القصص القرآني

السيد محمد باقر الحكيم

القصص القرآني

المؤلف:

السيد محمد باقر الحكيم


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المركز العالمي للعلوم الإسلاميّة
المطبعة: ليلى
الطبعة: ٢
ISBN: 964-8686-13-0
الصفحات: ٣٦٠

ووصل بهم الغرور والجرأة على الله ـ تعالى ـ حدا أن ادعوا أنّهم هم الأغنياء والله هو الفقير (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ)(١).

ومن هذا المنطلق الأخلاقي المتردّي وجدوا لأنفسهم الحق في استباحة أموال ودماء الناس الآخرين من غير بني إسرائيل كما تحدّث عنهم القرآن الكريم : (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)(٢).

وقد تحدّث القرآن الكريم عن قوم عيسى عليه‌السلام بعده أيضا ، فأشار إلى كثير من الانحرافات التي كان عليها الإسرائيليون أيام عيسى عليه‌السلام ، مضافا إلى نقطتين مهمتين :

الاولى : وجود الاختلاف بين المسيحيين في عيسى عليه‌السلام حتى أصبحوا أحزابا وجماعات بشأنه.

(فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ)(٣).

الثانية : وجود من يقول بالغلو في عيسى عليه‌السلام بحيث يصعد به إلى درجة الالوهية فيقول : إنّه ثالث ثلاثة أو إنّه هو الله تعالى ، وكذلك في أمه.

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ

__________________

(١) آل عمران : ١٨١.

(٢) آل عمران : ٧٥.

(٣) الزخرف : ٦٥.

٢٨١

عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً)(١) (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ)(٢).

ومع كل ذلك فقد كانت لرسالة عيسى عليه‌السلام ودعوته نتائج إيجابية مهمة سوف نشير إليها في الملاحظات العامة حول القصّة إن شاء الله.

__________________

(١) النساء : ١٧١.

(٢) المائدة : ١١٦.

٢٨٢

شخصية عيسى عليه‌السلام

لقد ذكر العلّامة الطباطبائي تحت عنوان [منزلة عيسى عند الله تعالى وموقفه في نفسه] : أنّ عيسى عليه‌السلام كان عبدا لله وكان نبيا ، ورسولا إلى بني إسرائيل ، وكان واحدا من الخمسة أولي العزم صاحب شرع وكتاب ، وهو : الإنجيل.

كما أنّ الله ـ تعالى ـ سمّاه بالمسيح عيسى ، وكان كلمة الله وروحا منه ، وكان إماما ، ومن شهداء الأعمال ، وكان مبشرا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان وجيها في الدنيا والآخرة ، ومن المقربين ، وكان من المصطفين ، وكان من المجتبين ، وكان من الصالحين ، وكان مباركا أينما كان ، وكان زكيا ، وكان آية للناس ورحمة من الله وبرا بوالدته ، وكان مسلّما عليه ، وكان ممّن علّمه الله الكتاب والحكمة.

فهذه اثنتان وعشرون خصلة من مقامات الولاية ، هي جمل ما وصف الله ـ تعالى ـ به هذا النبي المكرم ، ورفع بها قدره ، وهي على قسمين : اكتسابية كالعبودية والقرب والصلاح ، واختصاصية ... (١).

وهذه الصفات على الأكثر هي مشتركة بينه وبين سائر أنبياء أولي العزم الذين سبقوه وإن كان بعضها يختص به عليه‌السلام.

وهنا نحاول أن نقسّم هذه الصفات على الأبعاد الأربعة التي قسّمنا بها صفات إبراهيم عليه‌السلام ، كما نضيف إليه خصال وخصائص اخرى أشار إليها القرآن الكريم ، ونتحدّث قليلا عن الصفات التي اختص بها عيسى عليه‌السلام :

__________________

(١) الميزان ٣ : ٢٨١ ـ ٢٨٢ وقد وضع أمام كلّ صفة رقم الآية التي يشير إليها.

٢٨٣

الأوّل ـ البعد الرسالي :

وهي الصفات التي تشير إلى موقع عيسى عليه‌السلام من الرسالة الإلهيّة :

أ ـ الإمامة : وهي وإن لم يصرّح بها القرآن الكريم كما في إبراهيم وموسى عليهما‌السلام ولكن يمكن أن نستنبطها من آية سورة الأحزاب التي تحدّثت عن أخذ الميثاق الغليظ من الأنبياء ؛ إذ يذكر عيسى عليه‌السلام في سياق الخمسة اولي العزم : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً.)(١).

كما أنّ القدر المتيقن من الذرية التي استجاب الله دعاء إبراهيم فيهم هو : عيسى عليه‌السلام فإنّه أفضل من إسحاق ويعقوب الذي يصرّح القرآن فيهما بعنوان الإمامة.

ب ـ النبوّة والرسالة على مستوى أولي العزم ، كما أشرنا إلى ذلك في إبراهيم عليه‌السلام ، وهذا ما يؤكّده القرآن الكريم عند ما يذكر عن عيسى أن الله ـ تعالى ـ قد آتاه الإنجيل ، وعلّمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ؛ إذ يفصل بذلك بيان هذه الشريعة (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ)(٢) ؛ لأنّ القرآن يصرح في سياق آية سورة المائدة بوجود الشريعة والمنهاج المستقل : (وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً

__________________

(١) الأحزاب : ٧.

(٢) آل عمران : ٤٨.

٢٨٤

لِلْمُتَّقِينَ)(١).

ج ـ الاصطفاء والاجتباء كما في إبراهيم عليه‌السلام وغيره من الأنبياء ، بل يبدو من القرآن الكريم أن هذا الاصطفاء كان لجده وأمه أيضا :

(إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ* ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(٢).

د ـ التصديق بالتوراة والتبشير برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبهذا يكون عيسى عليه‌السلام صلة الوصل وحلقة التكامل للرسالة السابقة عليه والممهد للرسالة الخاتمة لنبينا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وهو بهذا وإن كان لا يختلف عن موسى عليه‌السلام الذي كان مصدّقا لصحف إبراهيم عليه‌السلام ووصايا يعقوب ومبشرا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكنّ القرآن الكريم يصرّح هنا في عيسى بكلا الأمرين بشكل يجعل ذلك صفة بارزة من صفاته ولا سيما التصريح بالاسم الشريف للرسول (أحمد) :

(وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ)(٣).

ولعلّ هذا التأكيد منه عليه‌السلام على هذا الدور ؛ لأنّه كان يواجه التكذيب والشك بذلك في أوساط بني إسرائيل ، وهذا على خلاف موسى الذي لم يكن يواجه مشكلة

__________________

(١) المائدة : ٤٦.

(٢) آل عمران : ٣٣ ـ ٣٤.

(٣) الصف : ٦.

٢٨٥

في هذا المجال.

ه ـ آية للناس (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً ...)(١) ، فكان وجوده الشريف بنفسه وولادة امّه له من دون أب وتكليمه للناس في المهد آيات إلهيّة ومعاجز ربانية تثبت له هذا المقام الرسالي.

(وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ)(٢) (... وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا)(٣).

وهذه الصفة والخصلة من المقامات الرسالية التي اختص بها عيسى عليه‌السلام (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)(٤).

وبذلك كان سلام الله عليه كلمة من الله ـ تعالى ـ وروح منه وآية للناس بنفس وجوده الشريف وكلامه في المهد.

(... إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ* وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ)(٥).

و ـ نزول المعجزات الخاصة على يديه بحيث اختص بهذا النوع من المعجزات عن بقية الأنبياء الذين سبقوه في ذكر القرآن لهم ، فهو يحيي الموتى ، ويبرئ الأكمه والأبرص ، ويجعل لهم كهيئة الطير فينفخ فيه ، فيكون طيرا باذن الله تعالى ،

__________________

(١) آل عمران : ٤٦.

(٢) المؤمنون : ٥٠.

(٣) مريم : ٢١.

(٤) آل عمران : ٥٩.

(٥) آل عمران : ٤٥ ـ ٤٦.

٢٨٦

ويخبرهم بما يدخرون في بيوتهم من الطعام والشراب وغيرهما من المتاع.

ولذا جاء تأكيد القرآن الكريم لذلك أكثر من مرّة :

(... أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(١).

الثاني ـ العلاقة بالله تعالى :

وهي الصفات التي تتحدّث عن نوع ومستوى العلاقة بين الله تعالى وعيسى عليه‌السلام ، وهنا نلاحظ أنّ القرآن الكريم يتحدّث في هذا البعد عن الخصال التي تعبّر عن موقف العناية والرحمة الإلهية بعيسى عليه‌السلام في تصوير هذه العلاقة ، بدل الصفات التي تعبّر عن موقف عيسى عليه‌السلام من الله باستثناء صفة واحدة ، وهي صفة العبودية.

أ ـ عبد الله (قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا)(٢) ، والعبودية المطلقة تشتمل على كل صفات التسليم والقنوت والشكر لله تعالى التي تحدث عنها القرآن الكريم في وصف إبراهيم عليه‌السلام.

ب ـ أنعم الله عليه بنعم كثيرة ، هي كل المقامات السابقة التي حصل عليها عيسى عليه‌السلام.

__________________

(١) آل عمران : ٤٩.

(٢) مريم : ٣٠.

٢٨٧

(إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ)(١) ، وهي نعم قد اختص بها عيسى عليه‌السلام.

ج ـ وجيها عند الله ومن المقربين لديه ، وهي صفة اختص بها عيسى عليه‌السلام وموسى في القرآن الكريم.

د ـ مسلّما عليه من قبل الله تعالى (وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا)(٢) ، وهي صيغة من السلام ذكرت ليحيى عليه‌السلام ، كما أنّ السلام ذكر لنوح وإبراهيم وعلى موسى وهارون وعلى آل ياسين وعلى المرسلين.

ه ـ كان عيسى عليه‌السلام مؤيدا بروح القدس ؛ إذ ذكر ذلك من جملة النعم التي أنعم الله بها عليه ، وقد أكّد القرآن ذلك في عدّة مواضع :

(... وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ...)(٣) ، وكذلك الآية ٢٥٣ من البقرة ، والآية ١١٠ من المائدة ولم تذكر هذه الصفة والخصلة إلّا له ولنبينا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سورة النحل ١٠٢.

و ـ رفعه الله إليه بعد الوفاة ، وطهره من الكافرين ، وهي من الصفات التي

__________________

(١) المائدة : ١١٠.

(٢) مريم : ٣٣.

(٣) البقرة : ٨٧.

٢٨٨

اختص بها الله ـ تعالى ـ رسوله عيسى عليه‌السلام (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ...)(١).

(... وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً* بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً)(٢).

الثالث ـ العلاقة بالناس :

لقد ذكر القرآن الكريم نوعا آخر من الصفات لعيسى عليه‌السلام توضح فيه طبيعة العلاقة بينه وبين الناس بصورة عامة ، أو مع والدته وقومه من بني إسرائيل بصورة خاصة.

أ ـ رحمة من الله تعالى للناس ، فعلاقته مع الناس علاقة رأفة وخير وهدى وصلاح ومحبة وإحسان (... وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا)(٣).

كما أنّ القرآن الكريم يصوّر هذا الموقوف من الرأفة والرحمة في عيسى عليه‌السلام عند ما يتحدّث عن عيسى عليه‌السلام وموقف قومه منه في يوم القيامة : (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ...)(٤) ، ثم يعقب القرآن الكريم بعد ذلك فيذكر

__________________

(١) آل عمران : ٥٥.

(٢) النساء : ١٥٧ ـ ١٥٨.

(٣) مريم : ٢١.

(٤) المائدة : ١١٦.

٢٨٩

موقف الرأفة والرحمة في عيسى في قوله : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(١).

ب ـ الشاهد عند الله على أعمال الناس والرقيب على سلوكهم في أقوالهم وأفعالهم.

(وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً)(٢).

(ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)(٣).

ج ـ الوجيه في الدنيا ، فهو كان له الجاه عند الله في الآخرة ـ كما ذكرنا ـ ولكنّه مع وجاهته عند الله فهو وجيه بين الناس ؛ لموقع بيته العظيم الذي اصطفاه الله ـ تعالى ـ من بين الناس والآل ، ولولادته المتميزة ، وللآيات والمعاجز التي جاء بها ، ثم لسلوكه وأخلاقه الخاصة التي جعلته وجيها عندهم مع تواضعه وزهده في هذه الدنيا ، (... وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ)(٤) ، فهو يشبه من هذه الصفة نبينا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي كانت لديه هذه الوجاهة عند الناس أيضا.

د ـ البر بوالدته والإحسان إليها والاحترام والوفاء والتقدير لها ، (وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا)(٥).

__________________

(١) المائدة : ١١٨.

(٢) النساء : ١٥٩.

(٣) المائدة : ١١٧.

(٤) آل عمران : ٤٥.

(٥) مريم : ٣٢.

٢٩٠

معالم الشخصية :

فقد ذكر القرآن الكريم إلى جانب الصفات السابقة بعدا رابعا في شخصية عيسى عليه‌السلام ترتبط بمعالم شخصيته الذاتية الرفيعة.

أ ـ كان عيسى عليه‌السلام إنسانا (مباركا) من الله تعالى ، ولا يستعبد العلّامة الطباطبائي أنّ تسميته بالمسيح في البشارة الإلهية (... إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ...)(١) ، إنّما هو بمعنى (المبارك) ؛ لأنّ الملك منهم إذا قام بأمر الملك مسحته الكهنة بالدهن المقدس ليبارك له في ملكه ، فكان يسمّى (مشيحا) ، ومعرب هذه الكلمة (مسيح) فمعناه المبارك (٢).

(قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا* وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ ...)(٣).

والمبارك ما يكون فيه الخير والنماء ، والمسيح كان كذلك ؛ إذ كان يصحبه الخير أينما كان.

ب ـ وقد كان المسيح عليه‌السلام (صالحا) شأنه شأن الأنبياء السابقين عليه (وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ)(٤).

وقد كان هذا إخباره عن نفسه منذ ولادته عند ما تحدّث في المهد مع بني إسرائيل عن نفسه فقال : (وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا)(٥).

__________________

(١) آل عمران : ٤٥.

(٢) الميزان ٣ : ١٩٤ والنقل كان بالمعنى.

(٣) مريم : ٣٠ ـ ٣١.

(٤) الأنعام : ٨٥.

(٥) مريم : ٣٢.

٢٩١

ج ـ كما كان المسيح (مطيعا) لله تعالى مسلّما لأمره يعمل بالعدل والإحسان ؛ إذ لم يجعله (جَبَّاراً شَقِيًّا) والجبار هو : المتمرد العاتي المفسد في الأرض بالظلم والعدوان.

د ـ وكان المسيح عليه‌السلام (زكيا) طاهرا نقيا في ولادته وفي نفسه وعمله ، وورد وصفه بذلك في قوله تعالى : (قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا)(١). ولمزيد من الفائدة نذكر ما ورد على لسان أمير المؤمنين علي عليه‌السلام في وصف زهد المسيح عليه‌السلام وسلوكه العام :

«وان شئت قلت في عيسى بن مريم عليه‌السلام ، فلقد كان يتوسّد الحجر ، ويلبس الخشن ، ويأكل الجشب ، وكان إدامه الجوع ، وسراجه بالليل القمر ، وظلاله في الشتاء مشارق الأرض ومغاربها ، وفاكهته وريحانه ما تنبت الأرض للبهائم ، ولم تكن له زوجة تفتنه ، ولا ولد يحزنه ، ولا مال يلفته ، ولا طمع يذله ، دابته رجلاه ، وخادمه يداه!» (٢).

وقد ورد في وصفه عليه‌السلام عن الرضا عليه‌السلام أنّه قال : «كان عيسى عليه‌السلام يبكي ويضحك ، وكان يحيى عليه‌السلام يبكي ولا يضحك ، وكان الذي يفعل عيسى عليه‌السلام أفضل (٣).

__________________

(١) مريم : ١٩.

(٢) نهج البلاغة : الخطبة ١٦٠.

(٣) البحار ١٤ : ٢٤٩ عن قصص الراوندي.

٢٩٢

حياة عيسى عليه‌السلام

يمكن تقسيم قصّة عيسى ومراحل حياته من خلال ما عرضه القرآن الكريم منها في مواضع متعدّدة إلى مراحل وهي :

١ ـ مرحلة الولادة والنبوة.

٢ ـ مرحلة الدعوة والرسالة.

٣ ـ مرحلة الانتشار والتنظيم.

٤ ـ مرحلة الوفاة والاختلاف.

المرحلة الاولى ـ الولادة والنبوة :

أ ـ الإعداد للولادة :

لقد كانت ولادة عيسى عليه‌السلام حالة استثنائية في تاريخ البشرية ، لم يعرف لها مثيلا إلّا في خلق آدم عليه‌السلام ، ومع ذلك فإنّ آدم خلق من طين وتراب ابتداء بكلمة الله تعالى ومن دون أب وام ، وأمّا المسيح فقد خلق بهذه الكلمة ، لكن كان خلقه في رحم امرأة صالحة مصطفاة ، هي : مريم ابنة عمران.

ولما كانت هذه الحالة استثنائية اقتضت الحكمة الإلهيّة أن يكون هناك إعداد نفسي وروحي واجتماعي فى محيط هذه الولادة ؛ من أجل قبولها ودفع الشبهات عنها.

ومن هنا يقصّ علينا القرآن الكريم هذا الإعداد فى خطوات وحلقات مترابطة بعضها مع بعض ؛ لتكوّن هذا الوضع النفسي والروحي في داخل الدائرة

٢٩٣

الخاصة المحيطة بمريم عليها‌السلام ، ولإيجاد الوضع الاجتماعي والحصانة المعنوية والمادية التي تحقّق هذا الهدف الإلهي.

والخطوة الاولى هي : القرار الإلهي باصطفاء آل عمران واجتبائهم من بين بني إسرائيل ؛ ليكونوا الشجرة الطيبة التي تؤتي هذه الثمرة الزكية.

(إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ* ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(١).

وتؤكّد بعض النصوص ما تشير إليه هذه الآية الكريمة : من أنّ عمران كان نبيا من أنبياء الله (٢) ؛ إذ أوحى الله ـ تعالى ـ إلى عمران أنّي واهب لك ذكرا مباركا يبرئ الأكمه والأبرص ، ويحيي الموتى بإذني ، وجاعله رسولا إلى بني إسرائيل ، فحدّث امرأته (حنّة) بذلك ، وهي : ام مريم ، فلمّا حملت بها كان حملها عند نفسها غلاما ، فنذرت أن يكون مولودها محررا إلى المسجد ومكان العبادة ؛ إذ يختص بالمسجد ليعبد الله ويخدم فيه ، فلمّا وضعت مولودها انثى قالت : ربّ إنّي وضعتها انثى وليس الذكر كالانثى ؛ لأنّ البنت لا تكون رسولا ، وإنّي سميتها (مريم) ـ قيل : إنّ معنى مريم : الخادمة ـ فكانت التسمية متناسبة مع النذر ، وقد استعاذت بالله فيها وفي ذريتها من الشيطان الرجيم ، فلما وهب الله لمريم عيسى عليه‌السلام كان هو الذي بشّر الله به عمران ووعده إياه (٣).

وكانت الخطوة الثانية في الإعداد هو : وضع مريم عليها‌السلام في المسجد ؛ لتنبت نباتا

__________________

(١) آل عمران : ٣٣ ـ ٣٤.

(٢) البحار ١٤ : ٢٠٢ عن قصص الأنبياء للراوندي.

(٣) البحار ١٤ : ٢٠٠ ، عن تفسير علي بن إبراهيم بتصرف.

٢٩٤

حسنا في جوّ العبادة والصلاة ، والخدمة للعبّاد والصالحين ، وفي رعاية زكريا النبى عليه‌السلام ؛ إذ كان يتنافس على رعايتها العبّاد والصالحون من الكهنة ، فساهموا عليها بأقلامهم (١) ، فكانت من نصيب زكريا عليه‌السلام في هذه الرعاية.

وكانت الخطوة الثالثة في الإعداد : الكرامات التي كان يشاهدها زكريا عند مريم مضافا إلى عبادتها وصلاحها ؛ لأنّه كان يرى عندها رزقا حسنا كلّما دخل عليها المحراب ، فيسألها عن مصدره؟ فتخبره أنّه يأتيها من عند الله تعالى (٢) ، وهي كرامة إلهيّة غيبية لمريم عليها‌السلام أثارت في نفس زكريا عليه‌السلام مشاعر التقدير والتقديس لها ، وفتحت في نفسه الأمل في شموله بهذه الكرامة ، فيدعو ربه أن يتفضل عليه بكرامة اخرى خارقة للعادة ، ويهب له ذرية طيبة ؛ لأنّه شيخ كبير وامرأته عاقر لا تلد.

(إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ* فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ* فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ

__________________

(١) ورد في بعض النصوص : أنّ امرأة سوهم عليها بالأقلام كانت مريم ، وكانت السهام ستة. البحار ١٤ : ١٩٨ ، عن الخصال ومن لا يحضره الفقيه مرسلا ، كما ورد في بعض النصوص : أنّ مريم ابنة اخت زوجة زكريا يكون زوج خالتها.

(٢) البحار ١٤ : ٢٠٣ ، ورد في النصوص : أنّ هذا الرزق الحسن كان هو فاكهة الشتاء في الصيف ، وفاكهة الصيف في الشتاء ، الأمر الذي كان يثير السؤال.

٢٩٥

يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ* هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ)(١).

(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ)(٢).

وكانت الخطوة الرابعة في الإعداد هي : استجابة الله ـ تعالى ـ لدعاء زكريا ، وقد كان يخاف الموالي من ورائه على وراثته ؛ لأنّهم ربّما لا يحسنوا الصنع في إرثه وخلافته ، فبشّره الله ـ تعالى ـ بمولود ذكر يكون سيدا وحصورا قد أحصن فرجه ونفسه ، ونبيا من الصالحين اسمه يحيى لم يجعل الله له من قبل سميا.

(كهيعص* ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا* إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا* قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا* وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا* يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا* يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا* قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا* قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً* قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا* فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا)(٣).

(فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً

__________________

(١) آل عمران : ٣٥ ـ ٣٨.

(٢) آل عمران : ٤٤.

(٣) مريم : ١ ـ ١١.

٢٩٦

بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ* قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ* قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ)(١).

وكانت الخطوة الخامسة في هذا الإعداد : أن آتى الله ـ سبحانه وتعالى ـ يحيى الحكم وهو النبوّة ـ على رأي بعض المفسرين ، أو الحكمة وفصل النزاعات على رأي آخر ـ في صباه ، وكان مثالا وقدوة للصفات التي أراد الله ـ تعالى ـ أن يتصف بها عيسى عليه‌السلام ؛ ليكون بوجوده الشريف حجّة ودليلا على هذا النبي الجديد المصطفى (٢).

(يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا* وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا* وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا* وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا)(٣).

وكانت الخطوة السادسة في هذا الإعداد هو : الاصطفاء والاجتباء لمريم لهذه المهمّة الصعبة ، وهي : حمل وولادة عيسى عليه‌السلام من غير أب ؛ لأنّها تحتاج إلى طهارة

__________________

(١) آل عمران : ٣٩ ـ ٤١.

(٢) بهذا يمكن تفسير هذا الاقتران ـ في سورة مريم ـ في عرض شخصية يحيى وعيسى عليهما‌السلام في سورة مريم ، ثمّ التشابه في الصفات بينهما في هذا العرض وذكر قصّة ولادته وصفاته قبل ذكر قصّة عيسى عليه‌السلام خصوصا أنّ القرآن الكريم هنا يقرن بين الولادتين دون تمهيد ودون ربط بينهما في الحديث غير السياق ، ويختم كلا من القصتين بالسلام عليهما.

(٣) مريم : ١٢ ـ ١٥.

٢٩٧

ونقاء وصبر وتحمل وارتقاء في درجات الكمالات الإلهيّة من خلال القنوت لله تعالى والصلاة والدعاء.

(وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ* يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ)(١).

وبهذا تصبح البتول مريم عليها‌السلام قد اعدّت إعدادا إلهيّا غيبيا وبشريا لهذه الولادة الفريدة في تاريخ البشرية.

وقد تظافرت النصوص عن طريق أهل البيت عليهم‌السلام وطريق الجمهور وبأسناد صحيحة عندهم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ أفضل نساء الجنّة أربع : خديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمّد ، ومريم بنت عمران ، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون» (٢). وفي رواية اخرى تقديم اسم فاطمة على الجميع.

ب ـ الحمل ـ الولادة ـ النبوة :

الخلوة :

١ ـ لقد اختتلت مريم وانتبذت ـ في وقت من الاوقات ـ من أهلها إلى مكان شرقي كانت قد اتخذت فيه حجابا من دونهم يسترها عنهم ، ولم يحدّد القرآن الكريم هذا المكان الشرقيّ ، فقيل فيه : إنّه شرقيّ المعبد الذي كانت تتخذه للعبادة ، حيث كانت قد اعتزلت فيه إلى مكان شرقيّ ، واتخذت فيه حجابا ، حيث كان لا يدخل عليها فيه إلّا زكريا عليه‌السلام.

وقيل فيه : إنّها كانت تقيم في المعبد إذا حاضت خرجت منه ، وأقامت في بيت

__________________

(١) آل عمران : ٤٢ ـ ٤٣.

(٢) راجع البحار ١٤ : ٢٠١ عن الخصال ، وقصص القرآن لابن كثير : ٤٨٦ ـ ٤٨٧.

٢٩٨

زكريا حتى إذا طهرت عادت إلى المسجد ، فبينما هي في (مشرقه) لها في ناحية الدار وقد ضربت بينها وبين أهلها حجابا تتستر به للغسل ، إذا أرسل الله جبرئيل عليه‌السلام (١) ، فدخل عليها ، فتمثل لها في حواسها أنّه شاب سويّ الخلق ، فكان دخول هذا البشر السوي عليها في خلوتها مفاجأة لامرأة عذراء منقطعة إلى الله تعالى هزّتها من الأعماق ، فقالت : (... إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا)(٢) حيث تستنجد بالله ، وتحاول أن تثير في هذا الغريب مشاعر التقوى الذي تمنعه من ارتكاب المعصية والانسياق مع الشهوات.

فكان جوابه (إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا)(٣) يبشرك الله بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم ، وسوف يكون وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين ، فتسأله مستنكرة مريم في صراحة المرأة التي تريد أن تدافع عن نفسها وهي في حالة العجب والاستغراب من فكرة هذا الرسول الإلهي ؛ ذلك لأنّ الغلام في نظرها لا يولد إلّا من مس البشر المشروع ، وهو الزواج ، أو البغيّ غير المشروع (قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا)(٤) وهنا

__________________

(١) يذكر العلّامة الطباطبائي قرائن من الآيات القرآنية على أنّ المقصود من الروح هنا هو : جبرئيل ، وإنّه ظهر فى حواس مريم عليها‌السلام في صورة البشر ؛ إذ إنّ القرآن يعبّر عن جبرئيل بالروح المرسل من الله تعالى. راجع الميزان ١٤ : ٣٥ ، ونسبة الحديث إلى الملائكة في سورة آل عمران من باب نسبة قول الواحد إلى الجماعة ، وهو اسلوب شائع ومتبع في القرآن.

(٢) مريم : ١٨.

(٣) مريم : ١٩.

(٤) مريم : ٢٠.

٢٩٩

أوضح لها الرسول أنّ الولادة وإن كانت خارقة للعادة ؛ لأنّها لم تكن بمس بشر ولا ببغي ، ولكنّها هي أمر هيّن على الله ـ تعالى ـ الذي خلق الناس من قبل أن يكونوا شيئا ، وهو قادر على أن يخلق ما يشاء ، واذا قضى أمرا فإنّما يقول له كن فيكون ، كلّ ذلك من أجل أن يتحقّق هدف إلهي من هذه الولادة ، وهي : أن يكون هذا المولود آية للناس ورحمة لهم من الله تعالى.

وسوف يعلّمه الله ـ تعالى ـ الحكمة والتوراة والإنجيل ، ويبعثه رسولا إلى بني إسرائيل ، وإنّ هذا قرار إلهي لا مردّ له من الله تعالى.

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا* فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا* قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا* قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا* قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا* قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا)(١).

(إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ* وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ* قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ* وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ)(٢).

النفخ :

٢ ـ وهنا نفخ الله ـ تعالى ـ بواسطة الرسول في مريم ، كما نفخ من روحه في

__________________

(١) مريم : ١٦ ـ ٢١.

(٢) آل عمران : ٤٥ ـ ٤٨.

٣٠٠