القصص القرآني

السيد محمد باقر الحكيم

القصص القرآني

المؤلف:

السيد محمد باقر الحكيم


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المركز العالمي للعلوم الإسلاميّة
المطبعة: ليلى
الطبعة: ٢
ISBN: 964-8686-13-0
الصفحات: ٣٦٠

للمسلمين قد يؤدّي إلى فهم خاطئ للمفهوم المراد إعطاؤه للامة ، فيفهم انحصاره في نطاق الواقعة التي عاشتها القصّة وظروفها الخاصّة ، فتأتي القصّة الواحدة في القرآن الكريم مكررة من أجل تفادي هذا الحصر والتضييق في المفهوم ، وتأكيد شموله واتّساعه لكلّ الوقائع والأحداث المشابهة ؛ ليتّخذ صفة القانون الأخلاقي أو التاريخي الذي ينطبق على كلّ الوقائع والأحداث.

الثالث : أنّ التكرار يكون سببا في فاعلية القصّة كمنبّه للامّة على علاقة القضية الخارجية التي تواجهها ـ في عصر النزول أو بعده ـ بالمفهوم الإسلامي ؛ لتستمدّ منه روحه ومنهجه ، فيكون تكرار القصّة بيانا للمنبّه عند الحاجة إليه.

ولعلّ هذا السبب والسبب الذي قبله هو ما يمكن أن نلاحظه في تكرار قصّة موسى ، والفرق بين روحها العامة في القصص المكّي وروحها في القصص المدنيّ ، فإنّها تؤكّد في القصص المكّي منها على العلاقة العامة بين موسى من جانب وفرعون وملائه من جانب آخر ، دون أن تذكر أوضاع بني إسرائيل تجاه موسى نفسه ، إلّا في موردين يذكر فيهما انحراف بني إسرائيل عن العقيدة الإلهيّة بشكل عام ، وهذا بخلاف الروح العامة لقصّة موسى في السور المدنية ؛ فإنّها تتحدّث عن علاقة موسى مع بني إسرائيل ، وتتحدّث عن هذه العلاقة وارتباطها بالمشاكل الاجتماعية والسياسية.

وهذا قد يدلّنا على أنّ هذا التكرار للقصّة في السور المكية إنّما كان لمعالجة روحية تتعلق بحوادث مختلفة واجهت النبي والمسلمين ، ومن أهداف هذه المعالجة توسعة نطاق المفهوم العام الذي تعطيه قصّة موسى في العلاقة بين النبي والجبارين من قومه ، أو القوانين التي تحكم هذه العلاقة ، وأنّ هذه العلاقة مع نهايتها لا تختلف فيها حادثة عن حادثة أو موقف عن موقف.

٦١

ولعلّ إلى هذا التفسير تشير الآيات الكريمة التي جاءت في سورة الفرقان :

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً* وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً* الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً* وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً)(١).

الملاحظ في هذه الآيات أنّ القرآن يذكر أنّ سبب التدرج والترتيب في القرآن الكريم هو : التثبيت للنبيّ من ناحية ، الإتيان بالحقّ والتفسير الأفضل للوقائع والأحداث والأمثال من ناحية اخرى ، ثمّ يأتي بهذا التفسير الأحسن من قصّة موسى عليه‌السلام.

الرابع : أنّ الدعوة الإسلامية مرّت بمراحل متعدّدة في سيرها الطولي ، وقد كان القرآن الكريم يواكب هذه المراحل ويماشيها في عطائه وطبيعة اسلوبه ، وهذا كان يفرض أن تعرض القصّة الواحدة بأساليب متفاوتة في الطول والقصر نظرا لطبيعة الدعوة ، وطريقة بيان المفاهيم والعبر فيها ، كما نجد ذلك في قصص الأنبياء حين تعرض في السورة القصيرة المكية ، ثمّ يتطوّر العرض بعد ذلك إلى شكل أكثر تفصيلا في السور المكية المتأخّرة أو السورة المدنية.

الخامس : أنّ تكرار القصّة لم يأت في القرآن الكريم بشكل يتطابق فيه نصّ القصّة مع نصّ آخر لها ، بل كان فيها شيء من الزيادة والنقيصة ، وإنّما تختلف الموارد في بعض التفاصيل وطريقة العرض ؛ لأنّ طريقة عرض القصّة القرآنية قد تستبطن مفهوما دينيا يختلف عن المفهوم الدينيّ الآخر الذي تستبطنه طريقة عرض اخرى.

__________________

(١) الفرقان : ٣٢ ـ ٣٥.

٦٢

هذا الأمر الذي نسميه بالسياق القرآنيّ يقتضي التكرار أيضا ؛ لتحقيق هذا الغرض السياقيّ الذي يختلف عن الغرض السياقيّ الآخر لنفس القصّة ، وسوف تتضح معالم هذه النقاط بشكل أكثر عند دراستنا التطبيقية التالية لقصّة موسى عليه‌السلام في القرآن الكريم.

وقد ذكر السيوطيّ في الإتقان عدّة أسباب اخرى ينسبها إلى (البدر بن جماعة) في كتابه المقتنص في فوائد التكرار القصص :

ومنها : ما ذكره الشيخ الطوسيّ آنفا.

ومنها : أنّ ذلك كان من وسائل التحدي بالقرآن ؛ لاختلاف القصّة بالنظم ، ومع ذلك عجز العرب عن الإتيان بمثله.

وذكر أسبابا اخرى فيها تكرار هذه الأسباب (١).

اختصاص القصّة بأنبياء الشرق الأوسط :

وثمّة ظاهرة اخرى ، هي : أنّ القرآن الكريم تحدّث عن مجموعة من الأنبياء كانوا يعيشون جميعا في منطقة الشرق الأوسط ، أي : المنطقة التي كان يتفاعل معها العرب الذين نزل القرآن في محيطهم ومجتمعهم. وقد تفسّر هذه الظاهرة بأنّ النبوّات كانت بالأصل في هذه المنطقة ، ومن خلالها انتشر الهدى في جميع أنحاء العالم ، ويؤيد ذلك الاستعراض التاريخيّ للنبوّات وتاريخ الإنسان في التوراة ، وبعض الأبحاث الآثارية والروايات الدينية خصوصا الواردة عن أهل البيت عليهم‌السلام ، وحينئذ يصبح تفسير هذه الظاهرة واضحا ، وهو : أنّ الواقع التاريخيّ للحياة الإنسانية فرض هذه الظاهرة.

__________________

(١) الإتقان في علوم القرآن ٣ : ٢٣٠ ـ ٢٣١ تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم.

٦٣

ولكن توجد شواهد في القرآن الكريم تنفي هذا التفسير لهذه الظاهرة ، فالقرآن يشير في بعض آياته إلى أنّ هناك مجموعة اخرى من الأنبياء لم يتحدّث عنهم القرآن الكريم ، مع أنّ حياتهم لا بدّ أنّها كانت زاخرة بالأحداث ، شأنهم في ذلك شأن الأنبياء الآخرين :

(إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً* وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً)(١).

كما أنّ هذا المضمون جاء ـ أيضا ـ في سورة (غافر / ٧٨) ، علما بأنّ سورة النساء من السور المدنية المتأخرة ، ومن هنا فلا مجال لاحتمال أنّ هذه الآية نزلت في فترة زمنية لم يكن القرآن قد تعرّض فيها إلى جميع قصص الأنبياء التي وردت في القرآن الكريم.

وهناك مجموعة من الآيات تدلّ على أنّ الأنبياء والرسل كانوا يبعثون إلى كل قرية ومدينة ؛ لاقامة الحجّة من الله على الناس ، كما نفهم من الآية (١٦٥) من سورة النساء التي جاءت في سياق الآيتين السابقتين. (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً)(٢).

وبالإضافة إلى موارد اخرى لها هذه الدلالة :

(وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ

__________________

(١) النساء : ١٦٣ ـ ١٦٤.

(٢) النساء : ١٦٥.

٦٤

هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)(١).

(وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ ...)(٢).

(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)(٣).

(إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ)(٤).

وجاء التعبير في بعض الآيات عن ذلك بوجود الشهيد في كلّ امة (النساء / ٤١ ، النحل / ٨٤ ، القصص / ٧٥).

ومن هنا فلا بدّ من تفسير هذه الظاهرة بتفسير آخر كأن يكون الغرض الأساس من القصّة ـ كما ذكرنا ـ هو انتزاع العبرة واستنباط القوانين والسنن التأريخية منها ، ولم يكن الغرض من القصّة السرد التأريخي لحياة الأنبياء أو كتابة تأريخ الرسالات ، ولذلك يتحدّث القرآن عن الامور العامّة المشتركة بين هؤلاء الأنبياء ، عدا بعض الموارد التي يكون هناك غرض خاص في طرح بعض القضايا فيها.

ولمّا كان تأثير القصّة في تحقيق هذه الأغراض يرتبط بمدى إيمان الجماعة بواقعيتها وإدراكهم لحقائقها ، ومدى انطباق ظروفها على ظروف الجماعة نفسها ؛ لذا

__________________

(١) النحل : ٣٦.

(٢) التوبة : ١١٥.

(٣) يونس : ٤٧.

(٤) فاطر : ٢٤.

٦٥

تكون القصّة المنتزعة من تاريخ الامّة نفسها ومن واقعها وظروفها وحياتها أكثر تأكيدا وانطباقا على السنّة التأريخية ، وأكثر تأثيرا في الواقع الروحي والنفسي للجماعة ، وقد أكدنا ـ سابقا ـ أنّ صفة (الواقعيّة) من الصفات التي تتميّز بها القصّة القرآنية.

وبهذا تكون هذه القصص أكثر انسجاما مع هذا الهدف القرآني ، بلحاظ أنّ القاعدة التي يريد أنّ يحقق القرآن الكريم التغيير فيها في المرحلة الاولى هي : الشعوب التي تسكن هذه المنطقة ، وتتفاعل مع هذا التاريخ ، وهذا لا يعني أنّ القرآن الكريم تختصّ هدايته بهذه الشعوب ، بل أحد أغراض القرآن هو إيجاد التغيير في هذه الشعوب كقاعدة ينطلق منها التغيير ، ويستند إليها في مسيرته إلى بقيّة الشعوب كما حصل ذلك فعلا ، وقد أشرنا إليه في بحث الهدف من نزول القرآن.

صحيح أنّه قد تكون القصّة المنتزعة من تاريخ النبوّات التي كانت في الهند أو الصين ـ على فرض وجودها في تلك المناطق ، وهو فرض منطقي ومقبول جدا ـ مؤثرة في الشعب الهنديّ أو الصينيّ ، إلا أنّ القرآن الكريم كان مهتما بشكل خاص وفي مرحلة نزوله بتغيير القاعدة التي تتمثل بالشعب العربيّ والشعوب المتفاعلة معه فعلا في ذلك الوقت. وضرب الأمثال وسرد القصص عن هذه الامم التي لم تكن موجودة في المحيط الذي نزل فيه القرآن يبعد القصّة بأكملها عن (الواقعية) التي حرص القرآن الكريم على تأكيدها في قصصه ، ولكن تبقى النتائج العامّة المشتركة بين الأنبياء ذات تأثير عام بالنسبة إلى مختلف الشعوب.

فقصّة النبيّ الواحد لها تأثير خاص يرتبط بالوسط الذي تواجد فيه ذلك النبيّ ، باعتبارها حالة التجسيد المعاش في ذلك الوسط ، وذات التأثير الشعوريّ والوجدانيّ فيه. وفي الوقت نفسه يكون للقصّة تأثير عام ضمن المفاهيم العامة

٦٦

والسنن التأريخية التي توحي بها القصّة ، والعبر التي يمكن أنّ تستخلص منها ، وهذا ما يمكن أنّ تستفيد منه كلّ الشعوب الاخرى. وبذلك يتحقّق القرآن الكريم بعده العام الشامل ، ويبقى حيا ومؤثرا في هذا الوسط وغيره من الأوساط الإنسانية.

نعم ، من الصحيح أن نضيف ـ أيضا ـ القول : إنّ الأنبياء مثل : نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم‌السلام يمثلون الاصول العامة للنبوّات في كلّ العالم ، وكان خاتمهم النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يمثل امتدادا لتلك النبوّات ، ولكن نجد أنّ القرآن لم يتحدّث عن هذه الاصول وتفرعاتها فحسب ، بل تحدّث عن أنبياء مثل : صالح وشعيب وهود ويونس وإدريس عليهم‌السلام ، وغيرهم ممّن يمثلون نبوّات ليست بهذا القدر من الأهميّة على الظاهر. والله هو العالم بحقائق الامور.

تأكيد قصّة إبراهيم وموسى عليهما‌السلام :

من الملاحظ أنّ القرآن الكريم أكّد في قصصه بعض الأنبياء ، وذكر تفاصيل حياتهم وظروفهم أكثر من بعضهم الآخر ، ونجد ذلك في خصوص النبيّ إبراهيم وموسى عليهما‌السلام مع أنّه قد يقال : إنّ الخصائص العامّة لحركة الأنبياء والدعوة الإلهية التي يراد منها بالأصل استنباط (العبرة) و (الموعظة) أو استخلاص القانون والسنّة التاريخية ، أو تحقيق الأغراض الاخرى متشابهة ، ويؤكّد ذلك ما نجده في القرآن الكريم في بعض الموارد من الإشارة إلى قصص مجموعة من الأنبياء في سياق واحد.

فهل هذا (التأكيد) يعني أهمية شخصية هذا النبي وفضله بالمقارنة مع بقية الأنبياء فقط؟ أو يمكن أنّ يكون وراء ذلك ـ مضافا إلى هذه الأهمية ـ مقاصد وأهداف اخرى اقتضت هذا اللون من التأكيد؟

والجواب عن هذا السؤال : أنّ بعض هؤلاء الأنبياء قد يكون أفضل من

٦٧

بعض ، ويظهر من القرآن الكريم أنّ هذا الأفضل هو : نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى عليهم‌السلام باعتبارهم أنبياء أولو العزم ، ولكن لا يعني ذلك ارتباط تأكيد القرآن لهؤلاء الأنبياء بأفضليتهم ؛ لأنّ القرآن بالأصل ليس بصدد تقويم عمل هؤلاء الأنبياء والحديث عن التفاضل بينهم ، وإنّما الأهداف الأصلية للقصّة التي أشرنا إليها وذكرها القرآن هي : العبرة والموعظة وتصديق النبوّات والتثبيت وإقامة الحجّة والبرهان على صدق نبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومضمون رسالته ، كما تشير إليه الآيات القرآنية :

(وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ)(١).

(لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(٢).

(رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً)(٣).

ولذلك يمكن أنّ نقول : إنّ السبب في تأكيد القرآن لشخصية هؤلاء الأنبياء في حديثه عنهم لأسباب اخرى يأتي في مقدماتها : أنّ لهؤلاء الأنبياء أتباعا وأقواما يرتبطون بهم ـ روحيا وعقائديا ـ في المجتمع الذي كان يتفاعل القرآن معه عند نزوله من العرب والأقوام الاخرى المحيطة بهم ، وهذا الأمر كان يفرض ـ من أجل

__________________

(١) هود : ١٢٠.

(٢) يوسف : ١١١.

(٣) النساء : ١٦٥.

٦٨

إيجاد القاعدة الرسالية ـ أنّ يتحدّث عنهم القرآن بإسهاب.

مضافا إلى أسباب اخرى ذات علاقة بالهدف العام للقرآن الكريم الذي أشرنا إليه سابقا.

ولكن بالنسبة للنبي إبراهيم عليه‌السلام فيمكن أن نجد الأسباب التالية لتوسع القرآن في الحديث عنه :

١ ـ كان إبراهيم عليه‌السلام يعتبر لدى كل القاعدة التي نزل فيها القرآن الكريم (المشركين واليهود والنصارى) أبا لجميع الأنبياء ، ويحظى باحترام الجميع له.

٢ ـ إن تأكيد القرآن ارتباط الإسلام وشعائره بإبراهيم له أهمية خاصة في إعطاء الرسالة الاسلامية جذرا تاريخيا ممتدا إلى ما هو أبعد من الديانتين اليهودية والنصرانية ، ويحقّق لها استقلالا عنهما من ناحية ، والوحدة مع هذه الديانات في المصدر التشريعي لها ـ وهو الله تعالى ـ من ناحية اخرى.

٣ ـ إعطاء فكرة (التوحيد) التي طرحها القرآن على المشركين أصلا وانتماء يرتبط به هؤلاء المشركون في تأريخهم بحيث يكون الشرك والوثنية انحرافا عن هذا الأصل الصحيح ، وبذلك يعالج القرآن الكريم الحاجز النفسي الذي كان يعيشه المشركون في موضوع العدول عن دين الآباء والأجداد.

قال تعالى : (وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ)(١).

__________________

(١) الحج : ٧٨.

٦٩

٤ ـ ويتجلى هذا الربط التأريخي بشكل أوضح عند ما يصبح إبراهيم عليه‌السلام هو المبشر بالنبي العربي الامي ، حيث يكون هذا الرسول هو الأمل المنقذ ، وتكون بعثة الرسول محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استجابة لدعاء إبراهيم عليه‌السلام وذلك في مثل قوله تعالى :

(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ* رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ* رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(١).

٥ ـ إعطاء الرسالة الإسلامية شيئا من الاستقلال عن اليهودية والنصرانية يحرّر القاعدة التي يتفاعل معها القرآن من الشعور بالتبعية روحيا ومعنويا ودينيا لعلماء اليهود والنصارى ؛ لأنّها كانت تنظر إلى علماء اليهود والنصارى بأنهم أهل الذكر والكتاب والمعرفة بالأديان والرسالات السماوية ، أو ترى أنّ الأصل في الديانات هو اليهودية والنصرانية وسوف نشير إلى ذلك.

وقوله تعالى : (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ)(٢).

(وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(٣).

__________________

(١) البقرة : ١٢٧ ـ ١٢٩.

(٢) آل عمران : ٦٧ ـ ٦٨.

(٣) البقرة : ١٣٥.

٧٠

ومن هنا نفهم أهمية تأكيد القرآن قصّة بناء إبراهيم للكعبة ، وندائه بالحج ؛ لأنّ هذه الشعائر الدينية ليس لها وجود عند الملتزمين بالديانة اليهودية والمسيحية من ناحية ، وللموقع الخاص الذي كانت تحتله الكعبة بين العرب عامّة من ناحية اخرى ، وللقرار الذي كان القرآن قد اتّخذه بجعل الكعبة قبلة للمسلمين ؛ تأكيدا لاستقلالية الرسالة في كلّ معالمها من ناحية ثالثة. وصرف الأنظار عن الأرض المقدسة وبيت المقدس ـ الذي يحظى بالقدسية الخاصة بسبب نشوء الديانات المختلفة فيه ـ ووجود إبراهيم وأنبياء بني اسرائيل كلّهم في هذه الأرض ، يحتاج في إعطاء هذه الأهمية للبيت والكعبة المشرفة إلى هذا الانتساب الأصيل إلى إبراهيم عليه‌السلام.

وأمّا النبيّ موسى عليه‌السلام فإنّنا يمكن أنّ نجد الامور التالية ـ أيضا ـ في تأكيد قصّته :

١ ـ موقعه من الديانة اليهودية والشعب الإسرائيلي ، والإنجاز السياسي والاجتماعي الذي حقّقه لهم ، وكذلك ما تحقّق من خلال التوراة من تشريع وحكمة وقانون.

٢ ـ إنّ المعاناة الطويلة التي مرّ بها موسى عليه‌السلام كانت تشبه معاناة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سواء تجاه الطغاة الفراعنة أم المنافقين من الإسرائيليين ، أم في توطيد دعائم الحكم الإلهي في الأرض.

٣ ـ إنّ موقع موسى عليه‌السلام من الديانتين اليهودية والنصرانية كان موقعا متميزا ؛ لأنّ النصرانية ـ أيضا ـ كانت ترى أنّ الأصل في الدين هو موسى عليه‌السلام وما جاء به من نور أو تشريعات وقوانين ، وأنّ النصرانية هي عملية تصحيح للانحرافات اليهودية ، وأيضا كانت تعترف بالتوراة القائمة (العهد القديم).

٤ ـ إنّنا نجد ملامح الظروف الموضوعية القائمة التي كانت تحيط بالرسالة

٧١

الإسلامية والقرآن الكريم في موطن نزوله ، وبالمجتمع الذي يعمل على تغييره موجودة في كلّ هذه الامور المرتبطة بهذين النبيين العظيمين ؛ لأنّ القرآن كان يعايش ويتفاعل باستمرار مع أهل الكتاب وعلمائهم وأقوامهم ، وكان بحاجة إلى هذا التفصيل ، والحديث ـ أحيانا ـ حتى عن الحياة الشخصية لموسى عليه‌السلام ؛ لما في ذلك من التأثير في أوساطهم.

٥ ـ إنّ العرب المشركين كانوا ينظرون إلى علماء اليهود ـ الذين يتصلون بهم أحيانا ـ أنّهم أهل الذكر والكتاب والوحي الإلهي والمعرفة بالرسالات الإلهية ، كما أشار القرآن الكريم إلى ذلك :

قال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(١).

وقال تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً)(٢).

ولا شك أنّ القرآن يكون أكثر تأثيرا في هذه الأوساط ـ أيضا ـ عند ما يتحدّث عن النبي موسى عليه‌السلام حديث العارف بكلّ الخصوصيات والامور بحيث يفوق كتب العهدين بذلك.

٦ ـ القرآن يسعى جادا لإعطاء فكرة أنّ هذه الرسالات إنّما تمثل امتدادا واحدا في الوحي الالهي وانتسابا واحدا إلى السماء ، في الوقت نفسه يؤكّد استقلالية الرسالة الاسلامية ، بمعنى : أنّها ليست تابعة ومتشعبة عن التحرك الرسالي أو

__________________

(١) النحل : ٤٣.

(٢) النساء : ٥١.

٧٢

السياسي للرسالات الاخرى ، كما أنّها ليست عملا إصلاحيا في إطار تلك الرسالات ، بل هي من جانب مصدقة لها ؛ لأنّها تمثل امتدادا للرسالات الالهية في التأريخ البشري ، ولكنّها من جانب آخر وفي الوقت نفسه مهيمنة عليها أو مستقلة عنها.

قال تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)(١).

ويتضح ذلك بشكل أفضل بملاحظة سياق الآيات السابقة عليها ، والتي يشير فيها القرآن الكريم إلى نزول التوراة والإنجيل والنسبة بينهما ، والتي تختلف عن نسبة القرآن إليهما.

وحديث القرآن عن عيسى عليه‌السلام يأتي لإزالة ما علق في أذهان الجماعة التي نزل فيها القرآن من أفكار وتصورات منحرفة عن الأنبياء تتنافى مع عصمتهم أو علاقتهم بالله أو طبيعة شخصيتهم ، من هنا تحدّث القرآن الكريم عن شخصيته وظروفها أكثر ممّا تحدّث عن أعماله ونشاطاته. وهذا يمثل غرضا وهدفا آخر بالاضافة إلى الأغراض السابقة التي أشرنا إليها في الفصل السابق.

قال تعالى : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ* الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ* فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَ

__________________

(١) المائدة : ٤٨.

٧٣

نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ* إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(١).

وكذلك ما جاء من الحديث في القرآن عن حياة مريم وولادة عيسى في سورة آل عمران وفي سورة مريم ، أو الاهتمام بمناقشة فكرة الوهية التي جاءت في عدّة موارد ، منها ما جاء في سورة المائدة :

(وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ)(٢).

اسلوب القصّة :

لا شك أنّ اسلوب القصّة في القرآن الكريم جاء متميزا عن الاسلوب المعروف للقصّة في التراث الأدبي والإنساني ، حيث يكتفي القرآن الكريم بذكر الأحداث بشكل إجمالي أحيانا وبدون ترتيبها الزماني أحيانا اخرى ، أو الانتقال فيها من حدث إلى آخر باقتطاع جانب من الأحداث ثالثة ، مضافا إلى الاستطراد في التعرض إلى المفاهيم والحقائق والموضوعات العقائدية أو الأخلاقية أو الكونية أو الشرعية. وغير ذلك من الامتيازات والخصوصيات التي قد تثير ملاحظة كبيرة حول اسلوب القصّة في القرآن الكريم ، تخرج القصّة فيه عن كونها عملا فنيا مستقلا له أهدافه الخاصة ، وتفقد بذلك القصّة في القرآن الكريم هويتها الخاصة.

والحديث حول هذا الموضوع له جانبان :

__________________

(١) آل عمران : ٥٩ ـ ٦٢.

(٢) المائدة : ١١٦.

٧٤

أحدهما : الجانب الفني لاسلوب القصّة الذي يمكن من خلاله أن يتبين أنّ القصّة القرآنية تشتمل على جميع العناصر الأساسية في هذا العمل الأدبي الفني.

ثانيهما : تفسير وجود هذا الخلاف وهذه الظاهرة في اسلوب القصّة في القرآن الكريم.

أما الحديث عن الجانب الأوّل فهو حديث واسع ذو طبيعة أدبية وفنية ، وقد تناولته بعض الدراسات القرآنية الأدبية الخاصة ، أو أشارت إليه بعض الدراسات القرآنية العامة قديما أو حديثا (١). وهو خارج عن حدود هذا البحث القرآني وأهدافه المحدودة.

وأمّا الحديث عن الجانب الثاني فانّ الملاحظة الرئيسة التي يمكن أن نذكرها ونؤكّدها هنا هي : أنّ اسلوب القصّة في القرآن الكريم جاء منسجما ـ بطبيعة الحال ـ مع الاسلوب العام للقرآن الكريم الذي يمكن التعرف على ميزاته من خلال الدراسات التي تناولت هذا الجانب في إعجاز القرآن ، وهي أكثر الدراسات القديمة في الإعجاز. ويأتي في مقدّمة هذه المميزات والخصائص :

١ ـ اسلوب مزج الموضوعات والمفاهيم المتعددة بعضها ببعضها في مقطع واحد ، وذلك من أجل الخروج بصورة متكاملة لهذه المضامين مرة واحدة ؛ لما ذكرنا من أنّ القرآن ليس كتابا علميا ، بل هو كتاب تغيير وهداية ورحمة ، فهو يمزج الحقائق الكونية بالمعارف العقائدية ، وبالأحكام الشرعية السلوكية ، وبالموعظة والإرشاد والتبشير والتحذير ، والعواطف والمشاعر والأحاسيس بالعقل والإدراك من أجل أنّ يزكّي ويعلّم ليعمل الإنسان ويلتزم طريق الحقّ (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ

__________________

(١) انظر كتاب التصوير الفني في القرآن الكريم لسيد قطب ، وكتاب الإسلام والفن ، للدكتور محمود البستاني.

٧٥

وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ)(١).

٢ ـ تكرار الموضوعات والمفاهيم بصيغ متعددة وفي سياقات مختلفة ؛ لتأكيدها أو لتحقيق مزيد من الأغراض والأهداف المتعددة ، كما لاحظنا ذلك في بحث أغراض القصّة ، وفي تفسير ظاهرة تكرار القصّة. وسوف نتبين مزيدا من ذلك عند دراسة قصّة موسى عليه‌السلام بحسب مواضعها في القرآن الكريم في الفصل الآتي.

٣ ـ اختلاف اسلوب القرآن في عرض الموضوعات بحسب الإيجاز والقصر والإطناب والتفصيل ، وكذلك بحسب الإيقاع الصوتي والتركيب اللفظي للآيات الكريمة ؛ وذلك مراعاة للمراحل التي مرّت بها الرسالة الإسلامية ، أو في محاولة للتأثير النفسي والروحي في المخاطبين ، ممّا جعل اسلوب القرآن الكريم اسلوبا يختلف فيه عن كلّ من النثر والشعر العربي.

٤ ـ انّ اسلوب القرآن الكريم تأثر بالهدف العام لنزول القرآن الكريم ، فإنّ هذا الهدف كما كان له تأثير على المضمون القرآني ـ كما أشرنا إليه سابقا ـ كان له تأثير على اسلوب القرآن الكريم أيضا. وجاء الاسلوب أداة موظفة لتحقيق هذا الهدف العام.

٥ ـ نلاحظ ـ دائما ـ أنّ ذكر القصّة في القرآن الكريم يأتي ـ دائما ـ مرتبطا بسياقها والآيات السابقة أو اللاحقة لها أو كليهما ، وهذا يعني : أنّ القصّة ترتبط بشكل مباشر وتفصيلي بالقرآن الكريم اسلوبا ومضمونا. فالارتباط هنا والتفاعل ليس على المستوى العام للهدف فحسب ، بل هو ارتباط على مستوى التفاصيل في تطبيقات هذا الهدف أيضا.

__________________

(١) الملك : ٢.

٧٦

الفصل الرابع

قصة عيسى عليه السلام في القرآن

قوم عيسى.

شخصية عيسى.

حياة عيسى.

ملاحظات عامة.

٧٧
٧٨

تمهيد :

بعد دراسة الظواهر الأربع السابقة للقصّة في القرآن الكريم يحسن بنا أن نتناول قصص الأنبياء واحدة بعد اخرى كموضوع من موضوعات التفسير الموضوعي.

ومن هذا المنطلق نجد أمامنا أبعادا كثيرة لدرسة القصّة في القرآن الكريم من أهمها : البعد الأدبي والتصوير ، وكذلك البعد الذي يرتبط ببيان أغراض القصّة في هذا الموضع أو ذاك ، إضافة إلى الجانب التاريخي ، أو السنن التي يمكن استنتاجها من القصّة ، أو المفاهيم الاجتماعية والفكرية والأخلاقية التي يمكن استنباطها منها.

وبهذا الصدد نجد أمامنا عددا من المناهج يمكن دراسة القصّة من خلالها ، مثل :

المنهج (التقليدي) الذي سار عليه المفسرون باستعراض آيات القصّة في القرآن الكريم وتفسيرها ، وذكر الحوادث المرتبطة بها مع بيان الآراء المتعددة فيها.

والمنهج (التحليلي) للمواضع التي وردت فيها القصّة من ناحية الهدف العام والخاص ، وأسباب التكرار والاسلوب.

٧٩

والمنهج (النظري) الذي يحاول أن يستخلص النظرية العامة في القصّة من خلال تحليل مفرداتها والجمع بينها في تصوير نظري متكامل.

والمنهج (الاجتماعي) الذي يحاول من خلال دراسة القصّة تصوّر الحركة التغييرية السياسية والاجتماعية التي يقوم بها.

والمنهج (التاريخي) الذي يحاول عرض الأحداث التي ذكرتها القصّة مترتبة حسب تسلسلها الزمني وكوقائع تاريخية.

وسوف نحاول في الفصول الآتية وفي القسم الثاني من الكتاب أن نطبق هذه المناهج ، ولكن ضمن نماذج مختارة من القصّة.

وفي هذا الفصل (الرابع) سوف نتناول قصّة (موسى) كنموذج ومثال تطبيقي للمنهج التحليلي في دراسة القصّة. وإنّما وقع الاختيار عليها ؛ لأنّها أكثر قصص الأنبياء ورودا وتفصيلا في القرآن الكريم (١).

ويمكن تطبيق هذا المنهج في دراسة تفصيلية على جميع قصص الأنبياء في القرآن الكريم. وسوف ندرس المواضع والموارد التي تحدّث القرآن الكريم فيها عن علاقة موسى مع فرعون ، أو علاقته مع قومه ، كحالة اجتماعية قارنت عصره ، وهي : تسعة عشر موضعا في القرآن الكريم.

كما أنّنا سوف نأخذ في هذه الدراسة الأبعاد التالية :

__________________

(١) سوف ندرس هذه القصّة ـ أيضا ـ على أساس المنهج (التاريخي) و (الاجتماعي) ـ أيضا ـ من القسم الثاني من هذا الكتاب. كما سوف ندرس قصّة (آدم) في الفصل الخامس من هذا القسم على أساس المنهج النظري. وقصص نوح وإبراهيم وعيس في القسم الثاني على أساس المنهج الاجتماعي.

٨٠