القصص القرآني

السيد محمد باقر الحكيم

القصص القرآني

المؤلف:

السيد محمد باقر الحكيم


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المركز العالمي للعلوم الإسلاميّة
المطبعة: ليلى
الطبعة: ٢
ISBN: 964-8686-13-0
الصفحات: ٣٦٠

أشبه ذلك ، وهي مغيّبة لا تعرف إلّا بتعريف علّام الغيوب عزوجل (١).

٢ ـ تشريع ملّة الإسلام والتسمية به ، حيث كان إبراهيم هو الذي أسّس هذه الملّة بوحي الله تعالى وإرادته ، وهو الذي سمّاها بالإسلام ، وسمّى أتباعها بالمسلمين ، ووصّى بها بنيه وذريته ، وطلب من ربه أن يجعلهم امّة مسلمة (وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا ...)(٢) ، وأن يعرّفهم مناسكهم وعباداتهم ، وطلب من الله ـ تعالى ـ أن تتوارث ذريته هذا الصراط المستقيم حتى يبعث فيهم الرسول الذي يتلو عليهم آياته ، ويزكّيهم ، ويعلّمهم الكتاب والحكمة.

كما أنّه عليه‌السلام سمّى هذه الامّة من الناس بالمسلمين ، وجعلهم ملّة تقتدي بها الامم الآتية ، ومنها هذا النبي (محمّد) صلى‌الله‌عليه‌وآله وامته وجماعته الذين سمّاهم المسلمين من قبل وفي عصره.

(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ

__________________

(١) البحار ١٢ : ٧٠ ، عن الخصال ومعاني الاخبار للصدوق ، وهل تنصيب إبراهيم للإمامة كان في بداية هذه المرحلة؟ كما هو مقتضى طبيعة هذه الامور الهامة التي سوف نشير إليها ، وكما قد يفهم من تسلسل ذكرها في القرآن الكريم من سورة البقرة ؛ إذ ذكرت أوّلا الإمامة ، ثم جعل البيت وبناءه مثابة ، ثمّ تشريع الإسلام ملّة ووصيته لبنيه ، كما سوف نذكر ذلك.

أو هذه الإمامة كانت بعد قصّة الذبيح ، كما تشير إلى ذلك بعض الروايات التي فسرت الكلمات بالأمر بالذبح لولده وإنّه بعد هذا الابتلاء كان جعله إماما للناس ، وقد أشرنا إلى ذلك في المرحلة الثالثة برقم ٧ ، (البحار ١٢ : ٥٦ ، عن الطوسى والقمي ٥٩) والأوّل هو الأظهر ؛ لأنّه المستفاد من القرآن ، وضعف الرواية إن لم نأوّلها.

(٢) الحج : ٧٨.

٢٢١

السَّمِيعُ الْعَلِيمُ* رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ* رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ* وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ* إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ* وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ* أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ* تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ)(١).

(وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ)(٢).

(ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(٣).

(قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ* لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)(٤).

__________________

(١) البقرة : ١٢٧ ـ ١٣٤.

(٢) الحج : ٧٨.

(٣) النحل : ١٢٣.

(٤) الأنعام : ١٦٢ ـ ١٦٣.

٢٢٢

ومضافا إلى ذلك نجد إبراهيم عليه‌السلام يتخذ عدّة خطوات في تأسيس هذه الملّة الجديدة وتشخيص معالمها.

٣ ـ وكانت الخطوة الاولى ـ على ما يبدو من القرآن الكريم ـ لتأسيس هذه الملّة والشريعة الجديدة هو : القرار بجعل منطقة مكّة التي كان قد أسكن إبراهيم فيها زوجه هاجر وذريّته إسماعيل مثابة للناس وأمنا لهم يعبدون الله فيه ، ويقيمون الصلاة لله تعالى وحده ، ويجتنبون فيه عبادة الأصنام التي كانت عبادة رائجة في كلّ مكان من العالم.

وكانت أرضية تنفيذ هذا القرار الإلهي مهيأة من ناحية أنّ هذه الأرض هي الأرض التي كان قد بنى فيها آدم ، واتخذ الملائكة بالأمر الإلهي مكانا فيه للعبادة. وجاء إبراهيم ليحيي هذه السنة التاريخية ، وهذا الأثر الإلهي العظيم (١).

__________________

(١) ورد في روايات أهل البيت عليهم‌السلام ما يؤكد هذا البعد التاريخي الذي أشار إليه القرآن الكريم وشرحه. البحار ١٢ : ٩٧ ـ ١٠٠ ، عن تفسير القمي. «فلما بلغ إسماعيل مبلغ الرجال أمر الله إبراهيم أن يبني البيت ، فقال : يا ربّ في أي بقعة؟ قال : في البقعة التي أنزلت على آدم القبة فأضاء لها الحرم ، فلم تزل القبة التي أنزلها الله على آدم قائمة حتى كان أيام الطوفان أيام نوح ، فلمّا غرقت الدنيا رفع الله تلك القبة ، وغرقت الدنيا إلّا موضع البيت ، فسميت البيت العتيق ؛ لأنّه اعتق من الغرق ، فلمّا أمر الله ـ عزوجل ـ إبراهيم أن يبني البيت ، ولم يدر في أي مكان يبنيه ، فبعث الله جبرئيل (ع) فخط له موضع البيت ، فأنزل الله عليه القواعد من الجنة ، وكان الحجر الذي أنزله الله على آدم أشد بياضا من الثلج ، فلمّا لمسته أيدي الكفار اسودّ ، فبنى إبراهيم البيت ، ونقل إسماعيل الحجر من ذي طوى ، فرفعه إلى السماء تسعة أذرع ؛ ثم دلّه على موضع الحجر ، فاستخرجه إبراهيم ، ووضعه في موضعه الذي هو فيه الأوّل ، وجعل له بابين : باب إلى المشرق ، وباب إلى المغرب ، والباب الذي إلى المغرب يسمّى المستجار ، ثم ألقى عليه الشجر والاذخر ، وعلّقت هاجر على بابه كساء كان معها ، وكانوا يكنون تحته ...».

٢٢٣

كما أنّ هذه الارض كانت خالية من الناس في ذلك الوقت ، فهي أرض بكر لا ماء فيها ولا كلأ ولا زرع ولا ثمر يمكن لابراهيم أن يتصرف فيها كيف يشاء ، ويصححها على وفق الملّة الجديدة.

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ* رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(١).

(وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)(٢).

(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ)(٣).

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)(٤).

٤ ـ وكانت الخطوة الثانية هي : تشريع مناسك الحجّ للناس على ما يشير إلى ذلك القرآن الكريم ، وتؤيده الروايات الواردة عن أهل البيت عليهم‌السلام ، فقد ورد في القرآن الكريم من سورة الحج ـ بعد آية الأذان في الناس بالحجّ ـ بيان مجموعة من تشريعات الحج (٥).

__________________

(١) إبراهيم : ٣٥ ـ ٣٦.

(٢) الحج : ٢٦.

(٣) آل عمران : ٩٦.

(٤) البقرة : ١٢٦.

(٥) عن كلثوم بن عبد المؤمن الحرّاني ، عن أبي عبد الله (ع) قال : «أمر الله ـ عزوجل ـ

٢٢٤

__________________

إبراهيم (ع) أن يحجّ ويحجّ إسماعيل معه ، ويسكنه الحرم ، فحجّا على جمل أحمر ، وما معهما إلّا جبرئيل (ع) ، فلمّا بلغا الحرم قال له جبرئيل : يا إبراهيم انزلا فاغتسلا قبل أن تدخلا الحرم ، فنزلا فاغتسلا ، وأراهما كيف يتهيّئان للإحرام ففعلا ، ثمّ أمرهما ، فأهلا بالحج ، وأمرهما بالتلبيات الأربع التي لبّى بها المرسلون ، ثمّ صار بهما إلى الصفا ، فنزلا وقام جبرئيل بينهما ، واستقبل البيت ، فكبّر الله ، وكبّرا ، وهلّل الله وهلّلا ، وحمد الله وحمدا ، ومجّد الله ومجّدا ، وأثنى عليه وفعلا مثل ذلك ، وتقدم جبرئيل وتقدما يثنيان على الله عزوجل ويمجّدانه حتى انتهى بهما إلى موضع الحجر ، فاستلم جبرئيل الحجر وأمرهما أن يستلما ، وطاف بهما أسبوعا ، ثم قام بهما في موضع مقام إبراهيم (ع) ، فصلّى ركعتين ، وصلّيا ، ثم أراهما المناسك وما يعملان به ، فلمّا قضيا مناسكهما أمر الله إبراهيم (ع) بالانصراف ، وأقام إسماعيل وحده ما معه أحد غير امّه ، فلمّا كان من قابل أذن الله لإبراهيم في الحجّ وبناء الكعبة ، وكانت العرب تحجّ إليه ، وإنّما كان ردما إلّا أن قواعده معروفة ، فلمّا صدر الناس جمع إسماعيل الحجارة ، وطرحها في جوف الكعبة ، فلمّا أذن الله له في البناء قدم إبراهيم (ع) فقال : يا بنيّ قد أمرنا الله ببناء الكعبة ، وكشفا عنها ، فإذا هو حجر واحد أحمر ، فأوحى الله ـ عزوجل ـ إليه ضع بناءها عليه ، وأنزل الله ـ عزوجل ـ أربعة أملاك يجمعون إليه الحجارة ، فكان إبراهيم وإسماعيل عليهما‌السلام يضعان الحجارة ، والملائكة تناولهما حتى تمّت اثنى عشر ذراعا ، وهيّئا له بابين : بابا يدخل منه ، وبابا يخرج منه ، ووضعا عليه عتبا وشرحا من حديد على أبوابه ، وكانت الكعبة عريانة ، فصدر إبراهيم ، وقد سوى البيت ، وأقام إسماعيل ...

وكانت الكعبة ليست بمسقّفة ، فوضع إسماعيل فيها أعمدة ، مثل هذه الأعمدة التي ترون من خشب ، وسقّفها إسماعيل بالجرائد ، وسوّاها بالطين ، فجاءت العرب من الحول ، فدخلوا الكعبة ، ورأوا عمارتها ، فقالوا : ينبغي لعامل هذا البيت أن يزاد ، فلمّا كان من قابل جاءه الهدي ، فلم يدري إسماعيل كيف يصنع ، فأوحى الله ـ عزوجل ـ إليه أن انحره ، وأطعمه

٢٢٥

(لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ* ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ* ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ* حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ* ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ* لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ* وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ* الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ)(١).

__________________

الحاج ، قال : وشكا إسماعيل إلى إبراهيم قلّة الماء ، فأوحى الله ـ عزوجل ـ إلى إبراهيم أن احتفر بئرا يكون منها شراب الحاج ، فنزل جبرئيل عليه‌السلام ، فاحتفر قليبهم ، يعني : زمزم حتى ظهر ماؤها ، ثم قال جبرئيل (ع) : انزل يا إبراهيم ، فنزل بعد جبرئيل فقال : يا إبراهيم اضرب في أربع زوايا ، وقل : بسم الله ، قال : فضرب إبراهيم (ع) في الزاوية التي تلي البيت ، وقال : بسم الله ، فانفجرت عين ، ثمّ ضرب في الزاوية الثانية ، وقال : بسم الله فانفجرت عين ، ثمّ ضرب في الثالثة ، وقال : بسم الله ، فانفجرت عين ، ثم ضرب في الرابعة ، وقال : بسم الله فانفجرت عين ، وقال له جبرئيل : اشرب يا إبراهيم ، وادع لولدك فيها بالبركة ، وخرج إبراهيم عليه‌السلام وجبرئيل جميعا من البئر ، فقال له : افض عليك يا إبراهيم ، وطف حول البيت ، فهذه سقيا سقاها الله ولد إسماعيل ، فسار إبراهيم ، وشيّعه إسماعيل حتى خرج من الحرم ، فذهب إبراهيم ، ورجع إسماعيل إلى الحرم». الكافي ٤ : ٢٠٢ ـ ٢٠٥.

(١) الحج : ٢٨ ـ ٣٥.

٢٢٦

٥ ـ وكانت الخطوة الثالثة في تأسيس هذه الملة الجديدة هي : بناء البيت وإحياء هذا الأثر الديني التأريخي ، بعد أن دلّه الله ـ تعالى ـ على موضع بنائه ، وجعله بيتا طاهرا من الدنس يعبد الله ـ تعالى ـ فيه وحده ، ويتخذه المتعبدون مكانا للطواف والاعتكاف به والصلاة فيه ، والتي تتمثل بالركوع والسجود ، وهي صلاة تجمع كلّ أشكال الخضوع والعبادة مع الطهارة والتوحيد لله تعالى.

(وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)(١).

(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)(٢).

٦ ـ وكانت الخطوة الرابعة هي : الأذان في الناس بالحج الذي كان يعبّر عن أوسع نداء يوجهه إبراهيم عليه‌السلام في دعوته ورسالته على الإطلاق ، كما يشير إليه القرآن الكريم ، وتنص عليه الروايات بشكل واضح :

(وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ)(٣).

__________________

(١) البقرة : ١٢٥.

(٢) البقرة : ١٢٧ ، يمكن أن نفهم التسلسل بين اتخاذ البلد آمنا وبناء البيت من هذه الآية والآية التي قبلها التي ذكرناها في الفقرة السابقة ؛ إذ تشرحان الآية ١٢٥ السابقة ، وكذلك من آيات سورة إبراهيم المتقدّمة والتي تشرح الهدف من ذلك.

(٣) الحج : ٢٧.

٢٢٧

وقد ورد في بيان هذا النداء في رواية معتبرة عن الإمام الصادق عليه‌السلام ، رواها الصدوق في العلل : ابي ، عن سعد ، عن ابن عيسى ، عن الحسن بن علي بن فضّال ، عن عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «لمّا أمر الله ـ عزوجل ـ إبراهيم وإسماعيل ببنيان البيت وتمّ بناؤه ، أمره أن يصعد ركنا ثم ينادي في الناس : ألا هلمّ الحجّ ، فلو نادى هلمّوا إلى الحج لم يحجّ إلّا من كان ـ يومئذ ـ إنسيا مخلوقا ، ولكن نادى هلمّ الحجّ ، فلبّى الناس في أصلاب الرجال : لبّيك داعي الله لبّيك داعي الله ، فمن لبّى عشرا حجّ عشرا ، ومن لبّى خمسا حجّ خمسا ، ومن لبّى أكثر فبعدد ذلك ، ومن لبّى واحدا حجّ واحدا ، ومن لم يلبّ لم يحجّ».

خصائص المرحلة الرابعة :

١ ـ بناء وتأسيس مراكز العبادة لله تعالى ، بحيث تتحوّل من مركز خاص للتعبد ، ـ كما هو الشأن في بعض الأماكن التي كان يتخذها العابدون لعبادتهم من الكهوف ، أو رءوس الجبال ، أو الخلوة بالله تعالى ـ إلى مراكز عامة يتعبد بها الناس بشكل جماعي لله تعالى ، بصورة تصبح شعيرة من شعائر الدين.

وقد كان بناء البيت الحرام هو ابرز مظاهر هذه السنة الإلهيّة ، كما يفهم من القرآن الكريم :

(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ* فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ)(١).

وتشير نصوص التوراة وبعض النصوص التاريخية إلى أنّ إبراهيم عليه‌السلام كان

__________________

(١) آل عمران : ٩٦ ـ ٩٧.

٢٢٨

قد اتخذ ـ عادة ـ أماكن للذبح والعبادة في فلسطين ، ولكن لا يبدو فيها أنّها أماكن تتصف بهذه الصفة العامة.

٢ ـ تشريع الاحكام للمجتمع الانساني ؛ إذ يشير القرآن الكريم إلى أعم أركان هذا التشريع ، وهي : الاركان الخمسة التي بني عليها الإسلام : الصلاة ، والزكاة ، والحج ، والصوم ، والإمامة ، وقد صرح القرآن الكريم بالصلاة والحجّ والإمامة ، وأشار إلى الزكاة بالذبح ، وكذلك ما ورد في وصية إسماعيل لأهله بالصلاة والزكاة (وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا)(١) وإلى الصوم بالاعتكاف.

(وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)(٢) ، ويبدو من بعض الروايات أنّ هناك مجموعة من التشريعات الاخرى وضعها إبراهيم لأوّل مرة ، مثل : الخمس ، والجهاد في سبيل الله ، وغيرها (٣).

٣ ـ وضع التسمية لدين التوحيد والملّة الجديدة ؛ لتمييزها من الاديان والملل الاخرى ، وتمييز المتدينين بها والمتعبدين لله ـ تعالى ـ على صراطها ، عن المتعبدين للأوثان أو المشركين بالله سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا.

__________________

(١) مريم : ٥٥.

(٢) البقرة : ١٢٥.

(٣) فقد روى السكوني عن الصادق (ع): «كان إبراهيم أوّل الناس أضاف الضيف ، وأوّل الناس اختتن ، وأوّل من قاتل في سبيل الله ، وأوّل من أخرج الخمس ، وأوّل من اتخذ النعلين ، وأوّل من اتخذ الرايات». مجمع البيان ١ : ٢٠٠.

٢٢٩

ولذلك نجد القرآن الكريم يؤكّد هذا المفهوم في عدة مواضع له ؛ لأهمية هذه الخصوصية ، ولتأكيد ارتباط الاسلام بهذه الملة (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ)(١) ، (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(٢) ، (قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(٣) ، (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(٤) ، (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً)(٥) ، (قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(٦) ، (قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ* وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ)(٧) ، (وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ

__________________

(١) البقرة : ١٣٠.

(٢) البقرة : ١٣٥.

(٣) آل عمران : ٩٥.

(٤) النحل : ١٢٣.

(٥) النساء : ١٢٥.

(٦) الأنعام : ١٦١.

(٧) يوسف : ٣٧ ـ ٣٨.

٢٣٠

سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ)(١).

بل يبدو من القرآن الكريم من خلال موارد استعمال كلمة (الله) ، أنّ هذه الكلمة لم تعرف إلّا بعد إبراهيم عليه‌السلام.

٤ ـ قيام مجتمع واستقراره من خلال إرساء معالم هذا المجتمع بإقامة أركانه التي أشرنا إليها في النقطة الثانية ، ومن خلال تمييزه بالتسمية التي اشير إليها في النقطة الثالثة ، ومن خلال إقامة مؤسساته ، وهي : بناء البيت ، كما أشرنا إلى ذلك في النقطة الاولى.

كما يمكن أن يفهم ذلك من طلب إبراهيم عليه‌السلام للإمامة في ذريته ، فإنّ هذا الطلب يشير إلى استقرار الوضع الاجتماعي ؛ لأنّ الإمامة شأن من شئون المجتمع الانساني ، على ما أشرنا إلى ذلك في تفسير الإمامة.

وسوف نتعرّف على ما يؤكّد هذا المعنى في الملاحظات العامة حول القصّة.

٥ ـ الاستقرار في خط التوحيد لله ـ تعالى ـ في العبادة ، وانتشاره في فلسطين والحجاز من خلال خط إسماعيل عليه‌السلام ، ودعوة العرب والناس المحيطين بالبيت الحرام للحجّ والعبادة ، ومن خلال خط إسحاق ويعقوب عليهما‌السلام وأبنائهم ، ومن كان يؤمن بالإسلام من الناس في فلسطين.

وهذا ممّا يشير إليه القرآن الكريم في موضوع وصية إبراهيم عليه‌السلام لبنيه بالإسلام ، ووصية يعقوب لبنيه بذلك ايضا.

__________________

(١) الحج : ٧٨.

٢٣١

(وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)(١) وتؤكده الآيات التي بعدها حتى آية ١٤١.

٦ ـ إن عهد الامامة هو أعظم المقامات الرسالية الالهية ؛ إذ لا يمكن الوصول إليه إلا من خلال الامتحان الصعب ، والاهلية الكاملة ، والعصمة المطلقة من الآثام والذنوب والظلم ، ولذا استحقه إبراهيم عليه‌السلام في آخر ايام حياته بعد هذه المسيرة الطويلة من الامتحان والابتلاء.

وعند ما طلبه لذريته كان شرط العصمة من الذنوب والظلم هو أوّل هذه الشروط التي تؤهل صاحبها لذلك.

٧ ـ استمرار الامامة في ذرية إبراهيم عليه‌السلام حتى تصل إلى النبي الخاتم للانبياء والمرسلين (محمد) صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ إذ بشر به إبراهيم عليه‌السلام من خلال دعائه وولده إسماعيل وهما يقيمان قواعد البيت الحرام.

(رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ* رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(٢).

__________________

(١) البقرة : ١٣٢

(٢) البقرة : ١٢٨ ـ ١٢٩

٢٣٢

الفصل الثالث

قصّة موسى عليه‌السلام في القرآن

قصّة موسى في تسلسلها التاريخي.

مراحل حياة موسى.

الموضوعات التي تحدثت عنها القصة.

٢٣٣
٢٣٤

الإسرائيليون في المجتمع المصري* (*) :

لقد عاش الإسرائيليون في المجتمع المصري ، وتكاثروا فيه منذ هجرة يوسف وأبيه يعقوب وبقية أولاده إلى مصر ، وقد اضطهد الفراعنة الإسرائيليين في الفترة السابقة على ولادة موسى ، وبلغ الاضطهاد درجة مريعة حين اتخذ الفراعنة قرارا بذبح أبناء الإسرائيليين ، واستحياء نسائهم من أجل الخدمة والعمل ، فأراد الله ـ سبحانه وتعالى ـ أن يتفضل على هؤلاء المستضعفين ، وينقذهم من حالتهم هذه ، فهيّأ لهم نبيه موسى ، فعمل على إنقاذهم من الفراعنة (١) وهدايتهم من المجتمع الوثني إلى المجتمع التوحيدي.

ولادة موسى وإرضاعه :

وحين ولد موسى عليه‌السلام أوحى الله ـ سبحانه ـ إلى أمه أن ترضعه ، وحين

__________________

(٠) (*) نذكر من أحداث القصّة بمقدار ما تعرّض له القرآن الكريم.

(١) الأعراف : ١٤١ ، إبراهيم : ٦ ، القصص : ٣ ـ ٦.

٢٣٥

تخاف عليه من الذبح العام فعليها أن تضعه فيما يشبه الصندوق وتلقيه في اليم ، وهكذا شاءت إرادة الله أن يلقيه اليم إلى الساحل ، وإذا بآل فرعون يلتقطونه ، فيعرفون أنّه من أولاد بني إسرائيل ، فتدخل امرأة فرعون في شأنه ، وتطلب أن يتركوه لها على أن تتخذه خادما أو ولدا تأنس به مع فرعون.

وقد عاشت والدة موسى لحظات حرجة من حين إلقائه في اليم ، فأمرت اخته أن تقصّ أثره ، وتتبع سير الصندوق ، فتتعرف على مصيره. ففعلت ، وحين عرض الطفل على المرضعات أبى أن يقبل واحدة منها ، فانتهزت أخته هذه الفرصة ، فعرضت على آل فرعون أن تدلّهم على امرأة مرضعة تتكفل رعايته وحضانته وإرضاعه ، وكانت هذه المرأة بطبيعة الحال هي ام موسى ، وهكذا رجع الطفل إلى أمه ؛ ليطمئن قلبها ، وتعلم أنّ ما وعدها الله ـ سبحانه ـ من حفظه وإرجاعه إليها حقّ لا شك فيه. ولقد شب موسى في البلاط الفرعوني حتى إذا بلغ أشده وهبه الله ـ سبحانه ـ العلم والحكمة (١).

خروج موسى من مصر :

ودخل موسى المدينة في يوم ما (عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها) (متنكرا) فوجد فيها رجلا من شيعته (من الإسرائيليين) يقاتل رجلا آخر من اعدائه (الفرعونيين) ، فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه ، فوكزه موسى فقضى عليه ، ولم يكن ينتظر موسى أن تؤدي هذه الضربة إلى الموت ، ولذلك ندم على هذا العمل الخطير الذي انساق إليه بسبب مشاعره النبيلة في الانتصار إلى المظلومين ، فاستغفر ربه عليه.

__________________

(١) القصص : ٧ ـ ١٤ ، طه : ٣٧ ـ ٤٠.

٢٣٦

وأصبح موسى في المدينة خائفا يترقب أن ينكشف أمره فيؤخذ بدم الفرعوني ، فينزل إلى المدينة مرة اخرى فاذا به يواجه قضية اخرى متشابهة ، وإذا بالذي استنصره بالأمس فنصره يستصرخه اليوم أيضا ، فعاتبه موسى على عمله ، ووصفه بأنّه غوي مبين يريد توريطه وإحراجه. ثم لمّا أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما (موسى والإسرائيلي) ظن الإسرائيلي أنّ موسى يقصد البطش به لا بالفرعوني ، فقال لموسى : (... أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ ....)(١). وبذلك كشف الإسرائيلي عن هوية قاتل الفرعوني الأوّل ، وفضح قتل موسى له ، فعمل الملأ وهمّ عليه القوم على قتله بدم الفرعوني.

وجاء رجل من أقصى المدينة وأعاليها مسرعا ؛ ليخبر موسى بالأمر ويقول له : (... إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ ...)(*) وطلب منه المبادرة إلى الخروج والهروب من الفرعونيين.

فخرج موسى من المدينة خائفا يترقب ان يوافيه الطلب أو تصل إليه ايدي الفرعونيين ، فدعا ربّه أن ينجيه من القوم الظالمين.

موسى في أرض مدين :

وانتهى السير بموسى إلى أرض مدين ، فلمّا وصلها أحسّ بالأمن ، وانتعش الأمل في نفسه ، فقال : (... عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ* وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ ...) وهم الرعاة (... يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ

__________________

(١) القصص : ٢٠.

(١) (*) القصص : ٢٠.

٢٣٧

امْرَأَتَيْنِ ...) في حيرة من أمرهما تذودان الأغنام ، وتجمعانها ولا تسقيان. فأخذه العطف عليهما ، فقال لهما : (... ما خَطْبُكُما ...) ولما ذا لا تسقيان؟ قالتا له : (... لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ ...) وينتهوا من السقي ؛ لأنّنا امرأتان لا يمكننا أن نزاحم الرجال (... وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ ...) لا يتمكن من القيام بهذه المهمة الشاقة. فتولى موسى عنهما هذه المهمة ، فسقى لهما ، ثمّ انصرف إلى ناحية الظل وهو يشكو ألم الجوع والغربة والواحدة ، فقال : (... رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ)(١).

ولما رجعت الامرأتان إلى أبيهما الشيخ ، وعرف منهما قصّة هذا الانسان الغريب الذي سقى لهما ، بعث إلى موسى إحداهما لتدعوه ، فجاءته تمشي على استحياء فقالت (... إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا ...) فأجاب موسى الدعوة ، وحين انتهى إلى الشيخ طلب منه أن يخبره عن حاله ، فقصّ موسى عليه قصّة هربه وسببها ، وحينئذ آمنه الشيخ وقال له : (... لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)(٢).

وقد طلبت إحدى ابنتي الشيخ من أبيها أن يستأجر موسى للعمل عنده ، وليقوم عنهما ببعض المهام الملقاة على عاتقهما نتيجة عجز الشيخ وضعفه ، وذلك نظرا لقوة موسى وقدرته على القيام بالعمل مع أمانته وشرف نفسه.

فقال له الشيخ : (... إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ ...)(٣) شريطة

__________________

(١) القصص : ٢٤.

(٢) القصص : ٢٥.

(٣) القصص : ٢٧.

٢٣٨

أن تأجرني نفسك ثماني حجج (سنين) ، فإذا اتمتها عشرا فذلك من عندك ، فوافق موسى على هذا الزواج وتمّ العقد بينهما.

بعثة موسى عليه‌السلام ورجوعه إلى مصر :

وبعد أن قضى موسى الأجل (السنوات العشر) بينه وبين صهره سار بأهله ، فإذا به يشاهد نارا من جانب الطور الأيمن ، وهو : جبل صغير ، وقد كان بحاجة إليها ، (... فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً)(١) فلمّا أتاها وجد شجرة ، وجاء نداء الله ـ سبحانه ـ من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من جانب الشجرة : (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً* وَأَنَا اخْتَرْتُكَ) [لوحيي ورسالتي] (فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى)(٢) إليك.

ثم قال الله له : (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى * قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى) قال الله له : (... أَلْقِها يا مُوسى) فإذا هي [تتحول إلى] (... حَيَّةٌ تَسْعى)(٣) ، (... فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى) [هاربا] (وَلَمْ يُعَقِّبْ) [فناداه الله] (يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ)(٤) ، (... إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ)(٥) (... سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى)(٦).

__________________

(١) طه : ١٠.

(٢) طه : ١٢ ـ ١٣.

(٣) طه : ١٧ ـ ٢٠.

(٤) القصص : ٣١.

(٥) النمل : ١٠.

(٦) طه : ٢١.

٢٣٩

ثم قال له : (... أَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ...)(١) ومرض ، فأدخل يده واذا بها تخرج بيضاء ، ثمّ ردها فعادت كما كانت.

وبعد ذلك أمره الله ـ سبحانه ـ أن يذهب بهاتين الآيتين المعجزتين إلى فرعون وقومه ؛ ليدعوهم إلى الله سبحانه ، فخاف موسى من تحمل هذه المهمة ، فقال : (... رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ* وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي ...) وذلك من أجل أن (... يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ.)

قال الله له : (... سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما ...)(٢) ، (فَأْتِياهُ) (فرعون) (... فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ ...)(٣).

وحينما عاد موسى إلى مصر توجه مع أخيه هارون إلى فرعون ، فقالا له :

(... إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ ...) رب العالمين ، ولا يمكن أن نقول على الله غير الحقّ الذي أرسلنا به ، وقد جئناك ببينة من ربك (... فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ ...) وارفع عنهم العذاب الذي تنزله فيهم ، وقد قالا له ذلك بشكل لين وباسلوب استعطافي هادئ.

وكأنّ فرعون قد استغرب هذه الرسالة من موسى وأخيه ؛ لأنّه كان يعرف أنّ

__________________

(١) النمل : ١٢.

(٢) القصص : ٣٣ ـ ٣٥.

(٣) طه : ٤٧.

٢٤٠