القصص القرآني

السيد محمد باقر الحكيم

القصص القرآني

المؤلف:

السيد محمد باقر الحكيم


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المركز العالمي للعلوم الإسلاميّة
المطبعة: ليلى
الطبعة: ٢
ISBN: 964-8686-13-0
الصفحات: ٣٦٠

الثاني : في اتخاذهم الرهبان أربابا من دون الله ، يقدسونهم ، ويبذلون لهم الأموال ، ويعتقدون فيهم أنّهم يعاقبون ويثيبون ، وأنّه لا يغفر لهم إلّا بواسطتهم ، وبذلك تأثروا بسلوك الأحبار المنحرفين من اليهود ، والقياصرة من ملوك الرومان.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ ...)(١).

وفي بيان قصّة عيسى عليه‌السلام من آل عمران :

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)(٢).

__________________

(١) التوبة : ٣٤.

(٢) آل عمران : ٦٤. جاءت هذه الآية في سياق آية المباهلة ، وهي قوله تعالى : (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ) ، وقد ورد في تفسير هذه الآية : أنّها (قيل نزلت الآيات في وفد نجران : العاقب ، والسيد ، ومن معهما ، قالوا لرسول الله : هل رأيت ولدا من غير ذكر؟ فنزل إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ ... الآيات ، فقرأها عليهم. عن ابن عباس وقتادة والحسن ، فلمّا دعاهم رسول الله إلى المباهلة استنظروه إلى صبيحة غد من يومهم ذلك ، فلمّا رجعوا إلى رحالهم قال لهم الأسقف : انظروا محمّدا في غد ، فإن غدا بولده وأهله فاحذروا مباهلته ، وإن غدا بأصحابه فباهلوه ، فإنّه على غير شيء ، فلمّا كان الغد جاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آخذا بيد علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، والحسن عليه‌السلام والحسين عليه‌السلام بين يديه يمشيان ، وفاطمة عليها‌السلام تمشي خلفه ، وخرج النصارى يقدمهم أسقفهم ، فلمّا رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أقبل بمن معه سأل عنهم ، فقيل له : هذا ابن عمه ، وزوج ابنته ، وأحب الخلق إليه ، وهذان ابنا بنته من

٣٤١

تحريف الإنجيل :

٥ ـ وقد كان السبب في هذه الاختلافات وغيرها ضياع الإنجيل أو تحريفه ـ في اللفظ أو التطبيق والعمل ـ من قبل بعض الإسرائيليين الذين آمنوا بالمسيحية ،

__________________

علي عليه‌السلام ، وهذه الجارية بنته فاطمة أعز الناس عليه ، وأقربهم إلى قلبه ، وتقدّم رسول الله فجثا على ركبتيه ، قال أبو حارثة الأسقف : جثى والله كما جثا الأنبياء للمباهلة ، فكعّ ولم يقدم على المباهلة ، فقال السيد : ادن يا أبا حارثة للمباهلة ، فقال : لا ، إنّي لأرى رجلا جريئا على المباهلة ، وأنا أخاف أن يكون صادقا ، ولئن كان صادقا لم يحل ـ والله ـ علينا الحول وفي الدنيا نصراني يطعم الماء ، فقال الأسقف : يا أبا القاسم إنّا لا نباهلك ، ولكن نصالحك ، فصالحنا على ما ينهض به ، فصالحهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ألفي حلة من حلل الأواقي ، قسمة كل حلة أربعون درهما ، فما زاد أو نقص فعلى حساب ذلك ، وعلى عارية : ثلاثين درعا ، وثلاثين رمحا ، وثلاثين فرسا ، إن كان باليمن كيد ، ورسول الله ضامن حتى يؤدّيها ، وكتب لهم بذلك كتابا. وروي أن الاسقف قال لهم : إنّي لأرى وجوها لو سألوا الله يزيل جبلا من مكانه لأزاله ، فلا تبتهلوا فتهلكوا ، ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة. وقال النبي : «والذي نفسي بيده لو لا عنوني لمسخوا قردة وخنازير ، ولاضطرم الوادي عليهم نارا». ولمّا حال الحول على النصارى حتى يهلكوا كلّهم قالوا : فلمّا رجع وفد نجران لم يلبث السيد والعاقب ألّا يسيرا حتى رجعا إلى النبي ، وأهدى العاقب له : حلة ، وعصا ، وقدحا ، ونعلين وأسلما. مجمع البيان ١ : ٤٥١ ـ ٤٥٢.

وفي ختام حديث القرآن عن النصارى وأهل الكتاب من هذه السورة والآية يذكر القرآن الكريم المؤمن منهم بقوله تعالى : (لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ* يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ* وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ.) آل عمران : ١١٣ ـ ١١٥.

٣٤٢

أو أظهروا الإيمان بها في عصر متأخّر عن وفاة المسيح ورفعه.

والقرآن الكريم وإن كان لا يحدّثنا عن زمان وظروف تحريف الإنجيل ، ولكنّه يحدّثنا عن هذا التحريف في عدّة مواضع :

منها : ما يذكره من معلومات دقيقة يختلف فيها عن الإنجيل مثل : ولادة عيسى عليه‌السلام وبشريّته ، وقضية وفاته ورفعه ، إلى غير ذلك من النقاط التي أشرنا إلى بعضها في سرد القصّة.

ومنها : ما أشار إليه القرآن الكريم : من عدم التزامهم بتطبيق التوراة والإنجيل في مقام العمل ، وتحريفه في الالتزام والسلوك :

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ)(١).

ومنها : ما أشار إليه القرآن الكريم في سياق الحديث عن اليهود والنصارى : من تحريفهم للكتاب بتفسيره وتأويله بالرأي والهوى ، والأغراض الخاصة ، أو نسبته إلى الله كذبا وزورا.

(وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)(٢).

مضافا إلى ذلك كلّه أنّ واقع الأناجيل الفعلية هو أفضل شاهد على هذا

__________________

(١) المائدة : ٦٨.

(٢) آل عمران : ٧٨.

٣٤٣

الضياع والتحريف ، وهذا ما سوف نشير إليه في خصائص هذه المرحلة.

خصائص المرحلة الرابعة :

فى ختام الحديث عن هذه المرحلة يحسن بنا أن نشير إلى خصائصها وبعض الملاحظات عليها :

الاولى : أنّ الوفاة والرفع لعيسى عليه‌السلام كان من خصائص هذه المرحلة ، ولكن هل كانت الوفاة حسب السنّة العامة الجارية في الناس عند ما يتوفّاهم الله تعالى ـ (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)(١) ـ ثم كان الرفع بعد الوفاة ، فيكون رفعا معنويا في مقابل الأذى والإهانة التي كان يريد أن يلحقها بعيسى عليه‌السلام الكافرون؟ أو كانت الوفاة هنا وفاة خاصة بعيسى عليه‌السلام تميّز بها (سلام الله عليه) من سائر الأنبياء والناس ، كما تميّز بولادته ، وإنّ الرفع كان حقيقيا ، كما رفع الله ـ سبحانه ـ نبيه محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بصورة مؤقتة في الإسراء والمعراج؟

هنا يوجد احتمالان ، وحديث واسع للمفسرين أشار إلى جانب منه الشيخ الطبرسي في مجمع البيان (٢).

ولا شكّ أنّ ظاهر الآيات الكريمة وسياقها : أنّ الوفاة والرفع كان امتيازين خاصين بعيسى عليه‌السلام ، استحقا خطابا خاصا ونعمة إلهيّة متميّزة ، ولذا فهو رفع مادي

__________________

(١) الزمر : ٤٢.

(٢) مجمع البيان ٢ : ١٣٥ ـ ١٣٧ ، وكذلك النجار في قصص الأنبياء : ٥٦٦ ـ ٥٦٩ حيث ذكر الاحتمالات العديدة ، واختار الوفاة العادية والرفع المادي ، ونسبه إلى محمّد عبده.

٣٤٤

لعيسى بجسمه. ولذا اختص نسبة الرفع إلى الله ـ تعالى ـ في القرآن الكريم بعيسى عليه‌السلام.

وهذا ما فهمه عامة المفسرين والمخاطبين في القرآن الكريم ، وإن كان بعضهم ولا سيّما المتأخرين يحاول أن يحتمل فيه احتمالات اخرى (١).

وتؤكّد هذا الفهم للرفع الروايات التي وردت في شرح هذا الموضوع (٢).

الثانية : أنّ هذه المرحلة كانت تتسم بالصراع والمواجهة بين الإسرائيليين أنفسهم بشأن عيسى عليه‌السلام ، فهل كان هذا الصراع مجرّد صراع سياسي ، ومن ثمّ غلبة وعلوا في الأوضاع السياسية والاجتماعية للمؤمنين على الكافرين بعيسى أو أنّه كان صراعا دمويا ـ أيضا ـ فيه قتال واستخدام للسلاح؟

ويبدو من سياق الآية الكريمة في سورة (الصف) التي تحدّثت عن هذا الصراع ـ أيضا ـ أنّ هذا الصراع كان فيه قتال وجهاد بالنفس ؛ وذلك لأنّ الآيات التي سبقتها تحدّثت عن دعوة المؤمنين إلى الجهاد بالنفس والمال ، كما تحدّثت عن

__________________

(١) راجع الميزان ٥ : ١٦٩ ـ ١٧٠.

(٢) روى الصدوق في عيون الاخبار ، عن الرضا عليه‌السلام : أنّه قال في حديث طويل في وصف الأئمة عليهم‌السلام «... وإنّهم يقتلون بالسيف أو بالسمّ» وساق الحديث إلى أن قال عليه‌السلام : «ما شبّه أمر أحد من أنبياء الله وحججه عليهم‌السلام للناس إلّا أمر عيسى بن مريم وحده ؛ لأنّه رفع من الأرض حيّا ، وقبض روحه بين السماء والأرض ، ثمّ رفع إلى السماء وردّ عليه روحه ، وذلك قوله عزوجل : (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) ، وقال عزوجل حكاية لقول عيسى عليه‌السلام : (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)» الخبر. البحار ١٤ : ٣٣٨ ، ح ١١.

٣٤٥

النصر والفتح في هذا الجهاد ، وجاء الحديث عن الصراع الإسرائيلي كمصداق ومثل لتوضيح نتيجة هذا الصراع مع الكافرين في امة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما أنّ طبيعة الأشياء تقتضي أن يكون هذا الصراع متسما بالقتال وبذل النفس.

ويؤيد ذلك ما ورد في تفسير هذه الآية عن علي بن إبراهيم القمّي الذي نصّ على حدوث القتال بين الإسرائيليين (١).

وهذا الظهور القرآني الذي تؤيده الروايات يدل على مشروعية القتال في شريعة عيسى عليه‌السلام ، على خلاف ما يفهم من الإنجيل الموجود فعلا من التسليم للطغاة وعدم التصدي لهم ، فيكون ذلك أحد موارد التحريف.

الثالثة : ومن خصائص هذه المرحلة هي : وقوع حادثة محاولة قتل المسيح عليه‌السلام ، ونلاحظ هنا : أنّ القرآن الكريم الذي أكّد في جانب من القصة بشرية عيسى عليه‌السلام نزّهه عن القتل والصلب والتعرض لإهانة الصلب من خلال ما ذكره من حقيقة الرفع إلى الله تعالى ، وهو مقام قدسيّ اختصّ به المسيح من بين الأنبياء.

وهذا بخلاف عقيدة النصارى فيه التي أعطته صفة الربوبية والالوهية ، ولكنّها

__________________

(١) (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ) قال : الّتي كفرت هي الّتي قتلت شبيه عيسى وصلبته ، والّتي آمنت هي الّتي قبلت شبيه عيسى حتّى يقتل (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا) هي الّتي لم تقتل شبيه عيسى على الاخرى ، فقتلوهم (عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ) ، البحار ١٤ : ٣٤٥ عن تفسير على بن إبراهيم ، ح ٧. ويؤيده ما ورد فى البحار ١٤ : ٣٤٥ عن إكمال الدين ، ح ١ ، من مجاهدة شمعون الصفا للكفار ، وما ورد في المصدر السابق : ٢٧٩ ، ح ١١ ، عن مقاتلة الكفار لعيسى عليه‌السلام في تكريت ، إلّا أنّ هذه الرواية تذكر القتال في أيام عيسى عليه‌السلام ، أي : في المرحلة السابقة.

٣٤٦

في الوقت نفسه لم تنزهه من هذه الإهانة والإذلال التي هي شأن الجناة والمشعوذين.

وهنا يبدو واضحا الرؤية (الوسطية) و (المتزنة) في العقيدة الإسلامية ، على خلاف الإفراط في الغلو عند النصارى ، والتفريط في عقيدة اليهود فيه.

ومن هنا نجد النصارى يتورطون في قبول الصلب والقتل ، فيدّعون خروجه من قبره وارتفاعه إلى السماء بعد ذلك ، ليتستروا على المدلول السلبي للصلب.

الرابعة : أنّ القرآن الكريم كان قد نزّه المسيح من الصلب ، واليهود والنصارى ألصقوها به ـ كما عرفنا ـ ولكنّ النصارى لم يكتفوا بذلك حتى حوّلوا قضية الصلب إلى فكرة عقائدية أساسية في العقيدة النصرانية ؛ إمعانا منهم في الغلوّ وتبريرا غير منطقي لوقوع هذه الحادثة المشينة للمسيح ، حيث لم يعرف تاريخ الأنبياء المنظور أن تعرّض أحدهم إلى هذا النوع من الإذلال والامتهان والإهانة (١). فمن أين جاء النصارى بهذه العقيدة؟ وهل هي اختراع منهم أو أنّهم أخذوها من غيرهم؟ ليبرروا بها هذه الحادثة المزوّرة.

وقد ذكر (السيد رشيد رضا) وغيره من الباحثين عن علماء تاريخ الأديان والآثار : أنّ هذه العقيدة قد اخذت بتفاصيلها عن الوثنيين الهنود ، وعن البوذيين بصورة أدق. وهو ممّا يدل على تأثر المسيحية الموجودة بالوثنية (٢).

الخامسة : أنّ هذه المرحلة اتصفت بوضع الأناجيل فيها. وهناك قرائن عديدة واضحة على تحريف هذه الأناجيل أو وضعها بمجرد مراجعتها على رغم ما

__________________

(١) راجع في بيان عقيدة الصلب ما ذكره في المنار ٦ : ٢٤ ـ ٢٥.

(٢) راجع المصدر السابق : ٣١ ـ ٣٣ ونقل عنه النجار في قصصه : ٤٧٩ ـ ٥٨٠.

٣٤٧

تشتمل عليه من أخلاق ومعارف إلهيّة ومواعظ راقية ، بحيث يمكن أن نقول : إنّها خليط من الموروث الأخلاقي والسلوكي لعيسى عليه‌السلام ، والقصص والاشاعات وما كان يتداوله الناس عن حياته ، وما اضيف إلى ذلك من أفكار وبدع وعقائد على يد الرهبان والكهنة والدعاة إلى المسيحية في العصور المتأخّرة حتى استقر الأمر على هذه الأناجيل الأربعة المعروفة.

وهذا الموضوع وإن كان من الأبحاث المهمة التي تداولها الباحثون الاوروبيون من أصل مسيحي ، والباحثون المسلمون منذ القرن الثاني الإسلامي وحتى يومنا الحاضر. والّفت فيه الرسائل والكتب (١) ، ولكن هنا نشير إلى بعض الأدلة المهمة الواضحة :

الأول : هو الاختلاف الواضح بين هذه الأناجيل في المعلومات والعقائد والأفكار ، فإذا كانت وحيا أو إلهاما إلهيا فلا يصح فيها الاختلاف (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً)(٢).

الثاني : هو وجود الأناجيل العديدة تاريخيا غير الأناجيل الأربعة المعروفة

__________________

(١) من أوائل النصوص المدونة في هذا المجال الاحتجاج المعروف للامام الرضا عليه‌السلام الذي رواه الصدوق في عيون أخبار الرضا ، ورواه الطبرسي في الاحتجاج. كما أنّ من جملة الكتب التي الّفت في هذا المجال كتاب (إظهار الحق) للشيخ رحمة الله الهندي ، وكتاب الهدى إلى دين المصطفى للعلّامة الشيخ محمّد جواد البلاغي ، وبحث السيد رشيد رضا في تفسير المنار ٦ : ٣٦ ، وبحث النجار في قصص القرآن ، وبحث قصّة الحضارة في وجود المسيح ١١ : ٢٠٢ ـ ٢٠٦ وما بعدها عليه‌السلام.

(٢) النساء : ٨٢.

٣٤٨

فعلا ، والتي تمّ اتلافها من قبل المجامع الكنيسية أو القياصرة الحاكمين ، وهذا ممّا يجمع عليه المؤرخون حتى المسيحيّون منهم ، ووجود نموذج لذلك ، وهو : انجيل برنابا ، وهو يختلف في قضايا مهمة وأساسية مع الأناجيل الموجودة ، منها قضية التثليث والصلب.

الثالث : أنّ هذه الأناجيل قد تمّ كتابتها في عصر متأخّر عن المسيح عليه‌السلام بمقدار لا يقلّ عن سبعين عاما ، ويكاد يجمع المؤرخون على ذلك ، الأمر الذي يسقطها عن التواتر والوثوق.

الرابع : وجود عقائد باطلة في هذه الأناجيل لا يقبلها العقل ولا الفطرة السليمة ، مثل : عقيدة التثليث ، وتأليه عيسى عليه‌السلام ، وعقيدة الصلب والفداء ، كما أنكره القرآن الكريم عليهم أيضا.

الخامس : هو اختلاف هذه الأناجيل في تفاصيل عديدة مع القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وهذا الدليل يصلح دليلا للمسلمين.

٣٤٩

ملاحظات عامّة حول قصّة عيسى عليه‌السلام

في نهاية المطاف يحسن بنا أن نسجّل بعض الملاحظات العامة حول قصّة عيسى عليه‌السلام.

الملاحظة الاولى ـ الهدف :

إنّ قصّة عيسى عليه‌السلام شأنها شأن بقية قصص الأنبياء في القرآن الكريم ، لها أهداف متعدّدة ، ولكن بعض هذه الأهداف يأتي في سياق أهداف تشترك بقصص الأنبياء وبعضها الآخر أهداف رئيسة تكاد أن تكون مختصة بالقصّة ذاتها ، وقد أشرنا إلى بعض هذه الأهداف عند الحديث عن أنبياء اولي العزم.

وهنا يمكن أن نؤكّد وجود عدّة أهداف تكاد أن تكون أهدافا مركزية لقصّة عيسى عليه‌السلام في القرآن الكريم.

الأول : مناقشة وإبطال عقيدة النصارى في ألوهية المسيح وعقيدة الصلب ، فإنّ النصارى يعتقدون أنّ المسيح هو الله أو ابنه ، وأنّه ثالث ثلاثة ، كما يفسّرون الصلب بالفداء عن الخطيئة كما ذكرنا ، وقد قدّم القرآن التفسير المنطقي لولادة المسيح وأنّ مثله كمثل آدم خلقه من تراب ، ثم قال له كن فيكون. وكذلك أكّد وفاته ورفعه ، وهذا الهدف يقصد به النصارى من الناس بشكل خاص ؛ وذلك لأنّ ولادة عيسى عليه‌السلام من غير أب هي من القصص الذي لا يؤمن بها إلّا النصارى من الناس في ذلك الوقت ، وآمن بها المسلمون لتأكيد القرآن لها ؛ لأنّ اليهود وغيرهم من الامم لا يقرّون ـ بصورة عامة ـ بوجود المسيح تاريخيا ، ومن أقرّ منهم بالمسيح فهو يتهم مريم عليها‌السلام في ولادته ، كما أشار القرآن الكريم إلى ذلك.

٣٥٠

وهذا هو الهدف الرئيس للقصّة ولا سيّما في سورة آل عمران ومريم والنساء والمائدة.

الثاني : بيان انتصار الرسالة الإلهية في النهاية عند ما تتوفر عناصر : الإخلاص في العمل ، والصبر ، والجهد ، والتضحية ، ولو كان ذلك النصر بعد حين من الزمن وانتقال صاحب الرسالة إلى الله تعالى.

وهذا هو الهدف الرئيس للقصّة في سورة (الصف) ، وهو ما يفهم منها كهدف ثانوي في سورة آل عمران (الآيات ٥٤ ـ ٥٧).

وهذا الهدف وإن كان من الأهداف القرآنية المشتركة ، ولكن تحقّق الانتصار بعد انتقال صاحب الرسالة إلى الله تعالى الذي قد يقترن عادة باليأس من النصر بعد وقوع حادثة الصلب المؤلمة ، فإنّ ذلك من خصائص قصّة عيسى عليه‌السلام.

وفي التاريخ الإسلامي نجد مثيلا لذلك النصر الذي حقّقه الإمام الحسين عليه‌السلام في معركته مع يزيد ؛ إذ كان ذلك النصر بعد شهادته المروعة.

وهذا الهدف يرتبط بسنن التاريخ وحركته.

الثالث : تفسير ظاهرة تاريخية دينية قد تثير تساؤلات واستغراب في تحولات التاريخ ، وهي : ظاهرة أن يأتي النبيّ قومه الأقربين بما يصلح مجتمعهم وحياتهم ، ويقيم الحجّة على ذلك بالأدلّة والبراهين والمعاجز العديدة ، ثم يواجه الجحود والرفض من قبل قومه وشعبه وعشيرته ، وهذا ما حدث للرسالة الإسلامية. فكانت قصّة عيسى عليه‌السلام مثلا لهذه الظاهرة التاريخية التي يقترن فيها الجحود بكل عوامل وعناصر اليقين (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا ...)(١).

__________________

(١) النمل : ١٤.

٣٥١

وقصّة موسى عليه‌السلام وإن كانت تشبه في جانب منها قصّة عيسى عليه‌السلام ؛ لكثرة الآيات والمعاجز والأدلة ، إلّا أنّ الرفض العام كان من فرعون وقومه الذين يمثلون قوما وشعبا آخر لا ينتمي إليه موسى عليه‌السلام ، وهذا بخلاف قصّة عيسى عليه‌السلام التي هي أوضح في بيان هذه الحقيقة لانتماء عيسى إلى بني إسرائيل.

وهذا هو هدف الإشارة إلى القصّة في سورة (الزخرف) حسب الظاهر ، والله أعلم : (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ* وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ)(١).

كما أنّ هذا هو الهدف الثانوي للإشارة إلى القصّة في سورة (الصف) :

(... فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ)(٢).

الملاحظة الثانية ـ النتائج والآثار :

لقد ذكرنا في القصّة أنّ عيسى عليه‌السلام لم يحصل في دعوته للإسرائيليين إلّا التكذيب ، باستثناء استجابة الحواريين لدعوته (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ

__________________

(١) الزخرف : ٥٧ ـ ٥٨.

(٢) الصف : ٦. ذكر السيد قطب في تفسيره (في ظلال القرآن) هدفا رابعا ، خلاصته : أنّ قصّة عيسى عليه‌السلام تمثل قصّة ولادة فريدة في تاريخ الإنسانية ، تصور للإنسان كيفية الخلق الأوّل له. والإنسان لم يشهد هذا الخلق الأوّل فتكون ولادة عيسى بهذا الشكل شاهدا آخر على هذه الحقيقة ، ولكن ولادة عيسى وإن كانت فريدة في التاريخ ، وهي شاهد على حقيقة خلق الإنسان إلّا أنّ خلقه لم يتم كخلق آدم الذي خلقه الله من تراب وبدون أب وأم ، كما أنّ نفس الولادة لها هذا المدلول. وأمّا القصّة فهي إنّما تذكر بهذه الولادة ، فلا يكون لها دور أكثر من قصّة آدم نفسه ، وإخبار الله عن خلق الإنسان من صلصال من حمأ مسنون.

٣٥٢

مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ ...)(١) (... فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ)(٢) ، فهل توقفت الدعوة عند هذا الحد ، أو كان لها نتائج وآثار في الإسرائيليين وفي التاريخ الإنساني؟

وهنا يمكن أن نلاحظ مجموعة من الآثار والنتائج المهمة على مستوى الدعوة والرسالة :

الأول : انتشار الدعوة والرسالة ، وخروجها من الإطار الضيق للإسرائيليين إلى القاعدة العريضة للدعوة ، وهم عامة الناس ، كما ذكرنا في المرحلة الثالثة.

وقد كان ذلك بسبب التربية الجيّدة ، والتنظيم القوي ، والروح المعنوية العالية التي أوجدها عيسى عليه‌السلام في الحواريين. وكذلك تهيئة الارضية القوية للقبول التي كانت نتيجة للجهود الكبيرة التي بذلها الرسول عيسى بن مريم عليه‌السلام ؛ إذ أدّت إلى هزيمة الإسرائيليين المنحرفين أمامه ، فتآمروا عليه.

ويمكن أن نجد مؤشرا واضحا على هذه الحقيقة من خلال ما نجده في الأناجيل المتوارثة : من مضامين عالية ، وأخلاق ربانية راقية ، ومواعظ وحكمة ، حيث اختلط ما تبقّى من هذا التراث الإلهي مع التحريفات والأخطاء والاشتباهات البشرية التي أضيف إليه.

وإلى هذا التراث الإلهي يشير القرآن الكريم في قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ

__________________

(١) آل عمران : ٥٢.

(٢) الصف : ٦.

٣٥٣

أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ)(١).

الثاني : إيجاد تحول في الوضع النفسي والروحي والمشاعري ، ومن الرقّة في القلب والرأفة والرحمة ، وخلق التسامح والتواضع لدى الامّة الجديدة ـ بالرغم من وجود الانحرافات بين أبنائها ـ ؛ إذ يشير القرآن إلى وجود الفرق في هذا الجانب بين هذه الامّة عن الامة الإسرائيلية عند ما يقارن بين علاقتهم مع المؤمنين وعلاقة اليهود منهم مع المؤمنين :

(لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ* وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ)(٢).

ويبدو هذا واضحا عند ما نقارن هذا الوصف بما وصف به القرآن الكريم الإسرائيليين : من قسوة القلب ، والاستكبار ، والجحود ، وقتل الأنبياء ، وغير ذلك من الصفات التي تقدّم الحديث عنها في وصف قوم عيسى عليه‌السلام.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ* وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ)(٣).

__________________

(١) المائدة : ٦٦.

(٢) المائدة : ٨٢ ـ ٨٣.

(٣) البقرة : ٨٧ ـ ٨٨.

٣٥٤

(ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)(١).

الثالث : وجود خط الترهب في السلوك ، والزهد في الدنيا وشهواتها ، والانعزال عنها. وهذا الخط السلوكي وإن اتّسم بالمغالاة في التطبيق والابتعاد عن أهدافه الصحيحة ، إلّا أنّ له أصل في الشريعة الجديدة ، ويعبّر عن استجابة لنداء عيسى عليه‌السلام في التخلي عمّا كان عليه الأحبار والكهنة من الإسرائيليين : من حب الدنيا ، وجمع الأموال ، والحرص على الحياة والمتاع ، بل قد يكون الغلوّ في هذه الرهبانية كان نتيجة لرد الفعل السلبي على الخلق الإسرائيلي.

ولعلّ بيان هذه الحقيقة هو الهدف من آية سورة (الحديد) التي تناولت قصّة عيسى عليه‌السلام ، كما أشرنا إليها في المرحلة الرابعة : (ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ)(٢).

وبالمقارنة مع هذا المنهج السلوكي يتحدّث القرآن الكريم عن اليهود وبني إسرائيل بقوله تعالى : (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ)(٣).

__________________

(١) البقرة : ٧٤.

(٢) الحديد : ٢٧.

(٣) البقرة : ٩٦.

٣٥٥

وبهذا التطوّر الكبير والنتائج المهمة أمكن لهذه الامّة الجديدة أن تحقّق الانتشار الواسع ، والغلبة على الكافرين من بني إسرائيل حتى أصبحوا فوقهم إلى يوم القيامة.

(... وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ...)(١).

الملاحظة الثالثة ـ الحياة الشخصية والعامة لعيسى عليه‌السلام :

يلاحظ أنّ القرآن الكريم لم يتناول من الحياة الشخصية لعيسى عليه‌السلام إلّا قضية الولادة والإعداد لها ، كما لم يتحدّث عن حياته أيضا ، وبدأ بنبوته وأعماله ونشاطه وحركته إلّا بقدر محدود جدا. وهذا على خلاف ما تحدّث القرآن الكريم عن موسى عليه‌السلام وحتى إبراهيم.

والأناجيل التي أرّخت للمسيح عليه‌السلام وفصّلت في الحديث عنه أهملت فترات مهمة من حياته الشخصية ، فمن سن الثانية عشرة ـ وكان المسيح قد تحدّث للناس والكهنة وأعجبوا به ـ إلى سن السابعة والعشرين لم تذكر له الأناجيل شيئا من النشاط والعمل (٢).

فهل كان هذا السكوت من القرآن الكريم بسبب عدم أهمية الأحداث التي وقعت لعيسى عليه‌السلام ، كما قد يفهم ذلك من سكوت الإنجيل عن المدّة السابقة ، والأناجيل هي كتاب سيرة عيسى عليه‌السلام. أو أنّ هذا السكوت القرآني إنّما هو بسبب أنّ الهدف من القصّة كان محصورا بالأهداف السابقة التي كان يمكن تحقيقها بهذا

__________________

(١) آل عمران : ٥٥.

(٢) البحار ، قصص الأنبياء : ٥٢٠.

٣٥٦

القدر من الحديث ، وما عدا ذلك فهو ليس من مهمات القرآن ولا أهدافه ؛ لأنّه ليس كتاب تاريخ وسيرة ، بل هو كتاب هداية وموعظة. ولا يبعد أن يكون الصحيح هو الثاني ، والله أعلم.

الملاحظة الرابعة ـ الحوار مع الاسرائيليين :

لا يحدّثنا القرآن الكريم عن حوار المسيح عليه‌السلام مع قومه الإسرائيليين ، ولا يذكر تفاصيل الانحرافات التي كان يؤاخذها عيسى عليه‌السلام عليهم أو ينقدهم فيها ، ولا الحجج والبراهين التي كان يلقيها عليهم غير المعاجز المذكورة في القرآن ، كما أنّ القرآن لا يتحدّث ـ أيضا ـ عن تفاصيل مقولات الإسرائيليين في عيسى عليه‌السلام إلّا بمقدار (قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ ،) أو بهتانهم لمريم عليها‌السلام وادّعائهم قتل المسيح وصلبه ، وهي امور محدودة.

ويكاد تتميّز قصّة عيسى عليه‌السلام من بقية قصص اولي العزم بهذه الخصوصية ؛ إذ فصّل القرآن نسبيا في الأنبياء : نوح ، وإبراهيم ، وموسى عليهم‌السلام ما لم يفصّله في عيسى عليه‌السلام.

ولعلّ السبب في ذلك ـ مضافا إلى ما ذكرناه في الملاحظة الثالثة ـ أنّ القرآن الكريم اعتمد في هذا الأمر على ما تحدّث به عن الإسرائيليين في مواضع عديدة ؛ إذ تناول صفات انحرافهم والكثير من مقولاتهم ومدعياتهم ، كما أشرنا إلى ذلك عند الحديث عن قوم عيسى عليه‌السلام ، وكان حوار القرآن والنبي معهم بهذا الشأن مغنيا عن الإشارة إلى الحوار ، أو الحجج التي كان قد استخدمها عيسى عليه‌السلام معهم.

وبهذا القدر من الحديث عن قصص الأنبياء نختم حديثنا في هذا الموضوع. نسأله تعالى القبول ، وأن يكون موضع فائدة ونفع للدارسين والمطالعين ، والتوفيق

٣٥٧

للفقه والتدبر والموعظة والتذكر.

كما نسأله تعالى أن يغفر لنا ذنوبنا واسرافنا في أمرنا (... رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ.)

والحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على محمّد وآله الطيبين الطاهرين.

٣٥٨

الفهرس

القسم الأوّل

القصة في القرآن الكريم

الفصل الأوّل : خصائص القصص القرآني........................................ ١٩

القصّة القرآنية والهدف العام من نزول القرآن................................. ٢١

الخصائص الأساسية للقصّة في القرآن....................................... ٢٣

الفصل الثاني : أغراض القصّة في القرآن.......................................... ٣١

الأغراض الرسالية......................................................... ٣٣

الأغراض الاجتماعية والتاريخية............................................. ٤٧

الفصل الثالث : ظواهر عامة في القصّة القرآنية.................................... ٥٧

تكرار القصّة في القرآن.................................................... ٥٩

اختصاص القصّة بأنبياء الشرق الأوسط..................................... ٦٣

تأكيد قصّة إبراهيم وموسى عليهما‌السلام......................................... ٦٧

اسلوب القصّة........................................................... ٧٤

٣٥٩

الفصل الرابع : منهج تحليلي في دراسة القصّة القرآنية............................... ٧٧

الفصل الخامس : قصّة آدم عليه‌السلام............................................... ١١٥

الحكمة في استخلاف آدم............................................... ١١٩

مسيرة الاستخلاف..................................................... ١٣٩

القسم الثاني أنبياء

اولي العزم الأربعة

الفصل الأوّل : قصّة نوح عليه‌السلام في القرآن....................................... ١٥٥

قوم نوح............................................................... ١٥٨

شخصية نوح ........................................................... ١٥٩

حياة نوح .............................................................. ١٦٢

ملاحظات عامّة........................................................ ١٧١

الفصل الثاني : قصّة إبراهيم عليه‌السلام في القرآن..................................... ١٧٥

قوم إبراهيم............................................................. ١٧٨

شخصية إبراهيم........................................................ ١٨٢

حياة إبراهيم............................................................ ١٩٤

الفصل الثالث : قصة موسى عليه‌السلام في القرآن.................................... ٢٣٣

الفصل الرابع : قصّة عيسى عليه‌السلام في القرآن..................................... ٢٦٧

قوم عيسى............................................................. ٢٧١

شخصية عيسى........................................................ ٢٨٣

حياة عيسى............................................................ ٢٩٣

ملاحظات عامّة حول قصة عيسى........................................ ٣٥٠

٣٦٠