التفسير الكبير - ج ٣

سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني

التفسير الكبير - ج ٣

المؤلف:

سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني


المحقق: هشام البدراني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب الثقافي ـ الأردن / إربد
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-9957-02-1

الصفحات: ٥١٦

اللّات من الله ؛ والعزّى من العزيز ؛ والمناة من المنّان) (١).

قرأ الأعمش وحمزة (يلحدون) بفتح الياء والحاء هنا وفي النحل (٢) وفي حم (٣) ، وقرأ الباقون بضمّ الياء وكسر الحاء وهما لغتان فصيحتان. والإلحاد : هو الميل عن القصد ، وروي عن الكسائيّ أنه الذي في النحل بفتح الياء والحاء ، والذي في الأعراف وحم بالضمّ ، وكان يفرّق بين الإلحاد فيقول : (الإلحاد : العدول عن القصد ، واللّحود : الرّكون) ويزعم أن الذي في النحل بمعنى الرّكون. قوله تعالى : (سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٨٠) ؛ وعيد لهم على الكفر والتكذيب.

قوله تعالى : (وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) (١٨١) ؛ قال ابن عبّاس : (وذلك أنّه لمّا ذكر الله تعالى (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) قال أناس من أصحاب النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ذكر الله هؤلاء الرّهط بالخير الجسيم ، وإن آمنوا بك وصدّقوك جعل الله لهم أجران ، ولنا أجر واحد ، ونحن صدّقنا بالكتب وبالرّسل ، فأنزل الله تعالى : (وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ) يعني أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لا يخلو الزّمان من فرقة منهم علماء أتقياء يدعون النّاس إلى الحقّ).

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) (١٨٢) أي الذين كذبوا بدلائلنا سنحطّهم إلى العذاب درجة إلى أن يبلغوا إلى العذاب ، وقال عطاء : (سنمكّن لهم من حيث لا يعلمون). وقال الكلبيّ : (نزيّن لهم أعمالهم فنهلكهم). وقال الضحّاك : (كلّما جدّدوا لنا معصية جدّدنا لهم نعمة) (٤). وقال الخليل : (سنطوي عمرهم في اغترار منهم).

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١١٩٨٩ و ١١٩٩٠).

(٢) قوله تعالى : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) [النحل / ١٠٣].

(٣) قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ ...) [فصلت / ٤٠].

(٤) ينظر : الجامع لأحكام القرآن : ج ٧ ص ٣٢٩. واللباب في علوم الكتاب : ج ٩ ص ٤٠٤.

٢٢١

وقال أهل المعاني : الاستدراج : أن تندرج إلى الشيء في خفية قليلا قليلا ، ولا يتابع ولا يجاهر (١) ، يقال : استدرج فلانا حتى نعرف ما صنع ؛ أي لا تجاهره ولا تكثر عليه السّؤال دفعة واحدة ، ولكن كلّمه درجة درجة وقليلا قليلا حتى نعرف حقيقة ما فعل. وقيل : معنى قوله (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) سنذيقهم من بأسنا قليلا قليلا.

قوله تعالى : (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) (١٨٣) ؛ أي أمهلهم وأطيل لهم المدة ، فإنّهم لا يفوتونني ولا يفوتني عذابهم ولا يعجزونني عن تعذيبهم. وقوله : (إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) إنّ صنعي شديد محكم ، وأخذي قويّ شديد. والكيد : هو الإصرار بالشّيء من حيث لا يشعر به.

قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ ؛) قال الحسن وقتادة : (وذلك أنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم صعد الصّفا ذات ليلة يدعو قريشا إلى عبادة الله قبيلة قبيلة وفخذا فخذا : يا بني فلان ، يحذّرهم بأس الله وعقابه ، فقال المشركون : إنّ صاحبكم قد جنّ ؛ بات ليله يصوّت إلى الصّباح ، فأنزل الله هذه الآية) (٢). ومعناها : أولم يتفكّروا بقلوبهم ليعلموا ويستيقنوا ما بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من جنون.

قوله تعالى : (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) (١٨٤) ؛ أي ما هو إلّا يعلم لموضع المخافة ليتّقى ولموضع الأمن ليبتغى. وقوله تعالى (مُبِينٌ) أي بيّن أمره ؛ فهلّا جالسه الكفار فيطلبوا حقيقة أمره ، ويتفكّروا في دلائله ومعجزاته.

قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) معناه : أولم ينظروا في السّموات والأرض طالبين لما يدلّهم على وحدانيّة الله تعالى ، وعلى صدق رسوله في ما دعاهم إليه. والملكوت : هو الملك العظيم. قوله تعالى : (وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) معناه : وما خلقه الله بعد السّموات والأرض ، فإن ذلك يدلّ على وحدانيّة الله تعالى مثل ما تدلّ السموات والأرض. (ما) بمعنى الّذي.

__________________

(١) في المخطوط : (لا يتاعب ولا يهاجر).

(٢) عن قتادة ؛ أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١١٩٩٧).

٢٢٢

قوله تعالى : (وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ ؛) معناه : أولم ينظروا في أن عسى أن يكون قد دنا هلاكهم بعد قيام الحجّة عليهم. وقوله تعالى : (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) (١٨٥) ؛ معناه : إن لم يؤمنوا بهذا القرآن مع وضوح دلالته فبأيّ حديث بعده يؤمنون ، وليس بعده كتاب منزّل ولا نبيّ مرسل.

قوله تعالى : (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ ؛) إليه ، وقوله تعالى : (وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (١٨٦) ؛ أي وندعهم في مجاوزتهم الحدّ في كفرهم يتجرّأون فلا يرجعون إلى الحقّ ، ومن قرأ (ونذرهم) بالنون وضمّ الراء فهو على الاستئناف ، وتقرأ (ونذرهم) بالجزم عطفا على موضع الفاء ، والمعنى : من يضلل الله يذره في طغيانه عامها.

قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها ؛) قال الحسن وقتادة : (سألت قريش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : متى السّاعة الّتي تخوّفنا بها؟ فأنزل الله هذه الآية) (١) ، ومعناها : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ) أي أوان قيامها ومتى مثبتها ، يقال : رسي الشيء يرسو إذا ثبت ، ومنه الجبال الرّاسيات ؛ أي الثابتات ، والمرسى : مستقرّ الشّيء الثقيل ، وقال ابن عبّاس : (سألت اليهود محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا له : أخبرنا عن السّاعة إن كنت نبيّا فإنّا نعلم متى هي ، فأنزل الله هذه الآية) (٢).

قوله تعالى : (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ ؛) أي علم قيامها عند الله سبحانه ، ما لي بها من علم ، (لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ) أي لا يكشفها ويظهرها لحينها إلّا الله عزوجل ، وقال مجاهد : (أي لا يأتي بها إلّا هو) ، وقال السديّ : (لا يرسلها لوقتها إلّا هو) (٣). ووجه الامتناع عن الإجابة عن بيان وقتها ، أنّ العباد إذا لم يعرفوا وقت قيامها كانوا على حذر من ذلك ، فيكون ذلك أدعى إلى الطاعة وأزجر عن المعصية.

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١١٩٩٨).

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١١٩٩٩) وذكر أسماء السائلين : حمل بن أبي قشير ، وشمول بن زيد.

(٣) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٢٠٠٦).

٢٢٣

وقوله تعالى : (ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ؛) قال الحسن : (ثقل وضعها على أهل السّموات والأرض من انتثار النّجوم وتكوير الشّمس وتسيير الجبال). وقال قتادة : (ثقلت على السّموات والأرض لا تطيقها لعظمها). وقال السديّ : (ثقل علمها على أهل السّموات والأرض فلم يطيقوا إدراكها وكلّ شيء خفي فقد ثقل ، ولا يعلم قيامها ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل) (١).

قوله تعالى : (لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً ؛) أي فجأة لا يعلمون وقت قيامها ، فتقوم والرجل يسقي ماشيته ، والرجل يصلح حوضه ، والرجل يقيم سلعته في سوقه ، والرجل يخفض ميزانه ويرفعه ، والرجل يهوي بلقمته في فمه ، فما يدرك أن يضعها في فمه.

قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها ؛) قال الضحّاك ومجاهد : (معناه كأنّك عالم بها) (٢) ، وقال ابن عبّاس : (هذا على تقديم وتأخير ، معناه : (يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها) أي بارّ لطيف بهم من قوله : (إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا)(٣)) (٤) ، وقيل : معناه كأنّك فرح بمسألتهم إيّاك ، وقيل : معناه : كأنّك حاكم بها ، يقال : تحافينا إلى فلان ؛ أي تخاصمنا إليه ، والحافي هو الحاكم.

قوله تعالى : (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ ؛) الفائدة في إعادته ردّ المعلومات كلّها إلى الله ، فيكون التكرار على وجه التأكيد ، وقيل : أراد بالأول علم وقتها ، وبالثاني علم كنهها. قوله تعالى : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (١٨٧) ؛ أنّها كائنة وأن علمها عند الله ، وفي الآية دلالة على بطلان قول من يدّعي العلم بمدّة الدّنيا ، ويستدلّ بما روي أنّ الدنيا سبعة آلاف سنة ؛ لأنه لو كان كذلك كان قيام الساعة معلوما ، وأما قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [بعثت أنا والسّاعة كهاتين] وأشار إلى السّبّابة

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٢٠٠٧).

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٢٠٢١) عن الضحاك ، والأثر (١٢٠٢٠) عن مجاهد.

(٣) مريم / ٤٧.

(٤) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٢٩٥) وأدرجها الطبراني بالمعنى في هذا النص.

٢٢٤

والوسطى (١) ، فمعناه تقريب الوقت لا تحديده كما قال تعالى : (فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها)(٢) أي بعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أشراطها.

قوله تعالى : (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللهُ ؛) قال ابن عبّاس : (وذلك أنّ أهل مكّة قالوا : يا محمّد ألا يخبرك ربّك بالسّعر الرّخيص قبل أن يغلو فنشتريه ونربح فيه ، وبالأرض الّتي تريد أن تجدب فنرتحل عنها إلى ما أخصب ، فأنزل الله هذه الآية) (٣). ومعناها : قل يا محمّد لا أقدر على نفع أجرّه إلى نفسي ، ولا على ضرّ أدفعه عن نفسي إلا ما شاء الله أن يملّكني بالتمكين من ذلك.

قوله تعالى : (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ ؛) أي لو كنت أعلم جدوبة الأرض وقحط المطر لادّخرت من السّنة المخصبة للسّنة الجدبة ، (وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ ؛) الفقر. وقيل : معناه : لو كنت أعلم متى أموت لبادرت بالأعمال الصالحة قبل اقتراب الأجل ، فلم أشتغل بغيرها ولا بي جنون ولا آفة كما يقولون.

وقيل : معناه : لو كنت أعلم متى السّاعة لبادرت بالجواب عن سؤالكم ، فإنّ المبادرة إلى جواب السائل تكون استكثارا من الخير وما مسّني التكذيب منكم. وقوله تعالى : (إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ ؛) أي ما أنا إلا معلّم بموضع المخافة ليتّقى ولموضع الأمن ليختار ، (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (١٨٨) ؛ بالبعث.

قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ؛) أي نفس آدم ، (وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها ؛) أي خلق حوّاء من ضلع من أضلاعه ، (لِيَسْكُنَ

__________________

(١) أخرجه البخاري في الصحيح : كتاب الرقاق : باب (٣٩) : الحديث (٦٥٠٣) عن سهل بن سعد. ويشير بإصبعيه فيمدهما ، والحديث (٦٥٠٤) عن أنس ، والحديث (٦٥٠٥) عن أبي هريرة ، وفيه : ((يعني إصبعيه)). ومسلم في الصحيح : كتاب الفتن : الحديث (١٣٣ و ١٣٤ / ٢٩٥١) عن أنس من طرق عديدة.

(٢) محمد / ١٨.

(٣) في الدر المنثور : ج ٣ ص ٦٢٢ ؛ قال السيوطي : (أخرجه ابن أبي الشيخ وابن أبي حاتم عن ابن عباس .. وذكره بلفظ قريب منه). وينظر : اللباب في علوم الكتاب : ج ٩ ص ٤١٤.

٢٢٥

إِلَيْها ؛) أي ليطمئنّ إليها ويستأنس بها ويأوي إليها لقضاء حاجته منها ، (فَلَمَّا تَغَشَّاها ؛) أي جامعها ، (حَمَلَتْ ؛) ماءه ، (حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ ؛) فاستمرّت بذلك الماء ؛ أي قامت وقعدت كما كانت تفعل قبل وهي لا تدري أنه حبل أم لا ، ولم تكترث بحملها ، يدلّ عليه قراءة ابن عبّاس : (فاستمرّت به) (١). وقال قتادة : (معنى (فَمَرَّتْ بِهِ) استبان حملها) (٢) ، وقرأ يحيى بن يعمر : (فمرت به) مخفّفا من المرية ؛ أي شكّت أحملت أم لا.

قوله تعالى : (فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما ؛) أي لمّا كبر الولد في بطنها وتحرّك وصارت ذات ثقل بحملها وشقّ عليها القيام ، أتاها إبليس في صورة رجل ، فقال : يا حوّاء ما هذا في بطنك؟ قالت : ما أدري ، قال : إنّي أخاف أن يكون بهيمة ، وذلك أوّل ما حملت ، فقالت ذلك لآدم عليه‌السلام ، فلم يزالا في همّ من ذلك.

ثم عاد إبليس إليها فقال : يا حوّاء أنا من الله بمنزلة! فإن دعوت الله ربي إنسانا تسمّية بي؟ قالت : نعم ، قال : فإنّي أدعو الله ، وكانت هي وآدم يدعوان الله ، (لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً ؛) ولدا حسن الخلق صحيح الجوارح مثلنا ، (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) (١٨٩) ؛ لك في هذه النعمة ، (فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً ؛) سويّا صحيحا أتاها إبليس فقال لها : عهدي! قالت : ما اسمك؟ قال : الحرث ولو سمّى نفسه فقال عزرائيل لعرفته ، ولكنه تسمّى بغير اسمه فسمته : عبد الحرث ، ورضي آدم فعاش الولد أيّاما حتى مات (٣).

وهذا لا يصحّ ؛ لأنّ حوّاء وإن لم تكن نبيّة فهي زوجة نبيّ ، وفي الآية ما يدلّ على ذلك ؛ لأن الله تعالى قال : (جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما ؛) ومثل هذه

__________________

(١) ينظر : اللباب في علوم الكتاب : ج ٩ ص ٤١٧.

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٢٠٣٢).

(٣) في الجامع لأحكام القرآن : ج ٧ ص ٣٣٨ ؛ قال القرطبي : (ونحو هذا مذكور في ضعيف الحديث في الترمذي وغيره. وفي الإسرائيليات كثير وليس لها ثبات ، لا يعوّل عليها من كان له قلب ؛ فإن آدم وحواء وإن غرهما بالله الغرور ، فلا يلدغ المؤمن من جحر مرتين ، على أنه قد سطّر وكتب). وأخرجه الترمذي في الجامع : أبواب التفسير : الحديث (٣٠٧٧) ، وقال : (هذا حديث حسن غريب) وإسناده ضعيف.

٢٢٦

القبائح لا يصحّ إضافتها إلى الأنبياء ، ولأنّ الله تعالى قال : (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (١٩٠) ؛ ولأن الواحد منّا لو أتاه من يبعثه على أن يسمّي ولده عبد شمس أو عبد العزّى أو نحو هذا ، لم يقبل ذلك ، ولو أمكنه أن يعاقبه على ذلك فعل ، فكيف يجوز مثل هذا على آدم؟ وقد رفع الله قدره بالنبوّة.

وقال الحسن : (معناه : إنّ الله خلق حوّاء من ضلع آدم وجعلها سكنا له ، وكذلك حال الخلق مع أزواجهم ، كأنّه قال : وجعل من كلّ نفس زوجها ، كما قال في آية أخرى (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً)) (١).

قال الحسن : (انقضت قصّة آدم عند قوله (لِيَسْكُنَ إِلَيْها) ثمّ أخبر الله عن بعض خلقه أنّه تغشّى زوجته فحملت حملا خفيفا فمرّت به ، فلمّا أثقلها ما في بطنها دعوا الله ربّهما لئن آتيتنا صالحا لنشكرنّك ، فلمّا آتاهما صالحا جعلا له شركاء بعملهما الّذي عملاه بأن هوّداه أو نصّراه أو مجّساه ؛ أي علّماه شيئا من الأديان الخبيثة الّتي يدعو إليها إبليس ، ولهذا أعظم الله شأنه في آخر الآية فقال (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ،) ولو كان المراد بالآية آدم وحوّاء لقال : عمّا يشركان). يقال : إنّ حوّاء كانت تلد في كلّ بطن ذكرا وأنثى ، ويقال : ولدت لآدم في خمسمائة بطن ألف ولد.

وقرئ (جعلا له شركا) بكسر الشين على المصدر ، وكان من حقّه أن يقال على هذه القراءة جعلا لغيره شركا ؛ لأنّهما لا ينكران أنّ الأصل لله ، ويجوز أن يكون معناه : جعلا له ذا شرك فحذف كما في قوله (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ)(٢) أي أهل القرية.

قوله تعالى : (أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً ؛) معناه أيشركون في العبادة ما لا يقدر على خلق شيء يستحقّ به العبادة ؛ لأن الخلق هو الذي يدلّ على الله ، والله تعالى إنما يستحقّ العبادة على الخلق لخلقه أصول النّعم التي لا يقدر عليها أحد سواه ، مثل الحياة والسّمع والبصر والعقل ، فإذا لم تقدر الأصنام على خلق شيء لم تحسن عبادتها. قوله تعالى : (وَهُمْ يُخْلَقُونَ) (١٩١) ؛ معناه : الأصنام مخلوقة منحوتة ، وقيل : أراد به الأصنام والعابدين جميعا.

__________________

(١) الروم / ٢١

(٢) يوسف / ٨٢.

٢٢٧

قوله تعالى : (وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً ؛) أي لا يستطيع الأصنام دفع ضرّ عنهم ، ولا جلب نفع إليهم ، (وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) (١٩٢) ؛ ولا أن تنصر نفسها بأن تدفع عن نفسها من أرادها بسوء. فإن قيل : كيف قال : ولا أنفسهم على لفظ من يعقل والأصنام موات؟ قيل : لأن الكفار كانوا يصوّرون منها على صورة من يعقل ، ويجرونها مجرى من يعقل ، فأجرى عليها لفظ ما قدّروا ما هم عليه. قوله عزوجل : (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ ؛) أي إن تدعوا الأصنام إلى الهدى لم تقبل الهدى ، فإنّها لا تهدي غيرها ، ولا تهتدي بأنفسها ولا تردّ جوابا ، وإن دعت إلى الهدى (سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ) (١٩٣) أم صمتّم عنهم لا يتّبعوكم.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ ؛) أراد الأصنام مملوكة مخلوقة أشباهكم ، سمّاها عبادا لأنّهم صوّروها على صورة الإنسان ، وقوله تعالى : (فَادْعُوهُمْ ؛) ليس هو الدعاء الأوّل ، ولكن أراد فادعوهم في مهمّاتكم عند الحاجة إلى كشف الأسواء عنكم.

وقوله تعالى : (فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ ؛) أي صيغته صيغة أمر (١) ، ومعناه التعجيز ؛ أي فليستجيبوا لكم ، (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١٩٤) ؛ في أنّها آلهة.

قوله تعالى : (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ) (١٩٥) ؛ معناه : إن معبودي ينصرني ويدفع كيد الكائدين عنّي ، ومعبودكم لا يقدر على نصركم ، فإن قدرتم أنتم على ضرّ فاجتمعوا أنتم مع الأصنام على كيد ولا تؤجّلوني.

وهذا لأنّهم كانوا يخوّفون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بآلهتهم ، عرّف الله الكفار بهذه الآية أنّهم مفضّلون على الأصنام ؛ لأن لهم جوارح يتصرّفون بها وليس للأصنام ذلك ، فكيف

__________________

(١) في المخطوط : (صيغته صفة) والمعنى لا يستقيم ، والصحيح كما أثبتناه. في اللباب في علوم الكتاب ؛ قال ابن عادل : واللام ؛ لام الأمر على معنى التعجيز).

٢٢٨

يعبدون من هم أفضل منهم؟! فالعجب من أنفسهم عن اتّباع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع ما أيّده الله به من الآيات والمعجزات والدلائل الظاهرة ؛ لأنه بشر مثلهم ، ولم يأنفوا من عبادة حجر لا قدرة له ولا تصرّف ، وهم أفضل منه في القدرة على التصرّف.

قوله تعالى : (إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ ؛) معناه : يتولّى حفظهم ، ويكلؤني ويتولّى أمري الذي أنعم عليّ بإنزال القرآن ، (وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) (١٩٦) ؛ أي يتولّى حفظهم ، لا يكلهم إلى غيره ولا تضرّهم عداوة من عاداهم.

وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) (١٩٧) ؛ الآية قد تقدّم تفسيره.

قوله تعالى : (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا ؛) أي كما أنّها لا تهدي غيرها فلا تسمع الهدى ، (وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ ؛) يا محمّد فاتحة أعينهم نحوكم يعني الأصنام ينظرون إليك ، (وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) (١٩٨) ؛ وذلك أنّهم كانوا يصوّرونها فيجعلون لها أعينا وآذانا وأرجلا ، فإذا نظر الناظر اليها خيّل إليه أنّها تنظر إليه وهي لا تبصر ، أو كانوا يلطّخون أفواه الأصنام بالخلوف والعسل ، وكانت الذباب يجتمعن عليها ، فلا تقدر على دفع الذّباب عن أنفسها.

وقال بعضهم : معناه : وتراهم كأنّهم ينظرون إليك كقوله تعالى (وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى)(١) أي كأنّهم سكارى ، وقال مقاتل : (معنى قوله : (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا) أي إن تدعو يا محمّد أنت والمؤمنون كفّار مكّة إلى الهدى لا يسمعوا ، (وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) الهدى).

قوله تعالى : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) (١٩٩) ؛ قال ابن عبّاس والسديّ : (معناه : خذ الفضل من أموالهم كما قال تعالى (وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ)(٢) وهذا إنّما كان قبل فرض الزّكاة ، فصار منسوخا

__________________

(١) الحج / ٢.

(٢) البقرة / ٢١٩.

٢٢٩

بالزّكاة) (١). وقال الحسن ومجاهد : (خذ العفو من أخلاق النّاس في القضاء والاقتضاء وقبول عذرهم وحسن المعاملة معهم وما يسهل عليهم) (٢).

وأصل العفو الترك من قوله تعالى : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ)(٣) أي ترك ، والعفو عن الذنب ترك العقوبة. ويقال : معنى العفو المساهلة في الأمور ، يقال : خذ ما أتاك عفوا ؛ أي سهلا. وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنّه سأل جبريل عن هذه الآية فقال : حتّى أسأل ، فذهب جبريل فقال : [يا محمّد ؛ إنّ الله يأمرك أن تصل من قطعك ، وتعطي من حرمك ، وتعفو من ظلمك](٤).

قوله تعالى : (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) أي بالمعروف الذي تعرف العقلاء صحّته ، وقال عطاء : (يعني لا إله إلّا الله). وقوله تعالى : (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) أي عن أبي جهل وأصحابه ، نسختها آية السّيف. ومعنى الإعراض عنهم ؛ أي أعرض عنهم بعد إقامة الحجّة عليهم ، ووقوع الإياس عن قبولهم ، ولا تقابلهم بالسّفه ولا تجاوبهم استخفافا بهم وصيانة لقدرك ، فإنّ مجاوبة السّفيه تضع القدر.

قوله تعالى : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ ؛) معناه : إمّا يغرينّك بالوسوسة عند الغضب فالتجئ إلى الله واستغث به ، (إِنَّهُ سَمِيعٌ ؛) لدعائك ، (عَلِيمٌ) (٢٠٠) ؛ بك. والنّزع هو الإزعاج بالحركة إلى الشّرّ.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا ؛) معناه : إنّ الذين اتّقوا الشّرك والمعاصي إذا مسّهم وسوسة من الشيطان بإلقاء خواطر الشّرّ عليهم ، فرغوا إلى تذكّر ما أوضح الله من الحجّة ، (فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) (٢٠١) ؛ عواقب أمورهم ، يرجعون من الهوى إلى الهدى.

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٢٠٦٦) عن ابن عباس ، والأثر (١٢٠٦٧) عن السدي ، والأثر (١٢٠٦٨) عن الضحاك ، وأدرجها الطبري في المتن بنص واحد.

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٢٠٦٥) بمعناه.

(٣) البقرة / ١٧٨.

(٤) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٢٠٧٠ و ١٢٠٧١).

٢٣٠

قرأ النخعيّ وابن كثير وأبو عمرو والكسائي (طيف) ، وقرأ الباقون (طايف) وهما لغتان وقيل : الطائف ما يطوف حول الشيء ، والطّيف : الوسوسة والخطرة ، وقيل : الطائف ما طاف به من الوسوسة ، والطّيف اللّمز والمسّ. وقرأ سعيد بن جبير (طيّف) بالتشديد ، وقال الكلبيّ : (طائف من الشّيطان : ذنب) ، وقال مجاهد : (الغضب) (١) ، وعن مجاهد : (هو الرّجل يهمّ بالذنب فيذكر الله فيدعه) ، وقال السديّ : (معناه : إذا أذنبوا تابوا) (٢).

قوله تعالى : (وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ؛) أي وإخوان المشركين وهم الشياطين يدعونهم إلى المعاصي والجهل ، يقال لكلّ كافر أخ من الشّياطين يمدّه في الغيّ. قرأ نافع (يمدّونهم) بضمّ الياء وكسر الميم وهما لغتان. قوله تعالى : (ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ) (٢٠٢) ؛ أي لا يقصر إخوان المشركين من الوسوسة ؛ لأنّهم إذا علموا قبولهم لقولهم زادوا في إغوائهم ، وزاد الكفار في طاعتهم لهم ، فلا يقصرون كما يقصر المتّقون.

وقيل : معنى قوله تعالى : (وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ) يعني إخوان الشّياطين وهم الضّلّال يمدّون المشركين في الغيّ. قرأ الجحدريّ (يمادّونهم) ، وقرأ عيسى (ثمّ لا يقصرون) بفتح الياء وضم الصاد (٣).

قوله تعالى : (وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها ؛) معناه : وإذا لم تأتهم يا محمّد بالآية التي سألوكها تعنّتا قالوا : هلّا طلبتها من الله فتأتينا بها. وقيل : معناه : هلّا أتيت بها من تلقاء نفسك؟ قال الحسن : (كانوا إذا جاءتهم آية كذبوا بها ، وإذا أبطأت عليهم التمسوها).

وقوله تعالى : (قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ ؛) أي قل لهم : ليست الآيات إليّ ، ولكنّ الله يوحي بها عليّ ما يعلم من المصلحة ، وليس لي أن أسأله إنزالها إلّا إذا أذن لي في سؤالها. هذا القرآن بصائر من

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٢٠٧٩) بأسانيد.

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٢٠٨٢) وقال : ((إذا زلّوا تابوا)).

(٣) ينظر : الجامع لأحكام القرآن : ج ٧ ص ٣٥٢.

٢٣١

ربكم ، (وَهُدىً وَرَحْمَةٌ ؛) أي حجج من ربكم وهدى من الضّلالة ونجاة من العذاب ، (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٢٠٣) ؛ يصدّقون أنه من الله.

قوله تعالى : (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (٢٠٤) قال ابن عبّاس وابن مسعود وأبو هريرة وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيّب والزهريّ : (إنّ هذه الآية نزلت في الصّلاة) (١). عن أبي العالية الرباحيّ قال : (كان النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا صلّى ، قرأ أصحابه خلفه حتّى نزلت هذه الآية ، فسكت القوم) (٢) ، وقال بعضهم : المراد بالآية وقت نزول القرآن ، أمرهم الله بالاستماع والإنصات.

وقال الزجّاج : (يحتمل أن يكون معنى الاستماع العمل بما فيه) (٣) ، وعن ابن عبّاس قال : (كان المسلمون قبل نزول هذه الآية يتكلّمون في الصّلاة ويأمرون بحوائجهم ، ويجيء الرّجل إلى الرّجل فيقول له : كم صلّيتم؟ فيقول كذا ، فأنزل الله هذه الآية). والقول الأوّل أصحّ وأقرب إلى ظاهر الآية ؛ لأنه ليس في الآية تخصيص زمان دون زمان ، ولا يجب على القوم الإنصات لقراءة من يقرأ في غير الصّلاة.

قوله تعالى : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ ؛) يجوز أن يكون الخطاب في هذه الآية للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمراد به جميع الخلق ، ويجوز أن يكون المعنى : واذكر ربّك أيّها المستمع للقرآن إذا تلي عليك.

وقوله تعالى : (فِي نَفْسِكَ) يعني التفكّر في النفس والتعرّض لنعم الله مع العلم بأنه لا يقدر عليها أحد سواه ، وأنه متى شاء سلبها منه. والمراد بقوله : (وَدُونَ الْجَهْرِ) المتكلّم بذكر الله على وجه الخيفة بالتضرّع إليه والمخافة منه ، ولأن أفضل الدّعاء ما

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٢٠٩٩) عن ابن عباس ، والأثر (١٢٠١٠٠) عن الزهري ، والأثر (١٢١٢٠) عن ابن مسعود.

(٢) في الدر المنثور : ج ٣ ص ٦٣٥ ؛ قال السيوطي : ((أخرجه عبد بن حميد وأبو الشيخ عن أبي العالية ... وذكره).

(٣) في معاني القرآن وإعرابه : ج ٢ ص ٣٢٢ ؛ قال الزجاج : (ويجوز أن يكون (فاستمعوا له وأنصتوا) اعملوا بما فيه ولا تجاوزوا).

٢٣٢

كان خفيّا على إخلاص وخضوع لا يشوبه رياء وسمعة. وقوله تعالى (فِي نَفْسِكَ) إشارة إلى الإخلاص.

وقيل : المراد بقوله (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ) الذكر بالكلام الخفيّ ، وبقوله (دُونَ الْجَهْرِ) إظهار الكلام بالصّوت العالي. وقال ابن عباس : (معنى (وَاذْكُرْ رَبَّكَ) يعني القراءة في الصّلاة (تضرّعا) أي جهرا (وَخِيفَةً) أي سرّا (دُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ) أي دون رفع الصّوت في خفض وسكون سمّع من خلفك القرآن).

وقال أهل المعاني : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ) أي اتّعظ بالقرآن واعتبر بآياته ، واذكر ربّك في ما يأمرك بالطاعة (تضرّعا) أي تواضعا وتخشّعا (وخيفة) أي خيفة من عقابه. وقال مجاهد : (أمر أن يذكر في الصّدور ، وأمر بالتّضرّع والاستكانة ، ويكره رفع الصّوت والنّداء والصّياح في الدّعاء) (١).

قوله تعالى : (بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) أي صلاة الغداة والمغرب والعشاء ، والأصيل في اللغة : ما بين العصر إلى اللّيل ، وجمعه أصل ، ثم آصال جمع الجمع ، ثم أصائل. وقيل : يعني (بالغدوّ والآصال) : البكر والعشاة. وقوله تعالى : (وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ) (٢٠٥) ؛ زيادة تحريض على ذكر الله عزوجل ؛ كي لا يغفل الإنسان عن ذلك في أوقات العبادة.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ) معناه : أن الملائكة المقرّبين الذين أكرمهم الله لا يتعظّمون عن طاعته إن استكبرتم أنتم فهم أفضل منكم ، وهم الملائكة لا يستكبرون عن عبادته وينزّهونه عن ما لا يليق به ، (وَلَهُ يَسْجُدُونَ) (٢٠٦) ؛ أي يصلّون فيخرّون له سجّدا في صلاتهم. وقوله تعالى : (عِنْدَ رَبِّكَ) يريد قربهم من الفضل والرّحمة لا من حيث المكان والمسافة.

وعن معاذ بن جبل عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : [كان جبريل عليه‌السلام إذا أقبل بشيء من القرآن فيه سجود قرأ ثمّ يخرّ ساجدا ويأمرني بذلك ، ثمّ يقول : يا محمّد واجب عليك وعلى أمّتك]. وعن إبراهيم قال : (من قرأ آخر الأعراف إن شاء ركع

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٢١٢٨) مختصرا.

٢٣٣

وإن شاء سجد). وعن أبي بن كعب عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : [من قرأ سورة الأعراف جعل الله بينه وبين النّار سترا يوم القيامة ، وكان آدم شفيعا له](١).

آخر تفسير سورة (الأعراف) والحمد لله رب العالمين

__________________

(١) هو جزء من حديث طويل في فضائل القرآن سورة سورة ، وهو حديث موضوع.

٢٣٤

سورة الأنفال

سورة الأنفال مدنيّة ، وهي خمسة آلاف وثمانون حرفا ، وألف وخمس وتسعون كلمة ، وخمس وسبعون آية (١).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ ؛) أي عن الغنائم ، (قُلِ الْأَنْفالُ ؛) الغنائم ؛ (لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ؛) الإضافة للغنائم إلى الله على جهة التشريف ، والإضافة إلى الرسول لأنه كان بيان حكمها وتدبيرها إليه ؛ لأن الغنائم كانت كلّها له كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في وبرة أخذها سنام بعير من الفيء : [والله ما يحلّ لي من فيئكم إلّا الخمس ، والخمس مردود فيكم](٢).

وقيل : لما سألوه عن الغنائم ؛ لأنّها كانت حراما على من قبلهم ، كما قال عليه‌السلام : [لم تحلّ الغنائم لقوم سود الرّؤوس قبلكم ، كانت تنزل نار من السّماء فتأكلها](٣). وإنما سميت الغنائم أنفالا ؛ لأن الأنفال جمع النّفل ، والنفل الزّيادة ، والأنفال مما زاده الله هذه الأمة من الحلال ، والنافلة من الصّلاة ما زاد على الفرض ، ويقال لولد الولد : نافلة ؛ لأنه زيادة على الولد.

__________________

(١) مدنية بدريّة في قول الحسن وعكرمة وجابر وعطاء ، وقال ابن عباس : ((هي مدنية إلا سبع آيات ، من قوله تعالى : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) إلى آخر سبع آيات)). والأصح أنها نزلت بالمدينة وإن كانت الواقعة بمكة. ينظر : الجامع لأحكام القرآن : ج ٧ ص ٣٦٠. واللباب في علوم الكتاب : ج ٩ ص ٢٤٣. والدر المنثور : ج ٤ ص ٣.

(٢) أخرجه أبو داود في السنن : كتاب الجهاد : باب في الإمام يستأثر شيئا من الفيء لنفسه : الحديث (٢٧٥٥) ، وإسناده صحيح عن عمر بن عنبسة.

(٣) أخرجه الترمذي في الجامع : التفسير : الحديث (٣٠٨٥) ؛ وقال : حسن صحيح. وفي الإحسان ترتيب صحيح ابن حبان : كتاب السير : الحديث (٤٨٠٦).

٢٣٥

وعن ابن عبّاس في سبب نزول هذه الآية : (أنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم رغّب أصحابه يوم بدر فقال : [من قتل قتيلا فله كذا ، ومن جاء بأسير فله كذا] فلمّا هزم الله المشركين سارع الشّباب ، وأقبلوا بالأسارى ، وأقام الشّيوخ عند الرّايات مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مخافة أن يغتاله أحد من المشركين ، فوقع الاختلاف بينهم في استحقاق الغنيمة ، فقال الّذين ثبتوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قيامنا أفضل من ذهابهم ، فلو أعطيتهم ما وعدتهم لم يبق لنا ولا لعامّة أصحابك شيء. وقال الآخرون : نحن قتلنا وأسرنا. وكان ذلك مراجعة بينهم ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ساكت لا يقول شيئا ، فأنزل الله هذه الآية) (١).

ومعناها يسألونك عن الأنفال لمن هي ، ويجوز أن يكون (عن) صلة في الكلام ، والمعنى يسألونك الأنفال التي وعدتهم يوم بدر ، قل الأنفال لله والرسول ليس لكم فيها شيء. قال عبادة بن الصّامت : (لمّا اختلفنا في غنائم بدر وساءت أخلاقنا ، نزعها الله من أيدينا وجعلها إلى رسوله وقسمها بيننا على سواء) (٢). وقيل : إنّ التّنفيل المذكور في هذه الآية لرواية غلط وقع من الرّاوي ؛ لأنه لا يجوز على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم خلف الوعد واسترجاع ما جعله لأحد منهم ، والصحيح : أنّهم اختلفوا في الغنائم من غير تنفيل كان من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ ؛) أي اتّقوا معاصيه واحذروا مخالفة أمره وأمر رسوله ، (وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ ؛) أي كونوا مجتمعين على ما يأمركم به الله ورسوله ، (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ ؛) في الغنائم وغيرها ، (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (١) ، كما تزعمون.

قوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ؛) معناه : إنّ صفتهم إذا ذكر الله عندهم فزعت قلوبهم عند الموعظة. والوجل : هو الخوف مع شدّة الحزن ، والمعنى ليس المؤمن الذي يخالف الله ورسوله (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٢١٥٣) بأسانيد .. وفي الدر المنثور : ج ٤ ص ٦ ؛ قال السيوطي : ((أخرجه ابن أبي شيبة وأبو داود والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن حبان وأبو الشيخ وابن مردويه والحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل ... وذكره)).

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : الحديث (١٢١٥٥) بإسنادين صحيحين.

٢٣٦

ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ.) قوله تعالى : (وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ ؛) أي قرئت عليهم آياته بالأمر والنّهي ، (زادَتْهُمْ إِيماناً ؛) يقينا وبصيرة بالفرائض مع تصديقهم بالله (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (٢) ؛ أي يفوّضون أمورهم إلى الله لا يثقون بغيره.

ثم زاد في نعت المؤمنين فقال : (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ؛) أي يقيمونها بوضوئها وركوعها وسجودها في مواقيتها ، (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ ؛) أعطيناهم من الأموال ، (يُنْفِقُونَ) (٣) ، في طاعة الله ، وإنّما خصّ الله الصلاة والزكاة ؛ لعظم شأنهما وتأكيد أمرهما.

قوله تعالى : (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ؛) أي أهل هذه الصّفة الذين تقدّم ذكرهم الذين استحقّوا هذه الصفة صدقا ، (لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ ؛) أي لهم فضائل ومنازل في الرّفعة في الآخرة على قدر أعمالهم ، (وَمَغْفِرَةٌ ؛) لذنوبهم ؛ (وَرِزْقٌ ؛) وثواب حسن ؛ (كَرِيمٌ) (٤) ؛ في الجنّة.

قوله تعالى : (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ ؛) وذلك أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلغه أنّ عير قريش أقبلت من الشّام ، وفيهم أبو سفيان ومخرمة بن نوفل في أربعين رجلا من قريش تجّارا ، فقال عليه‌السلام لأصحابه : [هذه عير قريش قد أقبلت ، فاخرجوا إليها ، فلعلّ الله أن ينفلكموها فتنتفعوا بها على عدوّكم](١). فيعدّوا على نواضحهم ومعهم فارسان لا غير ؛ أحدهما الزّبير والآخر المقداد ، فخرجوا بغير قوّة ولا سلاح ، وهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا لا يرون أنه يكون قتال.

فبلغ ذلك أبو سفيان ، فأرسل من الطريق ضمضم بن عمرو الغفاري يخبر أهل مكّة أن محمّدا قد اعترض لعيركم فأدركوها. فنزل جبريل عليه‌السلام على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره بنفر المشركين يريدون عيرهم ، وقال : [يا محمّد إنّ الله يعدك إحدى الطّائفتين ، إمّا العير وإمّا العسكر] فأخبر بذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المسلمين فسرّوا بذلك

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٢٢٠٠). وينظر شرح الطبري في جامع البيان : للأثر (١٢١٩٦) وتفسيره للآية.

٢٣٧

وأعجبهم ، فاستشار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين عرف أنّهم لا يخالفونه ، فقالوا له : (والله لو أمرتنا أن نخوض البحر لخضناه) ثم أخبرهم أن في المشركين كثرة فشقّ على بعضهم وقالوا : ألا كنت أخبرتنا أنّه يكون قتال ، فنخرج سلاحنا وقوّتنا ، إنّما خرجنا في ثيابنا نريد العير. فأنزل الله هذه الآية وهم بالرّوحاء (١).

ومعناها : امض على وجهك من الرّوحاء (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ) أي من المدينة (بالحقّ) أي الأمر الواجب ، (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ) (٥) ؛ يعني كراهة الطبع للمشقّة لا كراهة الحقّ ، وقيل : معناه : (يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ ؛) متكرّهين له كما أخرجك ربّك من بيتك مع تكرّهك له ، ومعنى يجادلونك أي يخاصمونك بقولهم : هلّا أعلمتنا القتال حتى كنا نستعدّ له ، (بَعْدَ ما تَبَيَّنَ ؛) أي بعد ما ظهر لهم أنك لا تصنع إلا ما أمرك ربّك. قوله تعالى : (كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ ؛) أي هم بما عليهم من شدّة المشقّة لقلّة عددهم وعدّتهم ، وكثرة عدوّهم كأنّما يساقون إلى الموت ، (وَهُمْ يَنْظُرُونَ) (٦) ؛ إلى أسباب الموت.

قوله تعالى : (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ ؛) إمّا العير وإما العسكر أنّها لكم ، (وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ ؛) وتمنّون أن تكون لكم العير دون العسكر ، لأن العسكر ذات شوكة وهي السلاح ، (وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ ؛) أي يظهر الإسلام بوعده الذي أنزل في الفرقان ، ويقال : بأمره لكم بالقتال ، (وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ) (٧) ؛ أي يظهركم على ذات الشّوكة فتستأصلوهم ، (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ ؛) بإهلاك ، (وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) (٨) ؛ مشركو مكّة.

قوله تعالى : (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ) (٩) ؛ معناه : إذ تستغيثون أيّها المسلمون ربّكم حين رأيتم قلّة عددكم وكثرة عدوّكم ، فلم يكن لكم مفزع إلا الدعاء لله وطلب المعونة

__________________

(١) ينظر : جامع البيان : الأثر (١٢٢١٠).

٢٣٨

منه (فَاسْتَجابَ لَكُمْ) أي أجابكم ، والاستجابة التّعطية على موافقة المسألة (١).

وقوله تعالى : (أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ) قال ابن عبّاس : (كان مع كلّ ملك ملك فكان جملتهم ألفين) (٢). يقال : ردفت الرّجل ؛ إذا ركبت خلفه ، وأردفته إذا أركبته خلفك. وقال عكرمة وقتادة والضحّاك : (معناه : بألف من الملائكة متتابعين يتبع بعضهم بعضا) (٣) ، وقد يجوز أن يقال : أردفت الرّجل إذا جاء بعده ، وكذلك ردفه. وأما قراءة نافع (مردفين) بفتح الدال فمعناه : أردفهم الله بالمؤمنين ، ويقال : أردفته وردفته بمعنى تبعته ، قال الشاعر :

إذا الجوزاء أردفت التّريّا

ظننت بآل فاطمة الظّنونا

أي جاءت بعدها ؛ لأن الجوزاء تطلع بعد الثّريا (٤).

فنزل جبريل في خمسمائة ملك على الميمنة ، ونزل ميكائيل في خمسمائة ملك على الميسرة في صورة الرّجال عليهم ثياب بيض وعمائم بيض.

قوله تعالى : (وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرى ؛) أي ما جعل الله إمداد الملائكة إلا بشارة بالنصر للمؤمنين ، وقيل : معناه : ما جعل الله إخبار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإمداد الملائكة إلا بشرى بالنصر.

وقوله تعالى : (وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ ؛) أي ولتسكن قلوبكم في الحرب فلا تخافون من عدوّكم. قوله تعالى : (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ ؛) أي ليس

__________________

(١) أخرج الإمام مسلم في الصحيح : كتاب الجهاد والسير : باب غزوة بدر : الحديث (٣ / ١٤٠٣ ـ ١٤٠٤) : عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [هذا مصرع فلان] قال : ويضع يده على الأرض ههنا وههنا ، ولمّا فرغ نبيّ الله من بدر ، قال بعضهم : عليك بالعير ، فناداه العبّاس وهو في وثاقه : لا يصلح!! فقال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [ولم؟] قال : (لأنّ الله وعدك إحدى الطّائفتين وقد أعطاك).

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٢٢٣٤) بإسنادين الآخر بلفظ : (متتابعين).

(٣) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٢٢٣٦) عن الضحاك بلفظ : (بعضهم على إثر بعض) ، والأثر (١٢٢٣٧) مثله عن مجاهد ، والأثر (١٢٢٣٩) عن قتادة.

(٤) جامع البيان : تفسير الآية ٩ من سورة الأنفال. وفي اللسان نسبه ابن منظور لخزيمة بن مالك بن نهد.

٢٣٩

النّصر بقلّة العدد ولا بكثرته ولا من قبل الملائكة ، ولكن النصر من عند الله ، (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ؛) بالنّقمة ممن عصى ، (حَكِيمٌ) (١٠) ، في أفعاله.

وقد اختلفوا هل قاتلت الملائكة يوم بدر مع المؤمنين أم لا؟ قال بعضهم : لم يقاتلوا ولكنّ الله أيّد المؤمنين ليشجّع بهم قلوبهم ، ويلقي بهم الرّعب في قلوب الكافرين ، ولو بعثهم الله بالمحاربة لكان يكفي ملك واحد ، فإنّ جبريل أهلك بريشة واحدة سبعا من قرى قوم لوط ، وأهلك بصيحة واحدة جميع بلاد ثمود. وهذا القول أقرب إلى ظاهر الآية.

وقال بعضهم : إنّ الملائكة قاتلت ذلك اليوم ؛ لأنه روي أن أبا جهل قال لابن مسعود : من أين كان ذلك الضّرب الّذي كنّا نسمع ولا نرى شخصا؟ فقال له : (من الملائكة) فقال أبو جهل : هم غلبونا لا أنتم!

قوله تعالى : (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ ؛) قال جماعة من المفسّرين : وذلك أنّه لمّا أمر الله النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمسير إلى الكفّار ، سار بمن معه حتى إذا كان قريبا من بدر لقي رجلين في الطريق ، فسألهما : [هل مرّت بكما العير؟] قالا : نعم مرّت بنا ليلا ، وكان بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عشرة من المسلمين ، فأخذوا الرّجلين ، وكان أحدهما عبد العبّاس بن عبد المطّلب يقال له أبو رافع ، والآخر عبدا لعقبة بن أبي معيط يقال له أسلم كانا يسقيان الماء ، فجاؤا بهما إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واستخلى بأبي رافع ودفع أسلم إلى أصحابه يسألونه ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبي رافع : [من خرج من أهل مكّة؟] فقال : ما بقي أحد إلا وقد خرج ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [أتت مكّة اليوم بأفلاذ كبدها] ثمّ قال : [هل رجع منهم أحد؟] قال : نعم ؛ أبيّ بن شريف في ثلاثمائة من بني زهرة ، وكان خرج لمكان العير ، فلما أقبلت العير رجع ، فسمّاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأخنس حين خنس بقومه ، ثم أقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أصحابه وهم يسألون أسلم ، وكان يقول لهم : خرج فلان وفلان ، وأبو بكر رضي الله عنه يضربه بالعصا ويقول له : كذبت بخبر الناس ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [إن صدقكم ضربتموه ، وإن كذبكم تركتموه] فعلموا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد عرف أمرهم (١).

__________________

(١) أخرجه عبد الرزاق في المصنف : كتاب المغازي : وقعة بدر : الحديث (٩٧٢٧) عن عكرمة.

٢٤٠