القصص القرآني

السيد محمد باقر الحكيم

القصص القرآني

المؤلف:

السيد محمد باقر الحكيم


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المركز العالمي للعلوم الإسلاميّة
المطبعة: ليلى
الطبعة: ٢
ISBN: 964-8686-13-0
الصفحات: ٣٦٠

خضوعهم أو تقديسهم لهذا المخلوق الإلهي المتميز ، بما أودع الله فيه من روحه ، ووهبه العلم والإرادة والقدرة على التكامل والصعود إلى الدرجات الكمالية العالية.

ولعلّ هذا المعنى الثاني هو الظاهر من مجموعة الصور والآيات القرآنية التي تحدّثت عن هذا الموضوع ؛ إذ نلاحظ أنّ امتناع إبليس عن السجود إنّما كان بسبب الاستكبار لتفضيل هذا المخلوق ؛ لأنّه كان يطرح في تفسير عدم السجود أنّه أفضل من آدم (... قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ)(١) ، كما أنّ القرآن الكريم يشير إلى أنّ الإنسان الصالح المخلص يكون خارجا عن قدرة إبليس ومكره ، ومن ثمّ فهو مهيمن على هذه القوة الشيطانية :

(قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)(٢).

إبليس من الملائكة أم لا؟

وهناك سؤال آخر عن حقيقة إبليس إنّه من الملائكة أو الجن؟ حيث ورد في القرآن الكريم وصفه بكلا هذين العنوانين :

فاذا كان من الملائكة فكيف يعصي الله تعالى ، وقد وصف الله تعالى الملائكة بأنهم : (... عِبادٌ مُكْرَمُونَ)(٣) لا يخالفون و (... لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ ...)(٤) ، وهم بأمره يعملون.

وإذا كان من الجن فلما ذا وضع إلى جانب الملائكة في هذه القصّة؟

__________________

(١) الأعراف : ١٢.

(٢) ص : ٨٢ ـ ٨٣.

(٣) الأنبياء : ٢٦.

(٤) التحريم : ٦.

١٤١

وتذكر عادة للاستدلال على أنّ ابليس من الجن وليس من الملائكة ، ويختلف عن طبيعة الملائكة عدّة شواهد ، إضافة إلى وصف القرآن الكريم له بذلك ، ومن هذه الشواهد : أنّ أوصاف الملائكة لا تنطبق على ابليس ؛ لأنّهم وصفوا بالطاعة وقد تمرد إبليس ، ووصفوا بأنّهم رسل : (... جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ ...)(١) ، ومن هذه الشواهد : أنّ الملائكة لا ذرية لهم ؛ إذ لا يتناسلون ولا شهوة لهم ، وأمّا إبليس فله ذرية كما أشار القرآن الكريم إلى ذلك : (... أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي ...)(٢).

ولكن هذه الشواهد لا تكفي في عدّ إبليس من الجن في مقابل الملائكة ؛ وذلك لأنّ وصف القرآن الكريم لابليس بأنّه من الجن يمكن أن يكون من ناحية أنّ بعض الملائكة يوصف بأنّه جن ، إن لم يكن هذا الوصف عاما لهم ؛ لأنّ الجن مأخوذ من الخفاء والستر ، والملائكة مستورون عن عوالمنا ومشاهدنا.

كما نلاحظ هذا الوصف في نسبة الملائكة إلى الله تعالى عند المشركين ؛ إذ افترضوا أنّ الملائكة هم بنات الله ـ على ما ورد في القرآن الكريم ـ وفي نفس الوقت يصف القرآن الكريم هؤلاء الملائكة بأنهم جنة : (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً ...)(٣).

كما أنّ الطاعة ليست صفة لازمة لعنوان الملائكة ، بل نلاحظ في القرآن الكريم حصول التمرد لدى بعض الملائكة ، كما في الملكين هاروت وماروت (٤).

__________________

(١) فاطر : ١.

(٢) الكهف : ٥٠.

(٣) الصافات : ١٥٨.

(٤) البقرة : ١٠٢.

١٤٢

وكذلك موضوع (الذرية) فإنّها يمكن أن تكون من الخصوصيات التي اختص بها إبليس ؛ ليقوم بهذا الدور الخاص له في حياة الإنسان.

نعم ، يوجد في بعض الروايات ما يشير إلى أنّ ابليس كان من الجن وليس من الملائكة ، وإنّما كان يعاشرهم ، وأنّهم كانوا يظنون أنّه منهم ، ولكن لا يمكن الاعتماد على مثل هذه الروايات.

هل خلق آدم للجنّة أم للأرض؟

وهناك سؤال آخر ، وهو : أنّ آدم هل خلق للأرض كما يبدو ذلك في أوّل المقطع الشريف : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ...)(١) ، أو إنّه مخلوق للجنة ، وبعد العصيان طرد للأرض ، كما يفهم ذلك من القسم الثاني من هذا المقطع الشريف : (وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ)(٢).

وقد حاول بعض الملحدين أن يثير الشبهات حول هذا الموضوع بدعوى أنّ هذا المقطع القرآني يبدو وكأن إدخال آدم للجنة والتوبة عن فعله إنّما هما عملية شكلية وصورية ؛ لطرده منها وإنزاله إلى الأرض.

ولكن الجواب عن هذا السؤال واضح ، وهو : أنّ آدم إنّما خلق للأرض وخلافة الله فيها ، وكان وجوده في الجنة هو مرحلة متقدّمة (تأهيلية) تؤهله للقيام بدور الخلافة ؛ إذ لم يكن من الممكن لآدم أن يقوم بهذا الدور بدون هذا التأهيل والتجربة التي خاضها في الجنة ، على ما سوف نوضح هذا الأمر في بيان الجانب الآخر.

__________________

(١) البقرة : ٣٠.

(٢) البقرة : ٣٥.

١٤٣

على أنّ هذه الجنة يمكن أن تكون جنة أرضية وليست جنة (الخلد) ؛ إذ لا يوجد دليل على أنّها جنة الخلد ، وكان هبوطه وإخراجه منها يعني بداية دور تحمّل المسئولية والتعب والجهد من أجل الحياة واستمرارها ، فهو منذ البداية كان على الأرض ، ولكن في مكان منها لا تعب ولا عناء فيه ، وقد تهيأت له جميع أسباب العيش والراحة والاستقرار ، وبعد المعصية بدأت حياة جديدة تختلف عن الحياة السابقة في خصوصياتها ومواصفاتها وإن كانت على الأرض أيضا.

وبذلك يمكن أن نجيب عن سؤال آخر ، هو : أنّه كيف تسنى لإبليس أن يغوي آدم في الجنة مع أنّ دخولها محرّم على إبليس؟

إذ يمكن أن تكون هذه الجنة أرضية ولم يمنع من دخولها ، ولعلّ ضمير الجمع في قوله تعالى : (... وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ...)(١) يشير إلى ذلك.

على أنّ عملية الإغواء يمكن أن تكون من خلال وجوده في خارج الجنة ؛ لأنّ الخطاب بين أهل الجنة وغيرهم ممّن هو في خارج الجنة ميسور ، كما دل على ذلك القرآن الكريم في خطاب أهل الجنة وأهل النار : (وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ)(٢).

وفي خطاب أصحاب الجنة لأصحاب النار :

(وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ

__________________

(١) البقرة : ٣٦.

(٢) الأعراف : ٥٠.

١٤٤

وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ)(١).

خطيئة آدم :

والسؤال الآخر هو عن خطيئة آدم وغوايته وعصيانه (... وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى)(٢).

إذ دلت بعض الروايات على أنّ آدم كان نبيا ، وإن لم يذكر ذلك في القرآن الكريم ، والأنبياء معصومون من الذنب والزلل والغواية منذ بداية حياتهم.

ومع غض النظر عن الشك والمناقشة في صحة هذه الفرضيات : (فرضية أن يكون آدم نبيا) و (فرضية أن يكون الأنبياء معصومين من الذنب منذ بداية حياتهم) ، يمكن أن نفسر جدّية هذه المخالفة والعصيان على أساس اتجاهين :

الاتجاه الأوّل : أن يكون النهي الإلهي هنا هو نهي (إرشادي) (٣) اريد منه

__________________

(١) الأعراف ٤٤.

(٢) طه : ١٢١.

(٣) تقسم الأوامر والنواهي في الشريعة إلى قسمين : مولوي وإرشادي. والمراد من (المولوي) : ما يصدر من المولى باعتباره مولى له حق الطاعة ، ويكون فيه إرادة جديدة للطلب والتحرك نحو المطلوب أو الزجر عن المنهي عنه ، كما في أوامر الصلاة والزكاة والجهاد والحج والنهي عن شرب الخمر والزنا والسرقة ، و (الارشادي) : هو الذي يكون للارشاد إلى المصلحة أو المفسدة ، كما في الأوامر والنواهي في موارد المعاملات غالبا ، حيث يكون ارشادا لبطلان المعاملة أو صحتها ، أو كما في أوامر الأطباء والمهندسين والعلماء التجربيين ، فإنّهم لا يستحقون الطاعة بما هم سادة ، واولو الأمر والولاية ، بل ؛ لأنّ متعلقات أوامرهم ونواهيهم فيها مصالح ومفاسد ، فعند ما يأمر بشرب الدواء فهذا يعني : أنّ شرب الدواء فيه مصلحة ، وكذا عند ما ينهي عن أكل شيء فإنّه يعني : أنّ أكله فيه ضرر ومفسدة.

١٤٥

الإرشاد إلى المفاسد الموجودة في أكل الشجرة ، وليس نهيا (مولويا) يراد منه التحريك والطلب الجدي ، والمعصية المستحيلة على الأنبياء والتي توجب العقاب هي في الأوامر المولوية وليست الإرشادية.

الاتجاه الثاني : أن يكون النهي الإلهي هنا نهيا مولويا كما ـ هو الظاهر ـ وحينئذ فيفترض أنّ الأنبياء معصومون من الذنوب المتعلقة بالأوامر والنواهي التي يشتركون فيها مع الناس ، وأمّا الأوامر والنواهي الخاصة بهم فلا يمتنع عليهم صدور الذنب بعصيانها ، وليسوا معصومين تجاهها ، وهذا النهي الذي صدر لآدم إنّما هو خاص به ، ولذا لم يحرم على ذريته من بعده أكل الشجرة.

ومن هنا نجد القرآن الكريم ينسب الظلم والذنب ـ أحيانا ـ لبعض الأنبياء باعتبار هذه الأوامر الخاصة ، كما حصل لموسى عليه‌السلام : (قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)(١). مع أنّ قتل الفرعوني الظالم الكافر ليس ذنبا وحراما على الناس بشكل عام ، وإنّما كان حراما على موسى لخصوصية في وضعه.

ومن هنا ورد أنّ حسنات الأبرار سيئات المقربين باعتبار أنّ لهم تكاليف خاصة بهم تتناسب مع مستوى الكمالات التي يتصفون بها.

وهذا التفسير للعصمة أمر عرفي قائم في فهم العقلاء لمراتب الناس ، فبعض الامور هي من العلماء والفضلاء ذنب يؤاخذون عليه ، ولكنّه ليس كذلك بالنسبة إلى العامة من الناس ، وبعض الإنفاقات القليلة ذنب من الاغنياء يؤاخذون عليها ، وليست كذلك بالنسبة إلى الفقراء.

__________________

(١) القصص : ١٦.

١٤٦

الجانب الثاني : التصور العام لمسيرة الخلافة

وهنا نشير إلى تصورين :

التصور الأوّل : ما ذكره العلّامة الطباطبائي قدس‌سره في الميزان ، حيث يفترض أنّ هذه المسيرة بدأت من وضع آدم وزوجه في الجنة من أجل أن ينتقل إلى الأرض بعد ذلك ، وكان لا بدّ له من التعرض إلى المعصية من أجل أن يتحقّق هذا النزول إلى الأرض ؛ إذ لا يمكن أن يحصل على التكامل الإنساني الذي يؤهله لهذه الخلافة ما لم يتعرض إلى المعصية والنزول إلى الأرض بعد ذلك.

وذلك لأنّ تكامل الإنسان إنّما يحصل من خلال توفر عنصرين وعاملين أساسيين :

أحدهما : شعور الإنسان بالفقر والحاجة والمسكنة والذلة ، أو بتعبير آخر شعور الإنسان بالعبودية لله ـ تعالى ـ الذي يدفعه للحركة والتوجه إلى الله تعالى والمصير إليه.

والآخر : هو عفو الله تعالى ورضوانه ورحمته وتوفيقه لهذا الإنسان ، وإمداده بالعطاء والفضل الإلهي.

فشعور الإنسان بالحاجة يجعله يتحرك لسد هذه الحاجة ، والفضل والعطاء الإلهي هو الذي يحقق الغنى النسبي للإنسان ، ويسد النقص والحاجات لدى هذا الإنسان فيتكامل.

وإذا لم يشعر الإنسان بالحاجة فلا يسعى إلى الكمال حتى لو كان محتاجا في.

واقع الحال ، وإذا لم يتفضل الله على هذا الإنسان بالعفو والرحمة والعطاء يبقى هذا الإنسان ناقصا ومتخلفا في حركته.

وما ذكر في قصّة آدم إنّما يمثل هذين الأمرين معا.

١٤٧

فلو لم ينزل الإنسان إلى الأرض لا يشعر بالحاجة ؛ إذ كان يعيش في الجنة يأكل ويشرب بدون تعب أو عناء ، فطبيعة هذه الجنة : (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى)(١).

ولو لم تصدر من آدم المعصية فلا يمكن أن يحصل على تلك الدرجات العالية من الرحمة والمغفرة التي حصل عليها الإنسان في حالات الرجوع والتوبة ؛ إذ يفترض العلّامة الطباطبائي وجود درجات من الرحمة والمغفرة مرهونة بالتوبة والانابة ، قال :

«فلله ـ تعالى ـ صفات من عفو ومغفرة وتوبة وستر وفضل ورأفة ورحمة لا ينالها إلا المذنبون ... فهذه التوبة هي التي استدعت تشريع الطريق الذي يتوقع سلوكه ، وتنظيف المنزل الذي يرجى سكونه ، فوراءها تشريع الدين وتقويم الملة» (٢).

فالقصّة وراءها قضاءان قضاهما الله تعالى في آدم :

القضاء الأوّل : الهبوط والخروج من الجنة والاستقرار على الأرض وحياة الشقاء فيها ، وهذا القضاء لازم حتمي لأكل الشجرة حيث بدت سوآتهما ، وظهور السوءة لا يناسب حياة الجنة ، بل الحياة الأرضية ، ومن هنا كان إخراجهما من الجنة بعد العفو عنهما ، ولو لا ذلك لكان مقتضى العفو هو بقاؤهما في الجنة.

القضاء الثاني : إكرام آدم بالتوبة ؛ إذ طيّب الله ـ تعالى ـ بها الحياة الأرضية التي هي شقاء وعناء ، وبها ترتبت الهداية إلى العبودية الحقيقية ، فتآلفت الحياة من

__________________

(١) طه : ١١٨ ـ ١١٩.

(٢) تفسير الميزان ١ : ١٣٤ ، طبعة جماعة المدرسين ـ قم.

١٤٨

حياة أرضية وحياة سماوية (١).

فنزول آدم إلى الأرض وإن كان فيه ظلم للنفس وشقاء ، إلّا أنّه هيأ لنفسه بنزوله درجة من السعادة ومنزلة من الكمال ما كان ينالها لو لم ينزل ، وكذلك ما كان ينالها لو نزل من غير خطيئة.

التصور الثاني : ما ذكره استاذنا الشهيد الصدر قدس‌سره : أنّ الله ـ سبحانه ـ قدّر لآدم ـ الذي يمثل أصل الجنس البشري ـ أن يمرّ بدور الحضانة التي يمرّ بها كلّ طفل ؛ ليتعلم الحياة وتجاربها ، فكانت هذه الجنة الأرضية التي وجدت من أجل تربية الإحساس الخلقي لدى الإنسان والشعور بالمسئولية وتعميقه من خلال امتحانه بما يوحيه إليه من تكاليف وأوامر.

وقد كان النهي عن تناول الشجرة هو أوّل تكليف يوجه إلى هذا الخليفة ؛ ليتحكم في نزواته وشهواته ، فيتكامل بذلك ، ولا ينساق مع غريزة الحرص وشهوة حب الدنيا التي كانت الأساس لكلّ ما يشهده مسرح التأريخ الإنساني من ألوان الاستغلال والصراع.

وقد كانت المعصية التي ارتكبها آدم هي العامل الذي يولد في نفسه الإحساس بالمسئولية من خلال مشاعر الندم ، فتكامل وعيه بهذا الإحساس ، في الوقت الذي كانت قد نضجت لديه خبرات الحياة من خلال وجوده في الجنة.

وكان الهدى الإلهي يتمثل بخط الشهادة ، وهو الوحي الإلهي الذي يتحمل مسئوليته الأنبياء لهداية البشرية.

وبذلك تتكامل المسيرة البشرية ، ويتطور الإنسان ، ويسمو على المخلوقات

__________________

(١) المصدر نفسه.

١٤٩

من خلال التعليم الرباني والهدى الإلهي الذي يجسده شهيد رباني معصوم من الذنب يحمله إلى الناس من أجل تحصينهم من الضلال (... فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)(١).

ويمكن أن نشير في نهاية هذا العرض لهذين التصورين إلى عدّة ملاحظات :

الملاحظة الاولى : أنّه يمكن تكميل الصورة : بأنّ الإسكان في الجنة في الوقت الذي يمثل مرحلة الاعداد والتهيؤ يعبر في نفس الوقت عن هدف إلهي ، وهو : أنّ مقتضى الرحمة الإلهية بالإنسان هو أن يعيش حياة الاستقرار والسعادة بعيدا عن الشقاء ، وأنّ مسيرة الشقاء إنّما هي اختيار الإنسان ؛ ولذا بدأ الله ـ تعالى ـ حياة الإنسان بالجنة ، وشمله برحمته الواسعة من خلال التوبة والسداد الإلهي بالهدى الذي أنزله على الأنبياء.

كما أنّ الخطيئة هي التي فجّرت في الإنسان ـ إضافة إلى احساسه بالمسئولية ـ ادراكه للحسن والقبح والخير والشر ، ولعلّ هذا هو الذي أشار إليه القرآن الكريم بقوله تعالى :

(... فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ ...)(٢).

وكان هذا الإدراك ضروريا للإنسان من أجل أن يكون قادرا على مواجهة مشكلات الحياة ، وألوان الصراع فيها ، وتمييز الحقّ من الباطل ، والخير من الشر ، والمصلحة من المضرة ، ويخلق فيه حالة التوازن الروحي والنفسي في مقابل ضغوط الشهوات والغرائز.

__________________

(١) البقرة : ٣٨.

(٢) طه : ١٢١.

١٥٠

وقد كان من الممكن أن يحصل هذا الإدراك من خلال الحضانة الطويلة والتجربة الذاتية في حياته في الجنة ، ولعل هذا هو الهدف من وضعه في الجنة ؛ ليمر بهذه الحضانة الطويلة ، كما يحصل للإنسان في تجاربه في الطفولة ؛ إذ تنمو فيه هذه المعرفة تدريجا ، ولكن كان هناك طريق أقصر محفوف بالمخاطر وبالخطيئة والذنب.

ولم يكن الله ـ سبحانه وتعالى ـ ليختار للإنسان طريق الخطيئة بالرغم من قصره ؛ لأنّه طريق خطير ، ولكن عند ما اختار الإنسان ذلك ، وأصبح يدرك هذه الحقائق صار مؤهلا للبدء في الحياة الدنيا.

وفد فتح الله ـ سبحانه وتعالى ـ أمامه باب التوبة والرجوع إليه ، ليتمكن الإنسان من مواصلة طريقه عند ما يضعف ويقع في الخطيئة ، وبذلك يتكامل عند ما يكون قادرا على التغلب على شهواته والسيطرة على رغباته.

الملاحظة الثانية : أنّ العلّامة الطباطبائي لم يوضح دور الخطيئة في معرفة السوءات ، كما لم يوضح عدم انسجام السوءات مع حياة الجنة ، ولعلّه يريد من دور الخطيئة في معرفة السوءات ما أشرنا إليه من دورها في الإحساس الخلقي للإنسان في إدراكه للحسن والقبح ، وكذلك لأنّ حياة الجنة يراها حياة طاهرة ونظيفة لا تنسجم مع السوءات ، وهو معنى عرفاني حيث لم يشر القرآن الكريم إلى أنّ آدم عليه‌السلام لم تكن لديه سوأة قبل الخطيئة ، أو أنّها وجدت بعد الخطيئة ، وإنّما أشار إلى أنّ إدراكه للسوءة إنّما كان بعد الخطيئة والذنب.

الملاحظة الثالثة : أنّ الشهيد الصدر قدس‌سره لم يذكر في تكوّن مسار الخلافة على الأرض دور التوبة في هذا المسار ، مع أنّ التوبة لها دور أساس يمكن من خلاله أن يستأنف الإنسان عمله وتجربته في هذه الحياة ، ويصعد بسببها في مدارج الكمال.

الملاحظة الرابعة : أنّ الكمالات الإنسانية يمكن أن نتصورها بدون خطيئة ،

١٥١

ويتكامل فيها الإنسان من خلال الطاعة والإحساس بالعبودية لله سبحانه وتعالى ، إلّا إذا كان مقصوده من الخطيئة ليس مجرد المخالفة ، وإنّما احساس الإنسان بالحاجة والتقصير في حق الله تعالى وشكره لنعمه ، الأمر الذي يدفعه إلى الاستزادة من الأعمال الصالحة والرجوع إلى الله تعالى والإنابة إليه.

الملاحظة الخامسة : أنّ العلّامة الطباطبائي قدس‌سره تصور أنّ الجنة سماوية ، والشهيد الصدر قدس‌سره تصورها أرضية (١) ، وهذا التصور الثاني في الوقت الذي ينسجم مع بعض الروايات ، يتوافق ـ أيضا ـ مع فرضية خلق الإنسان للأرض ، والله سبحانه أعلم.

__________________

(١) الإسلام يقود الحياة : ١٥٢ ـ ١٥٣.

١٥٢

القسم الثاني

أنبياء اولي العزم الأربعة

١ ـ نوح عليه‌السلام.

٢ ـ إبراهيم عليه‌السلام.

٣ ـ موسى عليه‌السلام.

٤ ـ عيسى عليه‌السلام.

١٥٣
١٥٤

الفصل الأوّل

قصّة نوح عليه‌السلام في القرآن

قوم نوح.

شخصية نوح.

حياة نوح.

ملاحظات عامّة.

١٥٥
١٥٦

نوح وقصّته :

نوح عليه‌السلام هو النبي الثالث ممّن ذكروا من الأنبياء في القرآن بعد آدم عليه‌السلام ، وجدّه الأكبر إدريس (١) ، وهو أوّل الرسل من اولي العزم (٢) ، وهم : نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، ومحمّد (صلى الله عليه وعليهم وعلى آله أجمعين).

وقد جاءت قصّته في التوراة مختلفة عمّا جاءت في القرآن الكريم ، كما أنّه يوجد اختلاف بين نسخها المترجمة عن العبرية والسامرية واليونانية.

وقد ورد ذكر نوح في القرآن الكريم في ثلاثة وأربعين موردا (٣) ، كما أنّه وردت قصّته بشيء من التفصيل في كلّ من سور : (الأعراف ، وهود ، والمؤمنون ،

__________________

(١) بناء على أنّ آدم من الأنبياء كما تشير اليه بعض النصوص ، وإلّا فهو النبي الثاني.

(٢) فقد ورد في أحاديث أهل البيت وأحاديث الجمهور ما يؤكد ذلك ، وقد استدل لذلك بمجموعة من الآيات منها قوله تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى ...) الشورى : ١٣.

(٣) يمكن التعرف عليها من مراجعة المعجم المفهرس.

١٥٧

والشعراء ، والصافات ، والقمر ، ونوح) مع إشارة للقصّة في سور اخرى ، وهي مختلفة في الطول والقصر ، كما أنّها مختلفة في اللفظ والهدف بحسب الغرض والسياق الذي جاءت فيه القصّة ، ولكن أكثرها تفصيلا وشرحا لقصّة ما ورد منها في سورة هود.

وتتلخص قصّة نوح في القرآن الكريم بالامور التالية :

قوم نوح عليه‌السلام :

لقد أشار القرآن الكريم إلى الابعاد العقائدية والاخلاقية والسياسية والاجتماعية التي كان يتصف بها قوم نوح.

أ ـ فمن الناحية العقائدية كان قوم نوح قد عكفوا على عبادة غير الله ، واتخذوا لهم أصناما يعبدونها ، وقد أشار القرآن الكريم إلى بعض أسماء هذه الأصنام ، وهي : (ود ، وسواع ، ويغوث ، ويعوق ، ونسرا) :

(وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً)(١).

وتذكر بعض الروايات أنّ هذه الأسماء كانت لرجال صالحين ، اتخذ الناس لهم تماثيل ؛ لتمجيدهم واحياء ذكراهم ، ثم تحول الناس لعبادتهم بعد ذلك.

ب ـ ومن الناحية الاخلاقية اتصف قوم نوح بسوء الاخلاق من الجهل والعناد ، والمكر الكبير ، والكبر ، وازدراء الفقراء والضعفاء.

ج ـ ومن الناحية السياسية كان قوم نوح يتبعون سادتهم من أهل القدرة

__________________

(١) نوح : ٢٣.

١٥٨

والقوة ممّن كثر ماله وولده (قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً)(١).

وكان هؤلاء السادة (ملأ من قومه) يستضعفون الفقراء ويستكبرون في الأرض.

د ـ ومن الناحية الاجتماعية والسلوكية كانوا يرتكبون الآثام والخطايا ويمارسون أنواع الظلم والفساد والطغيان.

(مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً* وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً* إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً* رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً)(٢).

(وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ)(٣).

(وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى)(٤).

شخصية نوح عليه‌السلام :

لم يتحدّث القرآن الكريم عن الحياة الشخصية لنوح ، أو بعض ما جرى له قبل رسالته ودعوته ، كما تحدّث عن إبراهيم وموسى وعيسى عليهم‌السلام. ولعلّ السبب في

__________________

(١) نوح : ٢١.

(٢) نوح : ٢٥ ـ ٢٨.

(٣) الذاريات : ٥١.

(٤) النجم : ٥٣.

١٥٩

ذلك ـ والله أعلم ـ أنّه لا يوجد شيء فيها ممّا يثير الاهتمام بالنسبة إلى الأغراض القرآنية للقصّة. أو أنّ القرآن كان منهجه التفصيل النسبي بالنسبة إلى الأنبياء اللاحقين لوجود أقوام يتبعونهم ، ولا زالوا على ديانتهم والانتماء الخاص لهم دون الأنبياء السابقين الذين لا يتصفون بهذه الصفة.

ولكن يمكن أن نستنتج من المحاورة التي جرت بين نوح عليه‌السلام والملأ من قومه : أنّ نوحا كان من طبقة الاشراف والملأ منهم ؛ ولذلك كانوا يحتجون عليه بمعاشرة الأراذل من الناس ، ويطلبون منه أن يطردهم ، كما أنّ هذا الانتماء لهذه الطبقة من الناس قد يفسّر لنا العامل الاجتماعي ـ والله أعمل ـ في ضلال زوجته وابنه ؛ إذ كان قومه يتأثرون بهذه العوامل الاجتماعية.

كما أنّه يمكن أن نستنتج : أنّه كان على درجة عالية من الشجاعة والإقدام والصبر والتحمل ؛ لما توحيه ظروف المحاصرة والعزلة والتكذيب والتهديد له بالقتل ، وهو مع كل ذلك يستمر في رسالته دون ملل أو كلل مع طول المدة ، كما سوف نعرف ذلك.

ومع ذلك لم يترك القرآن الحديث عن شخصية نوح عليه‌السلام ومواصفاته العامة من خلال النقاط التالية :

١ ـ كان نوح أوّل اولي العزم الذين هم سادة الأنبياء وأصحاب الرسالات الإلهية العامة إلى البشر جميعا الذين أخذ الله ـ تعالى ـ منهم الميثاق الغليظ ، ولذا فشريعته أوّل الشرائع الإلهية المشتملة على تنظيم الحياة الإنسانية. وقد ذكرنا إشارة القرآن الكريم إلى ذلك في الآية (١٣) من سورة الشورى ، وكذلك في الآية (٧) من سورة الاحزاب.

٢ ـ كان نوح عليه‌السلام الأب الثاني للنسل الحاضر من بني الإنسان ، وإليه ينتهي

١٦٠