القصص القرآني

السيد محمد باقر الحكيم

القصص القرآني

المؤلف:

السيد محمد باقر الحكيم


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المركز العالمي للعلوم الإسلاميّة
المطبعة: ليلى
الطبعة: ٢
ISBN: 964-8686-13-0
الصفحات: ٣٦٠

الطبيعية للصراع الفكري والاخلاقي والسياسي والاجتماعي ، كما أنّنا نجد في هذا العرض للموضوع في القصّة إيضاحا للأعباء التي يتحملها النبي في سبيل الدعوة ، وأنّها ليست أعباء عادية يتمكن كلّ واحد من الناس أن يتحملها ، وإنّما هي تحتاج إلى إرادة قوية وعزم شديد وتصميم عميق الجذور على السير في خط الدعوة حتى في أشدّ الظروف الموضوعية قسوة وأبعدها ملائمة ، ويتعرض فيها الرسول إلى ألوان من العذاب النفسي والجسدي والأخطار التي ترتبط بحياته وسمعته وشخصيته ، بل قد ينتهي الأمر بأن يتعرض النبي إلى القتل والاغتيال نتيجة لذلك.

وهذه الآلام قد تكون بسبب الموقف الخارجي للاعداء الظاهرين العلنيين ، وقد تكون من مرضى القلوب والنفوس ، والاعداء الداخليين المنافقين ، وقد تكون من ضعفاء الايمان والبسطاء والجهال من الناس.

وحين يشير القرآن إلى ألوان المواجهة وأساليبها في هذه القصّة نجد أنفسنا أمام الواقع الاجتماعي الذي كان يواجه به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في دعوته وأمام الأساليب والألوان نفسها ، فكأنّ قصّة موسى عليه‌السلام إنّما هي تعبير عن مسيرة دعوة النبي وآلامه ، ولعلّ هذا هو أحد الأسباب المهمة الذي يفسر لنا مجيء قصّة موسى بهذا القدر من التفصيل في القرآن الكريم.

٤ ـ الجانب التحريفي في العبادة :

من الموضوعات الهامة التي تعرضت لها القصّة هو الجانب التحريفي في العبادة ، فإنّ بني إسرائيل وغيرهم ـ كما يبدو من انقيادهم لموسى ـ آمنوا به وبدعوته ، ولكن هذا الإيمان بالشعارات العامة التي كان يرفعها موسى لا يعني أنّهم كانوا يعرفون محتواها الأصيل بأدق معانيه وجميع أبعاده. الأمر الذي لو حصل كان من الممكن أن يصدهم عن الانسياق وراء أفكار وثنية اخرى. لذلك نجدهم ـ وهم قد خلصوا من عذاب فرعون ومطاردته ، وتحرّروا من طغيانه ـ تطفو على

٢٦١

أفكارهم ومشاعرهم الكثير من الرواسب الوثنية ذات المدلول المنحرف ، هذه الرواسب التي كانوا قد تأثروا فيها بالمجتمع الفرعوني الذي كانوا يعيشون فيه.

وهي حين تطفو على السطح لا يعني أنّهم كانوا قد تنازلوا عن شعاراتهم السابقة ومدلولاتها أو تخلّوا عن عقيدة التوحيد ... وإنّما يعني ذلك : أنّهم كانوا يفهمون مدلول الشعارات بصورة سطحية وساذجة من حيث ينسجم مع هذا العمل المنحرف ، فالعجل في نظرهم هو تجسيد للإله الذي دعا إليه موسى ، والأصنام ـ أن يتخذها لهم موسى للعبادة ـ هي الوسائط المادية للتعبير عن العبادة للإله الذي دعا إليه موسى ... وهكذا.

ولعلّ القرآن الكريم يهدف في هذه الإشارة إلى ناحيتين :

الاولى : مناقشة أفكار الجاهليين المعاصرين لنزول القرآن حين كانوا يقولون في أصنامهم ويبرّرون عبادتهم لها : إنّهم اتخذوها واسطة وزلفى إلى الله.

(أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ...)(١).

الثانية : أنّ الإنسان حين يؤمن بالله وبالرسول ويحظى بصحبته ويستمع إليه لا يعني أنّه قد تجرد دفعة واحدة عن جميع محتوياته الداخلية ، وقضى على كلّ الرواسب التي لا تلتقي في واقعها مع أصالة الرسالة والدعوة التي يدعو إليها الرسول ، وإنّما غاية ما يدل عليه ذلك هو الإيمان بالمدلول الحرفي للشعار والفكرة ، الأمر الذي قد يؤدي إلى التحريف والخطأ في التطبيق. والوصول إلى الدرجة العالية من الإيمان يحتاج إلى ممارسة واقعية وعملية فى الالتزام والطاعة ، وإلى فهم وتدبّر في المفاهيم والافكار ، وهذا ممّا أشار إليه القرآن في بعض الموارد حين ميز بين ادعاء

__________________

(١) الزمر : ٣.

٢٦٢

الإسلام والإيمان :

(قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ ...)(١).

وهذه المظاهر من أخطر الظواهر التي واجهت الأديان الإلهيّة حين تعرضت للتحريف في العبادة والعلاقة مع الله تعالى مع الاحتفاظ بنفس المفاهيم والشعارات الأصلية ، ووجد المحرفون دائما المبررات والذرائع والعناوين التي يوجهون فيها هذه الانحرافات.

ومن أجل ذلك تبنى الاسلام مبدأ التوقيفية في العبادة والتزم بأنّها منهج معين يضعه الله ـ سبحانه ـ للانسان ليصوغ به غريزة التدين واحساسه بالدين ، ويحدد فيه شكل العلاقة بالله تعالى وصيغتها ، ولا يصح للإنسان أن يتصرف في هذا الأمر بحسب ميوله أو اجتهاده للتعبير عن هذه العلاقة ، والسر في ذلك كله هو : أنّ طبيعة العلاقة بين الله ـ تعالى ـ والإنسان إنّما هي علاقة غيبية ، لأنّ طرفها الآخر هو الله تعالى ، ولا يمكن للإنسان ـ وهو موجود مادي ـ أن يدرك الطريق الذي يوصله للتقرب إلى الله تعالى بنفسه ، فلا بدّ له من أجل تحقيق ذلك أن يشخص الله ـ تعالى ـ له هذا الطريق ، فقد يكون ما يتصوره الإنسان مقربا نحو الله مبعدا عنه ، كما جاء ذلك في بعض النصوص التي وردت عن أهل البيت عليهم‌السلام (٢).

__________________

(١) الحجرات : ١٤.

(٢) وقد ورد عن الإمام الصادق لمّا سئل عن العبادة : أنّه قال : «حسن النية بالطاعة من الوجوه التي يطاع الله منها». كما ورد عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : قال رسول الله «ألا إنّ لكلّ عبادة شرة [الرغبة الشديدة] ثمّ تصير إلى فترة ، فمن صارت شرة عبادته إلى سنتي فقد اهتدى ، ومن خالف سنتي فقد ضلّ ، وكان عمله إلى تبار». الكافي ٢ : ٨٣ و ٨٥.

٢٦٣

٥ ـ الحياة الشخصية لموسى :

لقد تناولت المواضع السابقة من قصّة موسى بعض التفاصيل عن الحياة والسيرة الشخصية لموسى خصوصا فترة ما قبل بعثته عليه‌السلام.

ولعلّ القرآن الكريم استهدف من وراء عرض هذا الموضوع في قصّة موسى هدفين :

الأوّل : ما أشرنا إليه سابقا في تحليلنا لمقاطع القصّة من سورة القصص : من أنّ هذه التفصيلات قد تدلّ على جانب من إعجاز القرآن ؛ إذ يدل الاطلاع عليها على مدلول يختلف عن مدلول الاطلاع على أحوال موسى (الرسول) ؛ لأنّ أحوال موسى (الرسول) كانت تتحرك في المجتمع العام ، وبذلك تكون معروفة بشكل طبيعي ويتناقلها التأريخ ، على خلاف أحوال موسى (الرسول) قبل البعثة خصوصا إذا كانت هذه التفاصيل ممّا ينفرد به القرآن الكريم عن الكتب السماوية الاخرى.

الثاني : ما أشرنا إليه في بحث مراحل الدعوة : من أنّ هذا الجانب يبرز لنا موسى في صورة الانسان الذي قد أعده الله ـ تعالى ـ للقيام بأعباء الرسالة ، وأنّه يتمكن بما يتمتع به من خلق وعاطفة وجرأة ومكانة على تحمل أعباء الدعوة.

ويمكن أن نضيف إلى ذلك ـ أيضا ـ أمرا ثالثا هو : أنّه من خلال التعرّف على حياة موسى الشخصية سوف تتكشف لنا بعض الأوضاع الاجتماعية السائدة حينذاك في المجتمع الفرعوني ، ومستوى الظلم الذي كان يعاني منه الإسرائيليون واستسلامهم لهذا الواقع المرير ، وما أنعم الله به ـ سبحانه ـ على بني إسرائيل عامة وموسى بشكل خاص من نعم وألطاف.

٦ ـ الأوضاع العامة للشعب الإسرائيلي :

لقد تناول القرآن الكريم بعض الأوضاع والصفات العامة للشعب

٢٦٤

الإسرائيلي ، وأشرنا إلى بعضها عند دراستنا للمرحلة الثالثة من دعوة موسى ، ويمكن أن نلخص ما تكشف عنه هذه الأوضاع والصفات التي تناولها القرآن وهي :

أوّلا : في أنّ الشعب الإسرائيلي كان يتصف بازدواجية فضيعة نتيجة لمختلف الظروف التأريخية والاجتماعية التي مرّ بها ، والتي تراكمت آثارها المتنوعة والعميقة في سلوكه الاجتماعي ومحتواه النفسي والروحي.

وكانت تتمثل هذه الازدواجية في الشعور بالعظمة والامتياز والقربى من الله بوحي من تأريخه المجيد الذي عاشه آباؤه وأجداده ، كتأريخ النبوّات والمقام الاجتماعي المتميز الذي كان ليوسف عليه‌السلام وانقاذه للمجتمع من الكوارث الطبيعية ، والتخطيط الاقتصادي الرائع الذي قام به من ناحية ، ونجد هذا الشعب في الوقت نفسه قد قاسى حياة طويلة من الاضطهاد والاستعباد ورزح في ظل مستلزماتها من جهل وفقر وانحطاط خلقي ونفسي واجتماعي من ناحية اخرى.

ولعلّ هذه الازدواجية هي التي تفسر لنا تململ الإسرائيليين ، وعدم تحملهم لأعباء الرسالة وعملية الخلاص والانقاذ من ناحية ، وتمادي الإسرائيليين في الطلبات ، وكثرة تمنياتهم على موسى ، وعدم استجابتهم للخط الذي رسمه لهم لانقاذهم ، وهو خط الجهاد لتحرير الأرض المقدسة من ناحية اخرى ، وقد صنعوا كلّ ذلك على الرغم ممّا يتمتع به موسى من مكانة عظيمة عندهم ، لأنّه كان مخلصهم ومنقذهم من الظلم الفرعوني وضحى من أجلهم بموقعه الاجتماعي وحياته الهنيئة.

وقد استهدف القرآن من وراء إعطاء هذه الصورة للشعب الإسرائيلي تسليط الأضواء على واقع اليهود الذين كانوا يعايشون المسلمين ، وكان ينظر إليهم العرب قبل ظهور الاسلام على أنّهم أهل الكتاب والمعرفة بالأديان وبكلّ ما يتصل بعالم الغيب. وحيث تتكشف هذه الصورة الواقعية لهذا الشعب (الازدواجية)

٢٦٥

وتتضح معالمها سوف يظهر للمسلمين مدى إمكان الثقة باليهود وعدم صحة نظرتهم للأشياء ، ويتضح تفسير موقفهم السلبي من الرسالة والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّه موقف نفسي واخلاقي فاسد.

كما يمكن أن نلاحظ ـ أيضا ـ مدى الأثر الذي تركته سنوات الاضطهاد والظلم على الأوضاع النفسية والروحية للإسرائيليين ، والشعور بالضعف والحذر ، ومعاناة موسى عليه‌السلام في محاولة التغلّب على ذلك. حيث يظهر هذا الأمر بصورة واضحة في قضية دعوة موسى قومه للدخول إلى الأرض المقدسة التي كانت هدفهم وأملهم ، خصوصا أنّ هذه الدعوة جاءت بعد الانتصارات العظيمة التي حققها لهم موسى والاستقلال والعزة والكرامة الإنسانية ، ومع ذلك رفضوا هذه الدعوة بسبب الخوف.

ويبدو هذا الأمر واضحا ـ بالمقارنة ـ مع دعوة النبي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله للمسلمين إلى قتال الروم في معركة (تبوك) ؛ إذ استجاب عامة المسلمين لذلك باستثناء نفر منهم كانوا يشعرون بهذا اللون من الخوف والضعف.

٢٦٦

الفصل الرابع

منهج تحليلي في دراسة القصّة القرآنية

٢٦٧
٢٦٨

عيسى وقصّته :

عيسى عليه‌السلام هو ابن مريم ابنة عمران على ما ذكره القرآن الكريم ، وهو آخر الأنبياء الذين ذكرهم القرآن الكريم بالاسم قبل نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو رابع أنبياء اولي العزم الذين تحدثنا عنهم.

وقد جاءت قصته في الأناجيل الأربعة المعروفة (متى ، ومرقس ، ولوقا ، ويوحنا) التي يعترف بها المسيحيون بشكل عام ، كما جاءت في الإنجيل الخامس (إنجيل برنابا) ، ولكنّها جاءت في هذه الأناجيل مع اختلاف كبير بينها في التفاصيل بحيث لا يمكن الجمع بينها كما سوف نعرف.

وهي في الوقت نفسه مختلفة عمّا جاءت في القرآن الكريم في بعض الجهات.

ولم يرد ذكر هذه القصّة في التوراة بطبيعة الحال ؛ لأنّها أقدم من وجوده ، إلّا أنّ الغريب أنّه لم يرد ذكر لعيسى عليه‌السلام في التاريخ اليهودي والإنساني العام ، ولا في تاريخ اليهود وجماعتهم إلّا في وقت متأخر نسبيا الأمر الذي جعل بعض المؤرخين يذهبون إلى إنكار وجوده ، وادعاء أنّ قصّته هي من الأساطير التاريخية التي تشبه قصص بعض الأبطال الاسطوريين ، مثل : كرشنا ، واوزديس ، واتيس ، واونيس ،

٢٦٩

وديونش ، ومتراس (١).

ولذلك يعتبر تأكيد القرآن الكريم لوجوده وذكر قصّته من أهمّ الادلة وأوضحها على وجود هذا النبي العظيم.

وقد ورد ذكره في القرآن الكريم باسمه الشريف (عيسى) خمسا وعشرين مرّة ، كما ورد اسمه باسم المسيح أحد عشر مرّة ، ثلاثة منها مقرونة باسمه الشريف ، وورد ذكره تحت عنوان (ابن مريم) بشكل مستقل مرّتين ، فيكون مجموع الموارد التي ذكر فيها في القرآن الكريم خمسا وثلاثين مرّة.

كما أنّ قصّته وردت في القرآن الكريم متفرقة ومتناثرة ـ أحيانا ـ ضمن قصّة والدته مريم عليها‌السلام التي تعتبر من مقدمات وشئون قصّته.

وأكثر الموارد تفصيلا ما ورد في سورة آل عمران ، وسورة المائدة ، وسورة مريم (٢) ، وبعد ذلك في سورتي النساء والصف (٣).

ولم ترد القصّة كاملة ولو على نحو الإجمال إلّا في موضع واحد ، وهو آل عمران ، كما أنّها جاءت في هذه المواضع مختلفة اللفظ والهدف بحسب السياق الذي جاءت فيه القصّة ، وإن كانت للقصّة أهداف خاصة كما سوف نشير إلى ذلك في الملاحظات العامة حول القصّة إن شاء الله.

وتتلخص قصّة عيسى عليه‌السلام في الفصول الثلاثة الآتية :

__________________

(١) راجع كتاب قصّة الحضارة ١١ : ٢٠٢ ـ ٢٠٦.

(٢) آل عمران : ٣٢ ـ ٦٢ ، والمائدة : ٧٢ ـ ٨٦ ، و ١١٠ ـ ١١٩ ، ومريم : ١٦ ـ ٣٧.

(٣) النساء : ١٥٥ ـ ١٥٩ ، و ١٧١ ـ ١٧٣ ، والصف : الآيات ٦ ـ ٨ ، و ١٤.

٢٧٠

قوم عيسى عليه‌السلام

قد يظهر من القرآن الكريم أنّ قوم عيسى عليه‌السلام هم بنو إسرائيل ؛ لأنّه جاء الحديث في القرآن عن إرسال عيسى عليه‌السلام إلى بني إسرائيل : (وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ ...)(١).

كما أنّه في سياق الحديث عن بني إسرائيل يقول الله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ)(٢). وهكذا نجد ذلك في الآية ١٥٦ من سورة النساء.

وجاء في بعض الموارد حديث عيسى عليه‌السلام مخاطبا بني إسرائيل : (وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ)(٣). (... وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ ...)(٤). كما يظهر ذلك ـ أيضا ـ ممّا يذكره القرآن عن

__________________

(١) آل عمران : ٤٩.

(٢) البقرة : ٨٧.

(٣) الصف : ٦.

(٤) المائدة : ٧٢.

٢٧١

نتائج الرسالة من موقف بني إسرائيل تجاه عيسى وموقفه تجاههم في قوله تعالى : (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ* كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ)(١).

وقوله تعالى : (... وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ)(٢).

وكلّ هذه الآيات الكريمة وما يشبهها يظهر منه أنّ قوم عيسى عليه‌السلام هم بنو إسرائيل.

بل قد يبدو ولأوّل وهلة أنّ عيسى عليه‌السلام كانت دعوته مختصة ببني إسرائيل ، كما قد يبدو ذلك في موسى عليه‌السلام أيضا ، إلّا أنّنا سوف نذكر في الحديث عن مراحل حياة عيسى عليه‌السلام أنّ دعوته لم تكن مختصة ببني إسرائيل ، ولكنّ قومه الذين عاش بينهم وتحدّث إليهم هم بنو إسرائيل.

وانطلاقا من هذا الفهم يمكن أن نحدّد معالم هؤلاء القوم ممّا تحدّث عنه القرآن الكريم من مواصفات عامة لهذه الجماعة ، وكذلك ممّا أشار إليه من مواصفات لهم في إطار الحديث عن عيسى عليه‌السلام في أيام حضوره معهم أو بعده ، حيث يلاحظ أنّ القرآن قد تحدّث عن قوم عيسى في أيام حضوره ببعض المواصفات ، وبعد وفاته ورفعه ببعض المواصفات الاخرى تتناول عدّة أبعاد :

أ ـ البعد العقائدي :

١ ـ كان الإسرائيليون يؤمنون بالله والوحي الإلهي والرسالات ، ويؤمنون

__________________

(١) المائدة : ٧٨ ـ ٧٩.

(٢) المائدة : ١١٠.

٢٧٢

بالتوراة والزبور ، ولكنّهم في الوقت نفسه كانوا قد حرفوا هذه العقائد ، فقالوا في الله : إن له ولد (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)(١).

٢ ـ كما أنّهم في الوقت نفسه كانوا قد اختلفوا في تفسير التوراة إلى حدّ كبير بحيث أصبح يمثل ذلك مشكلة مستعصية انتهت بهم ـ أحيانا ـ إلى الكفر بآيات الله ؛ ولذا كان من أهداف رسالة عيسى عليه‌السلام هو حل مشكلة هذا الاختلاف وبيان الحقيقة (وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ)(٢).

٣ ـ وبسبب تحريف التوراة والاختلاف في تفسيرها والكفر بآيات الله التي يأتيهم بها أنبياؤهم كانوا يقتلون هؤلاء الأنبياء أحيانا ، كما تشير إلى ذلك الآيات القرآنية بشكل إجمالي : (... أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ)(٣). (... فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ)(٤). (... ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ)(٥).

(لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا

__________________

(١) التوبة : ٣٠.

(٢) الزخرف : ٦٣.

(٣) البقرة : ٨٧.

(٤) الصف : ٦.

(٥) البقرة : ٦١ ، وكذلك الآية ٢١ من سورة آل عمران.

٢٧٣

وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ)(١).

(فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً* وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً* وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ...)(٢).

وقد جاء في النصوص أنّهم قد قتلوا زكريا وابنه يحيى عليهما‌السلام ، ويذكر القرآن الكريم محاولتهم لقتل المسيح وادعاءهم قتله (٣).

ب ـ البعد الاجتماعي :

لقد كانت العلاقات الاجتماعية بين الإسرائيلين عند ولادة عيسى عليه‌السلام تدور على محور (الهوى) و (حب الدنيا وزينتها) : من الأولاد والنساء ، والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ)(٤).

__________________

(١) آل عمران : ١٨١.

(٢) النساء : ١٥٥ ـ ١٥٧.

(٣) البحار ١٤ : ١٨١ عن قصص الأنبياء للراوندي : ص ١٨٩ عن الكامل لابن الأثير : (إنّ يحيى عليه‌السلام لمّا قتل وسمع أبوه بقتله فرّ هاربا ، فدخل بستانا عند بيت المقدس فيه أشجار ، فأرسل الملك في طلبه ، فدخل في باطن شجرة ، وقطعوا الشجرة وشقوها بالمنشار فمات زكريا عليه‌السلام ...).

(٤) البقرة : ٩٦.

٢٧٤

ولذلك شاع بينهم الاختلاف إلى حدّ الاقتتال والاسر والاستعباد ، كما شاع بينهم الإثم والعدوان ، والتمرد على الأحكام والقوانين (العصيان) ، والسكوت عن المنكرات ، واتباع الهوى في الاخذ من التوراة أو رفضها ، فيؤمنون بما تهواه أنفسهم منها ، ويكفرون ببعضه الآخر الذي لا يتفق مع هوى النفس والمصالح الخاصة ، والولاء للكافرين دون المؤمنين (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ* ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ* أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ* وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ)(١)

وبهذا يمكن أن نفهم صدور اللعن لهم على لسان داود وعيسى بن مريم (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ* كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ* تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ)(٢).

__________________

(١) البقرة : ٨٤ ـ ٨٧.

(٢) المائدة : ٧٨ ـ ٨٠.

٢٧٥

كما يمكن بهذا أن نفسّر النتائج التي وصل إليها الاسرائيليون ، وأشار إليها القرآن الكريم : من الذلّة والمسكنة والغضب الإلهي الذي باءوا به ، وقد أكّدت النصوص التأريخية سيطرة الكفّار الرومان عليهم ثم ما تعرّضوا له من إبادة وتشريد وتخريب على يد (بخت نصر) الحاكم البابلي عند ما غزا الأرض المقدّسة (١).

(ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ)(٢).

ج ـ البعد السياسي :

وعلى مستوى العلاقات السياسية نجد بني إسرائيل كانوا قد وضعوا امور حياتهم وشئونهم الاجتماعية والسياسية بيد أحبارهم ورهبانهم الذين حرفوا التوراة والكتب الإلهيّة ، فاتخذوا هؤلاء الأحبار أربابا لهم من دون الله يسمعون لهم ويطيعونهم ، ولا يسمعون كلام الله ولا يطيعونه.

وكان هؤلاء الأحبار قد تحولوا إلى الدنيا والرئاسة ـ وأصبحوا يمثلون (علماء السوء) في المصطلح الإسلامي ـ حتى أصبحت الدنيا مبلغ همهم ، وتحولت هذه

__________________

(١) وقد ورد في بعض النصوص عن أهل البيت عليهم‌السلام : أنّ نتائج هذا اللعن هو : أنّهم مسخوا قردة في عهد عيسى عليه‌السلام. راجع البحار ١٤ : ٢٣٥ عن العياشي في تفسيره. وفي نص آخر عن إكمال الدين : أنّهم مسخوا شياطين. البحار ١٤ : ٢٤٩.

(٢) آل عمران : ١١٢.

٢٧٦

المقامات من مواقع للهداية والاصلاح إلى مناصب لأكل أموال الناس بالباطل يجمعونها ويكنزونها ، ولا ينفقونها في سبيل الله.

بل أخذوا من خلال هذه المواقع يصدون عن سبيل الله ، ويمنعون الناس من سماع كلمة الحق والهدى أو اتباعه خوفا منهم على مواقعهم وسلطانهم (١).

(اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)(٢).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ* يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ)(٣).

كلّ ذلك وهم يعيشون تحت سلطة الرومان ، وقد ضربت عليهم الذلة والمسكنة بذلك ، كما ذكرنا.

وقد سرت هذه الحالة بعد ذلك في النصارى من اتباع عيسى عليه‌السلام بعده ، كما يشير القرآن الكريم إلى ذلك.

__________________

(١) تشبه هذه الحالة التي يصفها القرآن ما وصلت إليه حالة الكنيسة الكاثوليكية والارثوذكسية في بلاد اروبا في القرون الوسطى ؛ إذ كانت تقوم الكنيسة بهذا الدور حتى وقعت الثورة في بريطانيا وفرنسا بعد ذلك ، وسقطت سلطة الكنيسة كليا أو جزئيا ، ثم تحولت إلى جهاز تابع للسلطة الاستعمارية.

(٢) التوبة : ٣١.

(٣) التوبة : ٣٤ ـ ٣٥.

٢٧٧

د ـ البعد الأخلاقي :

لقد تحدّث القرآن الكريم عن جوانب من البعد الأخلاقي لبني إسرائيل بشيء من التفصيل لم يتحدّث به عن الأقوام الآخرين.

والسبب في ذلك :

أوّلا : أنّ البعد الأخلاقي يمثل القاعدة الأساسية للمجتمع الإنساني بعد العقيدة والإيمان بالله تعالى.

ثانيا : أنّ أصل المشكلة في جماعة بني إسرائيل ترتبط بهذا البعد الأخلاقي ، ويمكن أن تكون بقية الأبعاد الاخرى نتائج لهذا البعد الأخلاقي ، كما يفهم ذلك من القرآن الكريم ـ كما شرحنا ذلك في أبحاث تفسير القرآن الكريم ـ وبقيت هذه المشكلة قائمة ومؤثرة إلى حد كبير في هذه الجماعة حتى نزول القرآن الكريم.

ويمكن تلخيص أهم الجوانب الأخلاقية لهذه الجماعة التي أكّدها القرآن الكريم بالامور التالية :

١ ـ قسوة القلب إلى حدّ الطبع والختم عليه ، وهذا ما كانوا يتحدّثون به عند ما يقولون : (وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ)(١).

ثم (لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ* وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ* لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ

__________________

(١) البقرة : ٨٨.

٢٧٨

رَبِّي وَرَبَّكُمْ ...)(١).

(ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)(٢).

٢ ـ نقض الميثاق والعهد ، وهي صفة عامة أكّدها القرآن في بني إسرائيل ، وهي أحد الأسباب الأخلاقية والنفسية التي تنتهي إلى قسوة القلب ثمّ الطبع والختم وقتل الأنبياء.

وقد تقدمت الآيات (١٥٥ ـ ١٥٧) من سورة النساء في البعد العقائدي التي تربط بين نقض الميثاق وغلف القلوب وقتل الأنبياء.

٣ ـ العناد والجحود حيث أكّد القرآن هذه الصفة فيهم في عدّة موارد من خلال ما أشار إليه من تكذيبهم لعيسى بن مريم عليه‌السلام بعد أن جاءهم بالبينات ، وقولهم بشأنه : إنّه (... هذا سِحْرٌ مُبِينٌ)(٣).

٤ ـ المكر والخديعة ؛ إذ صرح القرآن الكريم بذلك بشأن قصّة عيسى عند ما مكروا به في محاولتهم لقتله وصلبه :

(وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ* إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ...)(٤).

__________________

(١) المائدة : ٧٠ ـ ٧٢.

(٢) البقرة : ٧٤.

(٣) الصف : ٦.

(٤) آل عمران : ٥٤ ـ ٥٥.

٢٧٩

٥ ـ البهتان والكذب والقول بغير علم ، كما يشير إلى ذلك القرآن الكريم في بهتانهم العظيم لمريم عليها‌السلام وادعائهم قتل المسيح مع أنّهم لم يعرفوا ذلك باليقين ، وقد تقدّم ذلك :

(وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)(١).

٦ ـ الغرور : الشعور بالامتياز من الآخرين والاختصاص بالله تعالى ، وإنّهم أحباء الله وأولياؤه ، وإنّ الدار الآخرة مختصة بهم من دون الناس ، وإنّ الله ـ تعالى ـ إذا كان يعذّبهم بعصيانهم فإنّما هو لأيام معدودة.

(قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)(٢).

(قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)(٣).

(وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ ...)(٤).

(وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً ...)(٥).

__________________

(١) آل عمران : ٧٨ ، وكذلك الآيات ١٥٦ ـ ١٥٧ من سورة النساء.

(٢) الجمعة : ٦.

(٣) البقرة : ٩٤.

(٤) المائدة : ١٨.

(٥) البقرة : ٨٠.

٢٨٠