القصص القرآني

السيد محمد باقر الحكيم

القصص القرآني

المؤلف:

السيد محمد باقر الحكيم


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المركز العالمي للعلوم الإسلاميّة
المطبعة: ليلى
الطبعة: ٢
ISBN: 964-8686-13-0
الصفحات: ٣٦٠

أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ* وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ ...)(١).

وأمّا الخلف فقد حاولوا إيضاح المفاهيم التي وردت في هذا المقطع القرآني ليتجلى بذلك معنى استخلاف الله ـ سبحانه وتعالى ـ لآدم ، وسوف نعرض هنا أهم هذه المفاهيم المرتبطة بقضية الاستخلاف ، مع ذكر الآراء المختلفة فيها ، ثم نتحدّث عن المعنى العام للمقطع القرآني :

مفاهيم حول الاستخلاف :

١ ـ الخلافة :

الخليفة بحسب اللغة : من خلف من كان قبله ، وقام مقامه وسد مسده ، وتستعمل ـ أيضا ـ بمعنى النيابة (٢) ، ومن هذا المنطلق يطرح هذا السؤال : لما ذا سمّي آدم خليفة؟

توجد هنا عدّة آراء :

الأوّل : أنّ آدم سمّي خليفة لأنّه خلف مخلوقات الله ـ سبحانه ـ في الأرض ، وهذه المخلوقات إمّا أن تكون ملائكة ، أو يكونوا الجن الذين أفسدوا في الأرض ، وسفكوا فيها الدماء ، كما روي عن ابن عباس ، أو يكونوا آدميين آخرين قبل آدم هذا.

الثاني : أنّه سمّي خليفة لأنّه وابناءه يخلف بعضهم بعضا ، فهم مخلوقات تتناسل ، ويخلف بعضها بعضا ، وقد نسب هذا الرأي إلى الحسن البصري.

__________________

(١) البقرة : ٣٠ ـ ٣١.

(٢) مفردات الراغب : مادة (خلف).

١٢١

الثالث : أنّه سمّي خليفة لأنّه يخلف الله سبحانه في الأرض ، وفي تفسير هذه الخلافة لله ـ سبحانه ـ وارتباطها بالمعنى اللغوي تعدّدت الآراء واختلفت :

أ ـ إنّه يخلف الله في الحكم والفصل بين الخلق.

ب ـ يخلف الله ـ سبحانه ـ في عمارة الأرض واستثمارها : من إنبات الزرع ، وإخراج الثمار ، وشق الأنهار وغير ذلك (١).

ج ـ يخلف الله ـ سبحانه ـ في العلم بالأسماء ، كما ذهب إلى ذلك العلّامة الطباطبائي (٢).

د ـ يخلف الله ـ سبحانه ـ في الأرض بما نفخ الله فيه من روحه ، ووهبه من قوة غير محدودة ، سواء في قابليتها أو شهواتها أو علومها ، كما ذهب إلى ذلك الشيخ محمّد عبدة (٣).

ولعلّ المذهب الثالث هو الصحيح من هذه المذاهب الثلاثة ، خصوصا إذا أخذنا في مدلوله معنى واسعا لخلافة الله في الأرض بحيث يشمل مجمل الآراء الأربعة التي أشرنا إليها في تفسيره ؛ لأنّ دور الإنسان في خلافة الله في الأرض يمكن أن يشمل جميع الأبعاد والصور التي ذكرتها هذه الآراء ، فهو يخلف الله في الحكم والفصل بين العباد بما منح الله هذا الإنسان من صلاحية الحكم بين الناس بالحق (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ...)(٤).

__________________

(١) هذا الرأي وما قبله ذكره الطوسي في التبيان ١ : ١٣١.

(٢) الميزان ١ : ١١٨.

(٣) المنار ١ : ٢٦٠.

(٤) ص : ٢٦.

١٢٢

وكذلك يخلفه في عمارة الأرض واستثمارها : من إنبات الزرع ، وإخراج الثمار والمعادن ، وتفجير المياه ، وشق الأنهار وغير ذلك (... فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ)(١) ولعلّ أكثر موارد استعمال (خلائف وخلفاء واستخلاف) اريد منه هذا النوع من الاستخلاف : (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ)(٢).

وكذلك يخلف الإنسان الله في الأرض بعلمه بالأسماء والمعارف والكمالات التي يتكامل من خلالها ويسير بها نحو الله تعالى.

ولعلّ ما ذكره الشيخ محمّد عبدة إنّما يمثل السر في منح الإنسان هذه الخلافة ؛ لأنّه يتميز بهذه المواهب والقوى والقابليات.

٢ ـ كيف عرف الملائكة أن الخليفة يفسد في الأرض؟

لقد ذكر المقطع القرآني أنّ جواب الملائكة عن إخبارهم بجعل آدم خليفة في الأرض أنّهم تساءلوا عن سبب انتقاء هذا الخليفة الذي يفسد في الأرض ، فكيف عرف الملائكة هذه الخصيصة في هذا الخليفة؟ وهنا عدة آراء :

الأوّل : أنّ الله ـ سبحانه وتعالى ـ أعلمهم بذلك ؛ لأنّ الملائكة لا يمكن أن يقولوا هذا القول رجما بالغيب وعملا بالظن (٣).

الثاني : أنّهم قاسوا ذلك على المخلوقات التي سبقت هذا الخليفة الذي سوف

__________________

(١) الملك : ١٥.

(٢) الأعراف : ٧٤.

(٣) التبيان ١ : ١٣٢.

١٢٣

يقوم مقامها ، كما يشير إلى ذلك بعض الروايات والتفاسير (١).

الثالث : أنّ طبيعة الخلافة تكشف عن ذلك بناء على الرأي الأوّل من المذهب الثالث في معنى الخلافة ؛ إذ يفترض الاختلاف والنزاع ، ولازمه الفساد في الأرض وسفك الدماء ، كما ذكر ذلك ابن كثير في تفسيره.

الرابع : أنّ طبيعة الخليفة نفسه تقتضي ذلك ، وهنا رأيان :

أ ـ إنّ المزاج المادي والروحي لهذا المخلوق الذي يريد أن يجعله الله خليفة ، والأساس الاجتماعي للعلاقات الأرضية التي سوف تحصل بين أبناء هذه المخلوقات هي التي جعلت الملائكة يعرفون ذلك ، يقول العلّامة الطباطبائي : «إنّ الموجود الأرضي بما أنّه مادي مركب من القوى الغضبية والشهوية ، والدار دار التزاحم محدودة الجهات وافرة المزاحمات ، مركباتها في معرض الانحلال ، وانتظاماتها واصطلاحاتها مظنة الفساد ومصب البطلان ، لا تتم الحياة فيها إلّا بالحياة النوعية ، ولا يكمل البقاء فيها إلّا بالاجتماع والتعاون ، فلا تخلو من الفساد وسفك الدماء» (٢).

ب ـ إنّ الارادة الإنسانية بما اعطيت من اختيار يتحكم في توجيهه العقل بمعلوماته الناقصّة هي التي تؤدي بالإنسان إلى أن يفسد في الأرض ويسفك الدماء ، قال محمّد عبدة : «أخبر الله الملائكة بأنّه جاعل في الأرض خليفة ، نفهم من ذلك أنّ الله يودع في فطرة هذا النوع الذي يجعله خليفة أن يكون ذا إرادة مطلقة واختيار في عمله غير محدود ، وأنّ الترجيح بين ما يتعارض من الأعمال التي تعن له تكون

__________________

(١) المصدر السابق : ١٣٣.

(٢) الميزان ١ : ١١٥ ، والتفسير الكبير ١ : ١٢١ ، والميزان ١ : ١١٩.

١٢٤

بحسب علمه ، وأنّ العلم إذا لم يكن محيطا بوجوه المصالح والمنافع فقد يوجه الإرادة إلى خلاف المصلحة والحكمة ، وذلك هو الفساد ، وهو معين لازم الوقوع ؛ لأنّ العلم المحيط لا يكون إلّا لله تعالى» (١).

ويبدو أنّ الرأي الأوّل هو الصحيح ؛ لأنّ الله تعالى لا بدّ أنّه قد أعلم الملائكة بحال وطبيعة هذا المخلوق الذي ينتهي به الحال إلى هذه النتائج.

وأمّا الرأي الصحيح في بيان طبيعة نفس الخليقة فلعلّه هو : بيان أمرين :

أحدهما : الخصوصية المادية التي أشار إليها العلّامة الطباطبائي ، والهوى في طبيعة هذا الخليفة.

والآخر : هو أنّ هذا الإنسان مريد ومختار يعمل بإرادته ، كما ذكر الشيخ محمّد عبدة ، ويمكن أن نفهم ذلك من قرينة تعقيب الملائكة أنفسهم ، الأمر الذي استدعى التوضيح الإلهي الذي يشتمل على بيان الخصوصية التي تجعل هذا الموجود مستحقا لهذه الخلافة ، وهو : العلم.

٣ ـ الأسماء :

والأسماء من المفاهيم التي وقع الخلاف فيها بين علماء التفسير حول حقيقتها والمراد منها ، والآراء فيها تسير في الاتجاهين التاليين :

الأوّل : أنّ المراد من الأسماء الألفاظ التي سمّى الله ـ سبحانه ـ بها ما خلقه من أجناس وأنواع المحدثات وفي جميع اللغات ، وهذا الرأي هو المذهب السائد عند علماء التفسير ، ونسب إلى ابن عباس وبعض التابعين (٢).

__________________

(١) المنار ١ : ٢٥٦.

(٢) التبيان ١ : ١٣٨ ، والتفسير الكبير ٢ : ١٧٦.

١٢٥

وينطلق أصحاب هذا المذهب في تفكيرهم إلى أنّ الله ـ سبحانه ـ كان قد علّم آدم جميع اللغات الرئيسة ، وقد كان ولده على هذه المعرفة ، ثمّ تشعبت بعد ذلك ، واختص كلّ جماعة منهم بلغة غير لغة الجماعة الاخرى.

الثاني : أنّ المراد من الأسماء : المسميات ، أو صفاتها وخصائصها ، لا الألفاظ ، وحينئذ فنحن بحاجة إلى القرينة القرآنية أو العقلية التي تصرف اللفظ إلى هذا المعنى الذي قد يبدو أنّه يخالف ظاهر الإطلاق القرآني لكلمة (الأسماء) الدالة على الألفاظ. ويمكن أن نتصوّر هذه القرينة في الامور التالية :

أ ـ كلمة (علم) التي تدلّ على أنّ الله ـ سبحانه ـ منح آدم (العلم) وبما «أنّ العلم الحقيقي إنّما هو إدراك المعلومات أنفسها ، والألفاظ الدالة عليها تختلف باختلاف اللغات التي تجري بالمواضعة والاصطلاح ، فهي تتغير وتختلف ، والمعنى لا تغيير فيه ولا اختلاف» (١). فلا بدّ أن يكون هو المسميات التي هي المعلومات الحقيقية.

ب ـ قضية التحدي المطروحة في الآيات الكريمة ؛ ذلك أنّ الأسماء حين يقصد منها الألفاظ واللغات فهي إذن من الأشياء التي لا يمكن تحصيلها إلّا بالتعليم والاكتساب ، فلا يحسن تحدي الملائكة بها ؛ إذ لا دلالة في تعليمها آدم على وجود موهبة خاصة فيه يتمكن بها من معرفة الأسماء ، وهذا على خلاف ما اذا قلنا : إنّ المقصود منها المسميات ، فإنّها ممّا يمكن إدراكه ـ ولو جزئيا ـ عن طريق إعمال العقل الذي يعدّ موهبة خاصة ، فيكون لمعرفة آدم بها دلالة على موهبة خاصة منحه الله إياها.

__________________

(١) المنار ١ : ٢٦٢.

١٢٦

قال الطوسي : «إنّ الأسماء بلا معان لا فائدة فيها ، ولا وجه لإيثاره الفضيلة بها» (١).

وقال الرازي : «وذلك لأنّ العقل لا طريق له إلى معرفة اللغات البتة ، بل ذلك لا يحصل الا بالتعليم ، فإن حصل التعليم حصل العلم به ، وإلّا فلا ، أمّا العلم بحقائق الأشياء فالعقل متمكن من تحصيله ، فصحّ وقوع التحدي فيه» (٢).

ج ـ عجز الملائكة عن مواجهة التحدي ؛ لأنّ هذه الأسماء لو كانت الفاظا لتوصل الملائكة إلى معرفتها بأنباء آدم لهم بها ، وهم بذلك يتساوون مع آدم ، فلا تبقى له مزية وفضيلة عليهم ، فلا بدّ لنا من أن نلتزم بأنّها أشياء تختلف مراتب العلم بها ، الأمر الذي أدى إلى أن يعرفها آدم معرفة خاصة تختلف عن معرفة الملائكة لها حين إخباره لهم بها ، وهذا يدعونا لأن نقول : إنّها عبارة عن المسميات لا الالفاظ ، قال العلامة الطباطبائي بصدد شرح هذه الفكرة : «إنّ قوله تعالى : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ ...) يشعر بأنّ هذه الأسماء أو أنّ مسمياتها كانت موجودات أحياء عقلاء محجوبين تحت حجاب الغيب ، وأنّ العلم بأسمائهم كان غير العلم الذي عندنا بأسماء الأشياء ، وإلّا كانت بأنباء آدم إياهم بها عالمين بها وصائرين مثل آدم مساوين معه» (٣).

وحين يصل أصحاب هذا الاتّجاه إلى هذه النقطة نجدهم يحاولون أن يتعرفوا على العلاقة التي صحّحت استعمال لفظ (الأسماء) محل لفظ (المسميات) ويذكرون لذلك قرائن متعدّدة :

__________________

(١) التبيان ١ : ١٣٨.

(٢) التفسير الكبير ٢ : ١٧٦.

(٣) الميزان ١ : ١١٧.

١٢٧

١ ـ فالرازي يرى هذه المناسبة والعلاقة في مصدر اشتقاق الاسم ، فإنّه أمّا أن يكون من السمة أو السمو «فإن كان من السمة كان الاسم هو العلامة ، وصفات الأشياء خصائصها دالة على ماهياتها ، فصحّ أن يكون المراد من الأسماء : (الصفات) وإن كان من السمو فكذلك ؛ لأنّ دليل الشيء كالمرتفع على ذلك الشيء ، فإنّ العلم بالدليل حاصل قبل العلم بالمدلول» (١) والصفات تدل على الموصوف ، وهي كالظاهر المرتفع بالنسبة إلى الشيء.

٢ ـ والشيخ محمّد عبدة يرى هذه العلاقة في «شدّة الصلة بين المعنى واللفظ الموضوع له ، وسرعة الانتقال من أحدهما إلى الآخر».

٣ ـ كما أنّه يرى في ذلك وجها آخر يكاد يغنيه عن هذه العلاقة ، لأنّ الاسم قد يطلق إطلاقا صحيحا على صورة المعلوم الذهنية (أي ما به يعلم الشيء عند العالم) فاسم الله مثلا هو ما به عرفناه في أذهاننا ، لا نفس اللفظ بحيث يقال : إنّنا نؤمن بوجوده ، ونسند إليه صفاته ، فالأسماء هي ما يعلم بها الأشياء في الصور الذهنية ، وهي العلوم المطابقة للحقائق الخارجية الموضوعية ، والاسم بهذا المعنى هو الذي جرى الخلاف بين الفلاسفة في أنّه عين المسمى أو غيره ، الأمر الذي يدعونا لأن نقول : إنّ للاسم معنى آخر غير اللفظ ؛ اذ لا شك بأنّ اللفظ غير المعنى.

والاسم بهذا الاطلاق ـ أيضا ـ هو الذي يتبارك ويتقدس : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى)(٢) ؛ اذ لا معنى لأن يكون اللفظ هو الذي يتبارك ويتقدس (٣).

__________________

(١) المصدر السابق : الموضوع نفسه.

(٢) الأعلى : ١.

(٣) المنار ١ : ٢٦٢.

١٢٨

ما هي هذه الاسماء؟

وبعد هذا كلّه نجدهم يختلفون في حقيقة هذه المسميات ، والمراد منها في الآية الكريمة :

فالعلّامة الطباطبائي يراها ـ كما في النص السابق ـ موجودات أحياء عقلاء ، ولعلّه يفهم هذه الحياة لها والعقل من قوله تعالى : (ثُمَّ عَرَضَهُمْ ؛) لأنّه استعمل ضمير الجماعة المختص بمن يعقل ، وهذا الاتجاه نجده في بعض الآراء المتقدّمة على العلّامة الطباطبائي نفسه ، كما في حكاية الطبري عن الربيع بن زيد أنّهما قالا : علّمه الله أسماء ذريته وأسماء الملائكة (١).

ولكن الشيخ الطوسي يناقش فكرة الاعتماد على الضمير بقوله : «وهذا غلط ؛ لما بيناه من التغليب وحسنه ، كما قال تعالى : (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ ...)(٢)».

والشيخ محمّد عبدة يرى أنّها تعني : جميع الأشياء وجميع ما يتعلق بعمارة الدين والدنيا من غير تحديد ولا تعيين (٣) ولعلّ هذا الاتجاه هو الذي يظهر من كلام الشيخ الطوسي والرازي في تفسيرهما (٤) ، وحكاه الطبرسي عن ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وعليه أكثر المتأخرين.

وهذا الرأي هو الصحيح الذي ينسجم مع واقع الإنسان من ناحية ، وصحة

__________________

(١) التبيان ١ : ١٣٨.

(٢) النور : ٤٥.

(٣) المنار ١ : ٢٦٢.

(٤) التبيان ١ : ١٣٨ ، والتفسير الكبير ٣ : ١٧٦.

١٢٩

التمييز به والفضل على الملائكة ؛ لأنّه يعبّر عن خط التكامل الذي يمكن أن يسير به الإنسان ، ويمتاز به على جميع المخلوقات.

نظرية الاستخلاف :

بعد أن تعرّفنا آراء العلماء المختلفة تجاه المفاهيم البارزة التي جاءت في هذا المقطع القرآني ، لا بدّ لنا من معرفة الصورة الكاملة للمقطع القرآني ؛ لنستخلص نظرية استخلاف آدم منها.

صورتان لهذه النظرية.

وهنا صورتان لهذه النظرية بينهما كثير من وجوه الشبه :

الاولى : الصورة التي ذكرها السيد رشيد رضا في تفسيره عن استاذه الشيخ محمّد عبدة ، حيث يرى أنّ القصّة وردت مورد التمثيل ؛ لغرض تقريبها من تناول أفهام الخلق لها ؛ لتحصل لهم الفائدة من معرفة حال النشأة الاولى.

وعلى هذا الأساس يمكننا أن نفهم كثيرا من جوانب هذه المحاورة ، والالفاظ التي استعملت فيها دون أن نتقيد بالمعنى اللغوي العرفي لها :

١ ـ فالله ـ سبحانه ـ أخبر الملائكة بأنّه بصدد أن يجعل في الأرض خليفة عنه ، يودع في فطرته الإرادة المطلقة التي تجعله قادرا على التصرف حسب قدرته ومعلوماته التي لا يمكن أن تصل إلى مرتبة الكمال.

وعلى أساس هذه الإرادة المطلقة ، وهذا العلم الناقص عرف الملائكة أنّ هذا الخليفة سوف يسفك الدماء ويفسد في الأرض ؛ لأنّ ذلك نتيجة طبيعية لما يتمتع به من إرادة مطلقة يسير بها حسب علمه الذي لا يحيط بجميع جوانب المصالح والمنافع ، الأمر الذي قد يوجه الإرادة إلى خلاف الحكمة والمصلحة ، فيقع في الفساد.

١٣٠

وحين عرف الملائكة ذلك تعجبوا من خلق الله لهذا النوع من الخلق الذي يسفك الدماء ويفسد في الأرض ، فسألوا الله سبحانه (عن طريق النطق ، أو الحال ، أو غير ذلك) أن يتفضل عليهم بإعلامهم عن ذلك وبيان الحكمة لهم.

وكان الجواب لهم عن ذلك هو بيان وجوب الخضوع والتسليم لمن هو بكل شيء عليم ؛ لأنّ هذا هو موقف جميع المخلوقات تجاهه ؛ لأنّه العالم المحيط بكل المصالح والحكم.

٢ ـ على أنّ هذا النوع من الخضوع والتسليم الذي ينشأ من معرفة الملائكة بإحاطة الله بكلّ شيء ربّما لا يذهب الحيرة ، ولا يزيل الاضطراب ، وإنّما تسكن النفس بإظهار الحكمة ، والسر الذي يختفي وراء الفعل الذي حصل منه تعجب الملائكة.

ولذلك تفضل الله ـ سبحانه ـ على الملائكة بأن أوضح لهم السر ، وأكمل علمهم ببيان الحكمة في هذا الخلق ، فأودع في نفس آدم وفطرته علم جميع الأشياء من غير تحديد ولا تعيين ، الأمر الذي جعل لآدم امتيازا خاصا استحق به الخلافة عن الله في الأرض.

ويظهر هذا الامتياز حين نقارن بين الإنسان وبين المخلوقات لله سبحانه ، فقد نطق الوحي ودل العيان والاختبار على أنّ الله ـ تعالى ـ خلق العالم أنواعا مختلفة ، وخصّ كلّ نوع منها بقدرات ومواهب ، ولكنّ الإنسان مع ذلك يختلف عنها في أنّه لمّا منحه الله من قدرات ومواهب ليست لها حدود معينة ، لا يتعداها ، على خلاف بقية المخلوقات.

فالملائكة ـ الذي لا تتمكن من معرفة حقيقتهم الا عن طريق الوحي ـ لهم وظائف محدودة ـ كما دلت الآيات والاحاديث ـ فهم يسبّحون الله ليلا ونهارا ،

١٣١

وهم صافون ويفعلون ما يؤمرون إلى غير ذلك من الأعمال المحدودة.

٣ ـ وما نعرفه بالنظر والاختبار عن حال الحيوان والنبات والجماد ، فإنّها بين ما يكون لا علم له ولا عمل كالجماد ، أو يكون له عمل معين يختص به نفسه دون أن يكون له علم وإرادة ، ولو فرض أنّ له علما أو إرادة فهما لا أثر لهما في جعل عملهما مبينا لحكم الله وسنته في الخلق ، ولا وسيلة لبيان أحكامه وتنفيذها.

فكل حي من الأحياء المحسوسة والغيبية ـ عدا الإنسان ـ له استعداد محدود وعلم إلهامي محدود وما كان كذلك لا يصلح أن يكون خليفة عن الذي لا حد لعلمه وإرادته.

وأمّا الإنسان فقد خلقه الله ضعيفا وجاهلا ، ولكنّه على ضعفه وجهله فهو يتصرف في الموجودات القوية ، ويعلم جميع الاسماء بما وهبه الله من قدرة على النمو والتطور التدريجي في إحساسه ومشاعره وإدراكه ، فتكون له السلطة على هذه الكائنات يسخرها ثم يذللها بعد ذلك كما تشاء قوته الغريبة التي يسمونها العقل ، ولا يعرفون حقيقتها ولا يدركون كنهها ، فهذه القوة نجدها تغني الإنسان عن كل ما وهب الله للحيوان في أصل الفطرة والإلهام من الكساء والغذاء والاعضاء والقوة.

فالانسان بهذه القوة غير محدود الاستعداد ، ولا محدود الرغائب ، ولا محدود العلم ، ولا محدود العمل.

وكما أعطاه الله ـ تعالى ـ هذه المواهب أعطاه أحكاما وشرائع حدد فيها أعماله وأخلاقه ، وهي في الوقت نفسه تساعده على بلوغ كماله ؛ لأنّها مرشد للعقل الذي كان له كل تلك المزايا.

وبهذا كله استحق الإنسان خلافة الله في الارض ، وهو خلق المخلوقات بها ، ونحن نشاهد في عصرنا آثار هذه الخلافة بما فعله الإنسان من تطوير وسيطرة

١٣٢

وتصرف في الكون.

وحين أودع الله في فطرة آدم علم الاشياء من غير تحديد عرض الاشياء على الملائكة وأطلعهم عليها اطلاعا إجماليا ، ثم طالبهم بمعرفتها والانباء بها واذا بهم يظهرون التسليم والخضوع والعجز والاعتراف.

وعند ذلك أمر الله آدم أن ينبئهم بالاشياء ففعل ، وذلك لتتكشف لهم الحقيقة بأوضح صورها وأشكالها.

وأمّا الصورة الثانية : فهي التي عرضها العلّامة الطباطبائي ، وهي تختلف عن الصورة السابقة في بعض الجوانب ، ونحن نقتصر على ذكر جوانب الخلاف التي سبق أن أشرنا إلى بعضها :

١ ـ إنّ خليفة الله موجود مادي مركب من القوى الغضبية والشهوية ، والدار دار تزاحم محدودة الجهات وافرة المزاحمات ، لا يمكن أن تتم فيها الحياة إلّا بإيجاد العلاقات الاجتماعية ، وما يستتبعها من تصادم وتضاد في المصالح والرغبات ، الأمر الذي يؤدي إلى الفساد وسفك الدماء.

٢ ـ إنّ الملائكة حين تعجبوا كانوا يرون أنّ الغاية من جعل الخلافة هي : أن يحكي الخليفة مستخلفه بتسبيحه بحمده وتقديسه له بوجوده ، والأرضية أي : الانتماء إلى الأرض وشهواتها لا تدعه يفعل ذلك ، بل تجره إلى الفساد والشر ، والغاية من هذا الجعل يمكن أن تتحقق بتسبيحهم بحمد الله وتقديسهم له.

٣ ـ إنّ آدم استحقّ الخلافة ؛ لقدرته على تحمل السر الذي هو : عبارة عن تعلم الأسماء التي هي : أشياء حية عاقلة محجوبة تحت حجاب الغيب محفوظة عند الله. وقد أنزل الله كلّ اسم في العالم بخيرها وبركتها ، واشتق كلّ ما في السماوات والأرض من نورها وبهائها ، وإنّهم على كثرتهم وتعددهم لا يتعددون تعدد

١٣٣

الافراد ، وإنّما يتكاثرون بالمراتب والدرجات.

الموازنة بين الصورتين :

ويحسن بنا أن نوازن بين هاتين الصورتين ؛ لنخرج بالصورة الكاملة التي نراها صحيحة لتصوير هذا المقطع القرآني ، ولنأخذ النقاط الثلاث التي خالف فيها العلّامة الطباطبائي الشيخ محمّد عبدة :

ففي النقطة الاولى : قد نجد العلّامة الطباطبائي على جانب من الحقّ ، كما نجد الشيخ محمّد عبدة على جانب آخر منه ؛ ذلك لأنّ العلّامة الطباطبائي أكّد ما فطر عليه الإنسان من غرائز وعواطف مختلفة ، وهذا شيء صحيح لما لهذه الغرائز من تأثير كبير في حصول التزاحم والتنافس في المجتمع الإنساني ، الأمر الذي يؤدي إلى الفساد وسفك الدماء ، وأساس هذه الغرائز غريزة حبّ الذات التي جاءت الأديان السماوية ـ ومنها الاسلام ـ من أجل توجيهها توجيها صالحا يدفعها إلى تجنب الفساد والسفك للدماء ، ولذلك نجد القرآن الكريم يؤكّد دور الهوى في الفساد وسفك الدماء.

والشيخ محمّد عبدة حين يغفل هذا الجانب ـ في مسألة معرفة الملائكة للفساد وسفك الدماء ـ يؤكّد جانبا آخر له دور كبير ـ أيضا ـ في الفساد وسفك الدماء ، وهو : الإرادة المطلقة والمعرفة الناقصة ، فلولا هذه الإرادة ولو لا هذا النقص في العلم لما كان السفك والفساد.

وعلى هذا الأساس يمكن أن نعتبر كلا الجانبين مؤثرا في معرفة الملائكة لنتيجة هذا الخليفة.

وفي النقطة الثانية : نجد الشيخ محمّد عبدة يحاول أن يذكر أنّ الشيء الذي أثار السؤال لدى الملائكة هو : قضية أنّ هذا المخلوق المريد ذا العلم الناقص لا بدّ أن

١٣٤

يكون مفسدا في الأرض وسافكا للدماء ، ومن ثمّ لا مبرر لجعله خليفة مع ترتب هذه الآثار على وجوده.

وأمّا العلّامة الطباطبائي فهو يحاول أن يذكر في أنّ الشيء الذي أثار السؤال هو : أنّ الخليفة لا بدّ أن يكون حاكيا للمستخلف (الله) بخلاف الملائكة ؛ إذ يمكن أن يحكوا المستخلف من خلال تسبيحهم وحمدهم.

وفي هذه النقطة قد يكون الحقّ إلى جانب العلّامة الطباطبائي ؛ ذلك لأنّ التفسير الإلهي لهذه الخلافة كان من خلال بيان امتياز هذا الخليفة بالعلم ، كما قد يفهم من الآية ، وأشار إليه الشيخ محمّد عبدة ، مع أنّ هذا التفسير لا ينسجم مع النقطة التي ذكرها الشيخ عبدة ؛ لأنّه افترض في أصل إثارة السؤال وجود العلم الناقص إلى جانب الإرادة ، فكيف يكون هذا العلم ـ بالشكل الذي ذكره الشيخ محمّد عبدة ، وهو علم ناقص على أي حال ـ جوابا لهذا السؤال؟

نعم لو افترضنا أنّ العلم الذي علّمه الله ـ تعالى ـ لآدم هو الرسالات الإلهية الهادية للصلاح والرشاد والحقّ والكمال ـ كما أشار الشيخ محمّد عبدة إلى ذلك في النقطة الثالثة ـ فقد يكون جوابا لسؤال الملائكة ؛ لأنّ مثل هذا العلم يمكن أن يصلح شأن الإرادة والاختيار الذي أثار المخاوف ، ولكن هذا خلال الظاهر ؛ إذ يفهم من ذيل هذا المقطع الشريف : (... فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)(١) أنّ هذا الهدى الذي هو الرسالات الإلهية الهادية جاء بعد هذا التعليم لآدم.

وأمّا لو افترضنا أنّ الذي أثار السؤال لدى الملائكة هو الإرادة والاختيار

__________________

(١) البقرة : ٣٨.

١٣٥

فقط ـ كما اختاره أستاذنا الشهيد الصدر قدس‌سره ـ أصبح بيان الامتياز بالعلم والمعرفة جوابا للسؤال ، وتهدئة للمخاوف التي انثارت لدى الملائكة ؛ لأنّ هذا العلم يهدي إلى الله تعالى ، ويتمكن هذا الإنسان بفطرته من أن يسير في طريق التكامل.

وأمّا العلّامة الطباطبائي فقد اعتبر الانتماء إلى الأرض والتزاحم بين المصالح فيها هو الذي يؤدي إلى الفساد ، ويكون العلم بالاسماء طريقا وعلاجا لتجنب هذه الأخطار ؛ لأنّ الأسماء بنظره موجودات عاقلة حية.

وفي النقطة الثالثة : يفترض الشيخ محمّد عبدة أنّ العلم هو الذي جعل الإنسان مستحقا للخلافة ، وهذا العلم ذو بعدين :

أحدهما : العلوم الطبيعية التي يمكن للإنسان أن يحصل عليها من خلال التجارب والبحث ، والتي يتمكن الإنسان بواسطتها من الهيمنة على العالم المادي الذي يعيش فيه ، كما نشاهد ذلك في التأريخ وفي عصرنا الحاضر بشكل خاص.

والآخر : العلم الإلهي المنزل من خلال الشريعة ، والذي يمكن للإنسان من خلاله أن يعرف طريقه إلى الكمالات الإلهية ، ويشخص المصالح والمفاسد والخير والشر.

وهذا التصور ينسجم مع إطلاق كلمة (العلم) في الآية الكريمة ، ومع فرضية أنّ الجواب الإلهي للملائكة إنّما هو تفسير لجعل الإنسان خليفة ؛ لأنّ الجواب ذكر خصوصية (العلم) كامتياز لآدم على الملائكة.

كما ينسجم هذا التصور مع ما أكّده القرآن الكريم في مواضع متعدّدة من دور العقل ومدركاته في حياة الإنسان ومسيرته وتسخير الطبيعة له ، وكذلك دور الشريعة في تكامل الإنسان ووصوله إلى أهدافه.

لكن هذا التصور نلاحظ عليه ـ ما ذكرنا ـ من أنّ الشريعة قد افترض

١٣٦

نزولها في هذا المقطع الشريف بعد هذا الحوار : (... فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)(١).

كما أنّ الظاهر أنّ الإرادة والاختيار يمثلان ميزة اخرى لآدم والإنسان بشكل عام على الملائكة ، وأنّ هذه الخصوصية هي التي أثارت مخاوف الملائكة وسؤالهم ، كما نبهنا عليه وأشار إليه الشيخ محمّد عبدة.

وبذلك يكون استحقاق آدم للخلافة وجود هاتين الخصوصيتين فيه.

وأمّا العلّامة الطباطبائي فهو افترض أنّ هذا الاستحقاق إنّما كان باعتبار العلم بالأسماء ، ولكنّه فسر الأسماء بأنّها موجودات عاقلة لها مراتب من الوجود ، ويمكن من خلال العلم بها أن يسير الإنسان في طريق التكامل.

ولكن هذا التفسير فيه شيء من الغموض ، ولعلّه يعتمد على بعض المذاهب الفلسفية التي تؤمن بوجود العقول التي هي واسطة في العلم والخلق والتكامل بين الله ـ تعالى ـ والوجود ومنه الإنسان.

نعم ، هناك فرضية تشير إليها بعض الروايات المروية عن أهل البيت عليهم‌السلام وهي : أنّ الأسماء عبارة عن أسماء العناصر والذوات الإنسانية الموجودة في سلسلة امتداد الجنس البشري من الأنبياء والربانيين والأحبار الذين جعلهم الله ـ تعالى ـ شهودا على البشرية والإنسانية ، واستحفظهم الله ـ تعالى ـ على كتبه ورسالاته (٢) ، ويكون وجود هذا الخط الإنساني الإلهي الكامل هو الضمان الذي أعدّه الله

__________________

(١) البقرة : ٣٨.

(٢) (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ ...) المائدة : ٤٤.

١٣٧

ـ تعالى ـ لهداية البشرية والسيطرة على الهوى ، وتوجيه الإرادة نحو الخير والصلاح والكمال.

ويكون العلم بهذه الأسماء معناه : تحقق وجودها في الخارج باعتبار مطابقة العلم للمعلوم ، وتعليم آدم الاسماء إنّما هو إخباره بوجودها.

أو يكون العلم بالأسماء معناه : معرفة هذه الكمالات التي يتصف بها هؤلاء المخلوقون ، وهي صفات وكمالات تمثل نفحة من الصفات والكمالات الإلهية ، خصوصا إذا أخذنا بنظر الاعتبار أنّ كلمة (الأسماء) في القرآن تطلق على الصفات الإلهية بنحو من الاطلاق.

والظاهر أنّ هذه الفرضية هي التي ذهب إليها استاذنا الشهيد الصدر قدس‌سره.

١٣٨

مسيرة الاستخلاف

وهي : مسيرة تحقق الخلافة في الأرض ، فيقع الكلام فيه أيضا في جانبين :

الأوّل : تشخيص مجموعة من المفاهيم والتصورات التي وردت في القرآن الكريم حول هذه المسيرة.

الثاني : بيان الصورة النظرية الكاملة حول هذه المسيرة.

الجانب الأوّل ـ المفاهيم والتصوّرات :

السجود لآدم :

في البداية يواجهنا السؤال عن الأمر الإلهي للملائكة في السجود لآدم ، إذ إنّه في الشريعة المقدسة يحرم السجود لغير الله تعالى ، فكيف صحّ أن يطلب من الملائكة السجود لآدم؟ وما هو المقصود من هذا السجود؟

وهذا السؤال ينطلق من فكرة ، وهي : أنّ السجود بحدّ ذاته عبادة ، والعبادة لغير الله شرك وحرام ؛ إذ تقسم الافعال العبادية إلى قسمين :

أحدهما : الأفعال التي تتقوم عباديتها بالنية وقصد القربة كالإنفاق (الزكاة والخمس) ، أو الطواف بالبيت الحرام ، أو القتال ، أو غير ذلك ، فإنّ هذه الأفعال إذا توفرت فيها نية القربة وقصد رضا الله ـ تعالى ـ تكون عبادة لله تعالى ، وبدون ذلك لا تكون عبادة ، ومن ثمّ فهي تتبع نيتها في تشخيص طبيعتها.

والآخر : الأفعال التي تكون بذاتها عبادة ، ويذكر (السجود) منها ؛ لأنّه عبادة بذاته ، ولذا يحرم السجود لغير الله ؛ لأنّه يكون بذاته عبادة لغير الله.

ولكن هذا التصور غير صحيح : فإنّ السجود شأنه شأن الأفعال الاخرى التي تتقوم عباديتها بالقصد والنية ، ولذا فقد يكون السجود سخرية واستهزاء ، وقد

١٣٩

يكون لمجرد التعظيم ، وقد يكون عبادة إذا كان بنيتها.

ولذا نجد في القرآن الكريم في بعض الموارد الصحيحة يستخدم السجود تعبيرا عن التعظيم كما في قصّة إخوة يوسف ، قال تعالى :

(وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا ...)(١).

وإنّما كان السجود لغير الله حراما ؛ لأنّه يستخدم عادة في العبادة ، فاريد للإنسان المسلم أن يتنزه عمّا يوهم العبادة لغير الله تعالى.

وأمّا إذا كان السجود للتعظيم وبأمر من الله تعالى ، فلا يكون حراما ، بل يكون واجبا.

ولكن يبقى السؤال : أنّ هذا السجود ما ذا كان يعني؟

فقد ذكر بعض المفسرين ـ انطلاقا من فكرة أنّ هذا الحديث لا يراد منه إلّا التربية والتمثيل ، وليس المصاديق المادية لمفرداته ومعانيه ـ أنّ السجود المطلوب إنّما هو : خضوع هذه القوى المتمثلة بالملائكة للإنسان ؛ لأنّ الله ـ تعالى ـ أودع في شخصية هذا الإنسان وطبيعته من المواهب ما تخضع له هذه القوى الغيبية ، وتتأثر بفعله وإرادته (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا ...)(٢).

كما أنّه يمكن أن يكون هذا السجود سجودا حقيقيا بالشكل الذي يتناسب مع الملائكة ، ويكون طلب السجود منهم لآدم من أجل أن يعبّروا بهذا السجود عن

__________________

(١) يوسف : ١٠٠.

(٢) فصلت : ٣٠.

١٤٠