التفسير الكبير - ج ٣

سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني

التفسير الكبير - ج ٣

المؤلف:

سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني


المحقق: هشام البدراني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب الثقافي ـ الأردن / إربد
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-9957-02-1

الصفحات: ٥١٦

١
٢

٣

٤

سورة الأنعام

سورة الأنعام اثنا عشر ألف حرف وأربعمائة واثنان وعشرون حرفا ؛ وثلاثة آلاف واثنان وخمسون كلمة ؛ ومائة وخمس وستّون آية. كلّها احتجاج على المشركين ، وكلّها مكّيّة غير ستّ آيات منها ؛ فإنّها مدنيّات : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ)(١) إلى آخر ثلاث آيات. وقوله تعالى : (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) إلى قوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(٢).

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكّة ونزلت هذه السّورة وشيّعها سبعون ألف ملك قائدهم جبريل عليه‌السلام قد سدّوا ما بين الخافقين ؛ لهم زجل بالتّسبيح والتّحميد. فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الكتّاب فكتبوها في ليلتهم ، فقال جبريل : يا محمّد من قرأها من أمّتك إيمانا واحتسابا صلّى عليه السّبعون ألف ملك الّذين شيّعوها إليك ، يعود كلّ آية منها يوما وليلة ، فخرّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ساجدا شكرا لله تعالى.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) ؛ قال كعب الأحبار : وأوّل مفتاح التوراة (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) ، وخاتمتها خاتمة سورة هود (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ). قال مقاتل : (قال المشركون للنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من ربّك؟ قال : ([الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ]) فكذبوه ، فأنزل الله تعالى حامدا نفسه دالّا على توحيده : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أي خلق السّموات بما فيها من الشّمس والقمر والنجوم ، والأرض بما فيها من البرّ والبحر ؛

__________________

(١) الآية / ٦٧.

(٢) الآيات / ١٥١ ـ ١٥٣.

٥

والسّهل والجبل ؛ والنّبات والشجر ، خلق السموات وما فيها في يومين ؛ يوم الأحد ويوم الاثنين ؛ وخلق الأرض وما فيها في يومين ؛ يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء.

قوله تعالى : (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) ؛ قال السديّ : (ظلمة اللّيل ونور النّهار). وقال الواقديّ : (كلّ ما في القرآن من الظّلمات والنّور فهو الكفر والإيمان ؛ إلّا في هذه الآية فإنّه يريد به اللّيل والنّهار). قال قتادة : (يعني الجنّة والنّار) (١). وقال الحسن : (يعني الكفر والإيمان) (٢).

وقيل : خلق الليل والنهار لمصالح العباد ؛ يستريحون باللّيل ويبصرون معايشهم بالنهار. وإنّما جمع (الظّلمات) ووحّد (النّور) لأن النور يتعدّى ، والظلمة لا تتعدّى.

وقال أهل المعاني : (جعل) ها هنا صلة ؛ والعرب تزيد (جعل) في الكلام كقول الشاعر :

وقد جعلت أرى الاثنين أربعة

والواحد اثنين لمّا هدّني الكبر

وتقدير الآية : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) والظّلمات والنّور. وقيل : معناه : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) ؛ لأنه خلق الظلمة والنور قبل السموات والأرض. وقال قتادة : (خلق الله السّموات قبل الأرض ، والظّلمة قبل النّور ، والجنّة قبل النّار).

وقال وهب : (أوّل ما خلق الله مكانا مظلما ، ثمّ خلق جوهرة فأضاءت ذلك المكان ، ثمّ نظر إلى الجوهرة نظر الهيبة ، فصارت ماء وارتفع بخارها ونبذ زبدها ، فخلق من البخار السّموات ؛ ومن الزّبد الأرضين).

قوله عزوجل : (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) (١) ؛ أي (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بعد هذا البيان (بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) الأوثان ؛ أي يشركون. وقيل : معناه : (يَعْدِلُونَ) (يعدلون) أي يجعلون لله عديلا ويعبدون الحجارة والأموات ؛ وهم يقرّون بأنّ الله خالق هذه الأشياء ، فالأصنام لا تعقل شيئا من ذلك.

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : النص (١٠١٥٧).

(٢) في الدر المنثور : ج ٣ ص ٢٤٧ ؛ قال السيوطي : ((أخرجه أبو الشيخ عن ابن عباس)).

٦

قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً) ؛ معناه : خلقكم من آدم عليه‌السلام ، فأخرج الخطاب له ؛ لأنّهم ولده ، قال السّديّ : (لمّا أراد الله خلق آدم ، بعث جبريل إلى الأرض ليأتيه بطائفة منها ، فاستعاذت الأرض بالله أن ينقص منّي ، فرجع ولم يأخذ. فبعث ميكائيل ؛ فاستعاذت ، فبعث ملك الموت ؛ فاستعاذت بالله منه ؛ فقال : وأنا أعوذ بالله أن أخالف أمره ، فأخذ من وجه الأرض ، فخلط السّوداء والبيضاء والحمراء ؛ فلذلك اختلفت الألوان ؛ ألوان بني آدم ، ثمّ عجنها بالماء العذب والملح والمسك ؛ فلذلك اختلفت أخلاقهم ، فقال الله تعالى لملك الموت : رحم جبريل وميكائيل الأرض ولم ترحمها ؛ لا جرم أن أجعل أرواح من أخلق من هذا الطّين بيدك) (١).

وروى أبو هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : [إنّ الله تعالى خلق آدم من تراب ، وجعله طينا ، ثمّ تركه حتّى كان حمأ مسنونا ، ثمّ خلقه وصوّره ، ثمّ تركه حتّى إذا كان صلصالا كالفخّار ؛ مرّ به إبليس لعنه الله ، فقال : خلقت لأمر عظيم. ثمّ نفخ الله فيه الرّوح](٢).

قوله تعالى : (ثُمَّ قَضى أَجَلاً) أي خلقكم من آدم عليه‌السلام (ثُمَّ قَضى أَجَلاً) أي جعل لحياتكم وفاة تحيون فيه وهو مدّة كلّ واحد منّا من يوم يولد إلى يوم يموت. قوله تعالى : (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) ؛ أي مدّة انقضاء الدّنيا إلى أن تقوم الساعة ؛ ولا يعلم وقت قيامها إلّا الله. وقال مجاهد وابن جبير : (ثُمَّ قَضى أَجَلاً) يعني أجل الدّنيا (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) وهو الآخرة. قوله تعالى : (ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) (٢) أي ثمّ أنتم بعد هذا البيان تشكّون في موضع ليس هو موضع الشّكّ. والمرية هي الشّكّ المجلب بالشّبهة ؛ أصلها من : مريت النّاقة إذا مسحت ضرعها لينزّ لبنها ، ويجلبه للحلب (٣).

__________________

(١) ذكره ابن عادل في اللباب في علوم الكتاب : ج ٨ ص ١٥.

(٢) في كنز العمال : الحديث (١٥٢٢٨).

(٣) ينظر : لسان العرب : ج ١٣ ص ٩٠ : مادة (مرا) ؛ قال ابن منظور : (فمن مريت النّاقة إذا مسحت ضرعها لتدرّ) وقال : (والمرية والمرية : الشكّ والجدل ، بالكسر والضم).

٧

قوله عزوجل : (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) ؛ معناه : هو الله المعبود المنفرد بالتدبير في السّموات والأرض ، العالم بما يصلحهما وبما يعمل فيهما. يعلم جهركم وسرّ أعمالكم وعلانية أموركم ، (وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) (٣) ؛ أي ما تعملون من خير وشرّ. وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ؛ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : [من قرأ من أوّل سورة الأنعام ثلاث آيات إلى قوله : (وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) وكّل الله به أربعين ملكا يكتبون له مثل عبادتهم إلى يوم القيامة ، وينزل ملك من السّماء السّابعة معه مرزبة من حديد ، فإذا أراد الشّيطان أن يوسوس له ؛ ضربه بها ضربة كان بينه وبينه سبعون حجابا ، فإذا كان يوم القيامة يقول الله تعالى : امش في ظلّي ؛ وكل من ثمار جنّتي ؛ واشرب من ماء الكوثر ؛ واغتسل من ماء السّلسبيل ؛ وأنت عبدي وأنا ربّك](١).

قوله عزوجل : (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) (٤) ؛ أي ما تأتي كفّار مكة من دلائل التوحيد والنبوّة ؛ مثل كسوف الشمس والاستسقاء ، وكسوف القمر والدّخان ؛ إلا كانوا عن هذه الآيات والعلامات معرضين مكذّبين تاركين لها.

قوله تعالى : (فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (٥) ؛ أي فقد كذب أهل مكة بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن ؛ وبما رأوه من انفلاق القمر بمكة ، كما روي عن ابن مسعود (أنّ القمر انفلق فلقتين حتّى رأوا اجرابي فلقتي القمر ، ثمّ ذهبت فلقة وبقيت فلقة).

وقوله تعالى : (فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) هذا وعيد لهم ؛ أي سيعلمون ما يؤول إليه عاقبة استهزائهم بالرّسل والكتب والآيات التي كانت تأتيهم ، فقتلهم الله يوم بدر بالسّيف ، ويأتيهم خبر استهزائهم حين يرون العذاب معاينة. والنبأ عبارة عن خبر الّذي له عظم وشأن.

__________________

(١) في الدر المنثور : ج ٣ ص ٢٤٥ ـ ٢٤٨ ؛ قال السيوطي : ((أخرجه السلفي بسند واه عن ابن عباس)). ونقله أهل التفسير عن جابر رضى الله عنه ؛ ينظر : اللباب : ج ٨ ص ٥٤٠.

٨

قوله عزوجل : (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) ؛ أي ألم يعلم أهل مكّة كم أهلكنا من قبلهم من قرن بكفرهم ، مثل قوم نوح وعاد وثمود ، (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ ؛) وأمهلناهم في العمر والولد ورفع الموانع ما لم نمهل لكم ، (وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً ؛) أي فأنزلنا عليهم المطر دارّا دائما يتبع بعضه بعضا ، (وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ) ؛ ((أي من تحت)) (١) أشجارهم وبساتينهم ، فلم يشكروا وعصوا ربّهم وكذبوا رسلهم ، (فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) ؛ بكفرهم وتكذيبهم ، (وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ) ؛ أي من بعد هلاكهم ، (قَرْناً) ؛ قوما ، (آخَرِينَ) (٦) ؛ فسكنوا ديارهم ، ثم بعثت إليهم الرّسل ، فمن لم يأخذ بملّة الرّسل ومنهاجهم أهلكهم الله.

والقرن ـ في قول أكثر المفسّرين ـ : أهل عصر واحد ، سمّوا قرنا ؛ لاقترانهم في قرن واحد. ويقال : أهل كلّ عصر فيهم نبيّ أو عالم ، لاقترانهم بالنبوّة والعلم ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [خير النّاس قرني ، ثمّ الّذين يلونهم](٢). وأراد بالقرن الأوّل : الصّحابة ، وبالثاني : التابعين ، وبالثالث : تابعي التابعين. واختلفوا في مدّة القرن ؛ قال بعضهم : ثمانون سنة ، وقيل : مائة سنة ، وبين القرنين ثماني عشرة سنة.

قوله عزوجل : (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ) ؛ قال ابن عباس : (نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي أميّة المخزوميّ ؛ قال : يا محمّد ؛ لن نؤمن لك حتّى تأتينا بكتاب من عند الله ومعه أربعة من الملائكة يشهدون أنّه من عند الله وأنّك رسوله). وقال مقاتل والكلبيّ : (نزلت في النّضر بن الحارث ، وعبد الله ابن أبي أميّة ، ونوفل بن خويلد ؛ قالوا للنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لن نؤمن لك حتّى تأتينا بكتاب من عند الله ، ومعه أربعة من الملائكة يشهدون أنّه من عند الله وأنّك رسوله ، فأنزل الله تعالى هذه الآية) (٣).

__________________

(١) ((أي من تحت)) ليست في المخطوطة.

(٢) أخرجه الطبراني في الأوسط : الحديث (١١٤٤) عن النعمان بن بشير : ج ٢ ص ٧٤ ، والحديث (٥٤٧١) عن أبي هريرة رضى الله عنه : ج ٦ ص ٢٢٣. وفي مجمع الزوائد : ج ١٠ ص ١٩ ؛ قال الهيثمي :

((فيه عاصم بن بهدلة ، وهو حسن الحديث ، وبقية رجال الإمام أحمد رجال الصحيح)).

(٣) ذكره القرطبي أيضا في الجامع لأحكام القرآن : ج ٦ ص ٢٩٣.

٩

ومعناها : (ولو نزّلنا عليك كتابا في) صحيفة وعلّقناه بين السّماء والأرض ينظرون إليه ويعاينونه ويلمسونه بأيديهم ، (لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) ؛ كفّار مكّة بعد معاينة ذلك : (إِنْ هذا) ؛ ما هذا ؛ (إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) (٧) ؛ أي كما قالوا في انشقاق القمر : (سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ)(١). وفي الآية بيان أنّهم كانوا معاينين مصرّين على التكذيب.

قوله عزوجل : (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ) (٨) ؛ أي قالوا : لولا نزّل على محمّد ملك نشاهده ونعاينه يخبرنا بأنه نبيّ ، يقول تعالى : (وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً) كما سألوه فكذبوا لعذبناهم بعذاب الاستئصال (ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ) أي لا يؤجّلون ولا يمهلون بعد نزول الآية المقترحة ، نحو ما ذكر الله تعالى في قصّة قوم صالح وغيرهم. قال الضحّاك : (معناه : لو أتاهم ملك في صورته لماتوا) (٢).

قوله عزوجل : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) (٩) ؛ أي لو أرسلنا إليهم رسولا من الملائكة لأرسلناه في صورة الإنسان ؛ لأنّهم لا يستطيعون النظر إلى الملائكة ؛ لأنّ ذلك يؤدّي إلى هلاكهم ؛ وليكون الشكل إلى الشكل أميل ، وبه الذهن (٣) إلى الفهم عنه أقرب ، وإلى القبول منه أسرع ، ولو نظرنا إلى الملك على هيبته لصعقنا.

وقد كانت الملائكة تأتي الأنبياء في صورة الإنسان ؛ من ذلك أنّ جبريل عليه‌السلام كان يأتي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صورة دحية الكلبيّ ، وجاءت الملائكة إلى إبراهيم عليه‌السلام في صورة الضّيفين ، وجاءت الملائكة إلى داود عليه‌السلام في صورة رجلين يختصمان إليه ، وذلك قوله تعالى : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) أي لو أنزلنا إليهم ملكا لجعلنا ذلك في صورة الرّجل أيضا.

__________________

(١) القمر / ٢.

(٢) في الجامع لأحكام القرآن : ج ٦ ص ٣٩٣ ؛ نقله القرطبي عن ابن عباس والحسن وقتادة ، بلفظ :

(لو رأوا الملك).

(٣) في المخطوط : (وبه السن والى الفهم عنه أقرب) وهو غير مستقيم.

١٠

قوله تعالى : (وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) أي اختلطنا وشبّهنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم حتى شكّوا ؛ فلا يدرون أملك هو أم رجل؟ وهذا لأنّهم أنكروا نبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعدما عرفوه بالصدق والأمانة ، ثم لبسوا على أنفسهم وعلى ضعفتهم ؛ فقالوا : إنّما هو بشر ، فلو نزل الملك على صورة رجل للبسوا على أنفسهم أيضا فلم يقبلوا منه وقالوا : إنه في مثل صورتنا!

قوله عزوجل : (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) ؛ أي استهزأت الأمم الماضية بأنبيائهم كما استهزأ بك يا محمّد قومك ، (فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (١٠) ؛ أي نزل بهم وحلّ بالمستهزئين من الكفّار عقوبة استهزائهم بالكتاب والرسول عليه الصّلاة والسّلام.

وقال الضّحاك : (كان النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالسا في المسجد الحرام مع جماعة من المستضعفين : بلال وصهيب وعمّار وغيرهم ، فمرّ بهم أبو جهل في ملإ من قريش ؛ فقال : تزعم يا محمّد أنّ هؤلاء ملوك الجنّة. فأنزل الله تعالى هذه الآية ليثبت فؤاده ويصبر على أذى المشركين). أي إن سخر أهل مكّة من أصحابك ، فقد فعل ذلك الجهلة برسلهم قبلك.

والحيق في اللّغة : ما اشتمل على الإنسان من مكروه فعله ، ومنه قوله تعالى : (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ)(١). وأما الاستهزاء فهو إيهام التّفخيم بمعنى التّحقير.

قوله تعالى : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (١١) ؛ أي قل لهم يا محمّد سافروا في الأرض ، ثم انظروا بأبصاركم وتأمّلوا بقلوبكم كيف صار إجرام المكذّبين بالرّسل والكتب مثل عاد وثمود وغيرهم ، الذين عذبهم الله تعالى بعذاب الاستئصال ، وكانت آثار ديارهم باقية قريبة من مكّة. وقال الحسن : (معنى (سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) أي اقرأوا القرآن وتفكّروا فيه ، فإنّ من قرأ القرآن وتفكّر فيه فكأنّه سار في الأرض).

__________________

(١) فاطر / ٤٣.

١١

قوله عزوجل : (قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) ؛ أي قل يا محمّد لكفار مكّة : لمن ملك ما في السّموات والأرض ، فإن أجابوك وقالوا : لله ، وإلا فقل لهم ((لله)) (١) إذ هم يعلمون ويقرّون أن الأصنام لا تملك خلق شيء ، وإنّما الله يملك ذلك.

وقوله تعالى : (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) أي أوجب على نفسه الرّحمة فضلا وكرما. أو قيل : معناه : أوجب على نفسه الثواب لمن أطاعه ؛ وقيل : أوجب على نفسه الرحمة بإمهال من عصاه ؛ ليستدرك ذلك بالتوبة ولم يعاجله بالعقوبة ، وهذا استعطاف من الله عزوجل للمتولّين عنه إلى الإقبال ، وإخبار بأنه رحيم بعباده لا يعجّل عليهم بالعقوبة ، ويقبل منهم الإنابة والتوبة.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [لمّا خلق الله تعالى الخلق ؛ كتب فوق العرش : إنّ رحمتي سبقت غضبي](٢). وقال عمر رضي الله عنه لكعب الأحبار : (ما أوّل شيء ابتدأ الله به؟ فقال كعب : كتب الله كتابا لم يكتبه بقلم ولا مداد ؛ كتابه الزّبرجد واللّؤلؤ والياقوت : إنّي أنا الله لا إله إلّا أنا ، سبقت رحمتي غضبي) (٣).

وفي الخبر : أنّ لله تعالى مائة رحمة كلّها ملئ السّموات والأرض ، فأهبط الله تعالى منها رحمة واحدة لأهل الدّنيا ، فهم بها يتراحمون ؛ وبها يتعاطفون ؛ وبها يتراحم الإنس والجنّ وطير السّماء وحيتان الماء ؛ وما بين الهواء ودواب الأرض وهو امّها ، وأخّر تسعا وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة.

قوله تعالى : (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ) ؛ بدل من الرحمة وتفسير لها ، فكأنّه قال : ليجمعنّ بين المؤمنين والكفار ، بين المؤمن والكافر في الرّزق والنّعمة والدّولة إلى يوم القيامة ، لا شكّ فيه عند المؤمنين أنه حقّ كائن ، ثم تكون العاقبة بدل البعث للمؤمنين.

__________________

(١) ((لله)) سقطت من المخطوط.

(٢) أخرجه البخاري في الصحيح : كتاب بدء الخلق : الحديث (٣١٩٤). ومسلم في الصحيح : كتاب التوبة : باب في سعة رحمة الله : الحديث (١٤ / ٢٧٥١) واللفظ له.

(٣) أخرجه الطبري في جامع البيان : النص (١٠٢١١).

١٢

قوله تعالى : (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) ؛ ابتدأ كلامه ؛ وجوابه (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (١٢) ؛ لأنّ (الّذين) في موضع شرط ؛ وتقدير الآية : الذين غبنوا (١) أنفسهم وأهليهم ومنازلهم وخدمهم في الجنّة في سابق علم الله لا يؤمنون ؛ أي لا يصدّقون بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن.

وذهب بعضهم إلى أنّ قوله تعالى : (لَيَجْمَعَنَّكُمْ) كلام مبتدأ على وجه القسم ، و (الَّذِينَ) بدل من الكاف والميم في (لَيَجْمَعَنَّكُمْ) ، كأنه قال : ليجمعنّ هؤلاء المشركين (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) إلى هذا اليوم الذي يجحدونه ويكفرونه. ويحتمل أن يكون قوله : (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) راجعا إلى المكذّبين ، كأنه قال : عاقبة المكذبين (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ.)

قوله عزوجل : (وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (١٣) قال ابن عبّاس : (وذلك أنّ كفّار مكّة أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : يا محمّد ؛ قد علمنا ما يحملك على ما تدعونا إليه إلّا الحاجة ، فنحن نجعل لك من أموالنا حتّى تكون أغنانا رجلا ، وترجع عمّا أنت عليه. فأنزل الله تعالى هذه الآية) (٢).

ومعناه : ولله ملك ما استقرّ (فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) من الخلائق كلّهم ، وهذا اللفظ يشتمل على جميع المخلوقات ؛ لأنّ من الحيوانات ما يتصرّف بالنهار ويسكن بالليل ، ومنها ما يتصرف بالليل ويسكن بالنّهار. وقال محمد بن جرير : (كلّ ما طلعت عليه الشّمس وغربت فهو من ساكن اللّيل والنّهار ، والمراد : جميع ما في الأرض ؛ لأنّه لا شيء من خلق الله تعالى إلّا وهو ساكن في اللّيل والنّهار) (٣).

وقال أهل المعاني : في الآية إضمار تقديره : وله ما سكن وتحرّك في الليل والنهار. فإن قيل : فلم قال : (وَلَهُ ما سَكَنَ) ولم يقل : وله ما تحرّك؟ قيل : لأنّ

__________________

(١) في المخطوط : (عبوا) وهو تصحيف ، والصحيح كما أثبتناه ؛ لأن أصل الخسار الغبن ، يقال : خسر الرجل في البيع : إذا غبن.

(٢) السيرة النبوية لابن هشام : قريش وتفسير سورة الكهف : ج ١ ص ٣١٦ ، شطر من حديث طويل عن ابن عباس رضي الله عنهما.

(٣) ينظر : جامع البيان : تفسير الآية : مج ٥ ج ٧ ص ٢١٠.

١٣

الساكن في الأشياء أعمّ ؛ لأنه ما من متحرّك إلا وسكن ؛ وفي الأشياء الساكنة ما لا يتحرك البتّة. قوله تعالى : (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) معناه : السميع لمقالة الكفّار ، العليم بهم وبعقوبتهم. ويقال : هو السميع للأصوات والأقوال ، العليم بالأشياء والأرزاق.

وقوله عزوجل : (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ؛ أي قل لهم يا محمّد : أسوى الله أعبد ربّا وأتّخذ ناصرا ، وقوله تعالى : (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي خالقهما ومبدعهما ، قال ابن عبّاس : (ما كنت أدري ما (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) حتّى أتاني أعرابيّان يختصمان في بئر ، فقال أحدهما لصاحبه : أنا فطرتها ، أي ابتدأتها ، يعني ابتدأت حفرها) (١).

قوله تعالى : (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) ؛ أي يرزق ولا يرزق ولا يعاون على الرّزق. وقرأ الأعمش : (ولا يطعم) بفتح الياء ؛ أي يرزق ولا يأكل ؛ أي لا يجوز عليه الحاجة. قوله تعالى : (فاطِرِ السَّماواتِ) انخفض لأنه نعت لا اسم لله تعالى ، ويجوز نصبه على معنى : أعني فاطر السّموات ، ويجوز رفعه على إضمار (هو).

قوله تعالى : (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) ؛ أي قل لهم يا محمّد : إنّي أمرت أن أكون أوّل من أخلص لله بالتوحيد والعبادة من أهل هذا الزّمان.

قوله تعالى : (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١٤) ؛ لا يجوز أن يكون عطفا على قوله : (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) لأنه غير مأمور بأن يقول : (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) وإنّما هو نهي معطوف على أمر من حيث المعنى دون اللّفظ ؛ لأنّ معنى الآية : قيل لي كذا : أوّل من أسلم ولا تكوننّ من المشركين.

قوله عزوجل : (قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (١٥) أي قل يا محمّد : إنّي أعلم أنّي إن عصيت ربي وعبدت غيره ، أن ينزل بي عذاب يوم عظيم شأنه وهو يوم القيامة.

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٠٢١٤).

١٤

قوله تعالى : (مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ) ؛ أي من يصرف الله عنه العذاب العظيم يوم القيامة فقد رحمه ، (وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ) (١٦) ؛ أي النجاة الوافرة الظّاهرة. قرأ أهل الكوفة إلا حفصا : (من تصرف) بفتح التّاء وكسر الراء ؛ وتفسيره ما ذكرناه. وقرأ الباقون (يصرف) على ما لم يسمّ فاعله ؛ أي من يصرف عنه العذاب بأمر الله ؛ فقد سبقت رحمة الله له بإيجاب الثّواب.

قوله تعالى : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ) ؛ إن يصبك الله بفقر أو مرض أو بلاء ، فلا يقدر أحد من الأصنام وغيرها على كشف ذلك الضّرّ إلا الله ، وإنّما أطلق هذا اللفظ وإن كان يتصوّر أن يكشف الإنسان عن صاحبه كربة من الكرب ؛ لأن كاشف الضّرّ في الحقيقة هو الله تعالى ، إمّا أن يكشفه بفضله أو نسبة له.

قوله تعالى : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ) ؛ أي بفضل وسعة في الرزق وصحّة في الجسم ، فلا مزيل لها إلا هو. إلا أنه لم يقل : فلا مزيل لها إلا هو ؛ لأنه لمّا أكّد هذا في الضّرّ دلّ على هذا في الخير فاستغنى عن إعادته. وإنّما قال (يَمْسَسْكَ) مع أن كون المسّ المعيّن من صفة الأجسام ؛ لأنّ المعنى يمسسك الله تعالى الضّرر. قوله تعالى : (فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١٧) ؛ أي لا يقدر أحد أن يمنعه عن فعل ما أراد فعله من كشف ضرّ أو غيره.

وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال : (أردفني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وراءه وهو راكب على بغلة ، فلمّا سار بي مليّا التفت إليّ وقال لي : [يا غلام]. قلت : لبّيك يا رسول الله ، قال : [احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده أمامك ، تعرّف إلى الله في الرّخاء يعرفك في الشّدّة ، وإذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، وقد مضى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة ، فلو جهد الخلائق أن ينفعوك بما لم يقض الله لك ؛ ما قدروا على ذلك ، ولو جهدوا أن يضرّوك بما لم يكتب الله عليك ؛ لما قدروا عليه. واعلم : أنّ النّصر مع الصّبر ، وأنّ مع الكرب الفرج ،

١٥

وأنّ مع العسر يسرا](١).

قوله عزوجل : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) ؛ أي هو الغالب على أمر عباده. والقهر : هو الاستعلاء بالاقتدار على الغلبة. وأراد بقوله : (فوق) أنّهم تحت التسخير والتذليل عمّا علاهم من الاقتدار عليهم ، لا ينهاك أحد منهم. قوله : (وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) (١٨) ؛ أي المحكم لصنعه ؛ الخبير بأعمال الخلق.

قوله تعالى : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ؛) قال ابن عبّاس : (وذلك أنّ رؤساء مكّة أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فقالوا : يا محمّد ؛ أما وجد الله رسولا يرسله غيرك؟! ما نرى أحدا يصدّقك بما تقول ؛ ولقد سألنا عنك اليهود والنّصارى ؛ فزعموا أنّه ليس لك عندهم ذكر ولا صفة ولا نعت ، فأرنا من شهد أنّك رسول الله كما تزعم. فأنزل الله هذه الآية) (٢).

ومعناها : قل لهم يا محمّد : أيّ أحد أعظم وأعدل برهانا وحجّة؟ فإن أجابوك وقالوا : الله ، وإلّا فقل : الله أكبر شهادة من خلقه ، وهو شهيد بيني وبينكم ، بأنّي رسول الله ، وأنّ هذا القرآن كلامه. والشاهد هو المبيّن للدعوى ، وقد بيّن الله تعالى دعوى رسوله بالبراهين والمعجزات والآيات الدالّة على توحيد الله ونبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قوله تعالى : (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) ؛ معناه : أنزل إليّ هذا القرآن لأخوّفكم به بما فيه من الدلائل ؛ وأخبار الأمم السّالفة ؛ والإنباء بما يكون ؛ والتأليف الذي عجز عنه العرب. قوله تعالى : (وَمَنْ بَلَغَ) أي وأنذر من بلغه القرآن سواكم من العجم ، وغيرهم من الجنّ والإنس إلى أن تقوم الساعة ؛ لأنه ليس من بعد القرآن كتاب ، ولا من بعد محمّد رسول.

__________________

(١) في الجامع لأحكام القرآن : ج ٦ ص ٣٩٨ ؛ قال القرطبي : ((أخرجه أبو بكر بن ثابت الخطيب في كتاب (الفصل والوصل) وهو حديث صحيح ، وقد خرجه الترمذي)). وأخرجه الترمذي في الجامع : كتاب صفة القيامة والرقائق والورع : الحديث (٢٥١٦) ؛ وقال : حسن صحيح. والحاكم في المستدرك : كتاب معرفة الصحابة : باب تعليم النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ابن عباس : الحديث (٦٣٥٧ و ٦٣٥٨).

(٢) السيرة النبوية لابن هشام : ج ١ ص ٣١٥. وينظر : الروض الأنف : ج ٢ ص ٤٥ ـ ٤٦ : عتبة بن ربيعة يذهب الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : طبعة دار الكتب العلمية الأولى.

١٦

قوله تعالى : (أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ ؛) استفهام بمعنى الإنكار ؛ أي إن كنتم تشهدون بإثبات شريك لله ؛ فأنا لا أشهد بما تشهدون به. وإنّما قال : (أُخْرى) ولم يقل أخر (١) ؛ لأن الجمع تذكّر بلفظ وحدان التأنيث (٢) ، كما قال تعالى : (قالَتِ الْأَعْرابُ)(٣) ومثله كثير.

قوله تعالى : (قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ ؛) لا شريك له ولا ولد ، (وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) (١٩) ؛ به من الأصنام والأوثان.

قوله عزوجل : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ) ؛ أي الذين أعطيناهم التوراة والإنجيل يعرفون محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما يجدونه مكتوبا عندهم من صفته ونعته ، كما يعرفون أبناءهم إذا رأوهم بين الغلمان. كما روي في الخبر : (أنّ عمر رضى الله عنه قال لعبد الله بن سلام : يا أبا حمزة ؛ أتعرف محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما تعرف ابنك؟ قال : يا عمر ؛ إنّ معرفتي به أشدّ من معرفتي بابني ؛ لأنّ أمين السّماء ـ يعني جبريل قد جاء بنعته إلى أمين الأرض وهو موسى عليه‌السلام. فقال عمر : وكيف ذلك؟ قال : أشهد أنّه رسول الله حقّ من الله تعالى ، وقد نعته الله تعالى في كتابنا فعرفته ، وأمّا ابني فلا أدري ما أحدث النّساء بعدي. فقال عمر رضى الله عنه : وفّقك الله يا ابن سلام) (٤).

قوله تعالى : (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٢٠) ؛ ابتداء كلام معناه : والّذين غبنوا أنفسهم بذهاب الدّنيا والآخرة عنهم ، وهم المعاندون الذين يعرفون ويجحدون من رؤساء اليهود والنصارى ، فهم لا يقرّون بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن.

__________________

(١) في معاني القرآن : ج ١ ص ٣٢٩ ؛ قال الفراء : (وقوله : (آلِهَةً أُخْرى) ولم يقل : (أخر) ؛ لأن الآلهة جمع ، والجمع يقع عليه التأنيث ؛ كما قال الله تبارك وتعالى : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) وقال الله تبارك وتعالى : (فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى) ولم يقل : الأول والأولين ، وكل ذلك صواب).

(٢) أما قوله : (بلفظ وحدان التأنيث) قال ابن عادل : (و (أُخْرى) صفة ل (آلِهَةً)؛ لأن ما لا يعقل يعامل جمعه معاملة الواحدة المؤنثة ، كقوله تعالى : مَآرِبُ أُخْرى [طه / ١٨] و (الْأَسْماءُ الْحُسْنى) [الأعراف / ١٨٠]. ينظر : اللباب في علوم الكتاب : ج ٨ ص ٦٧ : تفسير الآية (١٩) من سورة الأنعام.

(٣) الحجرات / ١٤.

(٤) في جامع البيان : الأثر (١٠٢٣٠) ؛ قال الطبري : ((عن ابن جريج قال : زعم أهل المدينة ... وذكره من غير ذكر الأسماء)).

١٧

قوله عزوجل : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ ؛) معناه : أيّ أحد أظلم في فاحشة أتاها ممّن اختلق على الله كذبا بإضافته إلى الله ما لم يضفه إلى نفسه من صفة أو أمر وقول ، وهم الذين إذا فعلوا فاحشة قالوا : وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها ؛ قل : إنّ الله لا يأمر بالفحشاء. قوله تعالى : (أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) أي بدلائله ؛ (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) (٢١) ؛ أي لا يؤمن من عذاب الله ولا يصل إلى مراده ؛ وبغيته القوم الكافرون.

قوله تعالى : (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) ؛ أي واذكروا يوم نبعث الكفّار وآلهتهم جميعا للحساب والجزاء. وقال بعضهم : الواو عاطفة على قوله : (لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) كأنّه قال : لا يفلحون في الدّنيا ويوم نحشرهم. والحشر : جمع النّاس إلى موضع معلوم.

قوله تعالى : (ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا) ؛ معناه : ثمّ نقول للّذين أشركوا بالله غيره : (أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ ؛) آلهتكم ؛ (الَّذِينَ كُنْتُمْ) ؛ التي كنتم تعبدون من دون الله ؛ و؛ (تَزْعُمُونَ) (٢٢) ، أنّهم شركاء الله وشفعاؤكم.

قوله تعالى : (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) (٢٣) ؛ أي ثمّ لم تكن معذرتهم يوم القيامة إلا مقالتهم : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) في دار الدّنيا. وإنّما سميت المعذرة فتنة ؛ لأنّها عين الفتنة.

ومن قرأ (فتنتهم) بالنصب فعلى خبر (لَمْ تَكُنْ) واسمها (أَنْ قالُوا). ومن قرأ (ربّنا) بالنصب فمعناه النداء. وقراءة حفص على البدل ، ويجوز الرفع على إضمار (هو). وقيل : المراد بالفتنة محبّتهم للأوثان التي كانوا مفتتنين بها في الدّنيا ، فأعلم الله تعالى أنه لم يكن افتتانهم بشركهم وإقامتهم عليه ، إلا أن تبرّأوا منه وانتهوا عنه ، فحلفوا أنّهم ما كانوا مشركين.

قوله تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ ؛) أي انظر يا محمّد كيف صار وبال الكذب عليهم؟ (وَضَلَّ عَنْهُمْ ؛) أي عزب عنهم افتراؤهم بما لحقهم من الدّهول والدّهش ، قال الضحّاك : (وذلك حين نطقت الجوارح ، وشهدت عليهم

١٨

أيديهم وأرجلهم بعد حلفهم (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) يقول الله تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ)(٢٤).

قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً ؛) قال ابن عبّاس : (وذلك أنّ أبا سفيان والوليد بن المغيرة وعتبة وشيبة والنّضر بن الحارث وأبيّ بن خلف وجماعة من أهل مكّة ؛ كانوا يسمعون إلى حديث النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قالوا للنّضر : ما يقول محمّد؟ قال : لا أدري ما يقول؟ إلّا أنّي أراه محرّكا شفتيه ويتكلّم بشيء ولا يقول إلّا أساطير الأوّلين مثل ما كنت أحدّثكم عن القرون الماضية. وكان النّضر كثير الحديث عن القرون الأوّلين وأخبارهم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية) (١).

ومعناها : ومن أهل مكة من يستمع إلى حديثك وقراءتك ، وجعلنا على قلوبهم أغطية كراهة أن يفقهوه ؛ وفي آذانهم ثقلا وصمما ، فلا يسمعون الهدى. وموضع (أَنْ يَفْقَهُوهُ) نصب على أنه مفعول له ؛ أي جعلنا على قلوبهم أكنّة لكراهة أن يفقهوه. والوقر بفتح الواو : الثّقل في الأذن ، والوقر بكسر الواو : ما يحمل على الظّهر.

قوله تعالى : (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها ؛) أي وإن يروا كلّ حجّة ودلالة لا يقرّوا ولا يصدّقوا بها.

قوله تعالى : (حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ ؛) أي يخاصمونك بالباطل ؛ (يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (٢٥) ؛ أي يقول النّضر بن الحارث وأصحابه : ما هذا إلا أحاديث الأوّلين وأباطيلهم.

قوله عزوجل : (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ ؛) قال مقاتل : (نزلت في أبي طالب ، كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعوه إلى الإسلام ، فاجتمعت قريش إلى أبي طالب يريدون سوءا بالنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال أبو طالب :

والله لن يصلوا إليك بجمعهم

حتّى أوسّد في التّراب دفينا

__________________

(١) ينظر : الروض الأنف : بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين قريش : ج ٢ ص ٤٧ مطولا. والسيرة النبوية لابن هشام : ج ١ ص ٣١٥ ـ ٣١٦.

١٩

فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة

وأبشر بذاك وقرّ منك عيونا

ودعوتني وزعمت أنّك ناصحي

فلقد صدقت وكنت ثمّ أمينا

وعرضت دينا لا محالة أنّه

من خير أديان البريّة دينا

لولا الملامة أو حذار مسبّة

لوجدتني سمحا بذاك يقينا (١)

فأنزل الله تعالى : (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ) وينهون الناس عن أذى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) أي يتباعدون عمّا جاء به من الهدى ، فلا يصدّقونه.

وقال السّدّيّ والضحّاك : (نزلت الآية في جميع كفّار مكّة) يعني وهم ينهون الناس عن اتّباع محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والإيمان ؛ ويبعدون أنفسهم عنه. (وَإِنْ يُهْلِكُونَ ؛) بذلك ؛ (إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ) (٢٦) ؛ وما يعلمون أنّهم يهلكون أنفسهم.

قوله عزوجل : (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا ؛) أي ولو ترى يا محمّد كفار قريش إذ حبسوا على النّار ؛ إذ عاينوها ودخلوها وعرفوا عذابها ؛ فقالوا يا ليتنا نردّ ولا نكذّب بآيات ربنا ؛ تمنّوا الرجعة إلى الدّنيا.

وقرأ ابن السميقع : (وقفوا) فبفتح الواو والقاف من الوقوف. والقراءة الأولى من الوقف ، وجواب (لا) محذوف وتقديره : ولو تراهم في تلك الحالة لرأيت عجبا ، وقيل : لعلمت ماذا ينزل بهم من الخزي والندامة ، ورأيت حسرة يا لها من حسرة.

قوله تعالى : (وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا) (وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٢٧) ؛ قرأ حمزة ويعقوب وحفص : (ولا نكذّب) (ونكون) بالنصب على جواب التّمنّي ، والعرب تنصب جواب التمني بالواو كما تنصبه بالفاء ، كما قالوا : يا ليتك تصير إلينا ونكرمك ، أو فنكرمك فكلاهما بالنصب.

وقرأ ابن عامر (ولا نكذّب) بالرفع (ونكون) بالنصب ؛ لأنّهم تمنّوا الردّ وأن يكونوا مؤمنين وأخبروا أنّهم لا يكذبون بآيات ربهم وإن ردّوا إلى الدنيا. ومعناه : يا

__________________

(١) ذكره الواحدي في أسباب النزول : ص ١٤٤ عن ابن عباس مع اختلاف في بعض الألفاظ ، وذكره القرطبي في الجامع لأحكام القرآن : ج ٦ ص ٤٠٦.

٢٠