القصص القرآني

السيد محمد باقر الحكيم

القصص القرآني

المؤلف:

السيد محمد باقر الحكيم


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المركز العالمي للعلوم الإسلاميّة
المطبعة: ليلى
الطبعة: ٢
ISBN: 964-8686-13-0
الصفحات: ٣٦٠

والسبب وراء تأكيد القرآن لهذه الحقيقة هو : بيان صحة هذه المواقف الرسالية وأساليبها من ناحية ، ونتائجها وآثارها من ناحية اخرى ، والتثبيت عليها من ناحية ثالثة.

وتبعا لهذه الأهداف ترد قصص كثيرة من الأنبياء مجتمعة مكررة فيها طريقة الدعوة على نحو ما جاء في سورة هود :

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ* أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ* فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ.) إلى أن يقول : (وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ ...) إلى أن يقول له : (... يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)(١).

(وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ* يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ) إلى قوله : (قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ* إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ* مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ)(٢).

(وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ*

__________________

(١) هود : ٢٥ ـ ٢٧ و ٢٩ و ٣٢.

(٢) هود : ٥٠ ـ ٥١ و ٥٣ ـ ٥٥.

٤١

قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ)(١).

ومثل هذه المواقف نجدها في سورة الشعراء أيضا.

د ـ تصديق التبشير والتحذير ، فقد بشر الله ـ سبحانه ـ عباده بالرحمة والمغفرة لمن أطاعه منهم ، وحذّرهم من العذاب الأليم لمن عصاه منهم. ومن أجل إبراز هذه البشارة والتحذير بصورة حقيقية متمثلة في الخارج ، عرض القرآن الكريم بعض الوقائع الخارجية التي تتمثل فيها البشارة والتحذير ، فقد جاء في سورة الحجر التبشير والتحذير أوّلا ، ثمّ عرض النماذج الخارجية لذلك ثانيا :

(نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ* وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ)(٢).

وتصديقا لهذه أو تلك ، جاءت القصص على النحو التالي :

(وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ* إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ* قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ)(٣). وفي هذه القصّة تبدو الرحمة والبشارة.

ثمّ (فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ* قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ* قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ* وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ* فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ* وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ

__________________

(١) هود : ٦١ ـ ٦٢.

(٢) الحجر : ٤٩ ـ ٥٠.

(٣) الحجر : ٥١ ـ ٥٣.

٤٢

الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ)(١) ، وفي هذه القصّة تبدو (الرحمة) في جانب لوط ، ويبدو (العذاب الأليم) في جانب قومه المهلكين.

ثمّ (وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ* وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ* وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ* فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ* فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ)(٢) ، وفي هذه القصّة يبدو (العذاب الأليم) للمكذبين ، وهكذا يصدق الأنباء ويبدو صدقه في هذه القصص الواقع بهذا الترتيب.

ه ـ بيان نعمة الله على أنبيائه ، ورحمته بهم ، وتفضله عليهم ؛ وذلك توكيدا لارتباطهم وصلتهم به ؛ لأنّ القرآن أكّد هذا المفهوم في عدّة مواضع :

منها قوله تعالى : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً)(٣).

وقد جاءت بعض قصص الأنبياء لتأكيد هذا المفهوم ، كبعض قصص سليمان وداود وإبراهيم ومريم وعيسى وزكريا ويونس وموسى.

ذلك أنّ الأنبياء يتعرضون ـ عادة ـ إلى مختلف الوان الآلام والمحن والعذاب ، وقد يتوهم السذج والبسطاء من الناس أنّ ذلك إعراض من الله ـ تعالى ـ عنهم ، فيأتي الحديث عن هذه النعم والألطاف الإلهيّة بهم تأكيدا لعلاقة الله ـ سبحانه وتعالى ـ بهم ، ولذلك نشاهد أنّ بعض الحلقات من قصص هؤلاء الأنبياء تبرز فيها

__________________

(١) الحجر : ٦١ ـ ٦٦.

(٢) الحجر : ٨٠ ـ ٨٤.

(٣) النساء : ٦٩.

٤٣

النعمة في مواقف شتى ، ويكون إبرازها هو الغرض الأوّل منها ، وما سواه يأتي في هذا الموضوع عرضا.

ومن مصاديق ذلك : ما أشرنا إليه سابقا ممّا ورد في سورة الأنبياء.

ومثال آخر على ذلك : ما ورد في القرآن الكريم من استعراض قصص الأنبياء وفي سورة مريم ، حيث يختم الاستعراض بقوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا)(١).

و ـ بيان غواية الشيطان للإنسان ، وعداوته الأبدية له ، وتربصه به الدوائر والفرص ، وتنبه بني آدم لهذا الموقف المعين منه ، ولا شك أنّ إبراز هذه المعاني والعلاقات بواسطة القصّة يكون أوضح وأدعى للحذر والالتفات ؛ لذا نجد قصّة آدم تتكرر بأساليب مختلفة تأكيدا لهذا الغرض ، بل يكاد أن يكون هذا الغرض هو الهدف الرئيس لقصّة آدم كلها.

ز ـ بيان الغايات والأهداف من إرسال الرسل والأنبياء وأنّ ذلك إنّما هو من أجل إبلاغ رسالات الله ، وهداية الناس ، وإرشادهم وتزكيتهم ، وحل الاختلافات ، والحكم بالعدل بينهم ، ومحاربة الفساد في الارض ، وفوق ذلك كلّه هو إقامة الحجة على الناس ، ولذا جاء استعراض قصص الأنبياء بشكل واسع لبيان هذه الحقائق.

وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الهدف من القصّة في عدة مواضع :

(كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ

__________________

(١) مريم : ٥٨.

٤٤

الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ...)(١).

وقوله تعالى : (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً)(٢).

وقوله تعالى : (وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)(٣).

فإنّها وردت في سياق قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ)(٤).

وقوله تعالى : (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً* وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً)(٥).

وكذلك ما ورد في تعقيب قصص الأنبياء من سورة الشعراء من قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ* وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)(٦).

__________________

(١) البقرة : ٢١٣.

(٢) النساء : ١٦٥.

(٣) الانعام : ٤٨.

(٤) الانعام : ٤٢.

(٥) الكهف : ٥٥ ـ ٥٦.

(٦) الشعراء : ٨ ـ ٩.

٤٥

الثاني ـ الأغراض التربوية :

فقد استهدف القرآن بشكل رئيس :

أ ـ تربية الإنسان على الإيمان بالغيب ، حيث وصف المتقين الذي استهدف القرآن الكريم هدايتهم بقوله تعالى : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ* وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(١) ، وقد جاءت قصص الملائكة والجن والمعاجز الإلهيّة لتؤكّد هذا الجانب في التربية الروحية.

ب ـ تربية الإنسان على الإيمان بالقدرة الإلهيّة المطلقة ، كالقصص التي تذكر الخوارق ، مثل : قصّة آدم ، ومولد عيسى ، وقصّة البقرة ، وقصّة إبراهيم مع الطير الذي آب إليه بعد أن جعل على كلّ جبل جزءا منه ، وقصّة (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها ...)(٢) وإحياء الله له بعد موته مائة عام.

فإنّنا نلاحظ أنّ القرآن الكريم أكّد في مواضع عديدة شمول هذه القدرة للأشياء كلها ، ومنها القدرة على إعادة خلق الإنسان مرة اخرى في يوم النشور للحساب والثواب والعقاب.

ج ـ تربية الإنسان على الأخلاق الفاضلة وفعل الخير والأعمال الصالحة وتجنبه الشر والفساد ، وذلك ببيان العواقب المترتبة على هذه الأعمال ، كقصّة ابني آدم ، وقصّة صاحب الجنتين ، وقصص بني إسرائيل بعد عصيانهم ، قصّة سد مأرب ،

__________________

(١) البقرة : ٣ ـ ٥.

(٢) البقرة : ٢٥٩.

٤٦

وقصّة أصحاب الجنة ، وكذلك التربية على الصبر والصمود كقصّة أصحاب الاخدود.

د ـ التربية على الاستسلام للمشيئة الإلهيّة ، والخضوع للحكمة التي أرادها الله ـ سبحانه ـ من وراء العلاقات الكونية والاجتماعية في الحياة الدنيا ، والحكمة الإنسانية القريبة العاجلة ، كما جاء في قصّة الإيحاء إلى أم موسى أن تلقيه في اليم ، وكذلك في قصّة موسى التي جرت مع عبد (... عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً)(١) التي وردت في سورة الكهف ، إلى آخر ذلك من الأغراض الوعظية والتربوية الاخرى التي سوف نطلع على بعضها في دراستنا التفصيلية لقصة موسى عليه‌السلام.

الثالث ـ الأغراض الاجتماعية والتاريخية :

أي بيان السنن التاريخية في حركة الإنسان والمجتمع الإنساني.

فالمجتمع الإنساني يخضع في حركته وتطوره إلى قوانين وسنن ، وقد تحدّث القرآن الكريم عن بعض هذه القوانين والسنن ، وأكّد أهميتها ، وجاءت القصّة في القرآن الكريم من أجل تجسيد هذه السنن في الوقائع والأحداث.

ونشير هنا إلى بعض هذه السنن التي تحدّث عنها القرآن الكريم مع ذكر القصص والحوادث ذات العلاقة بها :

الاولى : سنّة ارتباط تغيير الأوضاع الاجتماعية والحياتية للناس بتغيير المحتوى النفسي والروحي لهم. وقد تحدّث القرآن الكريم عن هذه السنة في عدّة مواضع :

__________________

(١) الكهف : ٦٥.

٤٧

منها : قوله تعالى في سورة الأنفال : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ...)(١).

(كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ)(٢).

وقوله تعالى في سورة الرعد : (... إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ)(٣).

وقوله تعالى من سورة الأعراف : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ)(٤).

وقوله تعالى في سياق القصص القرآني : (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ* قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ)(٥).

ولعلّ من الأمثلة الواضحة على هذا الغرض للقصّة ما جاء في سورة الأعراف ؛ لأنّنا نلاحظ أنّ استعراض قصص (نوح) و (هود) و (صالح) و (لوط) و (شعيب) وما جرى لهم مع أقوامهم يختم بهذه القاعدة الكلية :

__________________

(١) الأنفال : ٥٣.

(٢) الأنفال : ٥٤.

(٣) الرعد : ١١.

(٤) الأعراف : ٩٦.

(٥) الروم : ٤١ ـ ٤٢.

٤٨

(وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ* ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ* وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ)(١).

وكذلك ما ورد في قصّة فرعون وموسى وفق ما أشار إليه القرآن الكريم في سورة الأنفال من قوله تعالى : (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ...) ولكن يذكره بشكل أكثر وضوحا في قصّة موسى في سورة الأعراف التي نزلت قبل الأنفال ، ويمكن أن نعرف ذلك من وجوه :

١ ـ إنّ هذه القصّة جاءت في سياق الآيات السابقة التي تحدّثت عن هذه السنّة.

٢ ـ إنّ مضمون القصّة يؤكّد ذلك من خلال ما ورد فيها من الأمر بالصبر والاستعانة بالله ، ثمّ إصرار الفرعونيين على التكذيب والطغيان ، وكيف أنّ الله ـ تعالى ـ أخذ آل فرعون بالسنين ، ثمّ وراثة الأرض لبني إسرائيل. وسوف يأتي مزيد من التوضيح لذلك عند دراسة قصّة موسى عليه‌السلام.

الثانية : سنّة انتصار الحقّ على الباطل ، حيث أكّد القرآن الكريم هذه الحقيقة في عدّة مواضع : منها قوله تعالى : (وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً)(٢).

وبهذا الصدد نجد القرآن الكريم يؤكّد ـ أيضا ـ نصرة الله ـ تعالى ـ للانبياء ،

__________________

(١) الأعراف : ٩٤ ـ ٩٦.

(٢) الإسراء : ٨١.

٤٩

وأنّ نهاية المعركة بينهم وبين أقوامهم تكون لصالحهم مهما لاقوا من العنت والجور والتكذيب ، حيث دلت بعض الآيات القرآنية على ذلك بشكل مباشر (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ)(١) وكذلك قوله تعالى : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ)(٢) كل ذلك تثبيتا لرسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه وتأثيرا في نفوس من يدعوهم إلى الإيمان.

وقد نصّ القرآن الكريم على هذا الهدف الخاص للقصّة ـ أيضا ـ بمثل قوله تعالى : (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ)(٣).

وتتبعا لهذا الغرض وردت بعض قصص الأنبياء مؤكّدة هذا الجانب ، بل جاءت بعض هذه القصص مجتمعة ومختومة بمصارع من كذّبوهم ، وقد يتكرّر عرض القصّة نتيجة لذلك ، كما جاء في سورة هود والشعراء والعنكبوت ، ولنضرب مثلا من سورة العنكبوت :

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ* فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ* وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(٤).

__________________

(١) الأنبياء : ١٠٥.

(٢) غافر : ١٥٠.

(٣) هود : ١٢٠.

(٤) العنكبوت : ١٤ ـ ١٦.

٥٠

إلى أن يقول : (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(١).

(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ)(٢).

إلى أن يقول : (إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ* وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ* وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ* فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ* وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ* وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ* فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)(٣).

فهذه هي النهاية الحتمية التي يريد أن يصورها القرآن الكريم لمعارضي الأنبياء والمكذبين بدعوتهم.

الثالثة : سنة الابتلاء وعموم الامتحان.

ومن السنن الالهيّة في حركة الإنسان ووجوده هي : سنّة الابتلاء والامتحان ،

__________________

(١) العنكبوت : ٢٤.

(٢) العنكبوت : ٢٨.

(٣) العنكبوت : ٣٤ ـ ٤٠.

٥١

وهي سنّة عامة وشاملة. قال تعالى : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ...)(١).

وقال تعالى : (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً)(٢).

كما أنّ الامتحان له أهدافه :

١ ـ التمحيص والتمييز ، فالامتحان يسير مع الإنسان في حركته التكاملية ، وعند ما يصبح الإنسان مؤمنا أو مجاهدا يبتلى ويمتحن من أجل التمحيص والتمييز.

(ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ...)(٣).

(... وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ* وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ* أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ)(٤).

(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ)(٥).

٢ ـ الكمال والتربية :

«إنّ الله إذا أحبّ عبدا غته بالبلاء غتا ، وصبّ عليه البلاء صبا ، فلا يخرج من غمّ إلّا وقع في غمّ».

__________________

(١) الملك : ٢.

(٢) الإنسان : ٢.

(٣) آل عمران : ١٧٩.

(٤) آل عمران : ١٤٠ ـ ١٤٢.

(٥) محمّد : ٣١.

٥٢

٣ ـ العقوبة والتذكير :

(وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ)(١).

(وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)(٢).

ولعل من أوضح الأمثلة في قصص القرآن التي سيقت لموضوع البلاء بجوانبه المتعدّدة وهذه السنّة الشاملة ما ورد في سورة (المؤمنون) :

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ* فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ* إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ* قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ* فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ* فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ* وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ* إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ)(٣).

حيث يلاحظ أنّ هذه الآيات جاءت في سياق بيان خلق الإنسان والنعم الإلهيّة ، وختمت بعد ذلك بقوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ.)

ثمّ تتحدّث السورة عن الرسل الآخرين والقرون الاخرى ، وكيف كان

__________________

(١) الأعراف : ١٣٠.

(٢) السجدة : ٢١.

(٣) المؤمنون : ٢٣ ـ ٣٠.

٥٣

الابتلاء بالرسالة والأخذ بالعذاب بعد التكذيب ، ثمّ الإشارة إلى (موسى وعيسى عليهما‌السلام) وتخاطب الرسل بالأكل من الطيبات والعمل الصالح ، وتؤكّد (وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ)(١).

ثمّ تشير إلى الاختلاف بين الناس والإملاء والإمداد بالأموال والأولاد الذي هو نوع من الابتلاء والامتحان ، والنتائج المترتبة على ذلك.

٤ ـ سنّة أنّ النصر الإلهيّ لا يتحقق إلّا بعد التعرض للبأساء والضراء والصبر على البلاء.

قال تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ)(٢).

وقال تعالى : (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ)(٣).

وقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ* تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ* يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ* وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ

__________________

(١) المؤمنون : ٥٢.

(٢) البقرة : ٢١٤.

(٣) يوسف : ١١٠.

٥٤

وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)(١).

ويمكن أن نلاحظ عدّة قصص في القرآن الكريم تؤكّد هذه الحقيقة والسنّة :

منها : قصّة الحواريين وقتالهم في سياق الآيات السابقة من سورة الصف (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ)(٢).

ومنها : قصّة الملأ من بني إسرائيل (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ* وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ* وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ* فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً

__________________

(١) الصف : ١٠ ـ ١٣.

(٢) الصف : ١٤.

٥٥

كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ* وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ* فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ)(١).

ومنها : قصّة نوح عليه‌السلام في سورة هود إذ جاءت في سياق قوله تعالى : (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ)(٢).

وكذلك ما عرفناه في سنّة نصرة الله لأنبيائه ، وما سوف نعرفه في دراستنا لقصّة موسى عليه‌السلام القسم الرابع عند ما نتناول الموضوع الرابع عشر من سورة القصص.

__________________

(١) البقرة : ٢٤٦ ـ ٢٥١.

(٢) هود : ٢٤.

٥٦

الفصل الثالث

ظواهر عامّة في القصّة القرآنية

تكرار القصّة في القرآن.

اختصاص القصّة بأنباء الشرق الأوسط.

تأكيد قصّة إبراهيم وموسى.

اسلوب القصّة.

٥٧
٥٨

على ضوء الأهداف السابقة للقصّة يحسن بنا أن ندرس ظواهر أساسية برزت في عرض القصّة القرآنية :

تكرار القصّة في القرآن الكريم :

من ظواهر القصّة في القرآن الكريم تكرار الحديث عن القصّة الواحدة في مواضع مختلفة. وقد اثيرت بعض الشبهات حول هذه الظاهرة ، فقيل : إنّ القصّة بعد أن تذكر في القرآن مرّة واحدة تستنفد أغراضها الدينية والتربوية والتاريخية ، فلما ذا يتحدّث عنها القرآن الكريم مرّة اخرى؟! وقد اثيرت هذه المشكلة في زمن مقدّم من البحث العلمي في القرآن الكريم ، لذا نجد الإشارة إلى ذلك في مفردات الراغب الأصفهاني ، وفي مقدّمة تفسير التبيان للشيخ الطوسي (١) ، قال : «والوجه في تكرير القصّة بعد القصّة في القرآن : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يبعث إلى القبائل المتفرّقة بالسور المختلفة ، فلو لم تكن الأنباء والقصص متكررة لوقعت قصّة موسى إلى قوم

__________________

(١) التبيان : مقدّمة المؤلف ١ : ١٤.

٥٩

وقصّة عيسى إلى قوم وقصّة نوح إلى آخرين ، فأراد الله بلطفه ورحمته أن يشهر هذه القصص في أطراف الأرض ، ويلقيها في كلّ سمع ، ويثبّتها في كلّ قلب ، ويزيد الحاضرين في الإفهام».

فالشيخ الطوسي يفسّر التكرار بعاملين :

الأوّل : معالجة التفرّق في القطع القرآنية ؛ ليكون تكرار القصّة موجبا لوصولها إلى الجميع.

والثاني : زيادة إفهام الحاضرين الذين يصلهم القرآن الكريم بكامله.

وعبارة الشيخ الطوسيّ ربما لا تعالج المسألة بشكل أساس ، غير أنّها تدلّ على أنّ الموضوع طرح في الدراسات القرآنية عند القدماء أيضا.

ونحن هنا نذكر بعض الوجوه التي يمكن أن تكون تفسيرا لتكرار القصّة الواحدة في القرآن الكريم :

الأوّل : أنّ التكرار إنّما يكون بسبب تعدّد الغرض الدينيّ الذي يترتب على القصّة الواحدة ، وقد عرفنا في بحثنا السابق لأغراض القصّة (١) أنّ أهداف القصّة متعدّدة ، فقد تأتي القصّة في موضع لأداء غرض معين ، وتأتي في موضع آخر لأداء غرض آخر وهكذا.

الثاني : أنّ القرآن الكريم اتّخذ من القصّة اسلوبا لتأكيد بعض المفاهيم الإسلامية لدى الامّة المسلمة ، وذلك عن طريق ملاحظة الوقائع الخارجية التي كانت تعيشها الامّة ، وربطها بواقع القصّة من حيث وحدة الهدف والمضمون.

وهذا الربط بين المفهوم الإسلامي في القصّة والواقعة الخارجية المعاشة

__________________

(١) لزيادة الإيضاح انظر سيد قطب : التصوير الفني في القرآن : ١٢٨ ـ ١٣٤.

٦٠