغضب يزيد واستطار غضبا وقال : أإياي تستقبلين بهذا! إنّما خرج من الدين أبوك وأخوك!

فقالت زينب : بدين الله ودين أبي وأخي وجدّي اهتديت أنت وأبوك وجدّك!

فقال لها : كذبت يا عدوّة الله!

فقالت : أنت أمير مسلّط تشتم ظالما وتقهر بسلطانك! فسكت!

فعاد الشامي فقال : يا أمير المؤمنين! هب لي هذه الجارية!

فقال له يزيد : اعزب! وهب الله لك حتفا قاضيا (٢)!

__________________

(١) الشورى : ٣٠ ، وروى أبو الفرج : أنّ يزيد بدأ بهذه الآية فأجابه الإمام بآية الشورى ، وهو أنسب.

(٢) الإرشاد ٢ : ١٢٠ ـ ١٢١ ، وانظر تاريخ الطبري ٥ : ٤٦١ ـ ٤٦٢ عن أبي مخنف ، ومختصره عن الباقر عليه‌السلام : ٣٩٠.

٢٠٦

خطبة العقيلة في مجلس يزيد :

أرسل ابن أبي طيفور البغدادي (١) قال : لما جعل يزيد ينكت ثنايا الحسين عليه‌السلام بقضيبه وهو ينشد شعره ...

قالت زينب : «صدق الله ورسوله يا يزيد (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ)(٢) أظننت يا يزيد أنه حين أخذ علينا بأطراف الأرض وأكناف السماء ، فأصبحنا نساق كما يساق الأسارى : أنّ بنا هوانا على الله وبك عليه كرامة! وأنّ هذا لعظيم خطرك! فشمخت بأنفك ونظرت في عطفك جذلان فرحا! حين رأيت الدنيا مستوسقة لك والأمور متّسقة عليك ، وقد أمهلت ونفّست! وهو قول الله تبارك وتعالى : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ)(٣).

أمن العدل ـ يابن الطلقاء ـ تخديرك حرائرك وإماءك وسوقك بنات رسول الله سبايا! قد هتكت ستورهن ، وأصحت أصواتهن! مكتئبات! تخدي بهنّ الأباعر ، ويحدو بهنّ الأعادي من بلد إلى بلد ، لا يراقبن ولا يؤوين ، ويتشوّفهنّ القريب والبعيد ، ليس معهنّ وليّ من رجالهنّ.

وكيف يستبطأ في بغضتنا من نظر إلينا بالشنف والشنآن والإحن والأظغان؟! وتقول : «ليت أشياخي ببدر شهدوا» غير متأثّم ولا مستعظم! وأنت تنكت ثنايا أبي عبد الله بمخصرتك!

ولم لا تكون كذلك وقد نكأت القرحة واستأصلت الشأفة ، بإهراقك دماء ذريّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ونجوم الأرض من آل عبد المطلب ، ولتردنّ على الله وشيكا موردهم ، ولتودّنّ أنّك عميت وبكمت وأنّك لم تقل : «لأهلّوا واستهلّوا فرحا»!

__________________

(١) وأسنده الخوارزمي في المقتل ٢ : ٦٣ عن رجل من تميم الكوفة!

(٢) الروم : ١٠.

(٣) آل عمران : ١٧٨.

٢٠٧

والله ما فريت إلّا جلدك ، ولا حززت إلّا لحمك ، وسترد على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله برغمك ... يوم يجمع الله شمل لحمته وعترته في حظيرة القدس ملمومين من الشعث ، وذلك قول الله تبارك وتعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)(١).

وسيعلم من بوّأك ومكّنك من رقاب المؤمنين ، إذا كان الحكم الله والخصم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وجوارحك شاهدة عليك! فبئس للظالمين بدلا ولتعلمنّ أيّكم (شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً)(٢).

مع أنّي ـ والله يا عدوّ الله وابن عدوّه ـ استصغر قدرك واستعظم تقريعك! غير أنّ العيون عبرى والصدور حرّى! وما يجزي ذلك أو يغني عنّا وقد قتل الحسين عليه‌السلام ... يعطوهم أموال الله على انتهاك محارم الله! فهذه الأيدي تنطف من دمائنا ، وهذه الأفواه تتحلّب من لحومنا ، وتلك الجثث الزواكي يعتامها عسلان الفلوات! فلئن اتّخذتنا مغنما فلتجدنّ مغرما ، حين لا تجد إلّا ما قدّمت يداك ، تستصرخ بابن مرجانة ويستصرخ بك! وتتعاوى وأتباعك عند الميزان ، وقد وجدت أفضل زاد زوّدك معاوية قتلك ذريّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله!

فو الله ما اتّقيت الله ، ولا شكواي إلّا إلى الله. فكد كيدك واسع سعيك وناصب جهدك! فو الله لا ترحض عنك عار ما أتيت إلينا أبدا.

والحمد لله الذي ختم بالسعادة والمغفرة لسادات شبّان الجنان وأوجب لهم الجنة ، وأسأل الله أن يرفع لهم الدرجات وأن يوجب لهم المزيد من فضله ، فإنّه وليّ قدير» (٣).

__________________

(١) آل عمران : ١٦٩.

(٢) مريم : ٧٥.

(٣) بلاغات النساء : ٢١ ـ ٢٣.

٢٠٨

واسكت يزيد حتّى سكتت زينب ثمّ تمثّل بقول القائل :

يا صيحة تحمد من صوائح

ما أهون النوح على النوائح (١)

ثمّ أمر بالنسوة أن ينزّلن في دار على حدة متّصلة بدار يزيد ، فأفردت لهم ، ومعهم عليّ بن الحسين عليه‌السلام (٢) ومعهم ما يصلحهم ، فاخرجوا إلى تلك الدار ، واجتمع نساء آل معاوية فاستقبلنهنّ بالبكاء والنوح على الحسين عليه‌السلام ثلاثة أيام (٣).

ورأس الحسين عليه‌السلام إلى المدينة :

نقل البلاذري عن الكلبي قال : بعث يزيد رأس الحسين عليه‌السلام إلى المدينة (٤). فصرخت نسوة آل أبي طالب ، فسمعهنّ مروان بن الحكم فتمثّل وقال :

__________________

(١) مقتل الحسين عليه‌السلام للخوارزمي ٢ : ٦٦ مسندا عن رجل من تميم الكوفة!

(٢) الإرشاد ٢ : ١٢٢.

(٣) تاريخ الطبري ٥ : ٤٦٢ عن أبي مخنف عن فاطمة. وروى عن الباقر عليه‌السلام قال : ثمّ أدخلهم على عياله ٥ : ٣٩٠ ، وهذا لا يدع مجالا لخبر إسكانهم في خربة بدمشق ووفاة ابنة صغيرة للحسين عليه‌السلام فيها باسم رقية ، بل لا ذكر في الأنساب والتواريخ المعتبرة لبنات الحسين عليه‌السلام سوى سكينة وهي في العاشرة من عمرها ـ السيّدة سكينة للمقرّم : ٨٩ ـ وفاطمة ، وهي في حدود السابعة من عمرها.

والمرقد المنسوب إلى رقية بدمشق لعلّه لرقية اخت الحسين عليه‌السلام زوجة ابن عمّها مسلم بن عقيل ، فإنّها كانت معهم ، ولا ذكر لها بعد كربلاء ، فلعلّها مرضت هناك من وعثاء السفر والقهر ، بعد قتل ابنيها الصغيرين ، فماتت ودفنت هناك. كما كان على صخرة القبر حين اكتشف قبل قرن تقريبا : «هذا قبر رقية بنت علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه».

(٤) أنساب الأشراف ٣ : ٢٢٥ ، الحديث ٢٢٤.

٢٠٩

عجّت نساء بني زياد عجّة

كعجيج نسوتنا غداة الأرنب

ثمّ تمثل بقول ابن منقذ العدوي في كتيبة «دوسر» للنعمان بن المنذر :

ضربت دوسر فيهم ضربة

أثبتت أركان ملك ، فاستقر (١)

وقال عمرو بن سعيد : وددت أنّ أمير المؤمنين! لم يبعث إلينا برأسه! فقال له مروان : بئسما قلت! هاته! ثمّ تناول منه الرأس فوضعه بين يديه ثمّ أخذ بأرنبة أنفه وقال :

يا حبّذا بردك في اليدين

ولونك الأحمر في الخدّين (٢)

لكأني انظر إلى أيام عثمان (٣).

وخطب عمرو الأشدق فتشدّق بقتل الحسين عليه‌السلام فقام ابن أبي حبيش الأسدي القرشي فقال : رحم الله فاطمة! فقال له عمرو : وما أنت وفاطمة؟ قال : أمّها خديجة ـ يريد أنّها أسدية من قومه ـ فقال عمرو : نعم والله ، وابنة محمّد! أخذتها يمينا وأخذتها شمالا! ووددت والله أنّ أمير المؤمنين! كان نحّاه عنّي ولم يرسل به إليّ! ووددت والله أنّ رأس حسين كان على عاتقه ، وروحه كان في جسده (٤).

ونصب الرأس على خشبة ، ثمّ ردّ إلى دمشق (٥).

__________________

(١) أنساب الأشراف ٣ : ٢٢٣ ، الحديث ٢٢١ ، ودوسر بالفارسية أي ذات الرأسين.

(٢) الطبقات الكبرى ، ترجمة الإمام الحسين عليه‌السلام : ٨٤ برقم ٢٩٧ ، وأنساب الأشراف ٣ : ٢٢٣ ، الحديث ٢٢٠.

(٣) تذكرة الخواص ٢ : ٢٠٦ ـ ٢٠٧.

(٤) الطبقات الكبرى : ٦٦ ، الباب ٤٧ ، الحديث ٢٩٧ ، وفي قسم الترجمة المنشورة : ٨٤ ـ ٨٥ ، وأنساب الأشراف ٣ : ٢٢٤ ، الحديث ٢٢٣.

(٥) أنساب الأشراف ٣ : ٢٢٥ ، الحديث ٢٢٤ عن الكلبي.

٢١٠

خطبة السجّاد عليه‌السلام بالشام :

كان يزيد راوية للشعر وشاعرا كما مرّ ، ولم نجد له فيما بأيدينا خطبة. وقد مرّ الخبر عن خطبة ابن زياد في المسجد الجامع بالكوفة بعد جلسة القصر ، وكأنّ يزيد بدل ذلك أحضر الإمام السجّاد عليه‌السلام إلى المسجد الجامع بالشام ضحى قبيل الزوال ، واستحضر الناس ، وخطيبا أمره أن يخطبهم فيذكر للناس مساوئ الحسين وأبيه عليّ عليهما‌السلام ويقرّظ معاوية ويزيد.

فصعد الخطيب المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ أطنب في تقريظ معاوية ويزيد وأكثر الوقيعة في عليّ والحسين عليهما‌السلام! وكان الإمام السجّاد عليه‌السلام في هذه الفترة قد تماثل للشفاء ، فصاح به :

ويلك أيّها الخاطب! اشتريت رضا المخلوق بسخط الخالق! فتبوّأ مقعدك من النار!

ثمّ التفت إلى يزيد وقال له : يا يزيد (كذا بدون لقب) إئذن لي حتّى أصعد هذه الأعواد فاتكلّم بكلمات فيهنّ لله رضا ، ولهؤلاء الجالسين أجر وثواب! فأبى يزيد. فقال له بعض الناس : يا أمير المؤمنين! ائذن له ليصعد فلعلّنا نسمع منه شيئا. فقال لهم : إن صعد المنبر هذا لم ينزل إلّا بفضيحتي وفضيحة آل أبي سفيان! فقالوا : وما قدر ما يحسن هذا؟! فقال : إنّه من أهل بيت قد زقّوا العلم زقّا! فلم يزالوا به حتّى أذن له بالصعود (١).

وقال الإصفهاني الأموي : أمره أن يصعد المنبر فيخطب فيعتذر إلى الناس ممّا كان من أبيه! فصعد المنبر وخطب خطبة طويلة منها :

__________________

(١) مقتل الحسين عليه‌السلام للخوارزمي ٢ : ٦٩.

٢١١

«أيّها الناس! من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني فأنا اعرّفه بنفسي : أنا عليّ بن الحسين ، أنا ابن البشير النذير ، أنا ابن الداعي إلى الله بإذنه ، أنا ابن السراج المنير» ثمّ قال : وهي خطبة طويلة كرهت الإكثار بذكرها ونظائرها (١) ونقلها الحلبي عن الأوزاعي في الكتاب الأحمر : أنّه لما نزل الخطيب قام عليّ بن الحسين فقال (٢) وذكرها الخوارزمي أنّه قال :

أيّها الناس! أعطينا ستّا وفضّلنا بسبع :

اعطينا : العلم ، والحلم ، والسماحة ، والفصاحة ، والشجاعة ، والمحبّة في قلوب المؤمنين.

وفضّلنا : بأنّ منّا النبيّ المختار محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومنّا الصدّيق ، ومنّا الطيّار ، ومنّا أسد الله وأسد الرسول ، ومنّا سيّدة نساء العالمين فاطمة البتول ، ومنّا سبطا هذه الأمّة وسيّدا شباب أهل الجنة.

أيّها الناس! من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي :

أنا ابن مكّة ومنى ، أنا ابن زمزم والصفا ، أنا ابن من حمل الركن بأطراف الرداء ، أنا ابن خير من ائتزر وارتدى ، أنا ابن خير من انتعل واحتفى ، أنا ابن خير من طاف وسعى ، أنا ابن خير من حجّ ولبّى ، أنا ابن من حمل على البراق في الهواء ، أنا ابن من اسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، فسبحان من أسرى! أنا ابن من بلغ به جبرائيل إلى سدرة المنتهى ، أنا ابن من دنا فتدلّى فكان من ربّه قاب قوسين أو أدنى! أنا ابن من صلّى بملائكة السماء ، أنا ابن من أوحى إليه الجليل ما أوحى.

أنا ابن محمّد المصطفى ، أنا ابن عليّ المرتضى ، أنا ابن من ضرب خراطيم

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٨١.

(٢) مناقب آل أبي طالب ٤ : ١٨١.

٢١٢

الخلق حتى قالوا : لا إله إلّا الله! أنا ابن من ضرب بين يدي رسول الله بسيفين (ذي الفقار وغيره) وهاجر الهجرتين (إلى المدينة واليمن؟!) وبايع البيعتين (يوم الدار والرضوان) وصلّى إلى القبلتين (الكعبة وبيت المقدس) وقاتل ببدر وحنين ، ولم يكفر بالله طرفة عين.

أنا ابن «صالح المؤمنين» و «يعسوب الدين» ونور المجاهدين ، وزين العابدين ، وتاج البكّائين ، وأصبر الصابرين ، وأفضل القائمين من آله طه وياسين ورسول ربّ العالمين.

أنا ابن المؤيّد بجبرائيل ، والمنصور بميكائيل.

أنا ابن المحامي عن حريم المسلمين ، وقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين! والمجاهد أعداءه الناصبين! وأفضل من مشى من قريش أجمعين ، وأوّل من أجاب واستجاب لله من المؤمنين ، وأقدم السابقين ، وقاصم المعتدين ، ومبير المشركين ، وسهم من مرامي الله على المنافقين ، ولسان حكمة العابدين ، ناصر دين الله ، ووليّ أمر الله ، ولسان حكمة الله ، وعيبة علم الله. سمح سخيّ ، بهلول زكيّ أبطحي ، رضيّ مرضيّ ، مقدام همام ، صابر صوّام ، مهذّب قوّام ، شجاع قمقام. قاطع الأصلاب ، ومفرّق الأحزاب. أربطهم جنانا ، وأطلقهم عنانا ، وأجرأهم لسانا. وأمضاهم عزيمة ، وأشدّهم شكيمة. أسد باسل وغيث هاطل. إذا ازدلفت في الحروب الأسنة وقربت الأعنّة يطحنهم طحن الرحى ، ويذروهم ذرو الريح الهشيم! ليث الحجاز! وصاحب الإعجاز ، وكبش العراق والإمام بالنصّ والاستحقاق. مكّي مدني ، أبطحي تهامي ، خيفي عقبي ، بدري احدي ، مهاجري شجري (بيعة الشجرة). من العرب سيّدها ، ومن الوغى ليثها. وارث المشعرين (الحرام المزدلفة ، والحلال عرفات) وأبو السبطين الحسن والحسين عليهم‌السلام. مظهر العجائب ، ومفرّق الكتائب ، والشهاب الثاقب ، والنور العاقب (المتعاقب) أسد الله الغالب ، مطلوب كلّ طالب ، وغالب كلّ غالب. ذاك جدّي عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام.

٢١٣

أنا ابن فاطمة الزهراء ، أنا ابن سيّدة النساء أنا ابن الطهر البتول ، أنا ابن بضعة الرسول».

ثمّ لم يزل يقول أنا أنا ، حتّى ضجّ الناس بالبكاء والنحيب ، وخشى يزيد أن تكون فتنة (وآن أوان الأذان) فأمر المؤذّن أن يؤذّن ، فرفع المؤذّن صوته وقال : الله أكبر! فقال عليّ بن الحسين : كبّرت كبيرا لا يقاس ولا يدرك بالحواس! لا شيء أكبر من الله! فلمّا قال المؤذّن : أشهد أن لا إله إلّا الله ، قال عليّ : شهد بها شعري وبشري ولحمي ودمي ومخّي وعظمي! فلمّا قال المؤذّن : أشهد أنّ محمّدا رسول الله ، ولم يزل عليّ على المنبر فالتفت إلى يزيد وقال له : يا يزيد (بدون لقب) محمّد هذا جدّي أم جدّك؟! فإن زعمت أنّه جدّك فقد كذبت! وإن قلت : إنّه جدّي ، فلم قتلت عترته؟! وأكمل المؤذّن الأذان والإقامة فتقدّم يزيد وصلّى بهم الظهر (١) وإنّما صلّى معه بعضهم وتفرّق آخرون فلم يصلّوا معه (٢).

ثمّ قام إليه المنهال بن عمرو الطائي الكوفي وكان حاضرا بدمشق الشام فقال له : كيف أمسيت يابن رسول الله؟

فقال له : ويحك كيف أمسيت؟ أمسينا فيكم كهيئة بني إسرائيل في آل فرعون : يذبّحون أبناءهم ويستحيون نساءهم! وقد أمست العرب تفتخر على العجم بأنّ محمّدا منها! وأمست قريش تفتخر على سائر العرب بأن محمّدا منها ، وأمسى آل محمّد مقهورين مخذولين! فإلى الله نشكو كثرة عدوّنا وتظاهر الأعداء علينا وتفرّق ذات بيننا (٣).

__________________

(١) مقتل الحسين عليه‌السلام للخوارزمي ٢ : ٦٩ ـ ٧١.

(٢) الكامل البهائي ٢ : ٣٠٢.

(٣) مناقب آل أبي طالب ٤ : ١٨٢. والطبري في ذيل المذيل : ٦٣٠ ، عن الطبقات لابن سعد ٥ : ٢١٨.

٢١٤

وكأن يزيد أراد استعادة هيبة حكمه فأمر بحمل رأس الحسين عليه‌السلام والتطواف به في دمشق ، وأمامه قارئ يقرأ من القرآن سورة الكهف حتّى بلغ قوله : (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً)(١) وكان المنهال الطائي الكوفي حاضرا قال : فأنطق الله الرأس فقال بلسان ذلق ذرب : أعجب من أصحاب الكهف قتلي وحملي (٢).

ردّهم إلى أوطانهم :

مرّ الخبر عن تساهل النعمان بن بشير الأنصاري في التشديد على «شيعة» الحسين عليه‌السلام في الكوفة ، فعزله يزيد بابن زياد ، فعاد النعمان إلى أحضان حفيد أبي سفيان يزيد ، فكأنّما اليوم أراد تأنيبه على ذلك فدعاه ، فلمّا جاء قال له : كيف رأيت ما فعل عبيد الله بن زياد؟ فقال : الحرب دول! وكأنّه يريد أن الأمر لم يكن مضمونا لهم. فقال يزيد : الحمد لله الذي قتله! فأراد النعمان أن يبرّر تساهله فقال : قد كان أمير المؤمنين (معاوية!) يكره قتله!

فقال يزيد : ذلك قبل أن يخرج! ولو خرج على أمير المؤمنين (معاوية!) لقتله ـ والله ـ إن قدر عليه! فقال النعمان : ما كنت أدري ما كان يصنع (٣)!

__________________

(١) الكهف : ٩.

(٢) الخرائج والجرائح ٢ : ٥٧٧ ، الحديث الأوّل مرسلا ، وكذا السيوطي في الخصائص ٢ : ١٢٧.

(٣) ثمّ خرج النعمان ، فقال يزيد لمن حضره : هو كما ترونه منقطع إلينا وقد ولّاه أمير المؤمنين! ورفعه ، ولكنّ أبي كان يقول : لم أعرف أنصاريا قط إلّا يحب عليّا وأهله ويبغض قريشا بأسرها! مقتل الخوارزمي ٢ : ٥٩ عن ابن سعد عن الواقدي بسنده.

٢١٥

ثمّ لما تبنّى يزيد على التظاهر بعدم التبنّي والالتزام بإجرام ابن زياد بقتل الحسين عليه‌السلام ، تمايل إلى جانب النعمان يشاوره فيمن حضره من أهل الشام قال لهم : يا أهل الشام ما ترون في هؤلاء؟

فقال النعمان : انظر ما كان يصنعه بهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لو رآهم في هذه الحالة ، فاصنعه بهم! فقال : صدقت ، خلّوا عنهم ، وكساهم (١) وأمر بردّهم إلى المدينة (٢) وقال له : يا نعمان بن بشير! جهّزهم بما يصلحهم ، وابعث معهم من أهل الشام رجلا صالحا أمينا! وابعث معه أعوانا وخيلا ، فيسير بهم إلى المدينة (٣) وسمح لهم أن يحملوا معهم الرؤوس ولا سيما رأس الإمام عليه‌السلام (٤) فكان عليهم أن يمرّوا بكربلاء في الراجح.

فخرج بهم ، وكان يسايرهم من خلفهم وهم أمامه بحيث لا يفوتون طرفه ، فإذا نزلوا تنحّى عنهم ، وتفرّق هو وأصحابه حولهم يحرسونهم ، بحيث إذا أراد أحدهم قضاء حاجة لم يحتشم ، فلم يزل هكذا ينازلهم في الطريق ويسألهم عن حوائجهم (٥).

فزاروا الحسين عليه‌السلام في أربعينه :

على ما مرّ من موافقة يزيد على حملهم معهم الرؤوس ولا سيّما رأس الحسين عليه‌السلام ، كان من الراجح في غالب الظن أن يحملوها إلى مدفنهم بكربلاء ،

__________________

(١) العقد الفريد ٤ : ٣٨٢.

(٢) مقتل الحسين عليه‌السلام للخوارزمي ٢ : ٦٦ مع ما قبله.

(٣) تاريخ الطبري ٥ : ٤٦١ ـ ٤٦٢ عن أبي مخنف عن فاطمة ابنة الحسين عليه‌السلام ، وانظر الإرشاد ٢ : ١٢٢.

(٤) انظر : مقتل الحسين عليه‌السلام للمقرّم : ٤٦٩ ـ ٤٧٠ ، ونفس المهموم : ٤٦٦ ـ ٤٦٧ ، وتذكرة الخواص ٢ : ٢٠٦ ـ ٢٠٩.

(٥) المصدران الأسبقان.

٢١٦

ولمّا كانوا يسألونهم عن حوائجهم كما مرّ خبره ، قالوا لدليلهم : مرّ بنا على طريق العراق إلى كربلاء. فزاروا قبور الحسين وأهل بيته وأصحابه عليهم‌السلام ودفنوا رؤوسهم عندهم ، ثمّ عرّجوا على مدينة جدّهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (١).

وأرسل ابن نما قال : ولما ورد عيال الحسين عليه‌السلام إلى كربلاء وجدوا جابر بن عبد الله الأنصاري وجماعة من بني هاشم قدموا لزيارته في وقت واحد ، فتلاقوا بالحزن والاكتئاب والنوح على ذلك المصاب (٢) ولعلّه عنه أخذ ابن طاووس وزاد : فتلاقوا بالبكاء والحزن واللطم ، وأقاموا المآتم المقرّحة للأكباد ، واجتمع إليهم نساء ذلك السواد فأقاموا على ذلك أيّاما (٣).

ولعلّه لذلك أمر الصادق عليه‌السلام صفوان بن مهران الجمّال بأن يزور الحسين عليه‌السلام في الأربعين ضحى (٤).

وعدّها العسكري عليه‌السلام من علامات المؤمنين (٥).

__________________

(١) قال أبو ريحان البيروني (م ٤٤٠ ه‍) في كتابه : الآثار الباقية عن القرون الخالية : ٣٣١ : «وفي العشرين (من شهر صفر سنة ٦٠ ه‍) زيارة الأربعين ، وهم حرم (الحسين عليه‌السلام) بعد انصرافهم من الشام ، وردّوا رأس الحسين عليه‌السلام إلى مجثمه حتّى دفن مع جثته» وهو أقدم كتاب في هذا الباب.

(٢) مثير الأحزان لابن نما : ٥٩ وهو أقدم نصّ بهذا المعنى.

(٣) كتاب الملهوف على قتلى الطفوف : ١٧٦ ، ولعلّه يشير إلى المثير في الإقبال لما قال : «ووجدت (في غير المصباح) : أنّهم وصلوا كربلاء في عودتهم من الشام يوم العشرين من صفر» واستبعاده مردود بردود السيد القاضي في : تحقيق أربعين الحسين عليه‌السلام.

(٤) التهذيب ٦ : ١١٣ ، الحديث ٢٠١ ، ومصباح المتهجّد ٢ : ٧٣٠.

(٥) التهذيب ٦ : ٥٢ ، الحديث ١٢٢ ، ومصباح المتهجد : ٧٣٠ ، وأصلها عشرة في الهداية الكبرى للخصيبي مسندا.

٢١٧

ثمّ انفصلوا من كربلاء نحو المدينة حتّى قربوا منها فنزلوا.

لم يعرف من الرجال الذين أرسلهم يزيد مع آل الحسين عليه‌السلام ومع النعمان بن بشير الأنصاري المدني إلى المدينة ، وأمرهم بالرفق بهم وباتّباعهم للإمام السجاد عليه‌السلام ، لم يعرف منهم سوى من سمّاه ابن طاووس ببشير بن حذام ، ويظهر من الخبر أنّه كان قد تقرّب إلى الإمام وعرّفه بنفسه وأنّ أباه كان شاعرا ، فهنا يقول : إنّ الإمام قال له : يا بشير ، رحم الله أباك لقد كان شاعرا فهل تقدر على شيء منه؟ قال : بلى يابن رسول الله إنيّ لشاعر. فقال له : فادخل المدينة وانع أبا عبد الله عليه‌السلام ويظهر أنّ أمير ذلك الخيل والنعمان الأنصاري لم يأبيا ذلك عليه ، فركب فرسه إلى المدينة حتّى بلغ المسجد النبويّ الشريف فرفع صوته قائلا :

يا أهل يثرب لا مقام لكم بها

قتل الحسين! فأدمعي مدرار

الجسم منه بكربلاء مضرّج

والرأس منه على القناة يدار

ويظهر أنه كرّر ذلك حتّى اجتمع الناس حوله فقال لهم : هذا عليّ بن الحسين مع عمّاته وأخواته قد حلّوا بساحتكم ونزلوا بفنائكم ، وأنا رسوله إليكم اعرّفكم مكانه. قال : فلم أر يوما أمرّ على المسلمين منه! ولم أر باكيا أكثر من ذلك اليوم! وخرجن النساء يدعون بالويل والثبور ، ويضربن الخدود ويخمشن الوجوه ، وفيهنّ جواري نائحات ينحن على الحسين عليه‌السلام. ثمّ عرّفهم مكان نزولهم ، فبادروه.

قال : فضربت فرسي ورجعت إليهم ، فوجدت الناس قد أخذوا الطرق والمواضع ، فنزلت عن فرسي وتخطّيتهم حتّى قربت من فسطاط عليّ بن الحسين عليه‌السلام وكأنّهم كانوا قد تجهّزوا بكرسيّ معهم ، وبعض الموالي أو الخدم ، فخرج الإمام وهو يمسح دموعه بخرقة معه ، وخلفه خادم يحمل معه كرسيّا وضعه له فجلس عليه ، ولمّا رآه الناس ارتفعت أصواتهم بالبكاء ، وحنين النسوان

٢١٨

والجواري ، وتقدّم إليه الناس من كلّ ناحية يعزّونه بأبيه. ثمّ أومأ إليهم بيده أن اسكتوا ثمّ قال :

الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين ، بارئ الخلائق أجمعين ، الذي بعد فارتفع في السماوات العلى ، وقرب فشهد النجوى. نحمده على عظائم الأمور وفجائع الدهور ، وألم الفجايع ومضاضة اللواذع ، وجليل الرزء وعظيم المصائب ، الفاجعة الكاظّة ، الفادحة الجانحة.

أيّها القوم! إنّ الله ـ وله الحمد ـ ابتلانا بمصائب جليلة ، وثلمة في الإسلام عظيمة : قتل أبو عبد الله الحسين وعترته ، وسبيت نساؤه وصبيته! وداروا برأسه في البلدان ، من فوق عالي السنان! وهذه الرزيّة التي لا مثلها رزيّة!

أيّها الناس! فأيّ رجالات منكم يسرّون بعد قتله؟! أم أيّة عين تحبس دمعها وتضنّ (تبخل) عن انهمالها؟! فلقد بكت السبع الشداد لقتله ، وبكت البحار بأمواجها ، والسماوات بأركانها ، والأرض بأرجائها ، والأشجار بأغصانها ، والحيتان في لجج البحار والملائكة المقرّبون وأهل السماوات أجمعون.

يا أيّها الناس! أيّ قلب لا ينصدع لقتله؟! أم أيّ فؤاد لا يحنّ إليه؟! أم أيّ سمع يسمع هذه الثلمة التي ثلمت في الإسلام ولا يصمّ؟!

أيّها الناس! أصبحنا مطرودين مشرّدين مذودين ، وشاسعين عن الأمصار ، كأنّا أولاد ترك وكابل من غير جرم اجترمناه ، ولا مكروه ارتكبناه ، ولا ثلمة في الإسلام ثلمناها (ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ)(١) والله لو أنّ النبيّ تقدّم إليهم في قتالنا كما تقدّم إليهم في الوصاية بنا لما زادوا على ما فعلوا بنا! فإنّا لله وإنّا إليه راجعون ، من مصيبة ما أعظمها ، وأوجعها وأفجعها ،

__________________

(١) سورة ص : ٧ ، وفي الخبر : في آبائنا الأولين. خطأ ، ولعلّه من سهو الرواة.

٢١٩

وأكظّها وأفضعها ، وأمرّها وأفدحها! فعند الله نحتسب ما أصابنا وما بلغ بنا ، فإنّه عزيز ذو انتقام (١).

وكأنّ الوصي عليه‌السلام كان قد رأى من اقتدائه بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في زيجاته الائتلافية أن يصاهر أولاد الزبير وطلحة ، فزوّج الحسن عليه‌السلام ابنته أمّ الحسن لعبد الله بن الزبير! وتزوّج هو ابنة طلحة امّ إسحاق ورزق منها طلحة (٢) لكنّه مات صغيرا ، وكانت امّ إسحاق حسنة السلوك مع الحسن عليه‌السلام فأوصى أخاه الحسين عليه‌السلام أن يتزوّجها فتزوّجها بعده ، فرزق منها ابنته فاطمة (٣).

وكانت في السبايا ، فلمّا عادت إلى المدينة زارها أخوها إبراهيم بن طلحة ، وكأنّه اغتنمها فرصة للشماتة بعليّ بن الحسين عليهما‌السلام فتجرّأ بسوء الأدب وقال له : يا عليّ بن الحسين ، من غلب؟! فذكّره الإمام بما ذكّر به يزيد في كلامه له بالشام قال : إذا أردت أن تعلم من غلب فإذا دخل وقت الصلاة فأذّن وأقم (٤) فيعرف الغالب بالباقي ذكره فيهما!

ابن الزبير وقتل الحسين عليه‌السلام :

روى الطبري عن أبي مخنف قال :

__________________

(١) كتاب الملهوف على قتلى الطفوف لابن طاووس : ١٧٧ ـ ١٨٢.

(٢) أنساب الأشراف ٣ : ٧٨ ، الحديث ٨٤.

(٣) المعارف لابن قتيبة : ٢٣٣.

(٤) أمالي الطوسي : ٦٧٧ ، المجلس ٣٧ ، الحديث ١١ بسنده عن الصادق عليه‌السلام ، هذا ، ولا نجد في أبناء طلحة إبراهيم ، وإنما هو ابن محمد بن طلحة القتيل يوم الجمل ، كما في المعارف لابن قتيبة : ٢٣١ ـ ٢٣٣ وعليه فهو ابن أخي أم إسحاق وهي عمّته. ويعلم من خبر الصادق عليه‌السلام أنه اشتهر بنسبته إلى جدّه طلحة.

٢٢٠