القصص القرآني

السيد محمد باقر الحكيم

القصص القرآني

المؤلف:

السيد محمد باقر الحكيم


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المركز العالمي للعلوم الإسلاميّة
المطبعة: ليلى
الطبعة: ٢
ISBN: 964-8686-13-0
الصفحات: ٣٦٠

أو فتنة السامري للإسرائيليين وتمردهم على هارون.

وعلى هذا الأساس يمكن أن نستنتج :

أوّلا : أنّ القصّة سيقت لإبراز معاناة الأنبياء في دعواتهم بصفتها نتيجة طبيعية لعظم المسئولية التي يتحملونها والمشاكل التي تواجههم ، وبشكل خاص تشير إلى المعاناة الذاتية ، ويشهد لذلك أنّ القصّة تؤكد المواقف التي تظهر فيها انفعالات الرسول ، كما أنّها تؤكد ما ينعم به الله على الرسول خلال المجابهة ، وحين ينتهي عرض دور الانفعال نجد القصّة تنتقل إلى عرض الدور الآخر دون أن تقف عند المشاهد الاخرى ، فهي مثلا تنتقل من العبور إلى المواعدة رأسا.

كما أنّنا حين نقارن بين هذا المورد الطويل من القصّة والمورد السابق الطويل منها الذي جاء في سورة الأعراف ، أو المورد الثالث الطويل منها الذي يأتي في سورة القصص نجد هذا المورد هو الوحيد بينها يؤكد بهذا التفصيل هذه الملامح لشخصية الرسول.

ثانيا : أنّ السبب الذي فرض على القصّة هذا الاسلوب الخاص من العرض والتصوير واقتضى في نفس الوقت بعض التكرار هو : مخاطبة الرسول وتخفيف الألم والعذاب النفسي اللذين كان يعانيهما تجاه الدعوة ، ويدلنا على ذلك ما لاحظناه في الأمر الأوّل والثاني ؛ إذ استهدف القرآن الكريم إبراز الصلة الوثيقة بين ما يعانيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في دعوته وبين ما كان الأنبياء السابقون يعانونه : (ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً)(١).

__________________

(١) طه : ٢ ـ ٣ و ٩٩.

١٠١

الموضع الثاني عشر :

الآيات التي جاءت في سورة الشعراء ، والتي تبدأ القصّة فيه بقوله تعالى :

(وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ* قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ)(١) والتي تختم بقوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ* وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)(٢).

ويلاحظ في هذا المقطع القرآني من القصّة الامور التالية :

الأوّل : أنّ المقطع من القصّة جاء بعد عتاب من الله سبحانه لرسوله محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله في إجهاده لنفسه وإرهاقها حتى يكاد يقتلها بسبب أنّ قومه لم يكونوا مؤمنين (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)(٣) وبعد هذا العتاب يذكر القرآن الكريم قانونا اجتماعيا يتحكم في التأريخ ، وهو : أنّ كل ذكر جديد من الله ـ سبحانه ـ يحدث ردة فعل كهذه لدى الكفار ؛ إذ يقاومونه ويعرضون عنه ، ولم يكن ذلك بسبب عجز الله سبحانه وعدم قدرته على إخضاعهم لرسالته وإرغامهم عليها (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ* وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ)(٤).

الثاني : أنّ القرآن الكريم ينبه ـ بعد هذا التفسير العام للتأريخ ـ إلى أنّ هذا

__________________

(١) الشعراء : ١٠ ـ ١١.

(٢) الشعراء : ٦٧ ـ ٦٨.

(٣) الشعراء : ٣.

(٤) الشعراء : ٤ ـ ٥.

١٠٢

الموقف العام للكافرين تجاه الذكر لم يكن بسبب عدم توفر الدليل الصالح على صحة الرسالة (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ* إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ* وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)(١).

الثالث : أنّ هذا المقطع جاء في عرض قصصي مشترك للأنبياء يتميّز بطابع خاص إلى جانب هذا التفسير التأريخي للموقف العام ، وهو : أنّ كلّ نبي نجده يبذل جهده في استعمال الأساليب المختلفة من الكلام اللين الهادئ أو التذكير بالنعم الإلهية الظاهرة التي يتمتّع بها أقوامهم ، وقد يعضد أقواله هذه ـ أحيانا ـ بآية ومعجزة سماوية تشهد له على صحة دعوته ، ومع كلّ ذلك تكون النتيجة واحدة ، ويختتم بقوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ.)

الرابع : أنّ القرآن الكريم بعد أن يأتي على نهاية العرض القصصي المشترك هذا يرجع فيتحدّث عن (آيات الكتاب المبين) بوصفها شيئا مرتبطا بالسماء ومتصفا بجميع الصفات التي تبرز هذا الاتصال ، ممّا يسمح لذوي البصيرة والقلوب النيرة أن يطلعوا على واقعه ويهتدوا به.

وعلى أساس هذه الملاحظة يمكن أن نستنتج : أنّ القصّة جاءت لتحقيق هدفين ضمن عرض قصصي مشترك :

أحدهما : إيضاح القانون الطبيعي الذي يتحكم في مواجهة الافكار الالهية الجديدة ، وإنّ تلكؤ الكافرين في الإيمان بالدعوة الإسلامية ورسالتها ليس بسبب تخلف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله عن المستوى الأمثل للعمل والنضال ، أو نتيجة لعدم توفر الأدلة الكافية على صحة الرسالة ، وإنّما هو قانون عام له أسبابه النفسية والاجتماعية

__________________

(١) الشعراء : ٧ ـ ٩.

١٠٣

الاخرى ، وخضعت له الرسالات الإلهية كلّها.

والآخر : أنّ النهاية سوف تكون لعباد الله الصالحين ، وإنّهم هم الذين يرثون الأرض ، ومن أجل أن تلفت النظر إلى هذا الهدف ـ الذي قد يضيع ضمن العرض العام للقصص ـ وتأكيده جاءت قصّة موسى بشيء من التفصيل الذي يؤكّد هذا الجانب ، ويمكن ـ أيضا ـ أن نفسر التكرار للقصة بأحد السببين التاليين أو كليهما :

الأوّل : تأكيد هدف وغرض سبق أن استهدفه القرآن الكريم من قصّة موسى نفسها في سورة طه ، وهو : التخفيف من الألم الذي يعانيه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهذا هو السبب الثاني من الأسباب الموجبة للتكرار.

الثاني : أنّ القصّة استهدفت غرضا دينيا جديدا وهو : تصوير المفهوم الإسلامي العام عن طبيعة موقف المشركين تجاه الرسالة ، وإنّه هو الموقف العام لهم تجاه كل الرسالات ، وهذا هو السبب الأوّل من الأسباب الموجبة للتكرار.

وقد جاءت القصّة في اسلوبها وطريقة عرض الأحداث فيها منسجمة مع أهدافها وأغراضها ؛ إذ تناولت جوانب معينة من حياة موسى ، وعرضت بشكل خاص تنتهي عند هذه الاهداف ، فنجد الحديث في القصّة مثلا ينتهي عند العبور ، كما أنّها أكّدت شكل الاسلوب الذي سار عليه موسى وهارون في مخاطبة فرعون.

الموضع الثالث عشر :

الآيات التي جاءت في سورة النمل ، والتي تبدأ بقوله تعالى :

(إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ

١٠٤

قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ)(١) والتي تختم بقوله تعالى : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ)(٢).

ويلاحظ في هذا المقطع القصير الذي يتحدّث عن القصّة بشكل عام الامور التالية :

الأوّل : أنّ القصّة جاءت في سياق التحدث عن الكافرين بالآخرة وما سوف يلاقون من عذاب ، وعن واقع نزول القرآن وتلقيه (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ* أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ* وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ)(٣).

الثاني : أنّ هذا المقطع يختم بقوله تعالى : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ.)

الثالث : أنّ المقطع على اختصاره يكاد يختص بذكر الحوادث والآيات الغيبية ، فهو يذكر المناداة ومعجزة العصا واليد ، ويشير إلى الآيات التسع.

وهذه الملاحظة تدعونا لأن نستنتج : أنّ القصّة سيقت لإظهار حقيقة من الحقائق التي ترتبط بالجانب النفسي للمجتمع الذي يواجه دعوة جديدة ، وهذه الحقيقة هي : أنّ نكران الآخرة وعدم الإيمان بها إنّما يقوم على أساس نفسي وعاطفي ، لا على أساس موضوعي ودراسة علمية ، هذا الشيء الذي عبر عنه القرآن الكريم بالجحود ؛ وذلك لأنّ الدراسة الموضوعية كانت تقتضي أن تنتهي الحالة بالناس إلى الإيمان بالآخرة بعد أن أكّدت الآيات والمعاجز ارتباط النبي بعالم

__________________

(١) النمل : ٧.

(٢) النمل : ١٤.

(٣) النمل : ٤ ـ ٦.

١٠٥

الغيب ، وهذه الآيات والمعاجز توفر عناصر اليقين عند الإنسان العادي الذي يعيش وضعية عاطفية مستوية ومستقيمة ، ونتيجة لذلك (وهو عدم الإيمان بالرغم من توفّر الأدلة والحجج) ينزل العذاب بالكافرين بعد أن لم يستجيبوا للحقائق والأدلة.

ولا يفوتنا أن ننبه هنا إلى نكتة دقيقة ولطيفة وشاهد يؤكّد لنا أنّ القصّة سيقت لهذا الغرض ، هو : أنّ القرآن يصوّر لنا خوف موسى من العصا بالشكل الذي يدعوه إلى الهروب ، وفي هذا تأكيد أنّ هذا التحول في حالة (العصا) كان نتيجة تدخل غيبي ؛ ولذا ترك أثره على موسى نفسه ، لا أنّه نتيجة عمل بشري قام به موسى ، ولعلّ السر في تكرار القصّة هنا هو السببان التاليان :

الأوّل : أنّ المقطع جاء في عرض قصصي مشترك لتأكيد تفسير إسلامي لموقف المنكرين للقرآن ، والدعوة على أساس عدم كفاية الآيات والمعجزات لاثباتها ، وقد عرفنا في هذا التأكيد السبب الثاني للتكرار كما سبق.

الثاني : أنّ القصّة جاءت مختصرة في تصوير الموقف ، وهذا يدعونا إلى أن نرى أنّها وردت في مرحلة متقدّمة من مراحل الدعوة حين كان يعالج القرآن مشاكلها بشكل مختصر ، وهذا ما ذكرناه سببا ثالثا للتكرار.

الموضع الرابع عشر :

الآيات التي جاءت في سورة القصص ، والتي تبدأ بقوله تعالى : (نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(١) والتي تختم بقوله تعالى :

__________________

(١) القصص : ٢.

١٠٦

(وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ)(١).

ويلاحظ في هذا المقطع من القصّة الامور التالية :

الأوّل : أنّ السورة تكاد تبدأ بالقصة دون أن يسبقها شيء عدا آيتين : هما قوله تعالى : (طسم* تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ)(٢).

الثاني : أنّ القرآن الكريم يأتي في سياق القصّة بعدها بقوله تعالى : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ) * ... (وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ* وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)(٣).

الثالث : أنّ القصّة تذكر تفاصيل وحوادث ذات طابع شخصي من حياة موسى عليه‌السلام تكاد تكون جانبيه ، كحادثة القائه في اليم ، واستنقاذ آل فرعون له ، ورفضه للرضاعة من غير أمه ، وقتله الرجل ثم محاولته قتل الآخر وهروبه ، ثم قضية زواجه مع تفاصيلها.

الرابع : أنّ القصّة تبدأ بذكر أحكام عامّة عن الوضع الاجتماعي حينذاك ، والغاية المتوخاة من تغييره (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ* وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ*

__________________

(١) القصص : ٤٢.

(٢) القصص : ١ ـ ٢.

(٣) القصص : ٤٤ ـ ٤٦.

١٠٧

وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ)(١).

وعلى ضوء هذه الملاحظة يمكن أن نستنتج أنّ القصّة استهدفت أمرين :

الأوّل : أنّ القرآن الكريم كتاب منزل من الله سبحانه وتعالى ، وأنّه ليس من صنع محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهذا هو الهدف الرئيس من سرد القصّة في هذا المورد ـ كما يشير إلى ذلك الأمر الأوّل والثاني ـ وهو في نفس الوقت من الأهداف المهمة التي يؤكدها القرآن الكريم في مناسبات كثيرة لما له من تأثير في سير الدعوة.

وبهذا يمكن أن نفسر ما أشرنا إليه في الأمر الثالث ، لأنّ في الحديث عن تفاصيل جانبية من حياة الرسول دلالة قوية على ارتباط القرآن بعالم الغيب ؛ إذ من المفروض أن لا يطّلع على هذه التفاصيل جميع الناس ؛ لأنّها تعيش حياة الرسول حين كان فردا عاديا في المجتمع ، على خلاف تفاصيل حياته بعد النبوة ، فإنّها ـ بطبيعة الحال ـ تكون معروفة للناس لتسليط الأضواء على شخصيته من قبلهم.

الثاني : إيضاح أنّ عملية التغيير الاجتماعي قد تتم حتى في أبعد الظروف ملاءمة واحتمالا ، وفي ظل أشد ظروف الظلم والاضطهاد والطغيان ، بحيث تبدأ عملية التغيير من نقطة هي في منتهى البعد والضعف نسبة لهذه العملية ، وذلك نتيجة للإيمان الواعي بالله ، وما يستلزمه ذلك من الإصرار والصبر على تبني العقيدة والنضال من أجلها.

ولذلك نجد القصّة في هذا الموضع تؤكّد ملامح الاضطهاد الذي كان يعانيه المجتمع بشكل عام والإسرائيليون بشكل خاص ، كما تؤكّد الوضع القاسي الذي كان يعيشه شخص الرسول في كونه منذ البداية في معرض خطر الموت والهلاك ، ثم مطاردا من المجتمع بتهمة القتل العدواني ، ثم مهاجرا وبعيدا عن المواقع الطبيعية

__________________

(١) القصص : ٤ ـ ٦.

١٠٨

لحركة التغيير. وفي هذين الهدفين ما يبرر التكرار الذي يمكن أن يكون بالسبب الأوّل أو الثاني من أسباب التكرار.

الموضع الخامس عشر :

الآيات التي جاءت في سورة غافر والتي تبدأ بقوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ* إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ)(١) والتي تختم بقوله تعالى : (فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ* فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ)(٢).

ويلاحظ في هذا المقطع من القصّة ما يلي :

الأوّل : أنّ السورة التي جاء فيها هذا المقطع تتحدّث في مطلعها عن مصير من يجادل في آيات الله : (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ)(٣).

الثاني : أنّ القصّة تأتي في سياق أنّ هذا المصير للمجادلين نتيجة طبيعية لعنادهم بعد أن تأتيهم البينات فيكفرون بها (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ)(٤).

__________________

(١) غافر : ٢٣ ـ ٢٤.

(٢) غافر : ٤٤ ـ ٤٥.

(٣) غافر : ٤.

(٤) غافر : ٢١.

١٠٩

الثالث : أنّ القصّة تؤكّد بشكل واضح موقف مؤمن آل فرعون والأساليب التي استعملها في دعوته لهم ، ومحاولته ذات الجانب العاطفي في هدايتهم مع تذكيرهم بمصير من سبقهم من الامم ، وما ينتظرهم نتيجة لعنادهم وكفرهم. وقبالة هذا الموقف يظهر لنا موقف فرعون وقد تمادى في غيّه حتى حاول أن يطّلع على إله موسى عليه‌السلام.

وعلى هذا الأساس يمكن أن نستنتج : أنّ القصّة سيقت لتوضيح مصير من يجادل في آيات الله ، مع إيضاح الفرق بين الاسلوب الذي يستعمله الداعية والاسلوب الذي يستعمله المجادل والكافر ، وأن العذاب لا ينزل بهؤلاء إلّا بعد أن تتم الحجّة عليهم.

وأنّ الهداية والحجّة من الوضوح بحيث يمكن أن يقتنع بها حتى اولئك الأشخاص الذين يعيشون في الوسط المتنفذ والمترف ـ كما هو الحال بالنسبة إلى مؤمن آل فرعون ـ كما أنّها تؤكّد الدور الذي يجب أن يقوم به الإنسان تجاه هداية الآخرين ، وأنّها مسئولية شرعية وإنسانية يتحمّلها كل الناس حتى لو كان من الوسط الضال ، كما فعل مؤمن آل فرعون.

وفي هذا العرض القرآني للقصة يظهر لنا ـ أيضا ـ هذا الامتزاج بين الرحمة والغفران ، وبين النقمة وشدة العذاب : (غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ)(١) فإنّ الله سبحانه يجعل تحت متناول عقول عباده وأنظارهم آياته وأدلته وبراهينه ، ويتوسل إلى هدايتهم بالوسائل المختلفة التي لا تشل عنصر الاختيار فيهم ، كلّ ذلك رحمة منه وفسحة لقبول التوبة والاستغفار ، ولكنّه مع ذلك لا يعجزه شيء عن عقابهم أو القدرة على إنزال العذاب فيهم.

__________________

(١) غافر : ٣.

١١٠

الموضع السادس عشر :

الآيات التي جاءت في سورة الزخرف ، والتي تبدأ بقوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ)(١) والتي تختم بقوله تعالى : (فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ* فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ)(٢).

ويلاحظ في هذا الموضع من القصّة ما يلي :

أنّ هذا المقطع القرآني من القصّة جاء في سياق الحديث عن شبهة أثارها الكفار في وجه الدعوة (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)(٣).

وقد ناقش القرآن الكريم هذه الشبهة من ناحيتين :

الاولى : أنّ الرزق والمال ليس عطاء بشريا أو نتيجة للجهد الشخصي والذكاء والعبقرية والفضل فحسب ، بل هو عطاء إلهي له غاية اجتماعية تنظيمية (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)(٤).

__________________

(١) الزخرف : ٤٦.

(٢) الزخرف : ٥٥ ـ ٥٦.

(٣) الزخرف : ٣١.

(٤) الزخرف : ٣٢.

١١١

الثانية : أنّ هذا العطاء الإلهي المادي ليس مرتبطا بالفضل والامتياز عند الله والقربى لديه ، كما هو شأن العطاء البشري ومقاييسه ، بل قد يكون العكس هو الصحيح (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ)(١). فإنّ ظاهر هذه الآية الكريمة هو : أنّه لو لا مخافة أن يكون الناس امة واحدة على الكفر لجعلنا لمن يكفر بالرحمن ... وقد يكون ذلك تعويضا لهم عمّا يلحق بهم من الخسران والعذاب في الدار الآخرة ، فإنّ «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر» (٢).

ومن هذه الملاحظة يمكن أن نستنتج :

أنّ هذا المقطع جاء ليضرب مثلا واقعيا تجاه هذه الحقيقة والفكرة التي عاشتها الإنسانية ، وهذا المثل هو : موقف فرعون من دعوة موسى ؛ إذ نزلت الرسالة على شخص فقير مطارد ، ويتعرّض قومه إلى الاضطهاد ، مع أنّ فرعون هو صاحب الثروة والغنى.

والذي يؤكد هذا الاستنتاج أنّ المقطع يتبنى إظهار جانب ما يتمتع به فرعون من ثروة وملك وغنى في مقابل موسى الذي هو مهين على حد تعبير فرعون ، وليس في المواضع الاخرى من القرآن ما يشبه هذا الموقف من فرعون.

فالتكرار فرضه السياق القرآني إلى جانب تحقيق الغرض الديني.

الموضع السابع عشر :

الآيات التي جاءت في سورة الذاريات ، وهي قوله تعالى :

__________________

(١) الزخرف : ٣٣.

(٢) من لا يحضره الفقيه ٤ : ٣٦٣.

١١٢

(وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ* فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ* فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ)(١).

وهذه اللمحة العابرة التي تأتي في عرض قصصي مشترك عن الأنبياء من أجل تعداد آيات الله سبحانه ، وإثبات صدق الدعوة والنبوة ، نجد اسلوب السورة المكية الذي كان يفرض طبيعة الموقف فيه ذكر القصص القرآنية بشكل مختصر وعابر.

الموضع الثامن عشر :

الآية التي جاءت في سورة الصف : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ)(٢).

وفي هذه إشارة إلى موقف معين لبني إسرائيل تجاه موسى ، إذ آذوه مع علمهم بنبوته ، وقد كان الغرض من الإشارة إليه هو : مقارنة موقف أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تجاهه وموقف هؤلاء تجاه موسى ، وكذلك موقف بني إسرائيل تجاه عيسى عليه‌السلام من تكذيبه ومخالفته بعد أن جاءهم بالبينات ، وفي هذا تذكير لأصحاب النبي وتحذير لهم من الوقوع في مثل هذه المواقف والمخالفات ، وإلّا لساروا في طريق النفاق ، وكانوا ممّن يقولون ما لا يفعلون ، كما يدل السياق على ذلك.

__________________

(١) الذاريات : ٣٨ ـ ٤٠.

(٢) الصف : ٥.

١١٣

الموضع التاسع عشر :

الآيات التي جاءت في سورة النازعات ، وهي قوله تعالى :

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى * إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً* اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى * فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى* وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى * فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى * فَكَذَّبَ وَعَصى * ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى * فَحَشَرَ فَنادى * فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى * فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى)(١).

وهذا المقطع القرآني من القصّة ينسجم مع السياق العام للسورة التي تتحدّث عن الحشر ، وتصوّر قدرة الله سبحانه على تحقيقه (بزجرة) واحدة ؛ لأنّ الموقف فيها ينتقل من دعوة موسى لفرعون مع ما له من القدرة الدنيوية وتكبره وتجبره وعظمته ، إلى أخذ الله ـ سبحانه ـ له نكال الآخرة والاولى ، فإنّ هذا الانتقال يصوّر لنا هذه السرعة والقدرة في الحشر والنشر ؛ ولذا نجد القرآن يرجع بعد إعطاء هذه الصورة الواقعية عن القدرة إلى الاستدلال على هذه الحقيقة بأدلة وجدانية : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها* رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها* وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها* وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها* أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها* وَالْجِبالَ أَرْساها)(٢).

__________________

(١) النازعات : ١٥ ـ ٢٥.

(٢) النازعات : ٢٧ ـ ٣٢.

١١٤

الفصل الخامس

قصّة آدم عليه‌السلام

الحكمة في استخلاف آدم.

مسيرة الاستخلاف.

١١٥
١١٦

استخلاف آدم (الإنسان)

(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ* وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ* قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ* وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ* وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ* فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ* فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ* قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ* وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ

١١٧

النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)(١).

هذه الآيات العشر تتحدّث عن قضية استخلاف الله ـ سبحانه ـ لآدم على الأرض ، وقضية الاستخلاف تشتمل على جانبين وفصلين :

الفصل الأوّل منهما يتناول معنى الاستخلاف والحكمة والعلة فيه ، وهذا الجانب من قصّة آدم يكاد ينحصر ذكره والحديث عنه في القرآن الكريم بهذا المقطع القرآني فقط (٢) ، وإن كان من الممكن أن تكون جميع آيات الاستخلاف مؤكّدة هذا المقطع وإن لم تكن بهذا الوضوح.

والفصل الثاني يتناول العملية التي تمّ بها انجاز هذا الاستخلاف ، وهذا الجانب تحدّث عنه القرآن في مواضع متعددة لا بدّ من دراستها بشكل عام.

__________________

(١) البقرة : ٣٠ ـ ٣٩.

(٢) بالاضافة إلى بعض الاشارات الأخرى مثل قوله تعالى : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) الأحزاب : ٧٢ ، وأيضا قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) الأنعام : ١٦٥ ، وكذلك فاطر : ٣٩ ، وأيضا الزخرف : ٦٠ ، وغيرها.

١١٨

الحكمة في استخلاف آدم

وما يعنينا من دراسته في هذا الفصل من هذا المقطع القرآني الشريف هو :

الآيات الأربع الاولى ، والبحث فيها ، وما تضمّنته من معلومات ومفاهيم له جانبان :

الجانب الأوّل : تحديد الموقف العام تجاه دراسة هذا المقطع القرآني ، وتصوير ما يعنيه القرآن الكريم منه.

الجانب الثاني : تحديد الموقف القرآني والاسلامي تجاه بعض المفاهيم التي جاءت في المقطع بالشكل الذي ينسجم مع المسلمات القرآنية ، والظهور اللفظي لهذا المقطع بالخصوص.

وفيما يتعلق بالجانب الأوّل نجد الشيخ محمّد عبدة تبعا لبعض الدارسين المتقدمين يذكر رأيين مختلفين بحسب الشكل وإن كانا يتفقان في النهاية حسب ما يقول.

الرأي الأوّل : هو الذي سار عليه السلف واختاره الشيخ محمّد عبدة نفسه أيضا ، حيث يقول : «وأمّا ذلك الحوار في الآيات فهو : شأن من شئون الله مع ملائكته ، صوّره لنا في هذه الفصول بالقول والمراجعة والسؤال والجواب ، ونحن لا نعرف حقيقة ذلك القول ، ولكنّنا نعلم أنّه ليس كما يكون منا ، وأنّ هناك معاني قصدت إفادتها بهذه العبارات ، وهي : عبارة عن شأن من شئونه ـ تعالى ـ قبل خلق آدم ، وأنّه كان يعدّ له الكون ، وشأن مع الملائكة يتعلق بخلق نوع الإنسان ، وشأن آخر في بيان كرامة هذا النوع وفضله» (١).

__________________

(١) المنار ١ : ٢٥٤.

١١٩

والرأي الثاني : الرأي الذي سار عليه الخلف من المحقّقين وعلماء الإسلام الذين بذلوا جهدهم في دراسة القرآن والتعرف على مقاصده ، حيث يرون أنّ هذه القصّة بمواقفها المختلفة إنّما جاءت على شكل التمثيل ومحاولة تقريب النشأة الآدمية الإنسانية وأهميتها وفضيلتها ، وأنّ جميع المواقف والمفاهيم التي جاءت فيها يمكن تحديد المعاني والأهداف التي قصدت منها.

فالرأي الأوّل والثاني وإن كانا يلتقيان في حقيقة تنزيه الله ـ سبحانه وتعالى وعالم الغيب ـ عن مشابهة المخلوقات المادية المحسوسة في هذه المواقف المختلفة ، وكادا يتفقان ـ أيضا ـ في الأهداف والغايات العامّة المقصودة من هذا المقطع القرآني ، ولكنّهما مع ذلك يختلفان في إمكانية تحديد بعض المفاهيم التي وردت في المقطع ، كما سوف يتضح ذلك عند معالجتنا للمقطع القرآني من جانبه الآخر.

وفيما يتعلق بالجانب الثاني نجد السلف انسجاما مع موقفهم في الجانب الأوّل يقفون من دراسة المقطع موقفا سلبيا ، ويكتفون ـ في بعض حالات الانفتاح ـ بذكر الفوائد الدينية التي تترتب على ذكر القرآن لهذا المقطع القرآني (المتشابه).

وقد أشار الشيخ محمّد عبدة إلى بعض هذه الفوائد ، ونكتفي بذكر فائدتين منها :

الاولى : أنّ الله ـ سبحانه وتعالى ـ في عظمته وجلاله يرضى لعبيده ان يسألوه عن حكمته في صنعه ، وما يخفى عليهم من أسراره في خلقه.

الثانية : أنّ الله ـ سبحانه ـ لطيف بعباده رحيم بهم ، يعمل على معالجتهم بوجوه اللطف والرحمة ، فهو يهدي الملائكة في حيرتهم ، ويجيبهم عن سؤالهم عند ما يطلبون الدليل والحجّة بعد أن يرشدهم إلى واجبهم من الخضوع والتسليم (... إِنِّي

١٢٠