القصص القرآني

السيد محمد باقر الحكيم

القصص القرآني

المؤلف:

السيد محمد باقر الحكيم


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المركز العالمي للعلوم الإسلاميّة
المطبعة: ليلى
الطبعة: ٢
ISBN: 964-8686-13-0
الصفحات: ٣٦٠

أنساب الناس ؛ لقوله تعالى : (وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ)(١).

٣ ـ إنّ نوحا هو أبو الأنبياء المذكورين في القرآن ، ما عدا آدم وإدريس عليهما‌السلام ، قال تعالى : (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ)(٢).

٤ ـ كان نوح عليه‌السلام أوّل من كلّم الناس بمنطق العقل وطريق الاحتجاج مضافا إلى طريق الوحي بعد تعرض الجماعة البشرية للانحراف عن الفطرة. فهو الاصل الذي ينتهي إليه دين التوحيد في العالم بعد ظهور الوثنية ، فله الفضل والمنّة على جميع الموحدين إلى يوم القيامة ، ولعلّ هذا هو السبب فيما خصّه الله ـ تعالى ـ به من السلام الذي لم يشاركه فيه أحد (سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ)(٣).

وقد اصطفاه الله على العالمين ، وعدّه من المحسنين ، وسمّاه عبدا شكورا وعبدا صالحا ، وعدّه من عباده المؤمنين.

وآخر ما نقل من دعائه قوله : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً)(٤).

كما أنّه كان أوّل من ذكره القرآن الكريم في ذكر اسم الله عند الابتداء بأمر عظيم (... بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها ...)(٥).

كما أخبر القرآن الكريم عن أنّه لبث في قومه ألف سنة إلّا خمسين عاما ، الأمر الذي يكشف عن طول المعاناة والصبر العظيم.

__________________

(١) الصافات : ٧٧.

(٢) الصافات : ٧٨ ، الميزان ١٠ : ٢٥١.

(٣) الصافات : ٧٩.

(٤) نوح : ٢٨ ، الميزان ١٠ : ٢٥٢ بتصرف قليل.

(٥) هود : ٤١.

١٦١

حياة نوح عليه‌السلام

يبدو أنّ حياة نوح عليه‌السلام من خلال ما عرضه القرآن الكريم في قصّته تنقسم إلى ثلاث مراحل ، وتبدو هذه المراحل الثلاث واضحة من المقطع الذي ذكر فيه قصته من سورة هود.

١ ـ الرسالة والدعوة :

كان نوح عليه‌السلام يدعو قومه إلى توحيد الله سبحانه وعبادته ، ورفض عبادة غير الله تعالى من الشركاء ، كما كان يدعوهم إلى تقوى الله تعالى وطاعته ، وإلى التوبة والانابة إلى الله تعالى ليغفر لهم ذنوبهم.

كما أنّه كان يبلّغ رسالات الله ، وينصح لهم ، وينذرهم عذاب الله وعقابه ، ويبشرهم بالخير العميم في الدنيا ، حيث يرسل الله السماء عليهم مدرارا ، ويمددهم بأموال وبنين ، ويجعل لهم جنات ويجعل لهم أنهارا.

ويظهر من القرآن الكريم ـ كما يفهم من المقارنة بين شريعته وشرائع سائر أنبياء اولي العزم ، أو من سياق الوصايا العامة التي ذكرها القرآن الكريم للشرائع السابقة ـ أنّ نوحا عليه‌السلام كان يأمرهم بالمعروف : كالعدل ، والمساواة ، وصدق الحديث ، والوفاء بالعهد ، وينهاهم عن المنكر وعن ممارسة الفواحش واقترافها.

وقد توسل نوح عليه‌السلام في دعوته هذه بوسائل : الدعوة بالحكمة ، والموعظة الحسنة ، والانذار من عذاب الله تعالى ، والاحتجاج الذي يعتمد على المنطق والاخلاق ، والتأكيد على التجرد من الهوى أو المصالح الدنيوية ، فهو إنسان أرسله

١٦٢

الله لابلاغ رسالاته وليس ملكا ، كما أنّه لا يبتغي من وراء هذا العمل أجرا أو فائدة خاصة أو مقاما دنيويا ، وإنّما يريد بذلك خيرهم وصلاحهم.

وكان عليه‌السلام يتصف : بالصبر ، وسعة الصدر ، والاستقامة في الدعوة ، ومواصلة إبلاغ الرسالة ، واستخدام الأساليب المختلفة العلنية والسرية.

(رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً)(١) (ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً* ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً)(٢).

وقد واجهه قومه بتكذيبه في دعوته ، واستخدموا في هذا التكذيب عدّة وسائل تعبّر عن مراحل من المواجهة بينه وبين قومه :

فأوّلا : كانوا يثيرون في وجهه الشبهات والشكوك من خلال المجادلة بالباطل ، فتارة يتهمونه بالكذب والافتراء ، لأنّ الرسول من الله لا بدّ أن يكون ملكا ، ويستغربون أن يكون رسول الله رجلا مثلهم ، وأخرى يتهمونه بالضلال والخروج على الجماعة ووحدتها ، وثالثة بأنّه يسعى وراء الجاه والمقام والحصول على الامتيازات ، مع أنّه في نظرهم لا فضل له عليهم في الجاه والمال والولد.

وثانيا : المحاصرة الاجتماعية من خلال الاتهام بالتسافل الاجتماعي والعيش مع الاراذل والضعفاء والاوباش من الناس. ولا يمكنهم أن يؤمنوا برسالته ؛ لأنّ ذلك يؤدي بهم إلى أن ينزلوا إلى هذا المستوى الاجتماعي الداني ، أو من خلال الاتهام بالجنون والاضطراب العقلي والشغب.

وكان نوح عليه‌السلام يرد عليهم هذا الاتهام : بأنّ هؤلاء مؤمنين ، ولا يمكن له أن

__________________

(١) نوح : ٥.

(٢) نوح : ٨ ـ ٩.

١٦٣

يطردهم ويبتعد عنهم ، والله أعلم بما في نفوسهم ، وهو يؤجرهم على أعمالهم ونياتهم.

وثالثا : التهديد بالعدوان واستخدام القوة ضده اذا لم يترك رسالته (قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ* قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ* فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)(١).

(فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ)(٢).

ويبدو من القرآن الكريم أنّ نتائج هذه المرحلة كانت :

أوّلا : الإيمان بالرسالة من قبل عدد محدود من الطبقة السفلى من الناس ، وكذلك أهله باستثناء زوجته وأحد أبنائه. وبقي سائر الناس على عنادهم وإصرارهم في تكذيبه (... وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ)(٣).

ثانيا : انقطاع الصلة والتعايش بين نوح عليه‌السلام وقومه من خلال تطور المواجهة بالتهديد وباستخدام القوة وصمود واستمرار نوح عليه‌السلام على موقفه وعدم التراجع عنه (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ)(٤).

ويمكن أن نفهم كلا هذين الأمرين من هاتين الآيتين أيضا :

__________________

(١) الشعراء : ١١٦ ـ ١١٨.

(٢) القمر : ١٠.

(٣) هود : ٤٠.

(٤) يونس : ٧١.

١٦٤

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ* وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ)(١).

٢ ـ اليأس وصنع الفلك (٢) :

وقد يأس نوح عليه‌السلام من هداية قومه وإيمانهم بعد أن أخبره الله تعالى ، وكان قد تبيّن العناد والإصرار على التكذيب في قومه ، فنادى ربه بذلك ، ثم حصل له اليأس من هدايتهم بعدم إيمانهم بعد أن أخبره الله ـ تعالى ـ بذلك ، كما أشارت إلى ذلك الآية السابقة ، وقد كان قومه يطالبونه بما كان يعدهم من إنزال العذاب ، وهو يؤكل ذلك إلى الله تعالى ، وفي الوقت نفسه يواصل دعوته لهم.

إلّا أنّه بعد إخبار الله ـ تعالى ـ له بذلك هنا ، نجد نوح عليه‌السلام يعبّر عن هذا اليأس في عدة مواقف :

أ ـ إعلان القطعية والبراءة من قومه ، كما أشارت إلى ذلك الآيات الكريمة السابقة.

__________________

(١) هود : ٣٥ ـ ٣٦.

(٢) اليأس من الهداية لا يصح إلّا باخبار الله تعالى ، وكذلك قطع الصلة والبلاغ ، ولذلك عاتب الله ـ سبحانه ـ نبيه يونس وابتلاه بالحوت ؛ لأنّه ذهب مغاضبا كما يعبّر القرآن الكريم ، ولهذا لسبب ـ على ما يبدو من القرآن الكريم ـ لم ينزل العذاب على قوم يونس مع أنّهم كانوا قد كذبوه في رسالته كما يشير القرآن الكريم إلى ذلك في سورة يونس ، وأمّا نوح عليه‌السلام فقد أخبره الله بذلك.

١٦٥

ب ـ الدعاء والطلب من الله ـ تعالى ـ بإنزال العذاب عليهم تنفيذا للسنة الإلهية التي كانت تفرض نزول العذاب بالأقوام الذين يكذبوا رسلهم مع تهديدهم باستخدام القوة ضدّهم ، أمّا بقتلهم ، أو إخراجهم من ديارهم ، أو تعذيبهم بالسجن وغيره. وقد كان نوح ينذر قومه بنزول هذا العذاب (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ* وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ)(١).

(وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً* إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً)(٢).

ج ـ الاستعداد لنزول العذاب من خلال صنع الفلك والسفينة.

صنع الفلك :

ثم إنّ الله ـ تعالى ـ لما أمر نوحا بأن يصنع الفلك تهيئا وتحسبا لحدوث الطوفان ونزول العذاب (... وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ)(٣) ، قام نوح بصنع الفلك ، ويبدو أنّ المنطقة التي كان يعيش فيها نوح وقومه كانت (فلاة) لا يوجد فيها بحر ولا نهر ؛ ولذا لم يكن لهذا العمل تفسير لدى قوم نوح عليه‌السلام ، فكان يثير لديهم الاستغراب والتعجب والسخرية (... وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ

__________________

(١) غافر : ٥ ـ ٦.

(٢) نوح : ٢٦ ـ ٢٧.

(٣) هود : ٣٧.

١٦٦

سَخِرُوا مِنْهُ ...)(١). فهل كان ذلك منهم من دون أن يخبرهم نوح بنزول العذاب والطوفان ، أو إنّهم كانوا يوغلون بالتكذيب والسخرية حتى بعد إخباره لهم بمجيء الطوفان.

لا يوجد تصريح في القرآن الكريم ، وإن كنت أستقرب أن يكون ذلك بعد إخبار نوح لهم بذلك ، كما هو مقتضى الحال ، وما يفهم من بعض الآيات أنّ نوحا كان قد أخبرهم بنزول العذاب (... فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ* قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ)(٢).

ويشير إلى ذلك ما كان يذكره نوح لهم في مقابل سخريتهم (... قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ* فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ)(٣).

واستمرت هذه الحرب النفسية الطويلة طيلة المدة التي كان يصنع فيها نوح عليه‌السلام ـ الفرد المحاصر قليل العدّة والعدد ـ السفينة العظيمة التي يريد أن يعدها لهذه المهمة.

ولعلّ هذه الفترة كانت من أصعب الاوقات التي مرّ بها الرسول (نوح عليه‌السلام) ؛ لأنّها كانت فترة المقاطعة الشاملة ، وفترة الحرب النفسية الظالمة ، وفترة الانتظار والترقب لنزول العذاب وتحقق الوعد الإلهي. وقد كان الله ـ تعالى ـ يرعى نوحا بعينه التي لا تنام ، ويسدده بالوحي ، ويعلمه كيف يصنع السفينة في مراحلها

__________________

(١) هود : ٣٨.

(٢) هود : ٣٢ ـ ٣٣.

(٣) هود : ٣٨ ـ ٣٩.

١٦٧

المتعددة ، ويثبته في عمله وموقفه.

ووضع له ـ تعالى ـ علامة لمجيء الأمر بالعذاب وهي : (فوران التنور في بيت أهله) (فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ...)(١).

٣ ـ الطوفان وآثاره ونتائجه :

وعند ما فار التنور أمر الله ـ تعالى ـ نوحا عليه‌السلام أن يحمل في الفلك أهله ـ إلّا من استثنى منهم ، وممّن سبق القول من الله ـ تعالى ـ في اهلاكهم كزوجته ـ وجميع المؤمنين ممّن آمن به ، وهو قليل ، وكذلك من كلّ الحيوانات من كلّ زوجين اثنين ذكرا وانثى. فلمّا حملهم نوح عليه‌السلام في السفينة وركبوا فيها فتح الله ـ سبحانه ـ أبواب السماء بماء منهمر ، وفجر الأرض عيونا ، فالتقى الماء من السماء والارض على أمر قد قدر ، وأصبحت السفينة تجري بهم في موج كالجبال ، ولم يكن هناك شيء من الجبال أو المرتفعات ممّا يعصم الإنسان عن أمر الله بالغرق ، فأخذ الناس الطوفان وهم ظالمون.

ثمّ إنّ نوحا وجد ابنه كان قد انعزل عنه ، ولم يركب في السفينة ، فناداه : يا بنيّ اركب معنا ، ولا تكن مع الكافرين. قال ابنه : سآوي إلى جبل يعصمني من الماء. قال له نوح : لا عاصم اليوم من أمر الله إلّا من رحم الله منهم ، وهم أولئك الذين ركبوا السفينة ، ثم حال الموج بينه وبين ابنه ، فكان ولده من المغرقين.

__________________

(١) المؤمنون : ٢٧.

١٦٨

قضاء الأمر ونزوله ومن معه إلى الارض :

فلمّا عمّ الطوفان ، وأغرق الناس (١) أمر الله الأرض أن تبلع ماءها ، والسماء أن تقلع ، وغيض الماء ، واستوت السفينة على جبل الجوديّ ، وقيل بعدا للقوم الظالمين ، واوحي إلى نوح عليه‌السلام أن اهبط إلى الارض بسلام منّا وبركات عليك وعلى أمم ممّن معك ، فلا يأخذهم بعد هذا طوفان عام ، ومنهم أمم سيمتعهم الله بأمتعة الحياة ، ثمّ يمسّهم عذاب أليم ، فخرج هو ومن معه ، ونزلوا الأرض يعبدون الله بالتوحيد والإسلام ، وتوارثت ذريته عليه‌السلام الأرض ، وجعل الله ذريته هم الباقين (٢).

قصّة ابن نوح الغريق :

ولم يكن نوح عليه‌السلام يعلم من ابنه إبطان الكفر كما كان يعلم ذلك من امرأته ، فكان غرقه مفاجأة له ، وحزن لذلك ، ولو كان علم ذلك لم يفاجأ ، ولم يحزنه أمره ، وهو القائل في دعائه : (... رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً* إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً)(٣) ، وهو القائل : (فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)(٤) ، وقد سمع قوله تعالى فيما أوحى إليه :

__________________

(١) كما يظهر من سورة الصافات : ٧٧.

(٢) سورتا هود والصافات.

(٣) نوح : ٢٦ ـ ٢٧.

(٤) الشعراء : ١١٨.

١٦٩

(... وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ)(١).

فوجد نوح عليه‌السلام وحزن وتسائل ، فنادى ربّه من وجده قائلا : ربّ إنّ ابني من أهلي ، وإنّ وعدك الحقّ ، وعدتني بإنجاء أهلي وأنت أحكم الحاكمين ، لا تجور في حكمك ، ولا تجهل في قضائك ، فما الذي جرى على ابني؟ فأخذته العناية الإلهية ، وحالت بينه وبين أن يصرّح بالسؤال في نجاة ابنه ـ وهو سؤال لما ليس له به علم ـ وأوحى الله اليه : يا نوح إنّه ليس من أهلك إنّه عمل غير صالح ، فإياك أن تواجهني فيه بسؤال النجاة ، فيكون سؤالا فيما ليس لك به علم إنّي أعظك أن تكون من الجاهلين.

فانكشف الأمر لنوح عليه‌السلام والتجأ إلى ربه ـ تعالى ـ قائلا : (... رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ...)(٢) أسألك أن تشملني بعنايتك ، وتستر علي بمغفرتك ، وتعطف علي برحمتك ، ولو لا ذلك لكنت من الخاسرين (٣).

__________________

(١) هود : ٣٧.

(٢) هود : ٤٧.

(٣) يوجد هنا بحثان تناولهما المفسرون حول حادثة ابن نوح :

الأوّل : أنّ ابن نوح هل كان ولده حقيقة كما هو ظاهر الآية ، أو إنّه ابن زوجته من رجل آخر ، فهو ربيبه ، كما تشير إلى ذلك بعض القراءات المروية (ابنها) وبعض الروايات ، أو إنّه ابن فراشه ، وإنّ زوجته قد خانته بذلك ، كما وصفها القرآن الكريم بالخيانة في سورة التحريم.

والصحيح : هو ما ذكرناه تمسكا بظاهر الآية الكريمة ، وأصالة القرآن في مقابل الروايات.

الثاني : أنّ نوحا هل سأل ربه نجاة ولده في قوله : (إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُ) مع أنّه كان كافرا ، وقد دعا ربه أن لا يذر على الارض من الكافرين ديارا أو إنّه لم يكن يعرف كفر ولده ؛ لأنّه كان منافقا ، أو انّه ظنّ أنّ الله ـ تعالى ـ سوف يهديه في آخر لحظة بسبب الوعد الإلهي له بالنجاة. أو أنّ نوحا لم يسأل ربه ذلك ، وإنّما سأل تفسير هذه الحادثة التي فوجئ بها ؛ لأنّه كان يظن نجاة ولده بسبب الوعد الالهي؟! إلى غير ذلك من الاسئلة التي تثار حول هذا الموضوع وترتبط بالعصمة الإلهية.

وقد تناول هذا الموضوع العلّامة الطباطبائي وغيره بالبحث. راجع الميزان ١٠ : ٢٣٢ ـ ٣٣٨.

١٧٠

ملاحظات عامّة حول القصّة

١ ـ إنّ الهدف الأساس من قصّة نوح الذي تتميّز عن بقية القصص القرآنية كما يبدو من القرآن هو مجموع أمرين :

الأوّل : أن يضرب الله مثلا لهلاك قوم رسول من اولي العزم كذّبوا بنبيهم وهمّوا به حيث كانت قضية نوح أوّل حادثة في التاريخ الإنساني الذي تعرّض فيها قوم نبيّ من الأنبياء إلى الهلاك ، كما كان الرسول الوحيد من اولي العزم الذين جرى في قومه هذا الهلاك.

وقد كان الهلاك فيها عامّا شاملا حتى أنّه وصل إلى الأقربين من نوح عليه‌السلام.

وهذه القضية من القضايا التي يؤمن بها أهل كلّ الرسالات السماوية وجميع الأقوام والملل المعروفة في التاريخ البشري. كما يدل على ذلك تراث هذه الامم ، ولذلك فهي مثل صادق ينتفع به كلّ الناس.

الثاني : أنّ هذه القصّة تعبّر عن المثل الأعلى للصبر والشجاعة بسبب طول المدة المقرونة باليأس والوحدة ؛ إذ لا نعرف في أي واحد ممّن ذكر الله قصّته من

١٧١

الأنبياء أنّه مكث في قومه هذه المدة الطويلة يدعوهم إلى الله ويكذبونه ، ولا يجد بينهم ناصرا له منهم إلّا القليل المستضعف. ويستمرّ في عمله والقيام بوظيفته مع اليأس من هدايتهم وصلاحهم.

٢ ـ لقد كان من نتائج الطوفان وآثاره تثبيت خط التوحيد لله ـ تعالى ـ في التأريخ البشري من خلال البقية الباقية لذرية نوح المؤمنين مع بقاء هذه الحادثة قائمة في الذاكرة التاريخية للبشرية ، وكذلك لم يشهد التأريخ البشري حادثة اخرى مماثلة لهذه الحادثة بعد ذلك ، بل كان العذاب ينزل في هذه الجماعة الخاصة أو تلك ، وإنّ العذاب كان ينزل بسبب الانحرافات الأخلاقية والاجتماعية التي تتعرض لها هذه الجماعات.

٣ ـ إنّ رواية القصّة في التوراة جاءت متفاوتة مع ما ذكر منها في القرآن الكريم ، كما أشرنا آنفا. ويمكن أن نلاحظ الاختلاف بين القرآن والتوراة في النقاط المهمة التالية :

أ ـ وجود تفاصيل في النص القرآني ـ على عمومه وإجماله ـ ذات مغزي مهم لم تذكر في الرواية التوراتية الموجودة ، مثل : استثناء امرأة نوح (١) من النجاة وغرق ولده ، بل صرحت التوراة بدخول امرأته في الفلك ونجاتها ، ولم تذكر ابن نوح الغريق.

وكذلك يصرّح القرآن بنجاة المؤمنين بنوح على قلتهم ، مع أنّ التوراة تقتصر على خصوص نوح وأهله.

__________________

(١) يصرح القرآن الكريم بهذا المغزى عند ما يضرب امرأة نوح وامرأة لوط مثلا للذين كفروا في سورة (التحريم) ومنه يمكن أن نفهم المغزى من هلاك ابن نوح ؛ لأنّه لا توجد لأحد عند الله قرابة ، وأنّ الكرامة عند الله تعالى هي للإيمان والعمل الصالح.

١٧٢

ب ـ وجود تفاصيل في التوراة عن القصّة ليس لها مغزى وهدف ، مثل : خصوصيات السفينة : من طولها وعرضها ، وطبقاتها وارتفاعها ، ومدة الطوفان وارتفاع الماء. وكيفية نقصان الماء ، ومحاولات نوح لاستكشاف جفاف الارض بإرسال الغراب والحمامة ومجيئها في المرة الثانية بغصن الزيتون ، ونزول نوح والحيوانات والدابات وانتشارها في الأرض للتكاثر والتوالد ، وكذلك بناؤه لأماكن الذبح والعبادة ، والقرار الإلهي بتمكين نوح من الحيوانات الأرضية والطيور والحيوانات المائية.

وإنّ الله وضع ميثاقا بينه وبين نوح وذريته ، وعلامة تذكرهم بالميثاق ، وهو : قوس قزح ، إلى غير ذلك من التفاصيل التي لا مغزى لها ولا هدف ، كما أنّ بعضها بعيد وغريب لا يقبله المنطق السليم.

ج ـ ذكرت التوراة بعض التفاصيل التي لا تليق بالأنبياء وقداستهم ، مثل : ما فعله أحد أبناء نوح بأبيه بعد أن كان قد سكر نوح بشرب الخمر حيث تعرّى داخل خبائه ، فنظر اليه ولده عاريا وأخبر إخوته بذلك ، فقاموا بستر عورته ، وعند ما استيقظ من سكرته لعن ولده كنعان الذي نظر إلى عورته ، ودعا عليه أن يكون عبدا لإخوته.

د ـ وجود تفاصيل تخالف ظاهر القرآن أو صريحه مثل : ذكر التوراة لنجاة أبناء نوح ، وذكر القرآن لغرق بعض أبنائه ... وكذلك ذكر القرآن أنّ المدة التي لبث فيها نوح مع قومه قبل الطوفان (حسب ظاهر الآية ١٤ من سورة العنكبوت) هي : تسع مائة وخمسون عاما ، والتوراة تذكر مدة عمر نوح كلها هي تسع مائة وخمسون عاما (١).

__________________

(١) تصرح الروايات المروية عن أهل البيت عليهم‌السلام : أنّ عمر نوح كان ألفين وخمس مائة عام.

١٧٣

وقد تأثر بعض الصحابة والتابعين بهذه المعلومات التي وردت في التوراة ؛ لأنّهم أخذوها عن أهل الكتاب ، وتناقلوها بينهم ، وقد يكون بعض هذه المعلومات التي لا تخالف القرآن والتفاصيل صحيحا ، ولكن لا يمكن الاعتماد عليها.

وبذلك يمكن أن نفهم سمو الهدف القرآني ، وارتباط نصّه بالوحي الإلهي ، ومصداقية قوله تعالى في آخر قصّة نوح من سورة هود ، وهو أكثر مواردها تفصيلا (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ)(١).

٤ ـ ورد في الروايات العديدة التي روى أكثرها العياشي في تفسيره عن أهل البيت عليهم‌السلام أنّ حياة نوح والطوفان والتنور كان في الكوفة ومسجدها الأعظم. وأنّ الجودي الذي استقرت عليه السفينة هو : جبل قرب الكوفة ، ولعله الغري. وأنّ الجبل الذي آوى إليه ابن نوح هو : جبل (النجف) الذي كان جبلا عظيما ، ثم تقطع بأمر الله قطعا قطعا حتى امتد إلى بلاد الشام ، وصار بعضه رملا ، وهو المعروف الآن (بالطارات) (٢) ، وهذا التفسير التاريخي للحادثة ممّا اختص به تراث أهل البيت عليهم‌السلام دون غيرهم. ولعلّ الابحاث التاريخية والآثارية تكشف هذه الحقيقة في المستقبل.

__________________

(١) هود : ٤٩.

(٢) راجع البحار ١١ : ٣٢١ و ٣٣١ ـ ٣٣٩ عن العلل ، وتفسير العياشي وغيرهما.

١٧٤

الفصل الثاني

قصّة إبراهيم عليه‌السلام في القرآن

قوم إبراهيم.

شخصية إبراهيم.

حياة إبراهيم.

١٧٥
١٧٦

إبراهيم وقصّته :

إبراهيم عليه‌السلام بن آزر هو النبي السادس ممّن ذكروا من الانبياء في القرآن الكريم بعد آدم عليه‌السلام وإدريس ونوح وهود وصالح ، وهو ثاني اولي العزم الذين تحدثنا عنهم.

وقد جاءت قصّته في التوراة مفصلة ، ولكنّها مختلفة عمّا جاءت في القرآن الكريم ، شأنها شأن بقية قصص الأنبياء.

وقد ورد ذكر إبراهيم عليه‌السلام في القرآن الكريم في تسع وستين موردا ، وهو بذلك يكون أكثر ذكرا من نوح عليه‌السلام ، بل أكثر الانبياء ذكرا بعد موسى عليه‌السلام.

كما أنّ قصّته وردت بشيء من التفصيل في كلّ من سورة البقرة ، والأنعام ، وإبراهيم ، والأنبياء ، والعنكبوت ، والصافات.

ولكنّها لم ترد كاملة ولو بنحو الإجمال في أي موضع من مواضع القرآن الكريم ، وإنّما جاءت متفرقة. وهي في الوقت نفسه مختلفة اللفظ والهدف بحسب السياق الذي جاءت فيه القصّة.

وتتلخص قصّة إبراهيم كما جاءت في القرآن الكريم بالامور التالية :

١٧٧

قوم إبراهيم عليه‌السلام

لم يتحدّث القرآن الكريم عن قوم إبراهيم عليه‌السلام الذي ولد بينهم ، وبدأ دعوته ورسالته فيهم إلّا قليلا ، حيث أشار إلى عدة أبعاد في حياتهم :

أ ـ البعد العقائدي الذي كان يتمثل بعبادة الأوثان ، حيث كانوا يعبدونها ويعتقدون أنّها هي التي تمنحهم الرزق. وقد توارثوا هذه العبادة عن آبائهم الأقدمين ، حتى إنّهم أخذوا يصنعون الأصنام ويتداولونها بينهم. (وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ* إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(١).

كما أنّهم لم يكونوا يعتقدوا بالمعاد والدار الآخرة ، كما يشير إلى ذلك استدلال إبراهيم عليه‌السلام بدعوته لهم على المعاد والنشأة الآخرة (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ* قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ* وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ)(٢).

وبهذه العقيدة الفاسدة كانوا قد تحولوا من عبادة الله ـ تعالى ـ إلى عبادة

__________________

(١) العنكبوت : ١٦ ـ ١٧.

(٢) العنكبوت : ١٩ ـ ٢٢.

١٧٨

الشيطان (يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا* قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا)(١).

وتشير بعض الروايات وبعض النصوص التاريخية إلى أنّهم كانوا يعبدون الكواكب ، وحاول بعض المفسرين أن يجد لذلك شاهدا من القرآن الكريم في قصّة نظر إبراهيم إلى الكواكب الذي يقال : إنّها الزهرة ، ثم إلى القمر ، ومن بعد ذلك إلى الشمس التي وردت في سورة الأنعام ، أو ما أشار إليه القرآن الكريم في قوله : (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ* فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ)(٢).

ولكن هذه الآيات الكريمة لا تدلّ على أكثر من تأملات لإبراهيم في طريقه لادراك الله الواحد الاحد ، كما سوف نشير إلى ذلك.

كما أنّ لهؤلاء القوم مراسيم يؤدون فيها عبادتهم من تقديم الطعام لها والخروج إلى خارج العمارة للعيد ، كما تشير إلى ذلك الآيات التي تتحدّث عن قضية تكسير إبراهيم عليه‌السلام للاصنام ، ومخاطبته لها وخروجهم عنها (فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ* فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ* فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ* ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ* فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ* فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ* قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ* وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ)(٣).

وكذلك (فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ* قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ)(٤).

__________________

(١) مريم : ٤٥ ـ ٤٦.

(٢) الصافات : ٨٨ ـ ٨٩.

(٣) الصافات : ٨٩ ـ ٩٦.

(٤) الأنبياء : ٥٨ ـ ٥٩.

١٧٩

ب ـ البعد الاجتماعي الذي كان يتمثل في اتخاذهم الأوثان محورا للعلاقات الاجتماعية في الولاء والمودة بدل الله تعالى ، مع أنّ هذا المحور في الولاء والمودة لا أصل له ، بل سوف يتحول بعد ذلك إلى عداوة وبراءة بعضهم من بعض في يوم القيامة.

(وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ)(١).

مضافا إلى وجود الحالة المدنية في حياتهم الاجتماعية كالبناء والأعمال اليدوية.

ج ـ البعد السياسي الذي كان يتمثل في وجود نظام للحكم يرأسه ملك وفيه قوانين ، كما تشير إلى ذلك المناقشة التي جرت بين إبراهيم ومن آتاه الله الملك : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)(٢).

وكذلك محاكمة إبراهيم وقرار إلقائه في النار.

وتؤكّد ذلك النصوص التوراتية والتاريخية والروايات الكثيرة المروية عن الصحابة والتابعين وعن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام حيث تذكر أنّ ملكا عظيما يسمى أو يكنى بالنمرود كان يحكم بلاد بابل في العراق ، وأنّه كان جبارا ، وهو الذي أمر

__________________

(١) العنكبوت : ٢٥.

(٢) البقرة : ٢٥٨.

١٨٠