التفسير الكبير - ج ٣

سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني

التفسير الكبير - ج ٣

المؤلف:

سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني


المحقق: هشام البدراني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب الثقافي ـ الأردن / إربد
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-9957-02-1

الصفحات: ٥١٦

يقرأ هذه الآية ، فقال : كلام من هذا؟ فقال : [كلام الله تعالى] وقال : بيع واثق مربح لا نقيله ولا نستقيله ، فخرج إلى العدوّ فاستشهد). وأنشد الأصمعيّ لجعفر رضي الله عنه :

أثامن بالنّفس النّفيسة ربّها

وليس لها في الخلق كلّهم ثمن

بها تشترى الجنّات إن أنا بعتها

بشيء سواها إنّ ذلكم غبن

لئن ذهبت نفسي بدنيا أصبتها

لقد ذهبت نفسي وقد ذهب الثّمن

وكان جعفر الصادق يقول : (أيا من ليست لهم عنه إنّه ليس لأبدانكم بثمن إلّا الجنّة ، فلا تبيعوها إلّا بها). وأنشد أبو علي الكوفي :

من يشتري قبّة في عدن عالية

في ظلّ طوبى رفيعات مبانيها

دلّالها المصطفى والله بائعها

ممّن أراد وجبريل مناديها

قوله تعالى : (وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (١١١) ؛ أي النجاة العظيمة والثواب الوافر ؛ لأنّها نيل الجنّة الباقية بالنفس الفانية.

وقوله تعالى : (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ ؛) في الآية قولان : أحدهما : أن قوله (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ) رفع بالابتداء ، كأنه قال : التائبون العابدون ... إلى آخر الآية لهم الجنة أيضا ؛ أي من قعد عن الجهاد غير مؤازر ولا قاصد تركه ، وهو على هذه الصّفة في هذه الآية فله الجنّة.

والقول الثاني : أنّ قوله (التَّائِبُونَ) يدلّ على المقاتلين ، كأنه قال : المقاتلون التائبون العابدون ، ويجوز أن يكون قوله : (التَّائِبُونَ) رفعا على المدح ، أي هم التائبون من الشّرك والذّنوب ، المطيعون لله (الْحامِدُونَ) الذين يحمدون الله تعالى على كلّ حال ، (السَّائِحُونَ) الصّائمون (١).

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان عن أبي هريرة : الحديث (١٣٣٤٩ و ١٣٣٤٠) ، و (١٣٤٤٣) عن ابن عباس بأسانيد. وابن أبي حاتم في التفسير : الحديث (١٠٠٢٨).

٣٦١

كما روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : [سياحة أمّتي الصّوم](١) وإنما سمي الصّائم سائحا تشبيها بالسائح في الأرض ؛ لأن السائح ممنوع من الشّهوات ، فكذلك الصائم.

قال الحسن : (أراد بالسّائحين صوّامي شهر رمضان) (٢) ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [السّائحون الصّائمون](٣). وسئل سعيد بن جبير عن السائحين فقال : (هم الصّائمون) (٤) ، وقال الشاعر :

برّا يصلّي ليله ونهاره

يظلّ كثير الذّكر لله سائحا

أي صائما.

وقال الحسن أيضا : (السّائحون الّذين يصومون عن الحلال وأمسكوا عن الحرام ، وههنا والله أقوام رأيناهم يصومون عن الحلال ، ولا يمسكون عن الحرام ، والله ساخط عليهم) ، وقال عطاء : (السّائحون هم الغزاة والمجاهدون) (٥). وسئل عكرمة عن قوله تعالى : (السَّائِحُونَ) فقال : (طلبة العلم).

قوله تعالى : (الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ) أي الذين يؤدّون ما فرض الله عليهم من الرّكوع والسجود المفروضة ، وقوله تعالى : (الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) أي الآمرون بالإيمان والنّاهون عن الشّرك. وقيل : معناه : الآمرون بكلّ معروف ، والناهون عن كلّ منكر.

وإنما ذكر الناهون بالواو وبخلاف ما سبق ؛ لأن النهي عن المنكر لا يكاد يذكر إلا وهو مقرون بالأمر بالمعروف ، فدخل الواو ليدلّ على المقارنة. والمعروف : هو السّنة ، والمنكر : هو البدعة.

__________________

(١) في الأصل المخطوط يكرر الناسخ صفحة سابقة من التفسير ، ولا يشير إلى تكرارها سهوا منه ، وهي من قوله : (واستأذنوه أن يبنوا مسجدا لذي العلة ... وحرقوها وخرجوا سراعا).

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٣٤٤٩).

(٣) أخرجه الطبري في جامع البيان : الحديث (١٣٤٣٩ ـ ١٣٤٤٠).

(٤) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٣٤٤٤).

(٥) ينظر : الجامع لأحكام القرآن : ج ٨ ص ٢٧٠.

٣٦٢

قوله تعالى : (وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ ؛) عطف على ما تقدّم. وقيل : المراد بهم جميع المذكورين من أوّل الآية إلى هذا الموضع ، وهذه الصّفة من أتمّ ما يكون من المبالغة في وصف العباد بطاعته لله ، والقيام بأوامره والانتهاء عن زواجره ؛ لأن الله تعالى بيّن حدوده في الأمر والنهي وفي ما ندب إليه فرغّب فيه أو خيّر فيه ، وبيّن ما هو الأولى في مجرى طاعة الله تعالى ، فإذا قام العبد بفرائض الله وانتهى إلى ما أراد الله منه كان من الحافظين لحدود الله ، كما روي عن خلف بن أيّوب : أنّه أمر امرأته أن تمسك إرضاع ولده في بعض اللّيل وقال : قد تمّت له سنتان ، قيل له : لو تركتها حتّى ترضعه هذه اللّيلة ، قال : فأين قوله تعالى : (وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ.) قوله تعالى : (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (١١٢) ؛ أي بشّرهم بالجنة.

قوله تعالى : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى ؛) قال ابن عبّاس : (وذلك أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سأل عن أبويه أيّهما أحدث عهدا به؟ فقيل : أمّك ، فقال : [هل تعلمون موضع قبرها؟ لعلّي آتيه فأستغفر لها ، فإنّ إبراهيم عليه‌السلام استغفر لأبويه وهما مشركان] فقال المسلمون : ونحن أيضا نستغفر لآبائنا وأهلينا. فانطلق صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتّى أتى القبر ، فإذا هو بجبريل عليه‌السلام عند القبر ، فوضع يده في صدر النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقرأ عليه هذه الآية) (١).

قال أبو هريرة رضي الله عنه : قال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [استأذنت ربي أن أستغفر لوالديّ فلم يأذن لي ، واستأذنت أن أزور قبرهما فأذن لي](٢). ومعنى الآية : ما ينبغي وما يجوز للنبيّ والذين آمنوا أن يطلبوا المغفرة للمشركين ، ولو دعتهم رقّة القرابة إلى الاستغفار لهم ، (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) (١١٣) ؛ أي من بعد ما ظهر لهم أنّهم أصحاب النار بأنّهم ماتوا على الكفر.

__________________

(١) في الدر المنثور : ج ٤ ص ٣٠٢ ؛ قال السيوطي : ((أخرجه الطبراني وابن مردويه من طريق عكرمة عن ابن عباس)).

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : الحديث (١٤٣٧٢). ومسلم في الصحيح : كتاب الجنائز : باب استئذان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الحديث (١٠٨ / ٩٧٦).

٣٦٣

قوله تعالى : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ ؛) أي ما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها أبوه له أن يسلم ، (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ ؛) لإبراهيم ، (أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ ؛) بأن لم يؤمن حتى مات على الكفر ، (تَبَرَّأَ مِنْهُ ؛) أي من أبيه ومن دينه.

ويقال : إنما هذه الموعدة إنما كانت من ابراهيم لأبيه ، فإنه كان قال لأستغفرنّ لك ما دمت حيا ، ولم يكن الله تعالى أعلم إبراهيم أنه لا يغفر للمشركين ، يدلّ عليه قراءة الحسن (إلّا من موعدة وعدها إيّاه) (١).

قوله تعالى : (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (١١٤) ؛ الأوّاه : التّوّاب. قال ابن مسعود (هو الدّعّاء) (٢) ، وقال الحسن وقتادة : (هو الرّحيم الرّفيق) ، ويقال : هو المؤمن بلغة الحبشة ، إلا من قال إنه لا يجوز أن يكون في القرآن شيء غير عربيّ ، قال : هذا موافق من العربية بلغة الحبشة. وقيل : الأوّاه الفقيه ، وقال كعب : (هو الّذي إذا ذكرت عنده النّار قال : آه) (٣) ، وقيل : هو المتأوّه شفقا وفرقا ، المتضرّع نفسا ولزوما للطاعة ، وأما الحليم فهو الذي لا يعجّل بعقوبة الجاهل.

قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ ؛) قال ابن عبّاس : (وذلك أنّ الله تعالى لمّا أنزل الفرائض وعمل بها النّاس ، ثمّ أنزل بعد ذلك ما نسخها وقد مات ناس وهم يعملون بالأمر الأوّل مثل الصّلاة إلى بيت المقدس وشرب الخمر ونحو ذلك ، ومات بعض المؤمنين وهم على القبلة الأولى ، فذكر المؤمنون ذلك للنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأنزل هذه الآية) (٤).

__________________

(١) (أباه) بالباء الموحدة ، ينظر : اللباب في علوم الكتاب : ج ١٠ ص ٢٢٢.

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٣٤٩٤).

(٣) أخرجه الطبري في جامع البيان : النص (١٣٥١٥).

(٤) في معالم التنزيل : ص ٥٨٦ ؛ نقله البغوي عن مقاتل والكلبي. وينظر : تفسير مقاتل بن سليمان : ج ١ ص ٧٤.

٣٦٤

ومعناها : وما كان الله ليضلّ عمل قوم وينزل قوما منزلة الضّلال بعد إذ هداهم للإيمان حتى يبيّن لهم ما يتّقون من المعاصي ، ويقال : حتى يبيّن الناسخ من المنسوخ ، (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ ؛) من النّاسخ والمنسوخ ، وبكل ما فيه مصلحة الخلق ، (عَلِيمٌ) (١١٥).

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ ؛) وذلك أنّ الله لمّا أمر المسلمين بقتال المشركين كافّة ، وكان في المشركين ملوك لا يطمع المسلمون بهم لشوكتهم وعزّهم ، أخبر الله تعالى أن لله ملك السّموات والأرض ، يحيي من يشاء ويميت من يشاء ، (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ ؛) يواليكم ، (وَلا نَصِيرٍ ؛) (١١٦) ينصركم.

قوله تعالى : (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ ؛) معناه : وقد تجاوز الله من تولّى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذنه للمنافقين بالتخلّف ، كما قال الله تعالى : (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ ،) وتجاوز عن ذنوب المهاجرين والأنصار.

وقيل : أراد بذلك قوما منهم تخلّفوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم خرجوا فأدركوه في الطريق. وقوله تعالى : (الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ) صفة مدح لأصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم باتّباعهم إياه في وقت الشّدة في غزوة تبوك ، وكانت بهم العسرة في النفقة والرّكوب والحرّ والخوف ، وكانت الدابة الواحدة بين جماعة يتعقّبون عليها ، وكانت التمرة تشقّ بالنّصف فيأكلها الرجلان كل واحد نصفها ، وربما كانت جماعة يمصّون تمرة واحدة ، ويشربون عليها ، وربما كانوا ينحرون الإبل فيشربون من ماء كروشها في الحرّ.

قوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ؛) أي من بعد ما كاد تميل قلوب طائفة منهم عن الخروج والجهاد ، ويقال من بعد ما كادوا يرجعون عن غزوتهم من الشدّة.

قوله تعالى : (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (١١٧) ؛ أي ثم خفّف عنهم ما أخلفهم عن الحرب حتى كادوا يعقلون عن أنفسهم ، وهذا كقوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ ...) إلى أن قال : (عَلِمَ أَنْ

٣٦٥

لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ)(١) أي خفّف عنكم ، وكقوله : (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ)(٢) أي خفّف عنكم.

قوله تعالى : (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا ؛) أي تاب على الثلاثة ، وهم كعب بن مالك ، ومرارة بن الربيع ، وهلال بن أميّة الذين خلّفوا عن قبول توبتهم ، (حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ؛) منع سعتها بامتناع الناس من مكالمتهم ، (وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ ؛) أي قلوبهم حين كتب قيصر إلى كعب ابن مالك : بلغني أنّ صاحبك قد جفاك ، فالحق بنا فإنّ لك عندنا منزل وكرامة ، فقال كعب : (من خطيئتي أن يطمع فيّ رجل من أهل الكفر) (٣).

قوله تعالى : (وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ ؛) أي علموا وأيقنوا ألّا مفرّ من عذاب الله إلا إليه بالتوبة ، وقوله تعالى : (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ ؛) أي قبل توبتهم ، (لِيَتُوبُوا ؛) أي ليرجعوا عن مثل صنيعهم. ويقال : ليتوب الناس من بعدهم ، (إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ ؛) أي المتجاوز عن ذنوب المؤمنين ، (الرَّحِيمُ) (١١٨) ؛ بعباده التّائبين.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (١١٩) أي يا أيّها الذين آمنوا اخشوا الله ولا تعصوه ، وكونوا مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومع الذين صدقت نيّاتهم ، واستقامت قلوبهم وأعمالهم في الشدّة والرّخاء.

قوله تعالى : (ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ ؛) أي ما جاز لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلّفوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الجهاد ، وهذا نهي ورد بلفظ النّفي ، (وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ؛) أي لا ينبغي أن يكونوا بأنفسهم آثر وأشفق عن نفس محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بل عليهم أن يجعلوا أنفسهم وقاية للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أوجب له من الحقوق عليهم بدعائه لهم إلى الإيمان حتى اهتدوا به ونجوا من النار.

__________________

(١) المزمل / ٢٠.

(٢) البقرة / ١٨٧.

(٣) تقدم عزوه إلى صحيح مسلم. وأخرجه الطبري من حديث طويل أيضا : الرقم (١٣٥٣٨).

٣٦٦

قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ ؛) أي ذلك الزجر بأنّهم في التخلّف عن الجهاد ، لا يصيبهم عطش ولا تعب في أبدانهم ، ولا شدّة مجاعة في طاعة الله ، ولا يجاوزون مكانا فيظهرون فيه من سهل أو جبل مجاوزتهم ذلك المكان ، فإنّ الإنسان يغيظه أن يطأ أرضه غيره.

قوله تعالى : (وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (١٢٠) ؛ أي لا يبطل ثواب من أحسن عملا من جهاد وغيره.

قوله تعالى : (وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً ؛) أي لا ينفقون في الجهاد نفقة صغرت أو كبرت ، (وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً ؛) من الأودية في طلب الكفّار ، (إِلَّا كُتِبَ ؛) ذلك ، (لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ؛) من أعمالهم التي ، (ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٢١) ؛ في الدّنيا.

قوله تعالى : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ؛) قال ابن عبّاس : (لمّا نزلت هذه الآية المتقدّمة وما فيها من العيوب وبيان نفاقهم ، قال المؤمنون : والله لا نتخلّف عن غزوة يغزوها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا سريّة أبدا ، فلمّا أمر النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد ذلك بالسّرايا إلى الغزو ، ونفر المؤمنون جميعا وتركوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة ، أنزل الله تعالى في ذلك هذه الآية).

ومعناها : أنه ليس للمؤمنين أن ينفروا كافّة ويخلفوا رسول الله وحده ليس عنده أحد من المسلمين يتعلّم منه الحلال والحرام والشرائع والأحكام ، (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ؛) أي فهلّا خرج من كلّ جماعة طائفة إلى الجهاد ، وتبقى طائفة مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ ليسمع الذين تخلّفوا عند النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم الوحي ، إذا رجعت السّرايا علّموهم ما علموا فيستوون جميعا في العلم في معرفة الناسخ والمنسوخ.

قوله تعالى : (وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (١٢٢) ؛ أي لينذر الذين تخلّفوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قومهم الذين نفروا إذا رجعوا إليهم من

٣٦٧

غزاتهم ، ويخبروهم بما نزل بعدهم من القرآن ، لكي يحذروا كلّهم فلا يعملون شيئا بخلاف ما أنزل الله عزوجل.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً ؛) أي قاتلوا الأدنى فالأدنى من عدوّكم مثل بني قريظة والنضير وخيبر ؛ أي ابدأوا بمن حولكم ، ثم قاتلوا سائر الكفّار ، لأن الاشتغال بقتال من بعدهم من المشركين مع ترك قتال من قرب لا يؤمن معه هجوم من قرب على ذراري المسلمين ونسائهم وبلادهم إذا خلت من المجاهدين ، قوله تعالى : (وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) أي ليكن منكم قول غليظ وشدّة عليهم في الوعد ؛ كيلا يطمع فيكم أحد من أهل الكفر ، (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (١٢٣) ؛ في النصر على عدوّهم.

قوله تعالى : (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً ؛) معناه : إذا ما أنزلت سورة من القرآن ، فمن المنافقين من يقول : أيّكم زادته هذه السّورة إيمانا؟! إنّما كان بعضهم يقول لبعض على جهة الهزء. ويقال : كانوا يقولون للمستضعفين من المسلمين : أيّكم زادته هذه الآية يقينا وبصيرة؟ يقول الله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً ؛) وهم المخلصون من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم زادتهم تصديقا مع تصديقهم ، (وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) (١٢٤) ؛ أي يفرحون بكلّ ما ينزل من القرآن.

قوله تعالى : (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ ؛) معناه : وأما الذين في قلوبهم شكّ ونفاق فزادتهم السورة شكّا إلى شكّهم وكفرا إلى كفرهم ، لأنّهم كلما كفروا بسورة ازدادوا كفرا ، والمؤمنون كلّما صدّقوا بسورة ازدادوا تصديقا. قوله تعالى : (وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ) (١٢٥) ؛ إذ هم لشكّهم فيما أنزله الله من السورة إلى أن ماتوا على الكفر.

وإنما سمّى الله النفاق مرضا ؛ لأن الحيرة في القلب مرض في القلب ، كما أن الوجع في البدن مرض في البدن.

قوله تعالى : (أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ) (١٢٦) ؛ معناه : أولا يرى المنافقون أنّهم

٣٦٨

يخسرون بالدّعاء إلى الجهاد في كلّ عام مرّة أو مرّتين ، ويقال : يهلكون بهتك أسرارهم ، ثم يظهر الله من سوء نيّاتهم وخبث سرائرهم (١). ويقال : كانوا ينقضون عهدهم في السّنة مرة أو مرتين فيعاقبون ، ثم لا يتوبون عن نفاقهم ولا يذكرون بما صنع الله بهم بنقضهم العهد. وقرأ حمزة ويعقوب : (أولا ترون) بالتاء خطابا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين.

قوله تعالى : (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ ؛) إذا نزلت سورة فيها عيب المنافقين فخاطبهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعرّض لهم في خطبته ، نظر بعض المنافقين إلى بعض ، (هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ،) من المخلصين إذا هو قائم فخرج من المسجد ، فإذا كان لا يراه أحد خرج من المسجد وانصرف ، وإن علموا أنّ أحدا يراهم قاموا وثبتوا مكانهم حتى يفرغ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من خطبته.

قوله تعالى : (ثُمَّ انْصَرَفُوا ؛) أي انصرفوا عن الإيمان والعمل بترك ما يستمعون ، ويقال : انصرفوا عن المكان الذي سمعوا فيه ، (صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ ؛) باللطف الذي يحدثه للمؤمنين. قوله تعالى : (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) (١٢٧) ؛ أي ذلك الصرف بأنّهم قوم لا يفقهون ما يريد الله بخطابه.

قوله تعالى : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ ؛) هذا خطاب لأهل مكّة ، والمعنى : لقد جاءكم رسول من أهل نسبكم ولسانكم ، شريف النّسب تعرفونه وتفهمون كلامه. وإنما قال ذلك ؛ لأنه أقرب إلى الألفة. وقيل : إن هذا خطاب لجميع الناس ، معناه : جاءكم آدميّ مثلكم ، وهذا أوكد للحجّة عليكم ؛ لأنّكم تفهمون عن من هو من جنسكم.

وقرأ ابن عبّاس والزهري (من أنفسكم) بفتح الفاء ؛ أي من أشرفكم وأفضلكم ، من قولك : شيء ذو نفس (٢) ، وقال : كان من أعلاكم نسبا ، قوله تعالى : (عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ) أي شديد عليه عنتكم وإثمكم ، العنت : الضيّق والمشقّة.

__________________

(١) في المخطوط : (شرارهم).

(٢) ينظر : اللباب في علوم الكتاب : ج ١٠ ص ٢٤٧.

٣٦٩

قوله تعالى : (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ ؛) أي حريص على إيمانكم وهداكم أن تؤمنوا فتنجوا من العذاب وتفوزوا بالجنّة والثواب ، والحرص : شدّة الطّلب للشيء مع الاجتهاد فيه. قوله تعالى : (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (١٢٨) ؛ كلام مستأنف ؛ أي وهو شديد الرحمة لجميع المؤمنين ، رفيق لمن اتّبعه على دينه.

قوله تعالى : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) (١٢٩) ؛ أي فإن أعرضوا عنك وعن الإيمان بك ، فقل الله تعالى حسبي لا إله إلّا هو ؛ أي لا ناصر ولا معين غيره ، (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) أي به ثقتي ، وإليه فوّضت أمري.

قوله تعالى : (رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) أي خالق السّرير العظيم الذي هو أعظم من السّموات والأرض ، وإنّما خصّ العرش بذلك ؛ لأنه إذا كان ربّ العرش العظيم مع عظمته ، كان ربّ ما دونه في العظم. وقيل : إنما خصّ العرش ؛ تشريفا للعرش وتعظيما لشأنه. وقرئ في الشواذ (العظيم) بالرفع على نعت الرب (١).

آخر تفسير سورة (براءة) والحمد لله رب العالمين.

__________________

(١) في جامع البيان : الحديث (١٣٥٨٧) بأسانيد ؛ أخرج الطبري بسنده عن أبي بن كعب ؛ قال :

(آخر آية نزلت من القرآن : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ ...) إلى آخر الآية ، فقال : أحدث القرآن عهدا بالله الآيتان (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ...) إلى آخر السورة).

٣٧٠

سورة يونس

سورة يونس مكّيّة (١) ، وهي مائة وتسع آيات ، وسبعة آلاف وخمسمائة وسبعة وستّون حرفا ، وألف وثمانمائة واثنان وثلاثون كلمة. وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : [من قرأ سورة يونس أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق بيونس وكذب به ، وبعدد من غرق مع فرعون].

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر ،) قال ابن عباس : (معناه : أنا الله أرى) وعنه : (أنّه من حروف الرّحمن). وقيل : أنا الربّ لا ربّ غيره. وقوله تعالى : (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) (١) ؛ أي هذه آيات الكتاب ، وإنّما أضاف السورة إلى القرآن ؛ لأنّها بعض الكتاب ، كما تضاف السورة لأنّها بعضه.

وأما وصف القرآن بأنه حكيم ؛ فلأنّ القرآن كالناطق بالحكمة بما فيه بين التمييز بين الحقّ والباطل. ويقال : معنى الحكيم المحكم بالحلال والحرام والأمر والنهي ، يقال : أحكمت الشيء فهو محكم وحكيم ، كما يقال : أكرمت الرجل فهو مكرم وكريم.

قوله تعالى : (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ) معناه : أعجبت قريش أن أوحينا إلى رجل مثلهم من أهل نسبهم أن خوّف الناس بالعذاب ، (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ ؛) وذلك أنّ الكفار

__________________

(١) في الجامع لأحكام القرآن : ج ٨ ص ٣٠٤ ؛ قال القرطبي : ((مكيّة في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. وقال ابن عباس : إلّا ثلاث آيات من قوله تعالى : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ ...) إلى آخرهنّ)). وقال مقاتل : ((غير آيتين ، وهما قوله تعالى : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ ...) إلى قوله : (فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ))). ينظر : تفسيره : ج ١ ص ٨٠.

٣٧١

كانوا يقولون : لم يجد الله رسولا يبعثه إلينا إلّا يتيم أبي طالب. ويقال : كانوا يعجبون من البعث بعد الموت.

قوله تعالى : (قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي أعمالهم الصالحة التي قدّموها لأنفسهم سلف خير عند ربهم يستوجبون بها المنزلة الرفيعة في آخرتهم عند ربهم ، وعن ابن عبّاس أنه قال : (قدم صدق : شفاعة بينهم لهم هو إمامهم إلى الجنّة وهم بالأثر).

قوله تعالى : (قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ) (٢) ؛ أي قال كفّار مكة : إنّ هذا القرآن لسحر مبين ، وقرأ أهل الكوفة وابن كثير (لساحر) بالألف يعنون محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ؛) ولو شاء لخلقها في أقلّ من لحظة ، ولكنّه خلقها للترتيب ؛ ليكون حدوث شيء بعد شيء على الترتيب أبلغ للملائكة في التفكّر بها من حدوثها كلّها في حالة واحدة ، وقد تقدّم تفسير الاستواء ، ودخلت (ثمّ) على الاستواء وهي في المعنى داخلة على الترتيب ، كأنّه قال : ثمّ يدبر الأمر وهو مستو على العرش ، فإنّ تدبير الأمور كلها ينزل من عند العرش ، ولهذا ترفع الأيدي في قضاء الحوائج نحو العرش. والاستواء : الاستيلاء ، ولم يزل الله سبحانه مستوليا على الأشياء كلّها ، إلا أن تخصيص العرش لتعظيم شأنه.

قوله تعالى : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ؛) أي يقضي القضاء إلى الملائكة من رسله ولا يشركه في تدبير أحد من خلقه. وعن عمرو بن مرّة «عن عبد الرحمن بن سابط» (١) قال : [يدبر أمر الدّنيا بأمر الله أربعة : جبريل وميكائيل وملك الموت وإسرافيل. أمّا جبريل فعلى الرّياح والجنود ، وأمّا ميكائيل فعلى القطر والنّبات ، وأمّا ملك الموت فوكّل بقبض الأرواح ، وأمّا إسرافيل فهو ينزل عليهم بما يؤمرون به](٢).

__________________

(١) سقط من المخطوط ، وصححناه من شعب الإيمان للبيهقي.

(٢) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان : باب في الإيمان بالملائكة : الحديث (١٥٨).

٣٧٢

قوله تعالى : (ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) جواب قول الكفّار أنّ الأصنام شفعاؤنا عند الله ، فبيّن الله تعالى ما من ملك مقرّب ، ولا نبيّ مرسل يشفع لأحد إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى ، فكيف تشفع الأصنام التي ليس لها عقل وتمييز.

قوله تعالى : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ ؛) أي الذي يفعل ما هو المذكور في هذه الآية من خلق السّموات والأرض وتدبير الخلق هو الله خالقكم ورازقكم ، (فَاعْبُدُوهُ ؛) ولا تعبدوا الأصنام فإنّها لا تستحقّ العبادة ، وقوله تعالى : (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (٣) ؛ أي هل تتّعظون بالقرآن.

قوله تعالى : (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقًّا ؛) أي إلى الله سبحانه رجوعكم جميعا ، وانتصب قوله : (جَمِيعاً) على الحال ، وقوله : (وَعْدَ اللهِ) نصب على المصدر ؛ أي وعد الله وعدا ، والمعنى وعد الله البعث بعد الموت وعدا حقّا كائنا لا شكّ فيه.

قوله تعالى : (إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ؛) أي يخلقكم في بطون أمّهاتكم نطفا ، ثم علقا ثم مضغة ثم عظاما ، ثم يخرجكم نسما للتّمام ، ثم يميتكم عند انقضاء آجالكم ثم يبعثكم بعد الموت ، وفي هذا بيان أن خلق الشيء على الترتيب حال بعد حال أدلّ على الترتيب من خلقه جملة واحدة في ساعة واحدة.

قوله تعالى : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ ؛) فيه بيان أن البعث للجزاء ؛ لنجزيهم بالعدل لئلّا ننقص من ثواب محسن ، ولا نزيد على عقاب مسيء ، بل يجازي كلّا على قدر عمله كما قال (جزاء وفاقا) (١). قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ ؛) أي من ماء حارّ قد انتهى حرّه ، (وَعَذابٌ أَلِيمٌ ؛) وجيع يخلص وجعه إلى قلوبهم ، (بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) (٤) ؛ بالكتب والرسل.

__________________

(١) النبأ / ٢٦.

٣٧٣

قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ؛) أي هو الذي جعل الشمس ضياء للعالمين بالنهار ، والقمر نورا بالليل.

روي في الخبر : أنّ وجوههما إلى العرش وظهورهما إلى الأرض ، يضيء وجوههما لأهل السموات السّبع ، وظهورهما لأهل الأرضين السبع ، كما قال (وجعل القمر فيهنّ نورا وجعل الشّمس سراجا) (١).

قوله تعالى : (وَقَدَّرَهُ) أي قدّر القمر منازل وهي ثمان وعشرون منزلة في كلّ شهر. وقيل معناه : (وقدّره منازل) لا يجاوزوها ولا يقصروها ، وقيل : جعل (قدّر) لهما يعدى إلى مفعولين ، ويجوز أن يكون المعنى وقدّرهما ، إلا أنه حذف التثنية للاختصار والإيجاز ، كما قال تعالى : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ)(٢).

قوله تعالى : (ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ ؛) أي ما خلق الله الشمس والقمر ، إلا لتعلموا الحساب وتعتبروا بهما ، وتستدلّوا بطلوعها وغروبها على صانعهما.

وقوله : (لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) أي لتعلموا بالشمس حساب السنين وحساب الشّهور والليالي والأيام على ما تقدّم أن القمر يقطع في الشهر ما تقطعه الشمس في السّنة ، ويعني بقوله : (وَالْحِسابَ) حساب الأشهر والأيام والساعات ، وقوله تعالى : (ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ) ردّه إلى الفعل والخلق والتدبير ، ولو أراد الأعيان المذكورة لقال : تلك إلا بالحقّ ، ثم يخلقه باطلا ، بل إظهار الصّنعة ، ودلالته على قدرته وحكمته.

__________________

(١) نوح / ١٦.

(٢) التوبة / ٦٢. في معاني القرآن : ج ١ ص ٤٥٨ ؛ قال الفراء : (ولم يقل : وقدّرهما. فإن شئت جعلت تقدير المنازل للقمر خاصة ؛ لأن به تعلم الشهور. وإن شئت جعلت التقدير لهما جميعا ، فاكتفى بذكر أحدهما من صاحبه).

٣٧٤

قوله تعالى : (يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (٥) ؛ أي نبيّن علامات وحدانيّة الله تعالى بأنه بعد آية (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) تفصيل الآيات. قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص (يفصّل) بالياء ، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم لقوله قبله (ما خلق) فيكون متّبعا له ، وقرأ الباقون بالنّون على التعظيم.

قوله تعالى : (إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) (٦) ؛ معناه : إنّ في اختلاف ألوان الليل والنهار وتقلّبها بذهاب الليل وجيئة النهار ، وذهاب النهار وجيئة الليل ، وفيما خلق الله في السّموات من الشمس والقمر والنجوم والسّحاب والرياح ، والأرض من الجبال والشجر والبحار والأنهار والدواب والنبات ، لعلامات لقوم يتّقون الله ويخشون عقوبته.

فلم يؤمنوا بهذه الآيات ولم يصدّقوا ، فأنزل الله عزوجل :

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ) (٧) ؛ معناه : إن الذين لا يخشون عقاب الله ، وتنعّموا بالحياة الدّنيا ، فلا يعملون إلا بها ولا يرجون إلى ما ورائها (واطمأنّوا بها) أي سكنوا إليها وآثروها على عمل الآخرة ، والذين هم عن دلائل توحيدنا غافلون تاركون لها مكذّبون بها.

قوله تعالى : (أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ ؛) أي أهل هذه الصّفة مصيرهم إلى النار ، (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٨) ؛ يعملون في دار الدّنيا. وقد يذكر الرجاء بمعنى الخوف كما قال الله (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً)(١) أي لا تخافون لله عظمة ، ويجوز أن يكون المعنى : لا يرجون لقاءنا ؛ أي لا يرجون جزاءنا ، فجعل لقاء جزائه بمنزلة لقائه.

__________________

(١) نوح / ١٣.

٣٧٥

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ ؛) أي إن الذين صدّقوا بمحمّد والقرآن وعملوا الصالحات يرشدهم ربّهم على الصّراط إلى الجنّة بنور إيمانهم. وقيل : يرشدهم إلى منازلهم في الجنة. وقيل : يثبتهم على الإيمان.

وقوله تعالى : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) (٩) ؛ أي تجري الأنهار بين أيديهم وهم في الغرف يتطلّعون عليها كما قال عزوجل حاكيا عن فرعون (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي)(١). ويجوز أن يكون معناه : تجري من تحت شجرهم وبساتينهم في جنات تنعمون فيها.

قوله تعالى : (دَعْواهُمْ فِيها ؛) أي قولهم ودعاؤهم في الجنّة : (سُبْحانَكَ اللهُمَّ ،) فإذا سمع الخدّام ذلك من قولهم أتوهم بما يشتهون ، قال ابن جريج : (يمرّ الطّير على الرّجل من أهل الجنّة فيشتهيه ، فيسبح الله تعالى ، فيقع بين يديه فيأكل منه ما شاء ، فإذا فرغ قال : الحمد لله) (٢). ويقال معنى قوله : (دَعْواهُمْ فِيها) أي مفتتح كلامهم التسبيح ، ومختتم كلامهم التحميد ، لا أن يكون الحمد آخر كلامهم حتى لا يتكلمون بعده بشيء.

قال طلحة بن عبد الله : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قول : سبحان الله ، فقال : [هو تنزيه لله من كلّ سوء](٣). وسئل عليّ رضي الله عنه عن ذلك فقال : (كلمة رضيها الله لنفسه) (٤). وقال الحسن : (بلغني أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال حين قرأ هذه الآية : [إنّ أهل الجنّة يلهمون الحمد والتّسبيح ، كما تلهمون أنفسكم].

قوله تعالى : (وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (١٠) ؛ أي يحيي بعضهم بعضا بالسلام ، وتحييهم الملائكة بالسلام ،

__________________

(١) الزخرف / ٥١.

(٢) بمعناه أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٣٦١٨).

(٣) أخرجه الطبري في جامع البيان : الرقم (١٣٦٢٤) بسند ضعيف.

(٤) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٣٦٢٣).

٣٧٦

وتأتيهم الملائكة من عند ربهم بالسلام ، كما في قوله تعالى : (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ)(١) قرأ بلال بن أبي بردة وابن محيصن (إنّ الحمد لله) بكسر (إنّ) وتشديد النون ونصب (الحمد).

قوله تعالى : (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ ؛) قيل : إنّ هذه الآية نزلت في النّضر بن الحارث حين قال (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ...) الآية (٢) ثم صارت عامّة في كلّ من يستعجل العقاب الذي يستحقّه بالمعاصي.

معناه : ولو يعجل الله للناس الشرّ كما يعجّل الخير إذا دعوا بالرّحمة والرزق والعافية لماتوا وهلكوا. وقيل : المراد بهذه الآية دعاء الإنسان على نفسه وولده وقومه ، مثل قول الرجل إذا غضب على ولده : اللهمّ لا تبارك فيه والعنه ، وقوله لنفسه : لا رفعني الله من بينكم ، والمعنى على هذا : ولو يعجّل الله للناس إجابة دعائهم في الشرّ كاستعجالهم الإجابة في الخير (لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ) أي لفرغ من عذابهم وماتوا جميعا. وقال شهر بن حوشب : (قرأت في بعض الكتب أنّ الله تعالى يقول للملكين الموكّلين : لا تكتبا على عبدي في حال ضجره شيئا).

وقرأ ابن عامر ويعقوب (لقضى) بفتح القاف والضاد (أجلهم) بفتح اللام ، وقرأ الأعمش (لقضينا) وقرأ العامة (لقضي) بضمّ القاف وكسر الضاد ، ورفع قوله (أجلهم).

قوله تعالى : (فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (١١) أي نترك الذين لا يخافون البعث في ضلالتهم وكفرهم يتحيّرون ويتردّدون.

قوله تعالى : (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً ؛) نزلت هذه الآية في هشام بن المغيرة المخزوميّ ، ومعناه : إذا أصاب الإنسان الشدّة والمرض دعانا لكشفه وهو مضطجع لما به من المرض أو قاعدا إذا هانت العلّة ، أو

__________________

(١) الأحزاب / ٤٤.

(٢) الأنفال / ٣٢.

٣٧٧

قائما إذا بقي أثر العلّة ، أو كان في شدة معيشة أو غيرها ، (فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ ؛) رفعنا ما كان به من الشدّة استمرّ على الإعراض عن شكرنا ما أنعمنا عليه في كشف الضرّ عنه ، (مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ ؛) قطّ ؛ أي كأنّه لم يمسّه ضرّ ، وكأن لم نكشف الضرّ عنه. قوله تعالى : (كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٢) ؛ في الشّرك من الدعاء في الشدّة ، وترك الدعاء في الرّخاء ، فاغترّوا بما زيّن لهم.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا ؛) أي ولقد أهلكنا الأمم الماضية من قبلكم حين كفروا ، (وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ ؛) بالدلالات الواضحات ، (وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا ؛) فيه بيان أنّ الله تعالى إنما أهلكهم ؛ لأنه كان المعلوم من حالهم أنه لو أبقاهم أبدا لأدبروا ولم يؤمنوا ، ولو كان في بقائهم صلاح لهم ولغيرهم لأبقاهم. وقوله تعالى : (كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) (١٣) أي هكذا نجزي القوم المشركين ، نهلكهم كما أهلكنا الأوّلين.

قوله تعالى : (ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) (١٤) ؛ أي ثم أسكنّاكم الأرض من بعد الأوّلين لنجازيكم على ما تعملون من الخير والشرّ ، ونشاهد هل تعتبرون بما صنع بالأوّلين أم لا؟ وهذا على التهديد ؛ أي إن عاملتكم مثل معاملتهم أهلكتكم كما أهلكتهم.

وإنما قال (لننظر) ؛ لأنه سبحانه يعامل العبد معاملة المختبر الذي لا يعلم الشيء حتى يكون مظاهرة في العدل ، وأنه إنما يجازي العباد على أعمالهم لا على علمه فيهم ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [إنّ الدّنيا حلوة خضرة ، وإنّ الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون](١) ، قال قتادة : (وذكر لنا أنّ عمر رضي الله عنه قال : صدق ربّنا ما جعلنا

__________________

(١) أخرجه الطبراني في الكبير : ج ٢٤ ص ١٨١ : الحديث (٥٧٧ ـ ٥٨٩) عن خولة بنت قيس ، وفيه : [إنّ الدّنيا خضرة حلوة ، فمن أخذها بحقّها بارك الله له فيها ، وربّ متخوّض في مال الله ورسوله فيما اشتهت نفسه له النّار يوم القيامة] ، وإسناده حسن صحيح. وأخرجه ابن حبان في موارد الضمآن : الحديث (٨٠٢) ، وفي الصحيح : كتاب الجنائز : الحديث (٢٨٩٢).

٣٧٨

خلقا إلّا لينظر إلى أعمالنا ، فأدّوا أعمالكم خيرا باللّيل والنّهار والسّرّ والعلانية) (١).

قوله تعالى : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ ؛) معناه : وإذا قرئ على أهل مكة آياتنا المنزّلة في القرآن ، قال الذين لا يخشون عقابنا ولا يطمعون في ثوابنا ولا يقرّون بالبعث : أئت يا محمّد بقرآن ليس فيه عيب آلهتنا ولا ذكر في البعث والنّشور.

قوله تعالى : (أَوْ بَدِّلْهُ) أي قالوا أو بدّل هذه بغيره ، قل يا محمّد (ما يكون لي أن أبدّله) أي ما يجوز وما ينبغي لي أن أغيّره من قبل نفسي ، ما أقول أو ما أعمل إلا ما يوحى إليّ من القرآن ، (إِنِّي أَخافُ ؛) أعلم ، (إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي ؛) فبدّلت القرآن أنه يكون عليّ ، (عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (١٥).

قوله تعالى : (قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ ؛) أي قل يا محمّد : لو شاء الله ما قرأت القرآن عليكم بأن كان لا ينزّله عليّ ، (وَلا أَدْراكُمْ بِهِ ؛) أي ولا أعلمكم الله به ؛ أي لو شاء الله أن لا يشعركم ، وفي قراءة الحسن (ولا أدراكم به) أي ولا أعلمكم به. وقوله تعالى : (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ ؛) أي ومكثت فيكم دهرا قبل إنزال القرآن ، ولم أقل من هذا شيئا ، فليس عليكم ذهن الإنسانيّة أنه ليس من تلقاء نفسي.

قوله تعالى : (أَفَلا تَعْقِلُونَ ؛) (١٦) ؛ استفهام بمعنى الإنكار له : أنّ الله خالق السموات والأرض وهو عالم بما فيها ، يعلم أن ليس فيهما إله ينفع ويضرّ غيره ، فتخبرونه أنتم بشيء لا يعلمه ، فيعلم بأخباركم ، وهذا نفي للعلم ، والمراد به نفي ما قالوه : من أن شفاعة الأصنام «تنفعهم».

قوله تعالى : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) أي لا أجد ممن اختلق على الله كذبا بأن جعل شريكا له أو ولدا إذا ادّعى النبوة بغير حقّ ، أو قال : أمرنا بعبادة الأصنام فنتقرب بعبادتها إليه. قوله تعالى : (أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ ؛)

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٣٦٣٠) ، وله قصة في الأثر (١٣٦٣٨).

٣٧٩

أي بأنبيائه ورسله وكتبه ، وقوله تعالى : (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ) (١٧) ؛ أي لا يوصلهم إلى مرادهم.

قوله تعالى : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ ؛) أي وإنّ أهل مكّة يعبدون من دون الله الأصنام التي لا يضرّهم إن تركوا عبادتها ولا ينفعهم إن عبدوها ، (وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ ؛) فإنه الذي أذن لنا في عبادتها وأنه يستشفعها فينا ، وأرادوا بذلك شفاعة الأصنام في مصالح دنياهم ؛ لأنّهم كانوا لا يقرّون بالبعث.

قوله تعالى : (قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ ؛) هذا لا يكون أبدا. (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (١٨) ؛ أي تنزيها لله عن كلّ صفة لا تليق بذاته ، وارتفع وتبرّأ عمّا يشركون به من الأصنام والأوثان.

قوله تعالى : (وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا ؛) اختلف الناس في المراد بهذه الآية ، قال بعضهم : أراد بذلك أنّ الناس كانوا أمّة واحدة في وقت آدم عليه‌السلام ، ثم اختلفوا بأن كفّر بعضهم بعضا ، وأوّل من اختلف قابيل وهابيل. ويقال : أراد به الناس كلّهم ولدوا على الفطرة ، ثم اختلفوا بأن غيّر بعضهم الفطرة ولم يغيّر بعضهم ، بل ثبت عليها.

وقال بعضهم : أراد بذلك أنّهم كانوا أمة واحدة على عهد إبراهيم ونوح عليهما‌السلام كلّهم كانوا كافرين ، فتفرّقوا بين مؤمن وكافر. ويقال : أراد بالناس ههنا العرب ، كانوا على الشّرك قبل مبعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم اختلفوا بعده ، فآمن بعضهم وكفر بعضهم. فالقول الأوّل أقرب إلى ظاهر الآية.

قوله تعالى : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (١٩) ؛ لو كان لكم من الله سبق ببقاء التكليف على الناس أي وقت معلوم سواء أطاعوه أو عصوه لما علم من المصلحة لهم ولغيرهم في ذلك ، لعجّل لهم العذاب عند العصيان ، فاضطرّهم إلى معرفة الحقّ فيما اختلفوا فيه. وقرأ عيسى بن عمر (لقضى بينهم) بالفتح.

٣٨٠