القصص القرآني

السيد محمد باقر الحكيم

القصص القرآني

المؤلف:

السيد محمد باقر الحكيم


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المركز العالمي للعلوم الإسلاميّة
المطبعة: ليلى
الطبعة: ٢
ISBN: 964-8686-13-0
الصفحات: ٣٦٠

بإحراق إبراهيم عليه‌السلام ، كما سوف يأتي في قصّته.

د ـ ولم يتحدّث القرآن الكريم عن الحالة الاخلاقية لهم إلّا بمقدار الإشارة إلى نكوصهم عن الحق ، وتكذيبهم للرسالة ، والتزامهم بالتقليد الاعمى للآباء ، وانتكاسهم على رءوسهم ؛ إذ أخذتهم العزة بالاثم عند ما وجدوا أصنامهم قد جعلها إبراهيم جذاذا ، فلم تغن عنهم ، ولم تدافع عن نفسها ، ولا ترجع لهم جوابا ، ولا تخبرهم عن حال ، فعمدوا إلى إحراق إبراهيم.

كما لم يتحدّث عن الاوضاع السلوكية والممارسات الشخصية لهم في مجال الآثام والخطايا ، أو الظلم والفساد والطغيان وغيرها.

١٨١

شخصية إبراهيم عليه‌السلام

لقد تحدّث القرآن الكريم بعض الشيء عن شخصية إبراهيم عليه‌السلام أثناء الحديث عن قصّته أو بشكل مستقل ، وأكّد بشكل خاص صفاته الممتازة وأبعادها المتعددة بحيث يظهر فيها إبراهيم عليه‌السلام وكأنّه أفضل الأنبياء جميعا عدا سيد الأنبياء وخاتمهم نبينا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ولعلّ هذا الجانب هو السبب المهم فيما ورد في الأحاديث الشريفة المتواترة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من استحباب قرن الصلاة عليه وآله بالصلاة على إبراهيم وآله والتمثيل بها (١).

ويمكن إجمال الابعاد التي أشار إليها القرآن الكريم من صفات إبراهيم صراحة أو تلميحا ببيان آثارها بالأبعاد الاربعة التالية :

الأوّل ـ البعد الرسالي :

وهي الصفات التي تشير إلى موقع إبراهيم من الرسالة الإلهيّة ، وهذه

__________________

(١) قال حدّثنا الحكم ، قال : سمعت ابن أبي ليلى يقول : لقيت كعب بن عجرة ، فقال : ألا أهدي لك هدية : إنّ رسول الله (ص) خرج علينا ، فقلنا يا رسول الله قد علمتنا كيف السلام عليك ، فكيف الصلاة عليك؟ قال : «قولوا اللهمّ صل على محمّد كما صليت على إبراهيم إنّك حميد مجيد وبارك على آل محمّد كما باركت على آل إبراهيم انك حميد مجيد» قصص الانبياء لابن كثير : ١٦٨ عن الصحيحين ، ورواه ـ أيضا ـ في جامع أحاديث الشيعة ١٥ : ٤٧٥ عن أمالي ابن الطوسي ، وأكّدته أحاديث عديدة. راجع جامع أحاديث الشيعة ١٥ : ٤٧٦ ـ ٤٧٨.

١٨٢

الصفات هي :

أ ـ (الامامة) حيث تحدّث القرآن الكريم عن منح الله ـ تعالى ـ لإبراهيم مقام الإمامة : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)(١).

وقد استجاب الله ـ تعالى ـ لإبراهيم دعوته في أن تكون هذه الإمامة فيه وفي ذريته ، كما صرّح القرآن الكريم بذلك في عدة مواضع اخرى أيضا. واستثنى من نيلها الظالمين.

قال تعالى : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ* وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ* وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ* وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)(٢).

والإمامة على ما تشير إليه الآية الكريمة السابقة ، وتؤكده بعض الروايات التي وردت عن أهل البيت عليهم‌السلام أنّها أعلى درجات النبوّة.

فقد روى الكليني في الكافي بسنده عن جابر ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : سمعته يقول : «إنّ الله اتخذ إبراهيم عبدا قبل أن يتخذه نبيا ، واتخذه نبيا قبل أن يتخذه رسولا ، واتخذه رسولا قبل أن يتخذه خليلا ، واتخذه خليلا قبل أن يتخذه إماما ، فلمّا جمعت له هذه الاشياء ـ وقبض يده ـ قال له يا إبراهيم : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ

__________________

(١) البقرة : ١٢٤.

(٢) الانعام : ٨٤ ـ ٨٧.

١٨٣

إِماماً) فمن عظمها في عين إبراهيم ، قال يا رب : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)(١)».

ويبدو من القرآن الكريم عند تتبع استخدام عنوان الإمامة أنّ البداية كانت من إبراهيم عليه‌السلام.

ب ـ (اولي العزم) ، حيث إنّ إبراهيم عليه‌السلام قد عدّه القرآن الكريم من أنبياء اولي العزم من الرسل ، كما ذكرنا ذلك في الحديث عن نوح عليه‌السلام ، وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في سورتي الشورى (١٣) والاحزاب (٧).

ويمتاز هؤلاء الأنبياء بإنزال الشرائع السماوية عليهم لتنظيم حياة الناس بها ، ممّا يؤشّر على وجود أقوام من الناس يؤمنون بهم ويتبعون مناهجهم ، وقد أكّد القرآن الكريم وجود هذا النوع من الوحي الإلهي على إبراهيم عليه‌السلام عند ما تحدّث عن (صحف إبراهيم وموسى) (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى)(٢).

كما أنّ هؤلاء الأنبياء ممّن أخذ عليهم الله ـ تعالى ـ الميثاق الغليظ بسبب طبيعة ثقل المسئولية والرسالة التي يتحملونها ، كما أشارت إلى ذلك الآية (٧) من سورة الأحزاب.

ج ـ (الاصطفاء) لقد كان إبراهيم عليه‌السلام من جملة الأنبياء الذين ذكرهم القرآن الكريم بالاصطفاء والاجتباء ، وتميّز بأنّه كان أوّل من تم اصطفاؤه مع آله وعترته.

(إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ* ذُرِّيَّةً

__________________

(١) اصول الكافي ١ : ١٧٥.

(٢) الأعلى : ١٨ ـ ١٩.

١٨٤

بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(١).

وقد تحدّث القرآن الكريم عن هذه الصفة في إبراهيم في مواضع عديدة ، وعبّر عنها بأساليب مختلفة ؛ لتأكيد هذا الموقع الرسالي الخاص.

د ـ (وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ)(٢) تدل هذه الآية الكريمة إلى أنّ الله جمع لابراهيم عليه‌السلام الدنيا والآخرة ، فهو في دنياه يعيش عيشة حسنة له مال وأولاد ، ومنعة وعزّة ، وكرامة ومروة ، وذرية وبقاء في الذكر الحسن ، وقدوة للأنبياء حتى أفضلهم وخاتمهم ، وقبول من جميع الامم والملل ، وصلوات دائمة عليه وعلى آله.

وهو في الآخرة من الصالحين الذين أنعم الله عليهم ، ورفع درجتهم ، واستجاب دعاءه في أن يلحقه بمحمّد وآله عليهم الصلاة والسلام ، فيكون منهم (٣).

الثاني ـ العلاقة بالله تعالى :

وهي الصفات التي تتحدّث عن نوع ومستوى العلاقة بين الله تعالى وإبراهيم ، والتي يمكن أن نراها فيما أشار إليه القرآن الكريم من الصفات التالية : فقد كان إبراهيم عليه‌السلام :

أ ـ حنيفا مسلما ؛ إذ وصف الله ـ تعالى ـ إبراهيم ودينه وملته بهذا الوصف في عدّة مواضع من القرآن الكريم :

__________________

(١) آل عمران : ٣٣ ـ ٣٤.

(٢) النحل : ١٢٢.

(٣) راجع الميزان ١ : ٣٠٥.

١٨٥

(ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(١).

(قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(٢).

والحنيف المسلم هو : الذي أخلص وأسلم لأمر الله تعالى ، فلم يلتو في شيء من دينه ، أو هو المائل عن الضلالة إلى الاستقامة (٣).

وقد جاء التأكيد في أغلب هذه الآيات بأنّه لم يكن من المشركين ؛ لأنّ بعض العرب المشركين كانوا يدّعون أنّهم على دين إبراهيم. كما أنّه في الوقت نفسه تأكيد للاستقامة في الدين.

ب ـ شاكرا لانعم الله ـ تعالى ـ عليه ؛ إذ هداه إلى الدين الحنيف ، وتفضل عليه بالنبوّة والرسالة والإمامة ، وأنجاه من النار ، وأنقذه من الطغاة ، وآتاه في الدنيا حسنة ، ورزقه الذرية الصالحة المصطفاة ، وجعل ذكره من الخالدين ...

وكان في كلّ هذه المواقع يتصف بالشكر لهذه النعم ، وصفة الشكر للمنعم تمثل التعبير الأصيل لعلاقة العبودية بين الانسان والله تعالى.

ج ـ قانتا ومطيعا لله ـ تعالى ـ بخضوع وخشوع وتسليم ، فهي صفة من صفات اقتران الطاعة لله بالعبادة والخضوع والخشوع له.

د ـ خليلا لله تعالى (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً)(٤).

__________________

(١) آل عمران : ٦٧.

(٢) الانعام : ١٦١.

(٣) معجم ألفاظ القرآن ١ : ٣٠٤ ، ومفردات الراغب : ١٣٣.

(٤) النساء : ١٢٥.

١٨٦

والخليل هو : الذي أخلص في الحبّ حتى تخلل الحب والود نفسه وخالطها ، فهو عليه‌السلام قد اختلط حبّه لله بنفسه الشريفة وتخلّلها ، كما خالط إحسان الله ـ تعالى ـ له ولطفه به نفسه وتخللها. فهي علاقة التمازج والاختلاط في الحب والولاء بينه وبين الله تعالى ، كل بما يناسب شأنه.

وهذا الوصف ممّا اختص به إبراهيم عليه‌السلام في القرآن الكريم (١).

ه ـ الوفاء بالعهود والميثاق الغليظ الذي اخذه الله ـ تعالى ـ عليه (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى)(٢).

فلم يقصّر في أداء مسئوليته مهما كانت المصاعب والعقبات ، ومهما كانت التفاصيل والمفردات ، وقد اختص الله ـ تعالى ـ في القرآن الكريم إبراهيم بهذا الوصف.

و ـ منيبا إلى الله تعالى (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ)(٣) فهو يرجع إلى الله ـ تعالى ـ في اموره كلّها (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرى ...)(٤).

__________________

(١) وقد ورد في روايات أهل البيت عليهم‌السلام أنّ الله ـ تعالى ـ إنّما اتخذ إبراهيم خليلا ؛ لأنّه لم يرد أحدا ، ولم يسأل أحدا قط غير الله تعالى. وفي رواية اخرى لكثرة سجوده على الارض. وفي رواية ثالثة لإطعامه وصلاته بالليل والناس نيام. وفي رواية رابعة لكثرة صلواته على محمّد وأهل بيته صلوات الله عليه وآله. البحار ١٢ : ٤ ، عن عيون أخبار الرضا وعلل الشرائع للصدوق.

(٢) النجم : ٣٧.

(٣) هود : ٧٥.

(٤) الزمر : ١٧.

١٨٧

الثالث ـ العلاقة بالناس والامّة :

فقد ذكر القرآن الكريم في وصف إبراهيم عليه‌السلام صفاتا توضح طبيعة العلاقة بينه وبين قومه ، وأهل بيته والناس بشكل عام.

أ ـ إنّ إبراهيم كان امّة وقد ورد في تفسير ذلك أنّه كان قدوة ومعلّما للخير ، فهو إمام هدى ، وأنّ قوام الامّة بوجوده ، وأنّ عمله كان عمل امّة ، أو أنّه مفرد في زمانه بالتوحيد ، فكان مؤمنا والناس كفار (١).

وقد ورد في سورة الممتحنة وضع إبراهيم في موضع القدوة للمسلمين في قوله تعالى : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)(٢).

كما ورد فيه الأمر لرسول الله باتباع ملة إبراهيم عليه‌السلام : (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(٣) ، كما ورد فيه : (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً ...)(٤).

ب ـ وكان حليما ؛ إذ وصفه القرآن الكريم بذلك عند ما أخذه العطف والشفقة على لوط وقومه بسبب ما أخبره به رسل الله بالقرار الإلهي في نزول العذاب عليهم ، فهؤلاء القوم بالرغم من انحرافهم وشذوذهم ، وكذلك إيذائهم لابن أخيه

__________________

(١) البحار ١٢ : ٢ عن مجمع البيان.

(٢) الممتحنة : ٦.

(٣) النحل : ١٢٣.

(٤) النساء : ١٢٥.

١٨٨

لوط وإساءتهم لمعاملته ، فإن إبراهيم أخذ يجادل المرسل فيهم ـ كما سوف نعرف ـ بأمل دفع نزول العذاب عنهم.

وهذا يعني : أنّ حالة العطف والشفقة والرأفة بالناس عموما من الصفات المميزة التي تميز هذا النوع من الناس الذي اصطفاهم الله لرسالته (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ* إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ)(١).

وهذا الوصف ذكره القرآن الكريم بشأن نبينا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله في قوله تعالى : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ)(٢).

كما يذكر هذه الصفة (الحلم) لإبراهيم في عطفه على أبيه وموعدته إياه بالاستغفار له ، وإن كان قد تبرأ منه عند ما تبين له أنّه عدو لله.

(وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ)(٣).

ومن هنا يمكن أن نفهم أنّ الحلم هو الصبر المقرون بالعطف والرأفة على فعل السوء رجاء إصلاح الحال حبا بالآخرين وطلبا لمنفعتهم.

ج ـ وكان بريئا من أعداء الله الذين يصرون على موقفهم في العداوة ، ويلحّون على التمرد والعصيان.

__________________

(١) هود : ٧٤ ـ ٧٥.

(٢) التوبة : ١٢٨.

(٣) التوبة : ١١٤.

١٨٩

وقد ذكر القرآن الكريم هذا الوصف لابراهيم في علاقته مع المشركين عند ما تبين له هذا الإصرار وهذا الموقف دون الفرق بين الأباعد منها والأقارب.

وجعل هذا الوصف موضع لإبراهيم ؛ ليكون الاسوة والقدوة للآخرين.

فقد سبق أن أشرنا إلى موقفه من البراءة من أبيه عند ما تبين له أنّه عدو لله :

(قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ* رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(١).

وبذلك نعرف أنّ هذه الصفة تكمّل صفة الحلم التي تحدثنا عنها في الفقرة السابقة في علاقة إبراهيم بالناس.

د ـ كان يدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة ؛ إذ كان يتبع اسلوب مخاطبة العقل والوجدان ، والتدرج في الخطاب والموقف ، واستخدام مختلف الأساليب والوسائل المشروعة للوصول إلى هدفه مع الالتزام بالخلق الإنساني الرفيع.

وسوف يتضح ذلك عند ما نستعرض مراحل حياته ودعوته ، والأساليب التي كان يتبعها في ذلك.

الرابع ـ معالم الشخصية :

فقد ذكر القرآن الكريم إلى جانب جميع الصفات السابقة بعدا رابعا من

__________________

(١) الممتحنة : ٤ ـ ٥.

١٩٠

شخصية إبراهيم ، وهو : البعد الذي يرتبط بمعالم شخصيته الذاتية.

أ ـ التفكير والتأمل والتدبر في الخلق والكون وظواهر الطبيعة من أجل الوصول إلى الحقيقة ؛ إذ يذكر له القرآن الكريم عدّة مواقف تعبّر عن ذلك ، لعلّ أحسنها ما ذكره في سورة الأنعام من تفكيره وتدبره في التفتيش عن ربه الخالق وهو في صغره عند ما رأى الكوكب وافوله ، ثم انتقاله إلى القمر والشمس ، ثم إلى معرفته بالله تعالى :

(فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ* فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ* فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ)(١).

كما سوف نشير إلى ذلك في المرحلة الاولى من حياته.

وكذلك طلبه من ربه أن يريه كيف يحيي الموتى للوصول إلى درجة اليقين في معرفة النشأة الآخرة (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(٢).

كما سوف نعرف ذلك في المرحلة الثالثة من حياته.

ب ـ إنّه كان واسع المعرفة بالحقائق الإلهية بسبب طلبه لها بالتأمل والتفكير من ناحية ، وبسبب اللطف الإلهي والعناية الربانية به الذى فتح له هذا الباب الواسع من المعرفة من ناحية اخرى ، والذي عبّر عنه القرآن الكريم ب (اراءته لملكوت

__________________

(١) الأنعام : ٧٦ ـ ٧٨.

(٢) البقرة : ٢٦٠.

١٩١

السماوات والارض) (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ)(١). حيث كان يرى الحقائق الإلهية الغيبية والمشهودة في السماوات والأرض (٢).

ج ـ إنّ إبراهيم عليه‌السلام كان قوي الحجّة والبرهان ، ويبدو ذلك واضحا من القرآن الكريم في عرضه لاحتجاج إبراهيم مع أبيه ، ومع قومه في المرحلة الاولى من حياته ، كما تذكره آيات سورة الأنعام ؛ ولذلك وصفه القرآن الكريم بعدها بقوله : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ

__________________

(١) الأنعام : ٧٥.

(٢) وقد قال العلّامة المجلسي بعد ذكره لمجموعة من الاخبار : إنّ إراءته ملكوت السماوات والأرض يحتمل :

١ ـ أن يكون ببصر العين : بأن يكون الله ـ تعالى ـ قد قوى بصره ، ورفع له كلّ منخفض ، وكشط له عن أطباق السماء والأرض حتى رأى فيهما ببصره.

٢ ـ أن يكون المراد منه رؤية القلب : بأن أنار قلبه حتى أحاط بها علما.

والأوّل أظهر نقلا ، والثاني عقلا.

والظاهر على التقديرين : أنّه أحاط علما بكلّ ما فيهما من الحوادث والكائنات.

٣ ـ وأمّا حمله على أنّه رأى الكواكب وما خلقه الله في الأرض على وجه الاعتبار والاستبصار ، واستدلّ بها على اثبات الصانع ، فلا يخفى بعده عمّا يظهر من الأخبار. انتهى كلامه. البحار ١٢ : ٦١ ـ ٦٢.

ولكنّ الظاهر من الآية الكريمة في سورة الأنعام ـ بعد جمعها مع الاخبار وما استظهره فيه من العقل كما في الاحتمال الأوّل والثاني ـ أنّ ما ذكره الاحتمال الثالث هو الصحيح ، وكان ذلك مقدّمة لحصول مضمون كل من الاحتمالين الآخرين الأوّل والثاني. والله أعلم.

١٩٢

حَكِيمٌ عَلِيمٌ)(١). وكذلك موقفه في الاحتجاج على قومه بعد ذلك في المرحلة الثانية من حياته ، وتكسيره الأصنام بهدف إقامة الحجّة وكاسلوب لتوضيح الحقيقة كما هو الظاهر ، ولم يكن الغرض هو مجرد الانتقام والله أعلم ، ولذلك اضطروا في البداية إلى التسليم بالحجّة ثم نكسوا على رءوسهم.

وكذلك موقفه في الاحتجاج مع الملك في موضوع ربه الله تعالى الذي عرفه بالاحياء والاماتة ، ثم بالتصرف في هذا الكون (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)(٢).

د ـ الشجاعة الفائقة في المواقف والاستقامة عليها ، كما يبدو ذلك واضحا في كلّ مواقفه العامة والخاصة : في دعوته لابيه وقومه ، وفي تكسيره للأصنام ، ووقوفه في مواجهة قومه وهو واحد منفرد ، وفي صبره على الإحراق بالنار ، وفي مجادلته للملك ، وفي هجرته إلى الأرض المباركة ، وفي إسكانه لذريته في واد غير ذي زرع ، وفي بنائه البيت ، وفي إقدامه على ذبح ولده إسماعيل ، إلى غير ذلك ممّا يعبّر عن هذا البعد في شخصيته (٣).

__________________

(١) الأنعام : ٨٣.

(٢) البقرة : ٢٥٨.

(٣) لمزيد الفائدة وازن ما ذكرناه هنا عن أبعاد شخصية إبراهيم بما ذكره العلّامة الطباطبائي في الميزان ٧ : ٢١٧ ـ ٢١٨ ، وكذلك ما ورد في البحار عن كتاب الخصال للصدوق ١٢ : ٦٧ ـ ٧٠.

١٩٣

حياة إبراهيم عليه‌السلام

يمكن تقسيم حياة إبراهيم وقصّته من خلال ما عرضه القرآن الكريم في مواضع متعدّدة إلى أربع مراحل ، وهي :

١ ـ مرحلة الفتوة.

٢ ـ مرحلة الدعوة والمواجهة.

٣ ـ مرحلة الهجرة وإبلاغ رسالة التوحيد.

٤ ـ مرحلة الإمامة وبناء الكعبة.

١ ـ مرحلة الفتوّة :

كان إبراهيم عليه‌السلام قد ولد في (فدان آرام) من أرض العراق كما تذكر التوراة أو بابل كما تذكر بعض النصوص التاريخية والروايات ، وفي بيت وثني ؛ إذ كان أبوه الذي سمّاه القرآن الكريم (آزر) نجّارا ينحت الأصنام ، ويبيعها لمن يعبدها كما نصّ على ذلك إنجيل برنابا (١) ، وورد أنّه كان منجّما لنمرود ، ويمكن أن يكون قد جمع بين الأمرين.

ولكن إبراهيم عليه‌السلام منذ طفولته وحتى وصوله إلى مرحلة التمييز والفتوة كان يعيش في معزل عن قومه كما تشير إلى ذلك بعض النصوص التاريخية ، وبعض

__________________

(١) قصص الأنبياء للنجار : ١١٨.

١٩٤

الروايات المروية المعتبرة عن أهل البيت عليهم‌السلام (١) وقد أدرك في هذه العزلة الحقائق

__________________

(١) أبي وابن الوليد معا ، عن سعد ، عن ابن يزيد ، عن ابن أبي عمير ، عن هشام بن سالم ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله (ع) قال : «كان أبو إبراهيم منجّما لنمرود بن كنعان ، وكان نمرود لا يصدر إلّا عن رأيه ، فنظر في النجوم ليلة من الليالي فأصبح ، فقال : لقد رأيت في ليلتي هذه عجبا ، فقال له نمرود : وما هو؟ فقال : رأيت مولودا يولد في أرضنا هذه يكون هلاكنا على يديه ، ولا يلبث إلّا قليلا حتى يحمل به ، فعجب من ذلك نمرود ، وقال : هل حمل به النساء؟ فقال : لا. وكان فيما اوتي من العلم أنّه سيحرق بالنار ، ولم يكن اوتي أنّ الله سينجيه ، قال : فحجب النساء عن الرجال ، فلم يترك امرأة إلّا جعلت بالمدينة حتى لا يخلص إليهن الرجال ، قال : وباشر أبو إبراهيم امرأته فحملت به ، فظنّ أنّه صاحبه ، فأرسل إلى نساء من القوابل لا يكون في البطن شيء إلّا علمن به ، فنظرن إلى أم إبراهيم فألزم الله ـ تبارك وتعالى ـ ذكره ما في الرحم الظهر فقلن : ما نرى شيئا في بطنها ، فلمّا وضعت امّ إبراهيم أراد أبوه أن يذهب به إلى نمرود ، فقالت له امرأته : لا تذهب بابنك إلى نمرود فيقتله ، دعني أذهب به إلى بعض الغيران أجعله فيه حتى يأتي عليه أجله ، ولا تكون أنت تقتل ابنك ، فقال لها : فاذهبي ، فذهبت به إلى غار ، ثم أرضعته ، ثمّ جعلت على باب الغار صخرة ، ثمّ انصرفت عنه ، فجعل الله رزقه في إبهامه فجعل يمصّها ، فيشرب لبنا ، وجعل يشبّ في اليوم كما يشب غيره في الجمعة ، ويشبّ في الجمعة كما يشبّ غيره في الشهر ، ويشبّ في الشهر كما يشبّ غيره في السنة ، فمكث ما شاء الله أن يمكث ، ثمّ إنّ أمه قالت لأبيه : لو أذنت لي أن أذهب إلى ذلك الصبي فأراه ، فعلت ، قال : فافعلي ، فأتت الغار فإذا هي بإبراهيم (ع) ، وإذا عيناه تزهران كأنّهما سراجان ، فأخذته ، وضمته إلى صدرها ، وأرضعته ، ثمّ انصرفت عنه ، فسألها أبوه عن الصبي؟ فقالت : قد واريته في التراب ، فمكثت تعتل ، فتخرج في الحاجة ، وتذهب إلى إبراهيم (ع) فتضمّه إليها وترضعه ، ثمّ تنصرف ، فلمّا تحرّك أتته امّه كما كانت تأتيه ، وصنعت كما كانت تصنع ، فلما أرادت الانصراف أخذ ثوبها ، فقالت له : ما لك؟ فقال : اذهبي بي معك ، فقالت له : حتى استأمر

١٩٥

الإلهيّة حيث إنّه خرج يوما من مكانه متأمّلا في هذا الكون والوجود يفتّش عن ربّه في السماء ، وقد غابت الشمس ، فنظر إلى أحد الكواكب الذي يقال : إنّه الزهرة ، فقال : (هذا رَبِّي) ـ على الفرض والاحتمال ـ فلما غاب وأفل ، قال : (لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) ثم نظر إلى الشرق وقد رأى القمر قد طلع ، فقال : (هذا رَبِّي) هذا أكبر وأحسن ، فلما تحرك وزال قال : (لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) فلمّا أصبح وطلعت الشمس ، ورأى ضوءها وقد أضاءت الدنيا لطلوعها ، قال : (هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ) وأحسن ، فلمّا تحركت وزالت كشف الله عن السماوات حتى رأى ملكوت السماوات والارض ، فعند ذلك قال : (... يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(١).

وقد كانت فطرة إبراهيم طاهرة زكية ، وقلبه سليم لم يتلوث بالأدناس والأرجاس وعبادة الاوثان ، أو ممّا كان قومه عليه من الفساد والانحراف ، فشاهد الحقّ ، ووصل إليه بتوفيق الله تعالى.

وعند ما دخل إبراهيم بيت أبيه آزر أخذ يحاجّه في عبادته للأصنام ، ويدعوه إلى رفضها وتوحيد الله تعالى ، واتباعه حتى يهديه الله إلى الصراط المستقيم ، ويبعد عن ولاية الشيطان وعبادته ، ولم يزل يلحّ عليه بذلك حتى نهره وطرده

__________________

أباك ، فلم يزل إبراهيم في الغيبة مخفيّا لشخصه كاتما لأمره حتى ظهر ، فصدع بأمر الله ـ تعالى ـ ذكره ، وأظهر الله قدرته فيه». البحار ١٢ : ٤١ عن كمال الدين للصدوق.

ولكن الشيخ الراوندي ذكر في قصص الأنبياء هذه الرواية عن الصدوق مع فارق مهم ، وهو : أنّ آزر كان عمّ إبراهيم ، وأنّ (تارخ) كان قد وقع على ام إبراهيم فحملت به.

(١) تفسير علي بن إبراهيم القمي : ١٩٤ ، ١٩٥ ، والآية ٧٨ ـ ٧٩ من سورة الأنعام.

١٩٦

وأبعده عن نفسه ، وأخذ يهدّده ويوعده بالرجم والعذاب إن لم ينته عن ذكر آلهته بسوء أو الرغبة عنها.

فتلطّف إبراهيم بأبيه إرفاقا به وحنانا عليه ، وقد كان ذا خلق كريم ، فسلّم عليه ، ووعده بأن يستغفر له الله تعالى ، ويشاركه الحديث ويعتزله وعبادة الآلهة ليتوجه إلى عبادة الله وحده.

وقد كان إبراهيم ـ من جانب آخر ـ يحاج قومه في أمر الأصنام حتى الزمهم الحقّ ، وشاع خبره بين الناس في الانحراف عن الأصنام والآلهة.

وقد كان قومه يخوفونه من انتقام الآلهة ونزول العذاب به بسبب رفضه لعبادتها ، ودعوة الناس لاجتنابها ، ولكنّه عليه‌السلام كان يجيبهم بأنّهم أحقّ بالخوف ؛ لأنّهم مشركون ، وهو أحقّ بالأمن ؛ لأنّه آمن بالله وحده لا شريك له :

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ* وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ* فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ* فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ* فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ* إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ* وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ* وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ* الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ* وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ

١٩٧

نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ)(١).

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا* إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً* يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا* يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا* يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا* قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا* قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا* وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا)(٢).

ويبدوا انّ إبراهيم عليه‌السلام في هذه المرحلة :

١ ـ كان يعيش الفطرة النقية والقلب السليم.

٢ ـ استخدم عقله ووجدانه للوصول إلى الحقيقة ، فأعانه الله ـ تعالى ـ على ذلك بإراءته ملكوت السماوات والأرض.

٣ ـ المجادلة بالحكمة والموعظة الحسنة لأبيه وأهله ثمّ لقومه.

٤ ـ اللطف والمصاحبة بالمعروف لأبيه آزر.

٥ ـ المهادنة والمتاركة لأبيه وقومه ، والانفصال عنهم في الحياة الاجتماعية والدينية ، والتوجه إلى الله تعالى بالعبادة ؛ إذ كان يعمل مع أبيه وهو نجّار يصنع الأوثان.

وتشير بعض الروايات عن أهل البيت عليهم‌السلام أنّ إبراهيم كان يسخر من

__________________

(١) الأنعام : ٧٤ ـ ٨٣.

(٢) مريم : ٤١ ـ ٤٨.

١٩٨

الأوثان والأصنام في هذه المرحلة ، حيث كان أبوه يدفع له الأصنام ؛ ليبيعها كما يبيع إخوته ، فكان يعلّق في أعناقها الخيوط ، ويجرّها على الأرض ويقول : «من يشتري ما لا يضرّه ولا ينفعه» ويغرقها في الماء والحماة ، ويقول لها : «اشربي وتكلّمي»!! فذكر إخوته ذلك لأبيه ، فنهاه ، فلم ينته ، فحسبه في منزله ولم يدعه يخرج (١).

٢ ـ مرحلة الدعوة والمواجهة :

لم يحدّد القرآن الكريم الوقت الذي خوطب به إبراهيم بالرسالة والدعوة ، كما هو الحال بالنسبة إلى موسى عليه‌السلام ، ولكن يبدو ـ والله أعلم ـ أنّ الخطاب بالرسالة كان بعد فترة العزلة عن أبيه ومجتمعه ، حيث اتسم موقف إبراهيم بعدّة سمات جديدة :

أ ـ المواجة بعد المهادنة.

ب ـ البراءة من أبيه بعد الاستغفار له.

ج ـ الشدّة في التعامل مع عبادة الأصنام ، بعد أن كان الموقف السابق يتصف بالاحتجاج الكلامي اللين ، أو السخرية الفردية الخاصة.

وهذا التطور في الموقف يعبّر عن وضع جديد يتسم بالمسئولية الكبيرة وتحمل الأعباء والأخطار ، وهو ينسجم مع افتراض توجه الخطاب الإلهي له بالنبوّة والرسالة.

ويبدو ذلك واضحا من خلال المقارنة بين ما ورد في سورة الأنعام ومريم ، مع ما ورد في سورة الأنبياء والشعراء والعنكبوت والصافات.

__________________

(١) تفسير القمي : ١٩٥.

١٩٩

وهنا نجد إبراهيم عليه‌السلام :

١ ـ قد أخذ ينتقد بشكل علني وواضح عبادة قومه للاصنام ، ويستنكر عليهم ذلك ، ويحتج على هذا الانحراف والضلالة بأنّ هذه الأصنام لا تنفع ولا تضر ، ولا تملك الرزق ، ولا تسمع الدعاء ، ولا تبصر الأشياء ، وأنّها إفك قد افتراه الناس على الله تعالى والحقيقة. ولم يجد جوابا عن هذا الاحتجاج والاستنكار إلّا جوابا واحدا ، وهو : أنّهم يقلّدون آباءهم الاقدمين في هذه العبادة.

٢ ـ ولمّا ألحّ عليهم بالاحتجاج والطلب أخذوا يستغربون منه ذلك ، ويتعجبون من حديثه ، وهل هو حديث جدّ وحقّ أو كان يلعب ويمزح معهم (قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ)(١). ولكنّه عليه‌السلام أكّد أنّه جاء بالحقّ وأنّ الربّ هو الله ـ تعالى ـ ربّ السماوات والأرض الذي فطرهن ، وأنّه هو الشاهد على الحقيقة المطلع على هذا الواقع (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ* وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ* وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ* وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ* وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ)(٢).

ثمّ أخذ يتوجه إلى ربّه بالدعاء مؤكدا ذلك (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ* وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ* وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ* وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ* وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ* يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ* إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)(٣).

٣ ـ وفي تطور آخر آخذ يعظهم ، ويذكّرهم بالآخرة والنشأة الآخرة

__________________

(١) الأنبياء : ٥٥.

(٢) الشعراء : ٧٨ ـ ٨٢.

(٣) الشعراء : ٨٣ ـ ٨٩.

٢٠٠