التفسير الكبير - ج ٣

سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني

التفسير الكبير - ج ٣

المؤلف:

سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني


المحقق: هشام البدراني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب الثقافي ـ الأردن / إربد
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-9957-02-1

الصفحات: ٥١٦

قوله تعالى : (قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا ؛) أي قل لهم يا محمّد : هل عندكم من علم من بيان وحجّة غير ما في القرآن ؛ فبيّنوه لنا ، (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ ؛) يعني ظنّهم في تحريم البحيرة والسّائبة والوصيلة والحام. قوله تعالى : (وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) (١٤٨) ؛ أي ما أنتم إلّا تكذبون على الله.

قال المشركون : لو شاء الله ما أشركنا ، على وجه الاستهزاء ؛ فكذبهم الله في ذلك ، وإن كانت المشيئة حقّا كما في سورة (المنافقون) : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ)(١) فكذبهم الله في قولهم : إنّك لرسول الله ؛ وإن كان ذلك حقّا ؛ لأنّهم قالوا على وجه الاستهزاء.

قوله تعالى : (وَلا آباؤُنا) عطف على المضمر المتّصل ؛ معناه : ما أشركنا نحن ولا آباؤنا. ثمّ اعلم أنّ بعضهم قال : إنّ مشيئة المعاصي إذا أضيفت إلى الله تعالى كان معناها الخذلان مجازاة لهم على سوء أفعالهم ، وإصرارهم على المعصية.

قوله عزوجل : (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) (١٤٩) ؛ أي إنّ الله قد أبلغكم حجّته ؛ وهو ما أحلّه من الثمانية أزواج ؛ فلو شاء لوفّقكم لدينه وأكرمكم بمعرفته. وقال الحسن : (معناه : قد قامت عليكم الحجّة وجاءكم الرّسول ؛ فلو شاء لوفّقكم وأجبركم على الإيمان). و (الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) : التّامّة الكافية (٢).

قوله تعالى : (قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا) ؛ أي قل لهم يا محمّد : هاتوا شهداءكم الّذين يشهدون أنّ الله حرّم هذه الأشياء ، (فَإِنْ شَهِدُوا) ؛ بأنّ الله حرّمها ، (فَلا تَشْهَدْ) ، أنت يا محمّد ، (مَعَهُمْ) ؛ لأنّهم لا يشهدون إلّا الباطل.

__________________

(١) الآية / ١.

(٢) في الجامع لأحكام القرآن : ج ٧ ص ١٢٨ ؛ قال القرطبي : ((أي التي تقع عند المحجوج ، وتزيل الشك عمن نظر فيها. فحجته البالغة على هذا : تبيينه أنه الواحد ، وإرساله الرسل والأنبياء ، فبيّن التوحيد في النظر في المخلوقات ، وأيّد الرسل بالمعجزات ، ولزم أمره كل مكلف. فأما علمه وإرادته وكلامه فغيب لا يطلع عليه العبد ، إلا من ارتضى من رسول. ويكفي في التكليف أن يكون العبد بحيث لو أراد أن ما أمر به لأمكنه)).

١٠١

قوله تعالى : (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ؛) أي لا تعمل بهوى الذين جحدوا بك وبالقرآن ؛ ولا بهوى الذين لا يصدّقون بالبعث. وإنّما فصل بين الفريقين ؛ لأنّ من الكفار من يؤمن بالبعث كأهل الكتاب ؛ ومنهم من لا يؤمن بذلك كعبدة الأوثان. قوله تعالى : (وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) (١٥٠) ؛ أي يسوّون بالله تعالى في الطاعة.

قوله عزوجل : (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ؛) أي قل يا محمّد لمالك بن عوف الخشمي ولأصحابه : هلمّوا واجتمعوا أقرأ عليكم الذي حرّم ربّكم عليكم.

وقوله تعالى : (أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً ؛) أي أوصيكم وآمركم أن لا تشركوا. ويقال : أتلوا عليكم أن لا تشركوا كما في قوله : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ)(١). وقوله تعالى : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ؛) أي وأوصيكم بالوالدين ؛ أي بالإحسان إلى الوالدين برّا بهما وعطفا عليهما ، (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ ؛) أي لا تدفنوا بناتكم أحياء مخافة الفقر.

والإملاق في اللغة : نفاد الزّاد والنّفقة ، يقال : أملق الرجل ؛ إذا نفد زاده ونفقته ، ومنه الملق ؛ وهو بذل المجهود في تحصيل المراد. قوله تعالى : (نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ؛) أي علينا رزقكم ورزقهم جميعا.

قوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ ؛) أي لا تقربوا الزنا مسرّين ولا معلنين ، (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ) أي إلّا بإحدى ثلاث خلال : زنا بعد إحصان ؛ وكفر بعد إيمان ؛ وقتل نفس بغير حقّ.

وروي أن عثمان رضي الله عنه حين أرادوا قتله أشرف عليهم وقال : (علام تقتلوني؟ سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : [لا يحلّ دم امرئ مسلم إلّا بإحدى ثلاث : رجل زنى بعد إحصان ؛ فعليه الرّجم ، ورجل قتل عمدا ، أو ارتدّ بعد إسلامه]. فو الله ما زنيت في جاهليّة ولا إسلام ؛ ولا قتلت أحدا فأفتدي نفسي منه ؛ ولا ارتددت منذ أسلمت ؛

__________________

(١) الأعراف / ١٢.

١٠٢

إنّي أشهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم) (١).

قوله تعالى : (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ ؛) أي هذا الذي ذكر لكم أمركم الله في كتابه لكي تفعلوا ما أمركم به ، (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (١٥١).

قوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ؛) أي لا تقربوا مال اليتيم الذي لا أب له إلا لحفظه وتمييزه وإصلاحه ، (حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ.) قال الشعبيّ : (هو بلوغ الحلم ؛ حيث تكتب الحسنات وتكتب عليه السّيّئات).

وقال السّدّيّ : (الأشدّ : أن يبلغ ثلاثين سنة) (٢). وقال الكلبيّ : (ما بين ثماني عشرة سنة إلى ثلاثين سنة). وجعل أبو حنيفة غاية الأشدّ : (خمسا وعشرين سنة ؛ فإذا بلغها دفع إليه ماله ما لم يكن معتوها).

قوله تعالى : (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ ؛) أي أتمّوا الكيل والوزن بالعدل عند البيع والشّراء ، (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ؛) أي إلّا طاقتها وجهدها. وهذه الآية أصل في جواز الاجتهاد في الأحكام ، وإنّ كلّ مجتهد مصيب ؛ فإذا اجتهد الإنسان في الكيل والوزن ، ووقعت فيه زيادة يسيرة أو نقصان يسير لم يؤاخذه الله به إذا اجتهد جهده ، وإنه اعتاد الكيل على ذلك فزاد أو نقص أثبت التراجع إذا كان ذلك القدر من التفاوت مما يقع بين الكيلين.

قوله تعالى : (وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى ؛) أي إذا قلتم فاعدلوا في المقالة. قيل : معناه : قولوا الحقّ إذا شهدتم وحكمتم ولو كان المشهود عليه أولي قرابة من الشاهد.

__________________

(١) أخرجه الإمام أحمد في المسند : ج ١ ص ٦١ و ٦٥ و ٧٠. وأبو داود في السنن : كتاب الديات : باب الإمام يأمر بالعفو : الحديث (٤٥٠٢). والترمذي في الجامع : أبواب الفتن : الحديث (٢١٥٨) وإسناده صحيح.

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١١٠١٥).

١٠٣

قوله تعالى : (وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ؛) أي أتمّوا فرائض الله التي أمركم بها ، كما قال تعالى : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ)(١). ويقال : أراد بالعهد في هذه الآية : النّذر واليمين ، كما قال تعالى : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ)(٢). قوله تعالى : (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (١٥٢) ؛ أي في هذا الذي ذكره الله لكم وأمركم الله به في الكتاب لكي تتّعظوا فتمتنعوا عن المحرّمات.

قوله عزوجل : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً ؛) في الجنّة. وقوله تعالى : (فَاتَّبِعُوهُ ؛) أي اعتقدوا حلال هذا الدين وحرامه ومأموره ومنهيّه ، (وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ ؛) أي ولا تتّبعوا اليهوديّة والنصرانيّة وسائر ملل الكفر ؛ فإنّها سبيل الشّيطان وهي طريق النّار.

قوله تعالى : (فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ؛) أي فيضلّكم ذلك السّبل الذي تتّبعونه بهواكم عن دين الله الذي هو الإسلام ، (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ ؛) أي هذا الذي أمركم الله به في القرآن ، (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (١٥٣) ؛ أي لتتّقوا السّبل المختلفة وتستقيموا على الإيمان.

قال ابن عبّاس رضي الله عنهما : (هذه الثّلاث آيات من المحكمات ؛ وهنّ إمام في التّوراة والإنجيل والزّبور والفرقان ؛ لم ينسخهنّ شيء في جميع الكتب ؛ وهي محرّمات على بني آدم كلّهم ؛ وهنّ أمّ الكتاب ؛ من عمل بهنّ دخل الجنّة ؛ ومن تركهنّ دخل النّار) (٣). قال كعب الأحبار : (والّذي نفس كعب بيده ؛ إنّ هذه لأوّل شيء في التّوراة : بسم الله الرّحمن الرّحيم ؛ (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ). إلى آخر الآيات الثّلاث) (٤).

__________________

(١) يس / ٦٠.

(٢) النحل / ٩١.

(٣) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١١٠١٧) مختصرا ، وفي الأثر (١١٠٢٤) عن ابن عباس وقال : ((أمر الله المؤمنين بالجماعة ، ونهاهم عن الاختلاف والفرقة ، وأخبرهم أنه إنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله)).

(٤) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١١٠١٨).

١٠٤

قوله تعالى : (ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ ؛) معناه : بل آتينا موسى الكتاب. وقيل : معنى (ثمّ) معنى العطف كأنه قال تعالى : أتل ما حرّم ربّكم عليكم ثم أتل ما آتاه الله موسى من التّوراة. قوله : (تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) أي تماما للأحسن على المحسنين النّبيّ موسى عليه‌السلام أحدهم.

ويقال : معناه : تماما على ما أحسن موسى عليه‌السلام. وكان موسى عليه‌السلام محسنا في معرفة العلم وكتب المتقدّمين ، فأعطيناه التوراة زيادة على ذلك. و (تماما) نصب على القطع. وقيل : على التّفسير. وقرأ ابن عمر : (على الّذي أحسن) بالرفع على معنى : على الذي هو أحسن.

قوله تعالى : (وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) (١٥٤) ؛ أي تتميما بالإحسان إليهم ؛ وتبيينا لكلّ شيء من الحلال والحرام ؛ والهدى من الضّلالة ؛ والنجاة من العذاب لمن آمن به وعمل بما فيه ؛ لعلّهم بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال يقرّون ويصدّقون.

قوله تعالى : (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ ؛) أي وهذا القرآن كتاب أنزلناه فيه بركة وخير كثير لمن آمن به. ومعنى البركة : ثبوت الخير وديمومته ، (فَاتَّبِعُوهُ ؛) أي اقتدوا به في أوامره ونواهيه ، (وَاتَّقُوا ،) مخالفته وسخطه ، (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (١٥٥) ؛ لتكونوا على رجاء الرّحمة.

قوله تعالى : (أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا ؛) أي كراهة أن يقولوا : إنّما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا ؛ أراد به التوراة لليهود ؛ والإنجيل للنصارى ، (وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ) (١٥٦) ؛ أي وقد كنّا عن قراءة كتبهم التوراة والإنجيل لغافلين عمّا فيه. وقيل : معناه : وما كنّا عن قراءة كتبهم التوراة والإنجيل إلّا غافلين عمّا فيهما.

قوله تعالى : (أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ ؛) أي وكراهة أن يقولوا : لو أنّا أنزل علينا الكتاب كما أنزل على اليهود والنصارى ، لكنّا أسرع إجابة منهم. وذلك : أنّ أهل مكّة كانوا يقولون : قاتل الله اليهود ؛ كيف كذبوا على أنبيائهم ، والله لو جاءنا نذير وكتاب لكنّا أهدى منهم.

١٠٥

قال الله تعالى : (فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ؛) أي القرآن بيانا ودلالة من ربكم ، (وَهُدىً ؛) من الضّلالة ؛ (وَرَحْمَةٌ ؛) لمن آمن به واتّبعه ، رحم الله بإنزاله عباده.

قوله تعالى : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ ؛) أي لا أجد أعتى ولا أجرأ على الله ممّن كذب بآيات الله ، (وَصَدَفَ عَنْها ؛) أي أعرض عنها ، (سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ) (١٥٧) ؛ أي سنعاقب الذين يعرضون عن آياتنا بأقبح العذاب وأشدّه بإعراضهم وتكذيبهم.

قوله عزوجل : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ ؛) أي ما ينظر أهل مكة بعد نزول الآيات وقيام الحجج عليهم إلا إتيان ملك الموت وأعوانه لقبض أرواحهم ؛ أي لم يبق إلّا هذا. قوله : (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ ؛) معناه : أو يأتي أمر ربك بإهلاكهم والانتقام منهم ؛ إمّا بعقاب عاجل أو بالقيامة. وقوله : (أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ ؛) يعني طلوع الشّمس من مغربها.

قال الحسن : (أو يأتي بعض آيات ربك الحاجّة من التّوبة) ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [بادروا بالأعمال ستّا : طلوع الشّمس من مغربها ؛ ودابّة الأرض ؛ وخروج الدّجّال ؛ والدّخان ؛ وخويصة أحدكم ـ يعني موته ـ ، وأمر العامّة ـ يعني القيامة]. (١)

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [باب التّوبة مفتوح من قبل المغرب مسيرة أربعين سنة ، وملك قائم على ذلك الباب يدعو النّاس إلى التّوبة ، فإذا أراد الله أن تطلع الشّمس من مغربها ؛ طلعت من ذلك الباب سوداء لا نور لها ؛ فتوسّطت السّماء ثمّ رجعت ، فيغلق الباب وتردّ التّوبة ، ثمّ ترجع إلى شرقها لتطلع بعد ذلك مائة وعشرين سنة ، إلّا

__________________

(١) في الدر المنثور : ج ٣ ص ٣٩٤ ؛ قال السيوطي : ((أخرجه أحمد وعبد بن حميد ومسلم والحاكم وصححه وابن مردويه عن أبي هريرة)). وأخرجه الحاكم في المستدرك : كتاب الفتن : الحديث (٨٦٢١) ؛ وقال : ((قد احتج مسلم بعبد الله بن رباح ، هذا حديث صحيح ولم يخرجاه)) ولقد وهم فيه الحاكم ؛ أخرجه مسلم في الصحيح : كتاب الفتن : باب في بقية من أحاديث الدجال : الحديث (١٢٨ و ١٢٩ / ٢٩٤١).

١٠٦

أنّها سوداء تمرّ مرّا]. (١)

وعن ابن عبّاس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [إذا غربت الشّمس ؛ رفع بها إلى السّماء السّابعة في سرعة طيران الملائكة ، وتحبس تحت العرش ، فيستأذن من أين تطلع ؛ أمن مطلعها أم من مغربها ، وكذا القمر ، فلا يزالا كذلك حتّى يأتي الله بالوقت الّذي وقّته لتوبة عباده.

وتكثر المعاصي في الأرض ، ويذهب المعروف فلا يأمر به أحد ، ويكثر المنكر فلا ينهى عنه أحد ، فإذا فعلوا ذلك حبست الشّمس تحت العرش ، فإذا مضى مقدار ليلة سجدت ، واستأذنت ربّها من أين تطلع ، فلم يجئ لها جواب حتّى يوافقها القمر ، فيسجد معها ؛ فلا يعرف مقدار تلك اللّيلة إلّا المتهجّدون في الأرض ؛ وهم يومئذ عصابة قليلة في هوان من النّاس.

فينام أحدهم تلك اللّيلة مثل ما ينام قبلها من اللّيالي ، ثمّ يقوم فيتهجّد ورده ؛ فلا يصبح ؛ فينكر ذلك ، فيخرج وينظر إلى السّماء ؛ فإذا هي باللّيل مكانها والنّجوم مستديرة ، فينكر ذلك ويظنّ فيه الظّنون ، فيقول : خفّت قراءتي ؛ أو قصرت صلاتي ؛ أم قمت قبل حين؟!

ثمّ يقوم فيعود إلى مصلّاه ، فيصلّي نحو صلاته في اللّيلة الثّانية ، ثمّ ينظر ؛ فلا يرى الصّبح ، فيخرج فإذا هو باللّيل كما هو ، فيخالطه الخوف ، ثمّ يعود وجلا خائفا إلى مصلّاه ، فيصلّي مثل ورده كلّ ليلة ، ثمّ ينظر فلا يرى الصّبح ؛ فيشتدّ به الخوف.

فيجتمع المتهجّدون في كلّ ليلة من تلك اللّيالي في مساجدهم ، ويجأرون إلى الله تعالى بالبكاء والتّضرّع. فيرسل الله تعالى جبريل عليه‌السلام إلى الشّمس والقمر فيقول لهما : إنّ الله يأمركما أن ترجعا إلى مغاربكما فتطلعا منه ، فإنّه لا ضوء لكما عندنا ولا نور ، فيبكيان عند ذلك وجلا من الله بكاء يسمعه أهل السّموات السّبع وأهل سرادقات العرش ، ثمّ يبكي من فيهما من الخلائق من خوف الموت والقيامة.

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الحديث (١١٠٨٥) بلفظ قريب وأسانيد.

١٠٧

فبينما المتهجّدون يبكون ويتضرّعون والغافلون في غفلاتهم ؛ إذا بالشّمس والقمر قد طلعتا من المغرب أسودان لا ضوء للشّمس ولا نور للقمر كصفتهما في كسوفهما ، فذلك قوله تعالى : (وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ)(١) ، فيرتفعان كذلك مثل البعيرين ينازع كلّ واحد منهما استباقا ، فيتصارخ أهل الدّنيا حينئذ ويبكون.

فأمّا الصّالحون فينفعهم بكاؤهم ، ويكتب لهم عبادة ، وأمّا الفاسقون فلا ينفعهم بكاؤهم يومئذ ، ويكتب ذلك عليهم حسرة وندامة. فإذا بلغ الشّمس والقمر سرّة السّماء ومنتصفها ، جاء جبريل فأخذ بقرونهما فردّهما إلى المغرب ؛ فيغربان في باب التّوبة].

فقال عمر : بأبي وأمّي أنت يا رسول الله ؛ ما باب التّوبة؟ قال : [يا عمر ؛ خلق الله بابا للتّوبة خلف المغرب ؛ له مصراعان من ذهب ؛ ما بين المصراع إلى المصراع أربعون سنة للرّاكب ، فذلك الباب مفتوح منذ خلق الله خلقه إلى صبيحة تلك اللّيلة عند طلوع الشّمس والقمر من مغربهما ، فإذا غربا في ذلك الباب ردّ المصراعان والتأم ما بينهما ، فيصير كأن لم يكن بينهما صدع. فإذا أغلق باب التّوبة لم يقبل للعبد توبة بعد ذلك ، ولم ينفعه حسنة يعملها إلّا من كان قبل ذلك محسنا ، فإنّه يجري عليه ما كان يجري قبل ذلك اليوم.

فذلك قوله تعالى : (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً ،) قال السّدّيّ : (لا ينفع أحدا فعل الإيمان ولا فعل الخير في تلك الحالة ، فإنّما ينفع فعل هذا قبل تلك الحال) (٢).

وقيل : معنى (خيرا) إخلاصا ؛ أي إذا لم تكن النفس مخلصة قبل مجيء الآيات ؛ لا ينفعها الإخلاص بعد مجيء الآيات ، (قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) (١٥٨) ، فقال أبيّ بن كعب : يا رسول الله ؛ وكيف بالشّمس والقمر بعد ذلك؟ وكيف بالنّاس

__________________

(١) القيامة / ٩.

(٢) بمعناه أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١١٠٨٠). عن السدي يقول : (كسبت في تصديقها خيرا عملا صالحا ، فهؤلاء أهل القبلة. وإن كانت مصدقة ولم تعمل قبل ذلك خيرا فعملت بعد أن رأت الآية لم يقبل منها. وإن عملت قبل الآية خيرا ثم عملت بعد الآية خيرا ، قبل منها).

١٠٨

والدّنيا؟ فقال : [يا أبيّ ؛ إنّ الشّمس والقمر يكبتان الضّوء بعد ذلك ، ثمّ يطلعان ويغربان كما كانا قبل ذلك يطلعان ويغربان. فإنّ النّاس رأوا ما رأوا في فظاعة تلك الآية ، يلحون على الدّنيا (١) حتّى تجري إليها الأنهار ويغرسوا فيها الأشجار ، ويبنوا فيها البنيان].

فقال حذيفة بن أسيد والبراء بن عازب : كنّا نتذاكر السّاعة إذ أشرف علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فقال : [ما تتذاكرون؟] قلنا : السّاعة يا رسول الله ، قال : [إنّها لا تقوم حتّى يخرج الدّجّال ؛ ودابّة الأرض ؛ ويأجوج ومأجوج ؛ ونار تخرج من قعر عدن ؛ ونزول عيسى ؛ وطلوع الشّمس من مغربها](٢).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [لا تقوم السّاعة حتى تطلع الشّمس من مغربها ؛ فإذا طلعت ورآها النّاس ؛ آمنوا جميعا ، فذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا](٣).

قوله عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ ؛) قرأ حمزة والكسائيّ : (فارقوا) بالألف ؛ أي خرجوا من دينهم وتركوه ؛ وهي قراءة عليّ رضي الله عنه (٤). وقرأ الباقون (فرّقوا) بالتّشديد بغير ألف ؛ وهي قراءة ابن مسعود وابن عبّاس وأبيّ بن كعب ؛ أي جعلوا دين الله فرقا يتهوّد قوم ، ويتنصّر قوم ، يدلّ عليه قوله تعالى : (وَكانُوا شِيَعاً) أي فرقا مختلفة.

وقال مجاهد : (أراد بهم اليهود) (٥) فإنّهم كانوا يمالئون المشركين على المسلمين لشدّة عداوتهم. وقال قتادة : (هم اليهود والنّصارى ؛ فإنّ بعضهم يكفّر

__________________

(١) في المخطوط : (وأما الناس على الدنيا) وملاحظ فيه الخلل ، إذ فيه سقط. فضبط النص كما في تفسير الثعلبي : الكشف والبيان : ج ٤ ص ٢٠٩.

(٢) في الدر المنثور : ج ٣ ص ٣٩٦ ـ ٣٩٨ ؛ قال السيوطي : ((أخرجه ابن مردويه بسند واه عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ... وذكره)).

(٣) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١١٠٥٦) وأصله في الصحيحين.

(٤) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١١٠٨٢).

(٥) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١١٠٨٥) ، بأسانيد.

١٠٩

بعضا) (١). وعن أبي هريرة أنه قال : (هم أهل البدع والضّلالة من هذه الأمّة ، فإنّ بعضهم يكفّر بعضا بالجهالة) (٢).

قوله عزوجل : (وَكانُوا شِيَعاً ؛) أي فرقا مختلفة ، والشّيع : جمع الشّيعة ؛ وهي الفرقة التي يتبع بعضها بعضا ؛ يقال : شايعه على الأمر ؛ إذا اتّبعه ، وقيل : أصل الشّيع الظّهور ؛ يقال : شاع الحديث يشيع ؛ إذا ظهر.

قوله تعالى : (لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ؛) أي لست من مذاهبهم الباطلة في شيء ؛ أي أنت بريء من جميع ذلك ، (إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ؛) أي مصيرهم ومنقلبهم إلى الله ، (ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ ؛) ثم يجزيهم في الآخرة ، (بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) (١٥٩) ؛ أي بما كانوا يعملون في الدّنيا ، فيندم المبطل ، ويفرح المحقّ.

قوله عزوجل : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها ؛) أي من جاء بخصلة من الطاعات فله عشر حسنات ، (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها ؛) أي من جاء بخصلة من المعصية فلا يجزى إلّا مثلها ، (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (١٦٠) ؛ بالزيادة على مقدار ما يستحقّون من العقاب ، وإنّما قال ذلك لأنّ الفضل بالنّعم جائز ، والابتداء بالعقاب لا يجوز. وقرأ الحسن وسعيد بن جبير ويعقوب : (فله عشر) بالتنوين (أمثالها) بالرّفع على معنى : فله حسنات عشر أمثالها.

وقد تكلّم أهل العلم بالحسنات العشر التي وعد الله في هذه الآية ؛ فقال بعضهم : المراد بها التحديد بالعشرة. وقال بعضهم : المراد بها التضعيف دون التّحديد بالعشرة ؛ كما يقول القائل : لإن أسديت إليّ معروفا لأكافئنّك بعشرة أمثاله.

ثمّ اختلفوا ؛ فقال بعضهم : هو كلّه بفضل وثواب غير ذلك ؛ كأنه قال تعالى : من جاء بالحسنة فله عشر حسنات من النّعم والسّرورة زيادة على ثواب حسنته.

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١١٠٨٦).

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : الحديث (١١٠٩١ ـ ١١٠٩٣). وأخرجه الطبراني في الأوسط : الحديث (٦٦٨). وفي مجمع الزوائد : ج ٧ ص ٢٣ ؛ قال الهيثمي : ((رواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح غير معلل بن نفيل وهو ثقة)).

١١٠

قالوا : ولا يجوز أن تساوى منزلة التفضيل بمنزلة الثواب ؛ لأن الثواب لا بدّ أن يقارنه التعظيم والإجلال.

وقال بعضهم : هذه الحسنات العشر تفضّل من الله تعالى ؛ قالوا : ويجوز أن يتفضّل على من لا يعمل مثل ثواب العامل ابتذالا منه ؛ وتفضل في فعله على من لا يستحق عليه شيء.

وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنّه [إذا حسن إسلام أحدكم ؛ فكلّ حسنة يعملها يكتب له عشر أمثالها ؛ إلى سبعمائة ضعف ؛ إلى ما شاء الله. وكلّ سيّئة يعملها ؛ يكتب له مثلها إلى أن يلقى الله تعالى](١).

وعن خريم بن فاتك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [الأعمال ستّة : موجبتان ؛ ومثل بمثل ؛ وحسنة بحسنة ؛ وحسنة بعشر ؛ وحسنة بسبعمائة. فأمّا الموجبتان ؛ فهو من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنّة ، ومن مات وهو مشرك بالله دخل النّار. وأمّا مثل بمثل ؛ فمن عمل سيّئة ؛ فجزاء سيّئة بمثلها. وأمّا حسنة بحسنة ؛ فمن همّ بحسنة حتّى يشعر بها نفسه ويعلمها الله من قلبه ؛ كتب له حسنة. وأمّا حسنة بعشر ؛ فمن عمل حسنة فله عشر أمثالها. وأمّا حسنة بسبعمائة ؛ فالنّفقة في سبيل الله](٢).

قوله عزوجل : (قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ؛) أي قل لهم يا محمّد : إنّني وفّقني ربي وأرشدني إلى دين الحقّ الذي أدعو الخلق إليه. قوله تعالى : (دِيناً قِيَماً ؛) أي دينا هو غاية في الاستقامة.

قرأ أهل الكوفة والشّام : (قيما) بكسر القاف وفتح الياء مخفّفا ؛ فمعناه : المصدر ؛ كالصّغر والكبر ، ولم يقل : قوما ؛ لأنه من قولك : قام يقوم قياما وقيما. وقرأ الباقون

__________________

(١) أخرجه الإمام أحمد في المسند : ج ٢ ص ٣١٧ من حديث أبي هريرة. ومسلم في الصحيح : كتاب الإيمان : الحديث (٢٠٥ / ١٢٩).

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : الحديث (١١١٣) عن قتادة مرسلا. وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير : ج ٤ ص ٢٠٥ : الحديث (٤١٥١) ـ ٤١٥٥). والحاكم في المستدرك : كتاب الجهاد : الحديث (٢٤٨٧).

١١١

بالتشديد. وتصديق التشديد : (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ)(١)(وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ)(٢). والقيّم : المستقيم. واختلف النّحاة في نصبه ؛ فقال الأخفش : (هداني دينا قيّما). وقيل : عرّفني دينا. وقيل : أعني دينا. وقيل : انتصب على الإغراء ؛ أي التزموا دينا واتّبعوا دينا.

قوله تعالى : (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً ؛) أي دين إبراهيم ؛ وهو بدل من قوله (دينا). وقوله (حَنِيفاً) أي مائلا عن الشّرك وجميع الأديان الباطلة ميلا لا رجوع فيه ، وهو نصب على الحال ؛ كأنه قال : عرّفني دين إبراهيم في حال حنيفيّته. وقوله تعالى : (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١٦١) ؛ أي ما كان إبراهيم عليه‌السلام على دين المشركين. وإنّما أضاف هذا الدين إلى إبراهيم ؛ لأن إبراهيم كان معظّما في عيون العرب ، وفي قلوب سائر أهل الأديان ؛ إذ أهل كلّ دين يزعمون أنّهم يبجّلون دين إبراهيم عليه‌السلام.

قوله تعالى : (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (١٦٢) ؛ أي قل لهم يا محمّد : إنّ صلاتي بعد الصّلوات الخمس المفروضة ؛ (ونسكي) أي طاعتي ، وأصل النّسك : كلّ ما يتقرّب به إلى الله تعالى ، ومنه قولهم للعابد : ناسك. وقال ابن جبير : (معناه : (وَنُسُكِي) في الحجّ والعمرة لله رب العالمين). ويقال : أراد بالصلاة صلاة العيد ، وبالنّسك الأضحية.

وقوله تعالى : (وَمَحْيايَ وَمَماتِي) أي وحياتي وموتي لله رب الخلائق كلّهم. وإنّما أضاف المحيا والممات إلى الله وإن لم يكن ذلك ممّا يتقرّب به إليه ؛ لأن الغرض بالآية التّبرّئ إلى الله تعالى من كلّ حول وقوّة والإقرار له بالعبوديّة. وقيل : المراد بذلك أنّ الله تعالى هو المختصّ بأن يحييه ويميته ؛ لا شريك له في ذلك.

قوله تعالى : (لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ ؛) أي أمرني بذلك ، (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (١٦٣) ؛ أي أوّل من استقام على الإيمان من أهل هذا الزمان. قرأ أهل المدينة : (ومحياي) بسكون الياء. وقرأ الباقون بفتحها كيلا يجتمع ساكنان. وقرأ السلميّ : (ونسكي) بإسكان السّين.

__________________

(١) التوبة / ٣٦.

(٢) البينة / ٥.

١١٢

وعن أنس رضي الله عنه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ أنّه قرّب كبشا أملح أقرن ؛ فقال : [لا إله إلّا الله ؛ والله أكبر ؛ إنّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ، لا شريك له] الآية ، ثمّ ذبح فقال : [شعره وصوفه فداء لشعري من النّار ، وجلده فداء لجلدي من النّار ، وعروقه فداء لعروقي من النّار] فقالوا : يا رسول الله ؛ هنيئا مريئا ؛ هذا لك خاصّة؟ فقال : [لا ؛ بل لأمّتي عامّة إلى أن تقوم السّاعة ، أخبرني بذلك جبريل عليه‌السلام عن ربي عزوجل].

قوله عزوجل : (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ ؛) أي قل يا محمّد : أغير الله أطلب إلها لي ولكم (وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ) أي هو مالكي ومالككم ومالك كلّ شيء ؛ فكيف أطلب النفع من مربوب مثلي ومثلكم ، وأدع سؤال ربي يملكني ويملككم ؛ فهل يجوز هذا؟ وهل يحسن هذا؟ لا بدّ أن يكون جوابه : لا.

قوله تعالى : (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها ؛) أي لا تعمل كلّ نفس طاعة ولا معصية إلّا عليها. قال أهل الإشارة : ولا تكسب كلّ نفس من خير أو شرّ إلّا عليها ، أما الشّرّ فهو مأخوذ به ، وأمّا الخير فهو مطلوب منه صحّة قصده وخلوّه من الرّياء والعجب والافتخار به.

قوله تعالى : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ؛) أي ما تحمل حاملة ثقل أخرى ، والمعنى : لا يحمل أحدا ذنب غيره ، بل كلّ نفس مأخوذة بجرمها وعقوبة إثمها. والوزر في اللغة : هو الثّقل. قوله تعالى : (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ ؛) أي مصيركم ومنقلبكم ، (فَيُنَبِّئُكُمْ ؛) أي فيجزيكم ؛ (بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (١٦٤) ؛ في دار الدّنيا.

قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ ؛) أي جعلكم يا أمّة محمّد خلفا في الأرض ، والخلائف : جمع الخليفة ، وكلّ قرن خليفة للقرن الذين كانوا قبلهم في الأرض. وقوله تعالى : (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ ؛) أي فضّل بعضكم في المال والمعاش والجاه ؛ تقديره : إلى درجات ، ثم حذف (إلى) وانتصب (درجات). ويقال : إنّ الدرجات مفعول على تقدير : ورفعكم درجات ، كما يقال : كسوت فلانا ثوبا.

١١٣

قوله تعالى : (لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ ؛) أي ليختبركم فيما أعطاكم ؛ يختبر الغنيّ بالفقير ؛ والفقير بالغنيّ ، فيظهر للناس شكر الشاكرين وصبر الصابرين. قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٦٥) ؛ أي إذا عاقب فإنه سريع العقاب مع أنه موصوف بالحلم والإمهال ؛ لأنّ كلّ ما هو آت قريب. وقيل : أراد بقوله : (سَرِيعُ الْعِقابِ) سريع الحساب. وقوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ) أي غفور لمن تاب من الذنوب ، (رحيم) بمن مات على التوبة. وقال عطاء : (سريع العقاب لأعدائه ، غفور رحيم لأوليائه) (١). والله أعلم.

آخر تفسير سورة (الأنعام) والحمد لله رب العالمين

تمّ الجزء الأوّل من تفسير كتاب الله العزيز (٢)

__________________

(١) ذكره البغوي في معالم التنزيل : ص ٤٥٥.

(٢) هكذا رسمها الناسخ في المخطوط : الورقة ص ١٨٨.

١١٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

وبه التّوفيق والإعانة

سورة الأعراف

سورة الأعراف أربعة عشر ألف حرف وثلاثمائة حرف وعشرة أحرف ؛ وثلاثة آلاف كلمة وثلاثمائة وخمس وعشرون كلمة ؛ ومائتان وستّ آيات ، وهي مكّيّة (١).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله عزوجل : (المص (١ كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) (٢) ؛ قال ابن عبّاس : في قوله : (المص) : (معناه : أنا الله أعلم وأفصّل) (٢). وقيل : اللّام افتتاح اسمه : لطيف ؛ والميم افتتاح اسمه : مجيد ومالك ؛ والصاد افتتاح اسمه : صمد وصادق الوعد وصانع المصنوعات.

وقيل : هي حرف اسم الله الأعظم. وقيل : هي حروف تحوي معان كثيرة. وموضعه رفع بالابتداء ، و (كتاب) خبره ؛ كأنه قال : المص حروف كتاب أنزل إليك. وقيل : (كتاب) خبر مبتدأ مضمر ؛ أي هذا كتاب. وقيل : رفع على التقديم والتأخير ؛ يعني : أنزل إليك كتاب ؛ وهو القرآن.

قوله : (فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) أي فلا يقع في نفسك شكّ منه ؛ خاطب به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعنى به الخلق كلّهم ؛ أي لا ترتابوا وتشكّوا. ويقال : الحرج : الضيّق ؛ أي لا يضيق صدرك من تأدية ما أرسلت به ، ولا تخافنّ من إبلاغ الرّسالة ، فإنك في

__________________

(١) أما أنها مكية ؛ في الدر المنثور : ج ٣ ص ٤١٢ ؛ قال السيوطي : ((أخرجه ابن الضريس والنحاس في ناسخه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل من طرق عن ابن عباس ، وأخرجه ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير)).

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١١١٢٨ ـ ١١١٢٩). وينظر : اللباب في علوم الكتاب : ج ٩ ص ٣.

١١٥

أمان الله ؛ والله يعصمك من الناس. قوله تعالى : (لِتُنْذِرَ) أي أنزل إليك لتخوّف (بِهِ) بالقرآن أهل مكة. (وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) أي وليكون عظة لمن اتّبعك.

قوله تعالى : (اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ؛) أي اعملوا بما أنزل إليكم من ربكم. وحقيقة اتّباع القرآن تصرف الناس تصريف القرآن لهم وتدبّرهم بتدبيره. قوله تعالى : (وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) أي لا تتّخذوا من دونه أوثانا ، ولا تتولّوا أحدا إلا لوجهه. قوله تعالى : (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) (٣) ؛ أي قليلا ما تتّعظون.

قوله تعالى : (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ) (٤) أي وكم من قرية أهلكنا أهلها بأنواع العذاب فجاءها بأسنا ليلا. وسمّى الليل بياتا ؛ لأنه بيات فيه. قوله تعالى : (أَوْ هُمْ قائِلُونَ) أي وقت الظّهيرة ؛ يعني نهارا في وقت القائلة. و (قائِلُونَ) : نائمون وقت الهاجرة.

وإنّما خصّ هذين الوقتين بنزول العذاب ؛ لأنّهما من أوقات الرّاحة. وقيل : من أوقات الغفلة. ومجيء العذاب في حال الراحة أغلظ وأشدّ ؛ أهلك الله قوم شعيب في نصف النهار ، وفي حرّ شديد وهم قائلون. وفائدة هذه الآية : التهديد والوعيد على معنى : إن لم تتّعظوا أتاكم العذاب ليلا أو نهارا كما أتى الأوّلين الذين لم يتّعظوا.

ثم أخبر جلّ ذكره عن حال من أتاهم العذاب فقال عزوجل : (فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلَّا أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) (٥) ؛ معناه : لم يكن قولهم ودعاؤهم حين جاءهم عذابنا إلا الاعتراف بالظلم والشّرك ؛ أي اعتبروا بهم ؛ فكما لم ينفعهم تضرّعهم عند رؤية البأس ؛ كذلك لا ينفعكم إذا جاءكم العذاب تضرّعكم.

قال سيبويه : (إنّ الدّعوى تصلح في معنى الدّعاء ، ويجوز أن يقال : اللهمّ أشركنا في صالح دعوى المسلمين ودعاء المسلمين) (١). فإن قيل : إنّ الهلاك يكون

__________________

(١) ينظر : الجامع لأحكام القرآن : ج ٧ ص ١٦٣ ؛ نقله القرطبي عن النحويين. وفي اللباب : ج ٩ ص ١٨ ؛ قال الحنبلي : ((حكاه الخليل)).

١١٦

بعد البأس ؛ فكيف قال : (فَأَهْلَكْناهُمْ)(١)(أَهْلَكْناها)(٢)(فَجاءَها بَأْسُنا؟) قيل : إنّهما يقعان معا كما يقال : أعطيتني فأحسنت. ويجوز أن يكون التقدير : أهلكناها في حكمنا فجاءها بأسنا.

قوله تعالى : (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) (٦) إخبار عن حالهم يوم القيامة. ودخول الفاء أوّل في هذه الآية لتقريب ما بين الهلاك وسؤال يوم القيامة. والمعنى : فلنسألنّ الّذين أرسل إليهم : هل بلّغتكم الرسل الرسالة؟ وماذا أجبتموهم؟ ولنسألنّ المرسلين : هل بلّغتم قومكم ما أرسلتم به؟ وماذا أجابوكم؟

قوله تعالى : (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ) (٧) ؛ أي لنجزينّهم بما عملوا بعلم منّا ؛ معناه : إنّا لنسألهم لنعلم أنّ ما نسألهم لإقامة الحجّة عليهم. قوله : (وَما كُنَّا غائِبِينَ) معناه : إنّا كنّا عالمين بكلّ شيء من تبليغ الرّسالة وجواب الأمم.

قوله تعالى : (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ ؛) أي وزن الأعمال يوم القيامة الحقّ ؛ فلا ينقص من إحسان محسن ؛ ولا يزاد على إساءة مسيء. وقال مجاهد : (معناه : والقضاء يومئذ العدل) (٣).

قوله : (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٨) ؛ أي من رجحت حسناته على سيّئاته فأولئك هم الظّافرون بالمراد ، (وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ) أي رجحت سيّئاته على حسناته ، (فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) عموا حظّ أنفسهم ، (بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ) (٩) ؛ أي بما كانوا بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يجحدون. فالخسران : ذهاب رأس المال ؛ ورأس مال الإنسان نفسه ؛ فإذا هلك بسوء عمله فقد خسر نفسه.

__________________

(١) الكهف / ٥٩.

(٢) الأنبياء / ٦.

(٣) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١١١٤٢ و ١١١٤٣).

١١٧

وقد تكلّموا في ذكر الموازين يوم القيامة ؛ قال ابن عبّاس : (توزن الحسنات والسّيّئات في ميزان له لسان وكفّتان توضع فيه أعمالهم ، فأمّا المؤمن فيؤتى بعمله في أحسن صورة ؛ فيوضع في كفّة الميزان ؛ فتثقل حسناته على سيّئاته ؛ فيوضع عمله في الجنّة عند منازله ، ثمّ يقال له : إلحق بعملك ؛ فيأتي منازله في الجنّة فيعرفها بعمله.

وأمّا الكافر ؛ فيؤتى بعمله في أقبح صورة ؛ فيوضع في كفّة الميزان ؛ فيخفّ ـ والباطل خفيف ـ ثمّ يرفع فيوضع في النّار ، ثمّ يقال له : إلحق بعملك ؛ فيلحق فيأتي منازله في النّار) (١).

وقيل : إنّ المراد بالعمل في هذا الخبر أنّ الله يجعل للحسنات صورة حسنة ؛ وللسيّئات صورة قبيحة ، إلّا أن عين الأعمال توزن ؛ لأنّ الأعمال أعراض منقضية لا تعاد. وقال ابن عمر : (يؤتى بصحف الطّاعات وصحف المعاصي ، فتوزن الصّحف).

وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : [يؤتى بالعبد المؤمن يوم القيامة إلى الميزان ، ثمّ يؤتى بتسعة وتسعين سجلا ؛ كلّ واحد منهم مدّ البصر ؛ فيها خطاياه وذنوبه ؛ فتوضع في كفّة الميزان ، ثمّ تخرج بطاقة من تحت العرش بمقدار أنملة ؛ فيها شهادة أن لا إله إلّا الله ؛ فتوضع في الكفّة الأخرى. فيقول العبد : يا رب ؛ ما تزن هذه البطاقة مع هذه الصّحائف؟! فيأمر الله أن توضع ؛ فإذا وضعت في الكفّة طاشت الصّحف ورجحت البطاقة](٢).

__________________

(١) في الدر المنثور : ج ٣ ص ٤٢٠ ؛ قال السيوطي : ((أخرجه البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس)). وأخرجه البيهقي في شعب الإيمان : باب في حشر الناس : الحديث (٢٨٢) ؛ قال :

((ذهب أهل التفسير إلى إثبات الميزان بكفتيه ، وجاء في الأخبار ما يدل عليه. وقد روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس ... وذكره)).

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : الحديث (١١١٤٩). ورواه ابن ماجة في السنن : كتاب الزهد : الحديث (٤٣٠٠) عن عبد الله بن عمر. والبيهقي في شعب الإيمان : الحديث (٢٨٣).

١١٨

وقال بعضهم : يوزن الإنسان ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [يؤتى بالرّجل الأكول الشّروب العظيم فيوزن ؛ فلا يزن جناح بعوضة ؛ إقرأوا إن شئتم : (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً)](١).

وأما ذكر الموازين بلفظ الجماعة ؛ فلأنّ الميزان يشتمل على الكفّتين والخيوط والشاهدين (٢). فإن قيل : ما الحكمة في وزن الأعمال ، والله قادر عالم بمقدار كلّ شيء قبل خلقه إيّاه وبعده؟ قيل : لإقامة الحجّة عليهم ، ونظيره قوله تعالى : (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(٣) فأخبر بنسخ الأعمال وإثباتها مع علمه بها لما ذكرنا. وقيل : الحكمة فيه تعريف الله العباد ما لهم عنده من جزاء على الخير والشرّ. وقيل : جعله الله علامة للسعادة والشقاوة. وقيل : لامتحان الله عباده بالإيمان به في الدّنيا.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ ؛) أي مكّنّاكم بالتمليك والإقرار ودفع الموانع ، وجعلنا لكم في الأرض معايش ؛ وهو ما تعيشون به من الرّزق ؛ وهو ما يخرج من الأرض من الحبوب والأشجار والثّمار. وقيل : معنى (المعايش) : التواصل إلى ما يعاش به من الحراثة والتجارة ، وأنواع الحرف والزراعات. قوله تعالى : (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) (١٠) ؛ أي شكركم فيما صنع إليكم قليل. وقيل : معنى قوله : (وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ) أي تعيشون بها أيّام حياتكم من المآكل والمشارب.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ؛) أي خلقنا آدم الذي هو أصل خلقتكم ، ثم صوّرناه إنسانا ، (ثُمَّ قُلْنا ؛) من بعد خلقه من التراب وتصويره ؛ (لِلْمَلائِكَةِ ؛) الذين كانوا في الأرض مع إبليس : (اسْجُدُوا لِآدَمَ ؛) سجدة تحيّة ؛ (فَسَجَدُوا ؛) المأمورون ؛ (إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) (١١) ؛ لآدم.

__________________

(١) أخرجه البخاري في الصحيح : كتاب التفسير : باب (٦) : الحديث (٤٨٩٢) عن أبي هريرة رضي الله عنه وأوله : [إنّه ليأتي الرّجل ...]. ومسلم في الصحيح : كتاب صفة القيامة : الحديث (١٨ / ٢٧٨٥).

(٢) في المخطوط : (والساهين).

(٣) الجاثية / ٢٩.

١١٩

وقيل : معنى الآية : ولقد خلقناكم في بطون أمّهاتكم نطفا ؛ ثم علقا ؛ ثم مضغا ؛ ثم عظاما ؛ ثم لحما ، ثم صوّرناكم : الحسن والذميم ؛ والطويل والقصير ، وصوّرنا لكم عضوا من العين والأنف والأذن واليد والرّجل وأشباه ذلك.

قوله تعالى : (ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) قال الأخفش : ((ثمّ) ها هنا في معنى الواو) (١) أي وقلنا للملائكة اسجدوا لآدم الآن. قوله تعالى للملائكة : (اسْجُدُوا لِآدَمَ) قبل خلقنا وتصويرنا.

وأنكر الخليل وسيبويه أن تكون (ثمّ) بمعنى (الواو) ، ولكن تكون للتراخي. ويجوز أن يكون معنى (ثمّ) ها هنا التّراخي من حيث الإخبار دون ترادف الحال.

قوله تعالى : (قالَ ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ؛) أي ما منعك أن تسجد ، و (لا) زائدة في الكلام كما في قوله تعالى : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ)(٢) أي ليعلم أهل الكتاب. وقيل : معناه : ما دعاك إلى أن لا تسجد ، وقد علم الله ما منعه من السجود ، ولكن مسألته إياه توبيخ له وإظهار أنه معاند ركب المعصية. وعن يحيى بن ثعلب أنه قال : (كان بعضهم يكره أن لا ويقول : تقديره : من قال لك لا تسجد؟).

قوله تعالى : (قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) (١٢) ؛ ليس هذا الجواب عمّا سأله تعالى من جهة اللفظ ؛ لأن هذا الجواب جواب : أيّكما خير؟ إلّا أن هذا جواب من جهة المعنى ، فإن معناه : إنّما منعني من السجود له إلا أنّي كنت أفضل منه.

وكان هذا القول من اللّعين تجهيلا منه بخالقه ؛ كأن قال : إنّك فضّلت الظّلمة على النّور وليس ذلك من الحكمة. فأعلم الله تعالى أنه صاغر بهذا القول ، وليس الأمر على ما قاله الملعون ؛ لأنه رأى أنّ جوهر النار أفضل من جوهر الطّين في المنفعة ، وليس كذلك لأن عامّة الثّمار والحبوب والفواكه من الطّين ، وكذلك الملابس كلّها لا تخرج إلا من الطّين ، وعمارة الأرض من الطين ، وهو موضع القرار عليه لا

__________________

(١) قاله الأخفش في معاني القرآن : ج ٢ ص ٢٩٤.

(٢) الحديد / ٢٩.

١٢٠