التفسير الكبير - ج ٣

سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني

التفسير الكبير - ج ٣

المؤلف:

سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني


المحقق: هشام البدراني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب الثقافي ـ الأردن / إربد
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-9957-02-1

الصفحات: ٥١٦

لا يجوز عليه السّرور ولا المنافع والمصارف (١) ، ولا يلحقه الموت ، فهو غنيّ عن اتخاذ الولد.

ثم طالب الكفار بالحجّة والبرهان ، فقال عزوجل : (إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا ؛) أي ما عندكم من حجّة وبرهان على هذا القول ، ثم أنكر عليهم ذلك تبكيتا لهم فقال تعالى : (أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (٦٨) ؛ وهذا على حجّة الإنكار والردّ عليهم ؛ أي لم تقولون على الله ما لا علم لكم به ولا حجّة لكم عليه.

قوله تعالى : (قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) (٦٩) أي قل يا محمّد إن الذين يختلقون كذبا ؛ يكذبون به على الله تعالى لا يفلحون في الدّنيا بالحجّة ولا بالآخرة في الثواب ، ولا يسعدون في العاقبة وإن اغترّوا بطول السّلامة (٢). قوله تعالى : (مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ؛) رفع على معنى ذلك متاع في الدّنيا يتمتّعون به قليلا ثم ينقضي. وقيل : لهم متاع في الدّنيا يتمتّعون به أيّاما يسيرة ، (ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ ؛) الغليظ الذي لا ينقطع ، (بِما كانُوا يَكْفُرُونَ ،) (٧٠) أي بكفرهم بالله ورسوله.

قوله تعالى : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ ؛) أي إقرأ عليهم خبر نوح ، (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ ؛) ثقل عليكم وعظم ، (مَقامِي ،) ومكثي فيكم ، (وَتَذْكِيرِي ؛) وعظتي لكم (بِآياتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ ؛) به وثقت واليه فوّضت أمري ، وذلك حين قالوا له : (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ.)

قوله تعالى : (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ؛) أي اعزموا على أمركم مع شركائكم. وقيل : معناه : فاعزموا على أمركم ، وادعوا لآلهتكم واستعينوا بهم ، وأجمعوا على أمر واحد. ومن قرأ (فاجمعوا) بنصب الميم فهو من الجمع.

__________________

(١) هكذا رسمها الناسخ في المخطوط بوضوح ، ولعلها (والمضارّ). والله أعلم.

(٢) في المخطوط رسمها الناسخ من غير نقط : (واعروا بطور السلامة).

٤٠١

قوله تعالى : (ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ؛) أي يكن أمركم عليكم ظاهرا منكشفا لا يستره شيء. والغمّة مأخوذة من الغمامة ، ويقال : الغمّة الغمّ ؛ أي لا يكون أمركم غمّا عليكم وفرّجوا عن أنفسكم ، (ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ) (٧١) ؛ أي امضوا بما تقصدون من القتل ولا تمهلون.

قال الزجّاج : (الواو في قوله (وَشُرَكاءَكُمْ) بمعنى مع) (١) والمعنى فاجمعوا أمركم مع شركائكم ثم لا يكون أمركم عليكم مبهما ، يعني ليكن أمركم ظاهرا منكشفا لا تسترون معاداتي ، ثمّ امضوا إليّ بمكروهكم وما توعدونني به. معنى قضاء الشيء امضاؤه والفراغ منه ، وهذا أحد معجزات نوح عليه‌السلام ؛ لأنه كان وحيدا ، وقد قرعهم بالعجز عن الوصول اليه وإلى قتله ، فلم يقدروا عليه بسوء.

قوله تعالى : (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ ؛) معناه : فإن أعرضتم عن الإيمان بما جئتكم به لم يضرّني إعراضكم ، فإنّي لا أطلب منكم أجرا ولا أدعوكم إلى الإيمان لمطمع مني في مالكم ، وما دعاني فيما أدعوكم عليه إلا الإيمان بالله ، (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ ؛) أي وقد أمرني ، (أَنْ أَكُونَ مِنَ ؛) أي مع ؛ (الْمُسْلِمِينَ) (٧٢) ؛ على دينهم.

قوله تعالى : (فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ ؛) أي فنجّيناه ومن معه من المؤمنين من الغرق في السفينة ، (وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ ؛) أي جعل الله الذين نجوا مع نوح عليه‌السلام من الغرق خلفا ومكانا في الأرض من قوم أهلكوا بالتكذيب ، كما قال تعالى (وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ)(٢) وذلك أنّ الناس كانوا من ذرّيته بعد الغرق ، وهلك أهل الأرض جميعا بتكذيبهم لنوح.

قوله تعالى : (وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا ؛) أي بدلالتها حسّا ، (فَانْظُرْ ؛) يا محمّد ، (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) (٧٣) ؛ أي كيف صار آخر أمر الذين أنذرتهم الرسل فلم يؤمنوا ، وهذا تهديد لقوم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن تكذيبه

__________________

(١) قاله الزجاج في معاني القرآن وإعرابه : ج ٣ ص ٢٣.

(٢) الصافات / ٧٧.

٤٠٢

حتى لا ينزل بهم مثل ما نزل بقوم نوح ، وتسلية للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليصبر على أذاهم كما صبر نوح عليه‌السلام على أذى الكفّار مع قلّة من معه من المؤمنين.

قوله تعالى : (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ ؛) أي ثم بعثنا من بعد نوح رسلا مثل هود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب وغيرهم إلى قومهم ، (فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ ؛) بالحجج والبراهين ، (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا ؛) ليصدّقوا ، (بِما كَذَّبُوا بِهِ ؛) في الابتداء ، والمعنى : فما كان الذين بعث إليهم الرسل ليؤمنوا بما كذبوا ، (مِنْ قَبْلُ ؛) يعني قوم نوح عليه‌السلام ؛ أي لم يصدّقوا به ، كما كذب قوم نوح ، وكانوا مثلهم في الكفر والعنف. قوله : (كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ) (٧٤) ؛ قال ابن عبّاس : (يريد الله تعالى طبع على قلوبهم فأعماها فلا يبصرون سبيل الهدى). وما بعدها من الآيات :

ظاهر التفسير (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (٧٥ فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (٧٦ قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ) (٧٧).

قوله تعالى : (قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا ؛) أي قالوا لموسى عليه‌السلام : أجئتنا لتصرفنا عما وجدنا عليه آباءنا ، واللّفت هو الصّرف. قوله تعالى : (وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ ؛) أي ويكون لك ولهارون السلطان والملك والشرف في أرض مصر ، (وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ) (٧٨) ؛ أي بمصدّقين. وإنما سمّى الملك كبرياء ؛ لأنه أكبر ما يطلب من أمر الدّنيا ، والكبرياء استحقاق صفة الكبر في أعلى المراتب ، فلهذا لا يجوز أن يوصف به أحد غير الله.

قوله تعالى : (وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ) (٧٩) ؛ أي بكلّ حاذق بالسّحر ، (فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ) (٨٠) قال هذا لهم على وجه التعجيز لهم ، إنّكم لا تقدرون على إبطال أمري ، فيكون هذا

٤٠٣

أمر تعجيز كقوله تعالى : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ)(١) ولا يجوز أن يكون هذا أمرا بالسّحر ، إذ عمل السحر كفر ، والأنبياء عليهم‌السلام لا يأمرون به.

قوله تعالى : (فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ ؛) معناه : فلما ألقت السّحرة ما جاؤا به ، قال لهم موسى : الذي جئتم به السحر والخداع ؛ أي الذي جئتم به سحر. ووقف بعض القرّاء على (ما جئتم) ثم قال : (السّحر) على معنى : أيّ شيء جئتم به أهو السحر؟ على جهة التوبيخ لهم. قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ ؛) أي يبطل عمل السّحرة حتى يظهر الحقّ من الباطل ، (إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) (٨١) ؛ أي لا يرضى عمل السّاحرين.

قوله تعالى : (وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) (٨٢) ؛ أي ينصر دينه الحقّ بالوعد الذي وعده لموسى كما قال تعالى : (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ)(٢) الى آخر الآية. ويجوز أن يكون معنى الكلمات : ما كتبه الله تعالى في اللوح المحفوظ.

قوله تعالى : (فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ ؛) أي ما صدّق بموسى وبما جاء به إلا ذريّته من قوم فرعون ، وهم قوم كان آباؤهم من القبط وأمّهاتهم من بني إسرائيل ، فآمنوا بموسى واتّبعوا أمّهاتهم وأخوالهم ، ولم يسلم آباؤهم الذي كان موسى عليه‌السلام مبعوثا اليهم.

وقال الحسن : (أراد بقوله تعالى (إلّا ذرّيّة من قوم موسى) كان فرعون أجبرهم على تعلّم السّحر وجعلهم من أصحاب نفسه ، فلمّا أسلمت السّحرة وآمنوا بموسى اتّبعهم هؤلاء الذّرّيّة في الإيمان). وكان يقول : (لم يؤمن من القبط أحد إلّا المؤمن الّذي يكتم إيمانه من فرعون وقومه).

قوله : (عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ) معناه على القول الأول : آمنت به ذريّته على خوف من فرعون وآبائهم وقومهم. وعلى القول الثاني : على خوف من

__________________

(١) البقرة / ٢٣.

(٢) القصص / ٣٥.

٤٠٤

فرعون وأشرافهم ورؤسائهم أن يعلم الأشراف أمرهم فيخبروا فرعون فيقتلهم ويعذبهم أو يصرفهم عن دينهم. وقال الزجّاج : (إنّما قال (فرعون وملئهم) لأنّ فرعون ذا أصحاب يأتمرون به).

قوله تعالى : (وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ ؛) أي لمستكبر في أرض مصر ، (وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ) (٨٣) ؛ في الكفر والمعاصي ، والإسراف : هو التجاوز عن الحدّ في كلّ شيء. وعن محمّد بن المنكدر قال : (عاش فرعون ثلاثمائة واثنين وعشرين سنة لم ير مكروها ، ودعا موسى عليه‌السلام ثلاثين سنة).

قوله تعالى : (وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا ؛) أي قال موسى لبني إسرائيل : يا قومي إن كنتم صدّقتم بالله كما تقولون فأسندوا أموركم إليه ، (إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) (٨٤) ، إن كنتم مخلصين مستسلمين لأوامره ، وذلك حين قالوا لموسى : (أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا)(١). وقيل : إنّ موسى خاطب بالخطاب المذكور في هذه الآية الذريّة التي آمنت على خوف من فرعون وملئهم.

قوله تعالى : (فَقالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا ؛) أي قال موسى أسندنا أمورنا إلى الله ووثقنا به ، (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٨٥) ؛ أي لا تظهرهم علينا فيظنّوا أنّهم على الحقّ ، فيكون ذلك فتنة لهم ولغيرهم. ويقال : يعني لا يمكنهم أن ينزلوا بنا أمرا لا نطيق الصبر عليه فننصرف به عن الدّين. قوله تعالى : (وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) (٨٦) ؛ أي خلّصنا بطاعتك من استعبادهم إيّانا ، فاستجاب الله دعاءهم كما ذكر من بعد.

قوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً ؛) وذلك أنّ فرعون لمّا أتاه موسى بالرسالة أمر بمساجد بني إسرائيل فكسّرت كلّها وخرّبت ، ومنعوهم من الصّلاة علانية ، فأنزل الله هذه الآية ، وأمروا أن يتّخذوا

__________________

(١) الأعراف / ١٢٩.

٤٠٥

مساجد في بيوتهم ويصلّون فيها خوفا من فرعون. والمعنى : وأوحينا إليهما أن اتّخذا لقومكما بمصر بيوتا ، يقال : بوّأه إذا عدّ لغيره بيتا ، وتبوّأ إذا اتخذ لنفسه بيتا.

قوله تعالى : (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً ؛) أي اجعلوها مصلّى ، (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ،) فصلّوا فيها مستترين من فرعون وقومه. وقيل : معناه : واجعلوا بيوتكم مساجد. وقال الحسن : (واجعلوا بيوتكم نحو القبلة وجبال الكعبة) قال : (وكانت الكعبة قبلة موسى ومن معه من المؤمنين) (١).

وقيل : إنّما لم يذكر الله الزكاة في هذه الآية ؛ لأن فرعون قد استعبدهم وأخذ أموالهم فلم يكن لهم ما يجب الزكاة فيه. قوله : (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (٨٧) ؛ أي وبشّرهم بالثواب في الآخرة ، وبالنّصر في الدّنيا آجلا وعاجلا.

قوله : (وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ؛) أي قال موسى : إنك أعطيت فرعون وملأه زينة ؛ أي زهرة من المركب والحليّ والثياب ، وأموالا كثيرة من الدراهم والدنانير والعروض. قوله : (رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ ؛) أي ربّنا أعطيتهم الزينة والأموال ليكون عاقبة أمرهم أن يضلّوا عن سبيلك فلا يؤمنوا ، وهذه اللام لام العاقبة كما في قوله : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً)(٢).

قوله : (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ ؛) معنى الطّمس على الأموال تغييرها عن جهتها إلى جهة لا ينتفع بها ، وحقيقة الطّمس ذهاب الشيء عن صورته بمحق الأثر. قال مجاهد وقتادة : (فغيّر الله أموال فرعون حتّى صارت دراهمهم ودنانيرهم حجارة أنصافا وأثلاثا وأرباعا ، وكذلك سائر أموالهم حتّى السّكّر والفواكه). قال قتادة : (بلغنا أنّ حروثا لهم صارت حجارة) (٣). وقال عطاء : (لم يبق لهم معدن إلّا طمس الله عليه ، فلم ينتفع به أحد).

__________________

(١) الأقوال في هذا الباب نقلها الطبري في جامع البيان عن ابن عباس في الأثر (١٣٧٧٩) ، وعن مجاهد في الأثر (١٣٧٨٣).

(٢) القصص / ٨.

(٣) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٣٧٩٣).

٤٠٦

قوله : (وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ ؛) معناه : واربط على قلوبهم بالصبر حتى لا يتحوّلوا عن بلادهم إلى بلاد الخصب فيبقون في هذه العقوبة أبدا. وقيل : معناه : امنعهم عن الإيمان بك ، والمعنى اطبع عليها حتى لا تلين ولا تشرح الايمان. قوله : (فَلا يُؤْمِنُوا ؛) قال الزجّاج والفراء : (هذا دعاء عليهم أيضا) (١) ، والتأويل فلا آمنوا ، (حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) (٨٨) ؛ يعني الغرق.

قوله تعالى : (قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما ؛) أي قال الله تعالى لموسى وهرون : قد أجبت دعوتكما ، وذلك أنّ موسى كان يدعو بالدّعاء المذكور في الآية ، وكان هرون يؤمّن على دعائه ، فسمّاها الله داعين ، قوله (فاستقيما) أي فاستقيما في دعاء الناس إلى الإيمان ، (وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (٨٩) لأن سبيلهم كان الغيّ والضلال ، وخفّف ابن عبّاس (تتبعان) من تبع يتبع ، والنون الشديدة إنما دخلت مؤكّدة للنهي.

قوله : (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ ؛) يعني بحر القلزم وهو بقرب نيل مصر ، جعله الله لهم يبسا حتى جاوزوه ، (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً ؛) ليبغوا عليهم ، (وَعَدْواً ،) ويظلموهم. قوله : (حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ ؛) حتى إذا ألجم فرعون الغرق من إيمان الإنجاء فلم ينفعه ذلك ، فلما ، (قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (٩٠) ؛ قال له جبريل : (آلْآنَ ؛) أي تؤمن عند الغرق ، (وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (٩١) ؛ بالكفر والمعاصي في وقت المهلة.

روي عن ابن عباس : (أنّ جبريل قال للنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو رأيتني وفرعون يدعو بكلمة الإخلاص وأنا أدسّه في الماء والطّين لشدّة غضبي عليه مخافة أن يتوب فيتوب الله عليه؟ فقال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [يا جبريل وما شدّة غضبك؟] قال : يا محمّد لقوله أنا ربّكم الأعلى وهي كلمته الأخيرة ، وإنّما قالها حين انتهى إلى البحر ، وكلمته

__________________

(١) قاله الفراء في معاني القرآن : ج ١ ص ٤٧٧. والزجاج في معاني القرآن وإعرابه : ج ٣ ص ٢٦.

٤٠٧

الأولى : ما علمت لكم من إله غيري ، وكان بين الأولى والأخرى أربعين سنة) (١).

وهذه الرواية صحيحة إلّا قوله : (مخافة أن يتوب فيتوب الله عليه) لأنه لا يخلو إما أن يكون التكليف ثابتا في ذلك الوقت أو غير ثابت ، فإن كان ثابتا لم يجز على جبريل عليه‌السلام أن يمنعه من التوبة ، ولو منعه من التكلّم باللسان لكانت ندامة فرعون بالقلب كافية في توبته ؛ لأن الأخرس إذا تاب بالندم بقلبه وعزم على ترك المعاودة إلى القبيح كانت توبته صحيحة.

وإن لم يكن التكليف ثابتا في ذلك الوقت لم يكن للمنع عن التوبة معنى بوجه من الوجوه ، وإنما لا يقبل الإيمان في وقت الإلجاء ؛ لأنّ الذي يؤمن في تلك الحالة يعلم أنه لو حاول خلاف ما يؤمر به حيل بينه وبينه ، فلا يكون مثابا بإعلاء ذلك الإيمان معرفته من طريق الضرورة دون الاجتهاد.

قوله : (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ ؛) أي فاليوم نلقيك على نجوة من الأرض ، وهي المكان المرتفع ؛ أي ببدنك أي بدرعك ، قال ابن عبّاس : (كان فرعون قصيرا طوله ستّة أشبار ، وكانت لحيته قريبا من قامته ، وكانت له درع سلاسلها من ذهب يعرفها جميع بني إسرائيل ، فسألت موسى بنو إسرائيل فدعا الله فأخرجه ببدنه حتّى واراه ، وعرفوا الدّرع فطابت أنفسهم بتلك).

ويقال : كان في بني إسرائيل من لا يصدّق بهلاك فرعون ، ولذلك سأل موسى عليه‌السلام أن يلقيه الله على نجوة من الأرض ببدنه ؛ أي وحده دون قومه. وقيل : معناه : ننجيك من الماء ببدنك دون روحك ، فأما روحك فتعذب على كلّ حال. قوله : (لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ؛) أي لمن بعدك من الكفّار آية في النّكال ، لئلّا تقول لأحد بعدك مثل مقالتك ، وتعرفوا أنّك لو كنت إلها ما غرقت. قوله : (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ) (٩٢) ؛ يعني لغافلون عن التفكّر في دلائلنا.

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان مختصرا وبألفاظ في الرقم (١٣٨١٦ و ١٣٨١٨) عن ابن عباس ، و (١٣٨١٧) عن أبي هريرة. وأخرجه الترمذي في الجامع : كتاب التفسير : الحديث (٣١٠٨) وحسنه.

٤٠٨

قوله تعالى : (وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ ؛) أي ولقد أنزلنا بني إسرائيل في موضع خصب وأمن ، وهي أرض مصر ما بين أردن وفلسطين ، ويقال : هي الأرض المقدّسة التي ورثوها من أبيهم إبراهيم عليه‌السلام ، وسمّاها منزل صدق ؛ لأن فضلها على سائر المنازل كفضل الصّدق على الكذب. وقيل : هم بنو قريظة والنضير أنزلناهم مبوّأ صدق بين المدينة والشّام من أرض يثرب ، (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ؛) أي من النّخل وما فيها من الرّطب والتمر.

قوله : (فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ ؛) معناه أنّهم لم يزالوا مؤمنين بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل لم يختلفوا في ذلك ، بعث الله محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فآمن به بعضهم وكفر به بعضهم.

ومعنى الآية : ما اختلفوا في تصديق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنه نبيّ حتى جاءهم العلم ، قال ابن عبّاس : (يريد القرآن الّذي جاء به محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم) ، وقال الفرّاء : (العلم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم) (١) لأنّه كان معلوما عندهم بنعته ، وذلك أن لمّا جاءهم اختلفوا فيه وفي تصديقه فكفر به أكثرهم).

قوله : (إِنَّ رَبَّكَ ؛) يا محمّد ، (يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ،) بتمييز المحقّ من المبطل ، ويجازي كلّا منهم بما يستحقّه ، (فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (٩٣) فيدخل المصدّقين بك الجنة ، ويدخل المكذّبين النار.

قوله : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ؛) قال أكثر أهل العلم : هذا خطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد به غيره من الشّكّاك ، ومثل ذلك قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ)(٢) الخطاب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد به غيره بدليل قوله : (إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً)(٣) ، ولم يقل بما تعمل ، قال الزجّاج : (إنّ الله يخاطب النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذلك

__________________

(١) في معاني القرآن : ج ١ ص ٤٧٨ ؛ قال الفراء : (والْعِلْمُ يعني محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصفته).

(٢) الأحزاب / ١.

(٣) النساء / ٩٤.

٤٠٩

الخطاب شامل للخلق ، فالمعنى : فإن كنتم في شكّ فاسألوا) (١).

وقال ابن عبّاس : (لم يرد به النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنّه لم يشكّ في الله ولا في ما أوحى إليه ، لكن أراد من آمن به وصدّقه في أمرهم أن يسألوا لئلّا ينافقوا كما شكّ المنافقون). وعن ابن عبّاس أنه قال : (وذلك أنّ كفّار قريش قالوا : إنّ هذا القرآن الّذي يجيء إلى محمّد ما يلقيه الشّياطين إليه! فأنزل الله هذه الآية).

وأراد بالّذين يقرؤن الكتاب مؤمني أهل الكتاب عبد الله بن سلام وأصحابه ، فإنّهم يستخبرونك أنّه مكتوب عندهم في التّوراة ، فقال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [لا أسأل أحدا ولا أشكّ فيه بل أشهد أنّه الحقّ](٢) وكان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعلم بالله تعالى وأشدّ يقينا من أن يسألهم ، وإنّما التقدير : فإن كنت في شكّ أيّها السامع مما أنزلنا على نبيّك. ومن عادة العرب أنّهم يخاطبون الرجل بشيء يريدون به غيره كما قالوا : إيّاك أعني واسمعي يا جارة.

وكانت الناس على عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاث مراتب : مؤمن ؛ وكافر ؛ وشاكّ ، فخاطب الله بهذه الآية الشاكّ أمره بسؤال الذين يقرءون الكتاب من قبله عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم المبشّر به حتى إذا وافقت صفته في الكتاب المنزّل له قبل القرآن صفة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الشّاكّ هو المبشّر به.

قوله : (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (٩٤) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٩٥) ؛ أي الشّاكّين في الحقّ ، وما في الآية ظاهر المعنى.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ) (٩٦) معناه : إن الذين أخبر الله عنهم أنّهم لا يؤمنون ، (وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) (٩٧) ؛ فيصيرون ملجئين إلى الإيمان ، فلم يقبل منهم الإيمان حينئذ.

__________________

(١) قاله الزجاج في معاني القرآن وإعرابه : ج ٣ ص ٢٧.

(٢) في الدر المنثور : ج ٤ ص ٣٨٩ ؛ قال السيوطي : ((أخرجه عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة)). وأخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٣٨٤١).

٤١٠

قوله : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها ؛) أي هلّا كانت قرية آمنت عند نزول العذاب فنفعها إيمانها وقبل منهم ، (إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ ؛) لمّا آمنوا وعلم الله منهم الصدق صرف عنهم عذاب الهون ، (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) (٩٨) ؛ آجالهم المضروبة لهم.

وعن ابن عبّاس : (معنى قوله (فلو لا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلّا قوم يونس) (١) والمعنى : لم أفعل هذا بأمّة قطّ إلّا قوم يونس لمّا آمنوا كشفنا عنهم ، فتكون (لولا) معناها النّفي. وقال قتادة : (لم يكن هذا معروفا لأمّة من الأمم كفرت ، ثمّ آمنت عند نزول العذاب فكشف عنهم إلّا قوم يونس كشف عنهم العذاب بعد أن تدلّى عليهم) (٢).

قوله تعالى : (وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) آجالهم ، وذلك : أن يونس عليه‌السلام بعثه الله إلى قومه ، فدعاهم إلى طاعة الله وترك الكفر فأبوا ، قال : رب فدعوتهم فأبوا ، فأوحى الله إليه : أن ادعوهم فإن أجابوك ، وإلّا فأعلمهم بأنّ العذاب يأتيهم إلى ثلاثة أيّام. فدعاهم فلم يجيبوا ، فأخبرهم بالعذاب وخرج من بينهم ، فقالوا : ما جرّبنا عليه كذبا مذ كان ، فاحتالوا لأنفسكم.

فلمّا كان اليوم الثالث رأوا حمرة وسوادا من السّماء كهيئة النار والدّخان ، فجعلوا يطلبون يونس فلم يجدوا ، فلما يئسوا من يونس وجعل يحطّ السواد والحمرة ، فقال قائل منهم : فإن لم تجدوا يونس فإنّكم تجدوا ربّ يونس ، فادعوه وتضرّعوا إليه.

فخرجوا إلى الصحراء ، وأخرجوا النساء والصبيان والبهائم ، وعجّوا إلى الله مؤمنين به ، وارتفعت الأصوات ، وقربت منهم الحمرة والدّخان حتى غشي السواد سطوحهم وبلغهم حرّ النار ، فلما علم الله منهم صدق التوبة رفع عنهم العذاب بعد ما كان غشيهم.

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٣٨٤٤).

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٣٨٤٥) مطولا.

٤١١

قوله : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً ؛) أي لو شاء ربّك يا محمّد لآمن أهل الأرض كلّهم. وقيل : معناه : لو شاء ربّك لأن يجبر الناس على الإيمان لآمن من في الأرض كلهم جميعا ، كما آمن قوم يونس.

قوله تعالى : (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (٩٩) ؛ معناه : أفأنت تريد إكراه الناس على الإيمان إن لم يرد الله إكراههم عليه مع أنه قادر على إكراههم عليه ، فلا ينبغي لك أن تريد هذا ، وأنت غير قادر على إكراههم عليه. وقيل في سبب نزول هذه الآية : أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان حريصا على أن يسلم عمّه أبو طالب وقومه ، فأعلمه الله بهذه الآية أنّ إسلامهم ليس بيده.

قوله : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ ؛) أي بتوفيقه ، ويقال : إلا بأمره وقد أمر الله الكلّ بالإيمان ، وقيل : معناه : إلا بتمكين الله. قوله تعالى : (وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) (١٠٠) ؛ قال ابن عبّاس : (السّخط) (١) ، قال أبو الحسن : (العذاب على الّذين لا يعقلون) أي على الذين لا ينتفعون بعقولهم ، وقال الحسن : (يحكم عليهم بالكفر ويذمّهم عليه).

قوله : (قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ؛) أي قل لهم يا محمّد تفكّروا فيما في السموات والأرض من الآيات والدّلالات نحو مسير الشمس والقمر والنّجوم في مجاريها في أوقات معلومة على الدّوام ، ووقوف السّماء بغير عمد ولا علاقة ، وخروج النّتاج من الأمّهات ، وانظروا إلى الجبال والشّجر وغير ذلك ، وكلّ هذا يقتضي مدبر الأمر يشبه الأشياء ولا تشبهه ، (وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) (١٠١). ثم قال حين لم يتفكّروا.

قوله تعالى : (فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ) معناه : ما تنفع الآيات ، ولا تدفع عمّن سبق في علم الله أنه لا يؤمن ، فهل ينظرون إلا أن يصيبهم مثل ما أصاب الأمم قبلهم من العذاب ، يقال : أيّام فلان ؛ ويراد به أيام

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٣٨٥٨).

٤١٢

دولته ومحنته. قوله تعالى : (قُلْ فَانْتَظِرُوا ؛) أي انتظروا حلول العذاب الذي أوعدكم به (إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) (١٠٢) ، لذلك.

قوله تعالى : (ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا ؛) معناه : ثم ننجّي رسلنا والمؤمنين من العذاب الذي يحلّ بالكفّار. قوله تعالى : (كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ) (١٠٣) ؛ أي كما ننجي الرسل من العذاب كان علينا أن ننجي المؤمنين كلهم من العذاب الذي ينزل بالكفّار.

قوله تعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ؛) أي قل لهم : يا أهل مكّة إن كنتم في شكّ من ديني الذي أتيتكم به ، فأنا مستيقن فلا أشكّ في بطلان دينكم ، فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله بشكّكم في ديني ، (وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ ؛) أي يميتكم ويعيدكم ، ولا أعبد الذي لا يقدر على الضرّ والنفع والإحياء والإماتة ، (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (١٠٤).

قوله تعالى : (وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً ؛) أي وأمرت أن أخلص ديني وعملي لله ، والمراد بإقامة الوجه الإقبال على ما أمر به من أمور الدّين ، (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١٠٥). وقيل : أراد بذلك إقامة الصلاة. والحنيف : هو المستقيم في الدّين. وقيل : هو العادل عن الأديان الباطلة إلى دين الحقّ.

قوله تعالى : (وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ ؛) أي ما لا ينفعك إن دعوته ، ولا يضرّك إن تركت عبادته ، (فَإِنْ فَعَلْتَ ،) فإن دعوت غير الله إلها ، (فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ) (١٠٦) ؛ الضّارّين لنفسك.

قوله تعالى : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ ؛) معناه : إن يرد الله بك ضرّا فلا يقدر أحد على دفع ذلك الضرر إلا هو ، (وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ ؛) بنعمة وأمر تسرّ به ، (فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ ؛) مانع لعطيّته. قوله تعالى : (يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ ؛) أي يختصّ بالفضل من يشاء ، (مِنْ عِبادِهِ) على ما توجّه الحكمة على ما يستحقّون بأعمالهم ، (وَهُوَ الْغَفُورُ ؛) لذنوب العباد ، (الرَّحِيمُ) (١٠٧) ؛ بمن مات على التوبة.

٤١٣

قوله تعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ ؛) أي قل يا محمّد للناس كلهم : قد جاءكم الحقّ من ربكم ؛ أي الكتاب والرسول ، (فَمَنِ اهْتَدى ؛) بالكتاب والرسول ، (فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ؛) أي يرجع نفع هدايته إليه ، (وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها ؛) فإنّما يكون وبال ضلاله على نفسه ، (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) (١٠٨) ؛ أي لست بحفيظ عليكم ، أدفع عنكم الضرّ ، وأطلب إليكم النفع شئتم أو أبيتم.

قوله تعالى : (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ ؛) أي اتّبع يا محمّد ما تؤمر به في القرآن ، (وَاصْبِرْ ؛) على أذاهم ، (حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ ؛) يقضي الله بينك وبينهم ، (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) (١٠٩) ؛ أعدل القاضين ؛ لأنّ الحاكم لا يكون إلا بالصّلاح والسّداد ، وكان حكمه أن أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقتالهم.

آخر تفسير سورة (يونس) والحمد لله رب العالمين.

٤١٤

سورة هود

سورة هود كلّها مكّيّة (١) إلّا في رواية عن ابن عبّاس أنّ قوله : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ) إلى آخر الآيتين ، فإنّهما نزلتا في المدينة. ومن قرأ سورة هود أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق بهود وكذب به ، ونوح وشعيب وصالح وإبراهيم ، وكان يوم القيامة عند الله من الشّهداء.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر ؛) قال ابن عبّاس : (معناه أنا الله الرّحمن). وقوله : (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ؛) وقيل : (كتاب) بدل من قوله (الر) لأنه خبره ، كأنه قال : هذه الحروف كتاب.

قوله تعالى : (أُحْكِمَتْ آياتُهُ) أي أحكمت بالأمر والنهي ، (ثُمَّ فُصِّلَتْ ؛) بالثواب والعقاب ، وقال قتادة : (أحكمت عن الباطل بالحجج والدّلائل ، ثمّ فصّلت بأن أنزلت شيئا فشيئا) (٢). وقال الكلبيّ : (كتاب أحكمت آياته لم ينسخ بكتاب ، كما نسخت الكتب والشّرائع به ، (ثُمَّ فُصِّلَتْ) بيّنت بالأحكام من الحلال والحرام ، والوعد والوعيد). وقوله : (مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) (١) ؛ أي من عند حكيم في خلقه وتدبيره ، خبير بمن يصدّق ويكذّب به.

قوله تعالى : (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ) (٢) ؛ أي أحكم الله القرآن بالحجج لئلّا يطيعوا إلّا الله. وقيل : معناه : أمركم أن لا تعبدوا غيره

__________________

(١) في الدر المنثور : ج ٤ ص ٢٩٦ ؛ قال السيوطي : ((أخرجه النحاس في تاريخه وأبو الشيخ وابن مردويه من طرق عن ابن عباس رضي الله عنهما).

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٣٨٦٣).

٤١٥

إنّني لكم من الله معلّم بموضع المخافة لتحذروا ، وموضع الخير لتطلبوا ، ونذير بمعنى منذر ، كما في قوله (أَلِيمٌ) يعني مؤلم.

قوله : (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ؛) أي وأمركم أن تطلبوا المغفرة من ربكم ، واجعلوها غرضكم وتوصّلوا إليها بالتوبة وهي الندم على القبيح ، والعزم على ترك المعاودة إليه. وقيل : معناه : وأن استغفروا ربّكم بالتوبة عما سلف من ذنوبكم ، ثم توبوا إليه عمّا يقع منكم من الذنوب في المستقبل.

قوله تعالى : (يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) ؛ (يُمَتِّعْكُمْ) جزم على جواب الأمر ؛ أي إن فعلتم ذلك أنعم الله عليكم نعما سابغة حسانا تستبقون بها إلى آجالكم التي قدّرها الله لكم ، فلم يستأصلكم كما استأصل الأمم المكذّبة به قبلكم. قال القتيبيّ (١) : (أصل الإمتاع الإطالة) (٢) يقال : جبل ماتع ، وقد متع النهار إذا طال ، فمعنى يمتّعكم يعمّركم.

قوله تعالى : (وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ؛) أي من كان ذا فضل في دينه فضّله الله في الآخرة بالثواب على عمله. وقيل : يعطي كلّ ذي عمل صالح أجره وثوابه. وقال ابن عبّاس : (يعطي كلّ من فضلت حسناته على سيّئاته فضله ؛ يعني الجنّة وهي فضل الله ، يعني أنّ من زادت حسناته على سيّئاته دخل الجنّة). وعن ابن مسعود قال في هذه الآية : (من عمل حسنة كتبت له عشر حسنات ، ومن عمل سيّئة كتبت له سيّئة واحدة ، وإن لم يعاقب بتلك السّيّئة في الدّنيا أخذ من عشر حسناته واحدة وبقيت له تسع) ثمّ قال : (هلك من غلبت آحاده أعشاره) (٣).

قوله تعالى : (وَإِنْ تَوَلَّوْا ؛) أي إن أعرضوا عن الإيمان والتوبة ، (فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) (٣) ؛ أي عظيم الشّأن وهو يوم القيامة ، وإنما

__________________

(١) القتيبيّ : هو ابن قتيبة عبد الله بن مسلم ، توفي سنة (٢٧٦) من الهجرة.

(٢) في الجامع لأحكام القرآن : ج ٩ ص ٤ ؛ قال القرطبي : (وأصل الإمتاع الإطالة ، ومنه أمتع الله بك ومتّع). وينظر قول ابن قتيبة في غريب الحديث : ج ١ ص ٥٩٧.

(٣) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٣٨٧٢).

٤١٦

ذكر الخوف في هذا الموضع ؛ لأن الخطاب من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والخوف عليه جائز. قوله تعالى : (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٤) ؛ على إعادتكم.

قوله تعالى : (أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ ؛) قال ابن عبّاس : (نزلت هذه الآية في الأخنس بن شريق ، كان حين يجالس النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويظهر له أمرا حسنا ، وكان حسن المنظر ، وكان حسن الحديث ، إلّا أنّه كان يضمر في قلبه خلاف ما يظهر ، فأنزل الله في أمره هذه الآية) (١).

يقال : إنّ طائفة من المشركين بلغ بهم الجهل إلى أن قالوا : إنّا اذا أغلقنا أبوابنا ، وأرخينا ستورنا ، واستغشينا ثيابنا ، وثنينا صدورنا على عداوة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كيف يعلم بنا؟ فأنبأ الله نبيّه عليه‌السلام عمّا كتموه. ومعنى الآية : ألا إنّهم يثنون صدورهم على الكفر وعداوة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ ليكتموا منه ما في صدورهم من عداوته بإظهار المحبّة. ويقال : معنى (يَثْنُونَ) يعرضون بصدورهم عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قوله تعالى : (أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ ؛) معناه : ألا حين يتغطّون بثيابهم يعلم الله ما يسرّون بقلوبهم وفيما بينهم وما يظهرون من محبّة أو غيرها ، (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (٥) ؛ أي عالم بالقلوب التي في الصّدور ، لأن الصدور مواضع القلوب.

قوله تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها ؛) أي ما من حيوان يدبّ ، قال الزجّاج : (الدّابّة اسم لكلّ حيوان مميّز وغيره ، ذكرا كان أو أنثى).

وفي الآية بيان أن الله عالم بالقلوب كلّها ، وذلك أنه إذا كان ضامنا رزق كلّ دابة في الأرض ، فليس يرزقها إلّا وهو يعلم صغيرها وكبيرها ، من الذرّ فما فوقها وما دونها ، وإذا علمها فقد علم مستقرّها ومستودعها ، المستقرّ موضع قرارها وهو الموضع الذي تأوي إليه ، والمستودع هو الموضع الذي تودع فيه ، قيل : إنه الرّحم ، وقيل : هو الموضع الذي تدفن فيه.

__________________

(١) ينظر : معالم التنزيل للبغوي : تفسير الآية. والجامع لأحكام القرآن : ج ٩ ص ٥.

٤١٧

وقال قتادة ومجاهد : (أمّا مستقرّها ففي الرّحم ، وأمّا مستودعها ففي الصّلب) (كُلٌّ ؛) ذلك عند الله ، (فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (٦) ؛ يعني اللوح المحفوظ ، والمعنى : أن ذلك ثابت في علم الله.

قوله تعالى : (إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) قال المفسّرون : فضلا لا وجوبا ، والله تكفّل بذلك بفضله. قال أهل المعاني (على) ههنا بمعنى (من) ، المعنى : إلّا من الله رزقها. قوله تعالى : (كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ) أي رزق كلّ دابّة وأجلها مكتوب في اللوح.

قال ابن عبّاس : (إنّ ممّا خلق الله تعالى لوحا محفوظا من درّة بيضاء ، دفّتاه من ياقوتة حمراء ، عرضه ما بين السّماء والأرض ، كتابه نور وقلبه نور ، ينظر الله تعالى فيه كلّ يوم ثلاثمائة وستّين نظرة ، يخلق بكلّ نظرة ويحيي ويميت ويعزّ ويذلّ ويفعل ما يشاء) ، قال أبو روق : (أعلاه معقود بالعرش ، وأسفله في حجر ملك كريم يسمّى ماطوتون) (١).

قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ ؛) يعني قبل أن خلق السموات والأرض ، قال ابن عبّاس : (خلق الله السّموات والأرض في ستّة أيّام ، أوّلها يوم الأحد وآخرها يوم الجمعة ، ولو أراد سبحانه خلقها في أقلّ من لحظة لفعل).

قوله تعالى : (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) فيه بيان أنّ السموات والأرض ليستا بأوّل خلق ، وأنه تقدّمهما خلق شيء آخر ، وفيه بيان زيادة القدر ؛ لأن العرش مع كونه أعظم من السموات والأرض كان على الماء ، ولم يكن ذلك الماء على قرار ، ولكنّ الله عزوجل أمسكه بقدرته.

قوله تعالى : (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ؛) أي ليبلوكم فينظر أيّكم أحسن عملا ، فيثيب المطيع المعتبر بما يرى من آيات السموات والأرض ، ويعاقب أهل العناد.

__________________

(١) هكذا رسمها في المخطوط ، ولم أقف على النص في كتب التفسير.

٤١٨

قوله تعالى : (وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) (٧) ؛ معناه : ولئن قلت يا محمّد للكفار : إنّكم مبعوثون من بعد الموت ، ليقولنّ الذين كفروا : ما هذا إلا تمويه ليس له حقيقة ، وقد أقرّوا أنّ الله خالق السموات والأرض ، ويمسكها بغير عمد ، لا يعجزه شيء فكيف يشكّون في البعث بعد الموت.

قوله تعالى : (وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ ؛) معناه : ولئن أخرنا العذاب عن الكفار ، (إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ،) ليقولون : (ما يَحْبِسُهُ ،) ما منعناه ، قال ابن عبّاس ومجاهد : (يعني إلى أجل وحين) ، والأمّة ههنا المدة ، ليقولنّ ما يحبس هذا العذاب عنّا إن كان ما يقوله محمّد حقّا ، يقول الله تعالى : (أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ ؛) العذاب ، (لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ ؛) لا يقدر أحد على صرفه عنهم.

فالمعنى : أنّهم لمّا قالوا : ما يحبس العذاب عنّا على وجه الاستهزاء ، قال الله تعالى : (أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ) يعني إذا أخذتهم سيوف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه لم تغمد عنهم حتى تعلو كلمة الإخلاص. قوله تعالى : (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (٨) ؛ أي نزل بهم جزاء استهزائهم وهو العذاب.

قوله تعالى : (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ) لا يصبر على سلب تلك النعمة ، ويصير أيئس شيء أقنطه من رحمة الله ، قال ابن عبّاس : (نزلت في الوليد بن المغيرة) ، وقيل : في عبد الله بن أبي أميّة المخزوميّ (١). والرحمة ههنا الرّزق ، وقوله : (كَفُورٌ) (٩) ؛ أي لا يشكر نعم الله قبل أن تسلب عنه ، ولا يصبر بعد أن سلبت.

قوله تعالى : (وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي ؛) أي ولئن أذقنا الكافر النّعم الظاهرة بعد المضرّة الظاهرة التي أصابته ، ليقولنّ الكافر : ذهب الشدائد والضرّ والفاقة والآلام عنّي ، ويفرح بذلك ويبطر ويفجر به على الناس من دون أن يشكر الله على كشف الشدائد عنه.

__________________

(١) ذكره القرطبي في الجامع لأحكام القرآن : ج ٩ ص ١٠ ـ ١١.

٤١٩

قوله تعالى : (إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ) (١٠) ؛ أي بطر مفاخر أوليائي بما وسّعت عليه. وإنما نصب اللام في قوله (لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ) لأنه في موضع الوحدان ، وقوله : (لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ) بضمّ اللام في موضع لفظ الجماعة ، وقوله تعالى : (لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا)(١) بنصب اللام أيضا ؛ لأن الفعل مقدّم على الاسم فذكر بلفظ الوحدان.

قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) (١١) ؛ استثناء ليس من الأوّل ، معناه : لكن الذين صبروا على الشدائد ، وعملوا الصالحات فيما بينهم وبين ربهم أولئك لهم مغفرة لذنوبهم وثواب عظيم على طاعتهم وصبرهم.

قوله تعالى : (فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ ؛) سبب نزول هذه الآية : أنّ المشركين كانوا يقولون للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو تركت سبّنا وسبّ آلهتنا جالسناك ، وكانوا يؤذونه ويقولون : لو لا أنزل على محمّد كنز من السّماء فيعش به وينفعه ، أو جاء معه ملك يشهد له ويعينه على الرسالة.

وقيل : إن المشركين قالوا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو أتيتنا بكتاب ليس فيه سبّ آلهتنا حتى نؤمن بك ونتّبعك ، وقال بعض المتكبرين : هلّا ينزل عليك يا محمّد ملك يشهد لك بالصدق ، أو تعطى كنزا تستغني أنت وأتباعك؟ فهمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يدع سبّ آلهتهم فأنزل الله هذه الآية. ولا يجوز أن تكون كلمة (لعلّ) في أول هذه الآية على جهة الشّكّ ، وإنما الغرض تثبيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ما أمر به ؛ كيلا يلتفت على قولهم ، وكي لا ييأسوا عن ترك أداء الرسالة.

فلما قالوا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (لو لا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك). يقول الله للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ ؛) أي عليك أن تنذرهم وتخوّفهم وتأتيهم بما يوحى إليك

__________________

(١) الروم / ٥٨.

٤٢٠