التفسير الكبير - ج ٣

سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني

التفسير الكبير - ج ٣

المؤلف:

سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني


المحقق: هشام البدراني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب الثقافي ـ الأردن / إربد
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-9957-02-1

الصفحات: ٥١٦

وعن ابن عبّاس قال : (نزلت هذه الآية في رجل يقال له عمر بن عرفة الأنصاريّ ، أتته امرأة تبتاع تمرا فأعجبته ، فقال : إنّ في البيت تمرا أجود منه ، فانطلقي معي حتّى أعطيك منه.

فانطلقت معه ، فلمّا دخلت البيت وثب عليها ، فلم يترك شيئا ممّا يفعله الرّجل بالمرأة إلّا وقد فعله ، إلّا أنّه لم يجامعها ـ يعني أنّه ضمّها وقبّلها وحذف شهوته ـ فقالت له : اتّق الله ، فتركها وندم ، ثمّ اغتسل وأتى إلى رسول الله. فقال : يا رسول الله ما تقول في رجل راود امرأة عن نفسها ، ولم يبق شيئا من ما يفعله الرّجل بالنّساء غير أنّه لم يجامعها؟

فقال عمر : لقد سترك الله لو سترت على نفسك! ولم يردّ عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا ، فقال : [ما أدري ، ما أدري عليك حتّى يأتي فيك شيء] فحضرت صلاة العصر ، فلمّا فرغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الصّلاة ، نزل جبريل عليه‌السلام ينبؤه بهذه الآية ، فقرأها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : يا رسول الله أخاصّ له أم عامّ؟ فقال : [بل عامّ للنّاس كلّهم](١).

قوله تعالى : (فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ ؛) أي فهلّا كان من القرون الماضية ، وقيل : ما كان من القرون من قبلكم ذو تمييز ، (يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ ؛) عن المعاصي ؛ أي ولماذا أطبقوا كلّهم على المعصية حتى استحقّوا بذلك عذاب الاستئصال ، والبقيّة في اللغة : ما يمدح به الإنسان ، يقال : فلان في بقيّة ، وفي بني فلان بقيّة.

قوله تعالى : (إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ ؛) كانوا ينهون عن الفساد ، وهم الأنبياء عليهم‌السلام والصالحون ، فأنجيناهم من العذاب. قوله تعالى : (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ ؛) أي أقبلوا على ما خوّلوا من دنياهم ،

__________________

(١) أخرجه الطبراني في الجامع الكبير : ج ٢٠ ص ١١٣ : الحديث (٢٧٧ و ٢٧٨). والترمذي في الجامع : كتاب التفسير : الحديث (٣١١٢ ـ ٣١١٥). والطبراني في الكبير : ج ١٠ ص ٢٣١ : الحديث (١٠٥٦٠ مختصرا. والبخاري في الصحيح : كتاب مواقيت الصلاة : باب صلاة الكفارة : الحديث (٥٢٦).

٤٦١

واستغنوا بذلك عن طاعة الله ، فلم ينهوا عن الفساد ، وعتوا عن أمر الله ، وآثروا الدّنيا وبطروا ، (وَكانُوا مُجْرِمِينَ) (١١٦) ؛ أي وكانوا مذنبين بترك الأمر بالمعروف.

قوله تعالى : (وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ) (١١٧) أي لم يكن ليهلك أهل القرى بظلم منه عليهم إذا كان أهلها مصلحين ، ولكن إنّما كان أهلكهم بظلمهم لأنفسهم. وعن ابن عبّاس رضي الله عنه أنّ معناه : (ما كان ليهلك أهل القرى بشركهم وهم مصلحون ، يتعاطون الحقّ بينهم ، أي ليس من سبيل الكفّار إذا قصدوا الحقّ في المعاملة ، وترك الظّلم أن ينزل الله بهم عذابا يهلكهم). والمعنى : ما كان الله ليهلكهم بشركهم ، وهم مصلحون ما بينهم لا يتظالمون ويتعاطون الحقّ بينهم ، وإنما يهلكهم إذا تظالموا ؛ لأنّ مكافأة الشّرك النار ؛ أي إنما يهلكهم بزيادة المعصية على الشّرك ، كما في قوم لوط وقوم صالح وقوم موسى وغيرهم.

قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً ؛) أي لجعلهم كلّهم على دين الإسلام ، ولكن علم أنّهم كلّهم ليسوا بأهل لذلك ، وقيل : لو شاء لألجأهم إلى الإيمان لآمنوا كلّهم ضرورة ، ولكن لو فعل ذلك لزال التكليف.

قوله تعالى : (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ) (١١٨) ؛ أي في الدّين على أديان شتّى من يهوديّ ونصرانيّ ومجوسي وغير ذلك. قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ؛) إلا من عصمه الله من الباطل والأديان المخالفة بأن لطف به ، ووفّقه للإيمان المؤدّي إلى الثواب ، فهو ناج من الاختلاف بالباطل.

قوله تعالى : (وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ ؛) أي وللرّحمة خلقهم ؛ أي لكي يؤمنوا فيرحمهم. وقيل : معناه وللاختلاف خلقهم ، فتكون اللام في هذا لام العاقبة. قوله تعالى : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (١١٩) ؛ أي من كفّار الجنّ وكفار الإنس.

قوله تعالى : (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ ؛) أي كلّ القصص وكلّ ما يحتاج إليه نبيّنه لك من أخبار الرّسل ما يطيب ويسكن به قلبك ويزيدك يقينا ويقوّي قلبك. وذلك أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان ضاق صدره بما يكون من أذى قومه في الله ، فقصص الله عليه شيئا من أخبار الرّسل المقدّمين مع أممهم لنثبت به

٤٦٢

فؤادك. قوله تعالى : (وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ ؛) أي في هذه السّورة الصّدق من أقاصيص الأنبياء وللوعظ وذكر الجنّة والنار.

وخصّت هذه السورة بمجيء الحقّ فيها تشريفا لها ورفعا لمنزلتها. وقيل : أراد بقوله (فِي هذِهِ) الدّنيا ، والموعظة : تعريف القبيح للزّجر عنه ، وتعريف الحسن للترغيب فيه ، و؛ هي ؛ (وَذِكْرى ؛) الذّكرى ، (لِلْمُؤْمِنِينَ) (١٢٠).

قوله تعالى : (وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ) (١٢١) أي اثبتوا على ما أنتم عليه كثبات الرّجل على مكانه ، وهذا على وجه التهديد ، (وَانْتَظِرُوا ؛) ما يعدكم الشيطان ، (إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) (١٢٢) ؛ ما وعد الله بنا ونزول ما وعد الله بكم.

قوله تعالى : (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ؛) أي له ما غاب عن البلاد في السّموات والأرض ، (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ ؛) أمر العباد ، كلّه ؛ فأطعه وفوّض أمرك إليه ، (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (١٢٣) أي يجزي المحسنين بإحسانه ، والمسيء بإساءته. وقرأ (يعملون) بالياء على معنى قل لهم ذلك.

عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : [من قرأ سورة هود أعطي من الأجر بعدد من صدّق نوحا وهودا وشعيبا ولوطا وصالحا وإبراهيم وموسى ، ومن كذبهم عشر حسنات ، وكان عند الله يوم القيامة من السّعداء].

تم تفسير سورة (هود) والحمد لله رب العالمين.

٤٦٣

سورة يوسف

سورة يوسف عليه‌السلام مائة وإحدى عشرة آية ، وألف وتسعمائة وستّة وستّون كلمة ، وتسعة آلاف وسبعمائة وستّ وسبعون حرفا ، وعن أبيّ بن كعب رضي الله عنه أنّه قال : [علّموا أرقّاءكم سورة يوسف ، فأيّها مسلم قرأها وعلّمها أهله أو ما ملكت يمينه ، هوّن الله عليه سكرات الموت ، وأعطاه من القوّة أن لا يحسد مسلما](١) وبالله التّوفيق.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر ؛) قد تقدّم تفسيره ، قوله : (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) (١) ؛ قيل : معناه : هذه الآيات الكتاب المبين ، وقيل : معناه : سورة يوسف آيات الكتاب على القول الذي يقول : إن (الر) اسم السورة. وقوله تعالى : (الْمُبِينِ ؛) لأنه يبيّن الهدى والرّشد ، وقيل : البيّن حلاله وحرامه وحدوده وأحكامه.

قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا ؛) أي أنزلنا القرآن على مجاري كلام العرب في مخاطباتهم ، (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (٢) ؛ أي لكي يدركوا معناه ويفهموا ما فيه ، ولو نزل بغير لغة العرب لم يعلموه.

قوله تعالى : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ ؛) أي نحن نبيّن لك أحسن البينات ، والقاصّ هو الذي يأتي بالقصة على حقيقتها.

__________________

(١) في تفسير القرآن العظيم : ج ٢ ص ٤٤٨ ؛ قال ابن كثير : ((رواه الثعلبي وغيره)) ، وذكر مسنده وقال : ((وهذا من هذا الوجه لا يصح لضعف إسناده بالكلية. وقد ساق له الحافظ ابن عساكر متابعا ...)) وقال : ((فذكر نحوه وهو منكر سائر طرقه)).

٤٦٤

واختلف العلماء لم سميت بأحسن القصص من بين الأقاصيص ، فقيل : سماها أحسن القصص ؛ لأنه ليس قصّة في القرآن تتضمّن من العبرة والحكم والنكت ما يتضمّن هذه القصة. وقيل : سماعا أحسن القصص لامتداد الأوقات في ما بين مبتدأها إلى منتهاها. قال ابن عبّاس : (كان بين رؤيا يوسف ومسيراته وإخوانه أربعون سنة).

وقيل : سمّاها أحسن القصص ؛ لأنّ فيها ذكر الأنبياء والملائكة والصالحين ، والإنس والجنّ والأنعام والطير ، والملك والمماليك والبحار ، والعلماء والجهّال ، والرجال والنساء وحيلهنّ ومكرهن ، وفيها أيضا ذكر التوحيد والفقه والسير ، وتعبير الرّؤيا والسياسة والمعاشرة والتدبير والمعايش ، فصارت أحسن القصص لما فيها من المعاني الجزيلة والفوائد الجليلة التي تصلح للدنيا. وقيل : أحسن القصص بمعنى أعجب (١).

وقيل : أراد بأحسن القصص جميع القصص التي في القرآن ، فإنّ الله تعالى ذكر في القرآن أخبار الأمم الماضية ، وحال رسلهم عليهم الصّلاة والسّلام ، وذكر جميع ما يحتاج العباد إليه إلى يوم القيامة بأعذب لفظ في أحسن نظم وترتيب.

قوله تعالى : (بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ) أي أوحينا إليك هذا القرآن. قوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ) (٣) ؛ أي وقد كنت من قبل نزول جبريل عليك بالقرآن غافلا عن قصّة يوسف وعن الحكمة فيها.

قوله تعالى : (إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً ؛) الآية متّصلة بما قبلها ، فإنّ معناه : نحن نقصّ عليك أحسن القصص ، إذ قال يوسف لأبيه. قرأ طلحة بن مصرف (يوسف) بكسر السين ، ثم قرأ ابن عبّاس (يا أبت) بفتح التاء في جميع القرآن ، وأصله على هذا يا أبتا ، ثم حذفت الألف ، وأبقى فتحة دلالة عليها ، قال رؤبة :

تقول بنتي قد أنى أناكا

يا أبتا علّك أو عساكا

__________________

(١) أدرج الناسخ هنا عبارة : (كذا في تفسير الثعلبي). وقد نقله الثعلبي في الكشف والبيان : ج ٥ ص ١٩٧.

٤٦٥

وقرأ الباقون (يا أبت) بالكسرة على الإضافة يقدّرها بعدها ، وقيل : كسرت ؛ لأنّها أجريت مجرى التأنيث.

قوله تعالى : (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً) قال المفسّرون : رأى يوسف عليه‌السلام هذه الرّؤيا وهو ابن اثنى عشر سنة ، قال ابن عبّاس : (وذلك أنّه قال لأبيه : يا أبت إنّي رأيت في المنام أحد عشر كوكبا نزلت من أماكنها فسجدت لي ، ورأيت (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ؛) نزلا من أماكنهما فسجدا لي ، وأراد بذلك سجدة التّحيّة والعبادة لله عزوجل ، كما يقوم الملائكة بالسّجود لآدم عليه‌السلام).

قال : (وكانت الرّؤيا ليلة القدر ليلة الجمعة ، وكان تأويل رؤياه عند يعقوب : أنّ الشّمس والقمر هو في حالته ، وأنّ أمّ يوسف وهي راحيل كانت قد ماتت ، وأنّ الأحد عشر كوكبا إخوة يوسف وكانوا أحد عشر أخا ، وإنّهم كلّهم سيخضعون ليوسف). وإنّما تأوّلها يعقوب على ذلك ؛ لأنّه لا شيء أضوأ من الشّمس والقمر ، ويهتدي بضوئهما أهل الأرض ، ثمّ لا شيء بعدهما أضوأ من الكواكب ، فدلّت رؤياه على أنّ الّذي يخضعون له أئمّة الهدى الّذين يهتدي النّاس بهم.

قوله تعالى : (رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) (٤) ؛ ثانيا ليس بتكرار ؛ لأنه أراد بالرّؤية الثانية رؤية سجودهم له ، وإنما حملت الآية على الرؤيا لا على رؤية العين ؛ لأنا نعلم أن الكواكب لا تسجد حقيقة للآدميّين ، ولهذا قال يعقوب : (لا تقصص رؤياك على إخوتك).

وعن ابن عبّاس أنّه قال : (لمّا قصّ يوسف رؤياه على أبيه نهره وزجره لئلّا يفطن إخوته ، وقال له في السّرّ : إذا رأيت رؤيا بعدها لا تقصص رؤياك على إخوتك). فذلك قوله تعالى : (قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً ؛) لأن رؤيا الأنبياء وحي ، يعلم يعقوب أن الإخوة إذا سمعوا بها حسدوه فأمره بالكتمان ، وإنما كان قصّها على يعقوب فقط ، وهذا القول أقرب إلى ظاهر الآية ، أي لا تخبرهم بذلك لئلّا يحملهم الحسد إلى قصدك بسوء ، ومن الخضوع له على إنزال التثريب عليه والاحتيال لهلاكه ، والكيد : هو طلب الشرّ بالإنسان على جهة الغيظ عليه.

٤٦٦

اختلف فيما عناه في هذه اللام التي في قوله تعالى : (فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً) قال بعضهم : معناه : فيكيدوك واللام صلة كقوله تعالى : (لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ)(١) ، وقال بعضهم : هو مثل قولهم : نصحتك ونصحت لك وأشباهه.

قوله تعالى : (إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (٥) ؛ أي إنّ الشيطان عدوّ ظاهر العدوان لبني آدم ، فلا تذكر رؤياك لإخوتك ؛ لئلا يحملهم الشيطان على الحسد وإنزال الضّرّ بك.

وهذا أصل في جواز ترك إظهار النّعمة عند من يخشى حسده وكيده ، وإن كان الله تعالى قال : (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)(٢) ، وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : [استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان ، فإنّ كلّ ذي نعمة محسود](٣).

قوله تعالى : (وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ ؛) أي مثل ما رأيت من سجود الشمس والقمر والكواكب ، كذلك يصطفيك ربّك ويختارك ، (وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ ؛) قيل : معناه : من تأويل الرّؤيا لأنّ فيه أحاديث الناس عن رؤياهم. وقيل : معناه : أفهمك عواقب الأمور والحوادث. ويقال : يعلّمك الشرائع التي لا تعلم إلا من قبل الله تعالى.

قوله تعالى : (وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ ؛) أي يتمّ نعمته عليك بالنبوّة كما أتمّ النعمة ؛ قوله تعالى : (كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ ؛) أي يتمّ النعمة أيضا على أولاد يعقوب بك ؛ لأن ذلك يكون سرّ حالهم ؛ أي تكون النبوّة فيهم ، (إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٦) ، في أفعاله.

__________________

(١) الأعراف / ١٥٤.

(٢) الضحى / ١١.

(٣) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير : ج ٢٠ ص ٧٨ : الحديث (١٨٣) عن خالد بن معدان عن معاذ بن جبل. وفي الأوسط : ج ٣ ص ٢٢٦ : الحديث (٢٤٧٦). وفي المعجم الصغير : ج ٢ ص ٢٩٢ : الدحيث (١١٨٦). وفي مجمع الزوائد : ج ٨ ص ١٩٥ : البر والصلة : باب كتمان الحوائج ؛ قال الهيثمي : ((رواه الطبراني في الثلاثة ، وفيه سعيد بن سلام العطاء ، قال العجلي : لا بأس به. وكذبه أحمد وغيره ، وبقية رجاله ثقات ، إلا خالد بن معدان لم يسمع من معاذ)). وللحديث شواهد كثيرة.

٤٦٧

وفي بعض التفاسير : أنّ يعقوب عليه‌السلام كان خطب إلى خاله ابنته راحيل على أن يخدمه سبع سنين فأجابه ، فلما حلّ الأجل زوّجه ابنته الكبرى لايا ، فقال يعقوب لخاله : لم يكن هذا على شرطي ، قال : إنّا لا ننكح الصغيرة قبل الكبيرة ، فهلمّ فآخذ منّي سبع سنين أخرى وأزوّجك راحيل ، وكانوا يجمعون بين الأختين ، فرعى يعقوب سبع سنين أخرى وزوّجه راحيل ، ودفع لكلّ واحدة من ابنتيه أمة تخدمها فوهبتاهما ليعقوب عليه‌السلام فولدت لايا أربعة بنين : روبيل (١) وسمعون ويهودا ولاوي ، وولدت راحيل : يوسف وبنيامين ، وولدت الأميان : بنيامين وهابيل ودان ويسائيل وجادوان وآشير. فجملة بنيه اثنا عشر ولدا سوى البنتين.

فإن قال قائل : إن كان يعقوب علم أنّ الله يجتبي يوسف ويعلّمه من تأويل الأحاديث ، فلم إذا قال : (لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ؟) وكيف قال لهم : (وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) مع علمه أنّ الله سيبعثه رسولا؟

والجواب : أنه عليه‌السلام كان عالما من طريق القطع أنّ الله سيبلغه هذه المنزلة ، ولكن كان مع ذلك يخاف من وصول المضارّ إليه بكيدهم ، وإن لم يخف الهلاك. وأراد بقوله : (أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) الزجر لهم عن التّهاون في حفظه ، وإن كان يعلم أن الذئب لا يصل إليه ، ولذلك لم يصدّقهم في قولهم : (فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ ،) بل حاجّهم بما يظهر به كذبهم.

وقيل : أراد بقوله (وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) التخلّص من السّجن ، كما خلّص الله إبراهيم عليه‌السلام من النار ، وإسحق من الذبح (٢).

قوله تعالى : (لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ) (٧) ؛ معناه : لقد كان في خبر يوسف وإخوته عبرة للسّائلين عنهم. وقرأ ابن كثير (آية) كأنّه جعل شأنه كلّه آية للسائلين (٣) ، وذلك أنّ اليهود سألت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قصّة يوسف ،

__________________

(١) وربما (روسيل).

(٢) في جامع البيان : مج ٧ ج ١٢ ص ٢٠١ : النص (١٤٤٥٣) ؛ أخرج الطبري عن عكرمة قال :

(فنعمته على إبراهيم أن نجاه من النار ، وعلى إسحق أن نجاه من الذبح).

(٣) ذكره الطبري في جامع البيان : مج ٧ ج ١٢ ص ٢٠١ ؛ قال : (وروي عن مجاهد وابن كثير أنهما قرءا على التوحيد).

٤٦٨

فأخبرهم بها كما في التّوراة ، فعجبوا منه وقالوا : من أين لك هذا يا محمّد؟ قال : [علّمنيه ربي]. وقيل : معناه : للسّائلين أي لمن سأل عن أمرهم.

قوله تعالى : (إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا ؛) هذه لام القسم ، تقديره : والله ليوسف وأخوه بنيامين أحبّ إلى أبينا منّا ، (وَنَحْنُ عُصْبَةٌ ؛) أي جماعة وكانوا عشرة ، سموا عصبة ؛ لأن بعضهم يتعصّب لبعض (١) ، ويعين بعضهم بعضا. والعصبة : ما بين الواحد إلى العشرة ، وقيل : إلى الخمسة عشر.

قوله تعالى : (إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٨) ؛ أي من الخاطئين في ترك العدل في المحبّة بيننا لفي خطأ بيّن من التدبير باختياره الصغيرين ، ولا منفعة له فيهما علينا مع أنّا نسعى في منافعه ونرعى له غنمه ونتعهّدها.

قوله تعالى : (اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ ؛) اختلفوا في قائل هذا القول ، قال وهب : (قائله سمعون) ، وقال مقاتل : (قاله روبيل) ، وقوله تعالى (أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً) يعنون أبعدوه على وجه يقع به اليأس من اجتماعه مع أبيه.

قوله تعالى : (يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ) أي يخل لكم وجهه عن يوسف ، ويخلص محبّته لكم ، (وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ) (٩) ؛ أي تتوبوا بعد ذلك من هذا الذنب ، ويصلح حالتكم مع أبيكم.

قوله تعالى : (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ ؛) قال أكثر المفسّرين : القائل بهذا هو يهودا ، وكان أعقلهم وأشدّهم قوة ، والمعنى أنه قال لهم اطرحوه في قعر البئر ، (يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ ؛) على الطريق. والغيابة : هو الموضع الذي غاب عن بصرك ، والجبّ : هو البئر التي لم يطو بالحجارة.

قوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) (١٠) ؛ معناه : قال لهم : إن كنتم لا بدّ فاعلين به أمرا فاعدلوا إلى هذا الأمر ، وإلّا فاتركوا كلّ ذلك. والظاهر من قوله

__________________

(١) في المخطوط : (يبغض بعضا) وهو تصحيف.

٤٦٩

(الجب) أنه جبّ مشار إليه معروف ، قال وهب : (هو بأرض الأردنّ على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب).

فلمّا أبرموا هذا التدبير وعزموا عليه تلطّفوا بالوصول إلى مرادهم ، وجاؤا إلى أبيهم ، فقالوا كما قال الله : (قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ) (١١) ؛ أي ما لك لا تأمنّا عليه ، فترسله معنا وإنّا له لناصحون في الرّحمة والبرّ. قوله : (أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ ؛) أي يذهب ويجيء وينشط ؛ ويقرأ كلاهما بالنّون والياء.

والرّتع : هو التردّد يمينا وشمالا للاتساع في الملاذ. ومن قرأ (يرتع) بالياء فهو من يرتع ؛ أي يرعى ماشيته ، واللّعب : هو الفعل الذي يطلب منه التّفريح من غير عاقبة محمودة ، وهو على وجهين : مباح ومحظور ، كما قال عليه‌السلام : [كلّ لعب حرام إلّا ثلاثة : ملاعبة الرّجل أهله ، ونبله بقوسه ، وتأديبه فرسه](١)(وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (١٢) ؛ عن الأسواء ؛ وعن كلّ ما يخاف عليه.

قوله : (قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ ؛) أي يحزنني ذهابكم به ؛ لأنه يفارقني فلا أراه ، (وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ) (١٣) ؛ ذكر شيئين : الحزن لذهابهم ، والخوف عليه أن يجده الذّئب وحده وقت غفلتهم عنه فيأكله. وكان يعقوب قد رأى في منامه كأنّ ذئبا قد عدا على يوسف ، فكان خائفا عليه ، فمن ذلك قال : (أَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ.)

قوله تعالى : (قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ ؛) أي ونحن جماعة ترى الذّئب قد قصد ، (إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ) (١٤) ؛ أي لعاجزون ، والخسران هنا العجز.

__________________

(١) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير : ج ٢ ص ١٩٣ : الحديث (١٧٨٥). وفي الأوسط : ج ٨ ص ٩٠ : الحديث (٧١٧٩) من حديث عمر بإسناد ضعيف. وفي مجمع الزوائد : ج ٥ ص ٢٦٩ ؛ قال الهيثمي : ((رواه الطبراني في الأوسط والكبير والبزار ورجال الطبراني رجال الصحيح ، ما خلا عبد الوهاب بن بخت وهو ثقة)).

٤٧٠

قوله تعالى : (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ ؛) أي فأرسله معهم ، فلمّا ذهبوا به اتّفقت دواعيهم أن يجعلوه في الجب ، قال السديّ : (خرجوا به من عند أبيهم وهم مكرمون له ، فلمّا صاروا في البرّيّة أظهروا له العداوة ، فجعل أخ له يضربه ، فيستغيث بالآخر فيضربه ، لا يرى فيهم رحيما ، فضربوه حتّى كادوا يقتلونه.

فجعل يصيح ويقول : يا أبتاه لو تعلم ما صنع بابنك؟ فقال لهم يهودا : أليس قد أعطيتموه موثقا ألّا تقتلوه؟ فانطلقوا به في الجب فدلّوه فيه ، فتعلّق بشفير البئر ، فربطوا يديه ونزعوا قميصه وقال : يا إخوتاه ردّوا عليّ قميصي أتوارى به ، فقالوا : أدع الشّمس والقمر والأحد عشر كوكبا يلبسوك ويؤنسوك ، فدلّوه حتّى إذا بلغ نصف البئر ألقوه وأرادوا أن يموت ، وكان في البئر ماء فسقط فيه ، وآوى إلى صخرة فقام عليها وجعل يبكي ، فنادوا فظنّ أنّ الرّحمة أدركتهم فأجابهم ، فأرادوا أن يرضخوه بالحجارة ليقتلوه فمنعهم يهودا ، وكان يهودا يأتيه بالطّعام) (١).

قوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا ؛) قال المفسّرون : أوحى الله إلى يوسف في البئر تقوية لقلبه : لتصدقنّ رؤياك ، ولتخبرنّ إخوتك بصنعهم هذا بعد اليوم ، (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (١٥) ؛ بأنّ يوسف في وقت إخبارك إيّاهم بأمرهم ، وكان فيما أوحي إليه : أن اصبر على ما أصابك واكتم حالك ، فإنّك تخبرهم بما فعلوا بك.

وعن ابن عبّاس قال : (كان يومئذ ابن سبع عشرة سنة وبقي في الجب ثلاثة أيّام). وفي بعض الروايات : أنه لمّا ألقي في الجب جعل يقول : يا شاهدا غير غائب ، ويا قريبا غير بعيد ، ويا غالبا غير مغلوب : اجعل لي من أمري فرجا ومخرجا ، فأوحى الله إليه وهو في البئر : اصبر على ما أصابك واكتم حالك ، فإنّك تخبر إخوانك في وقت عن ما فعلوا بك في وقت إخبارك إيّاهم بأمرهم.

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٤٤٧٧).

٤٧١

ثم عمدوا إلى سخلة فذبحوها ، وجعلوا دمها على قميص يوسف ، (وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ) (١٦) ؛ أي يتباكون ، (قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ) أي نتسابق في الرّمي ، وقيل : نسابق في الاصطياد ، (وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا ؛) ليحفظه ، (فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا ؛) أي بمصدّق لنا في أمر يوسف لفرط محبّتك له وتهمتك إيانا فيه ، (وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ) (١٧) ؛ محل الصدق عندك في غير هذا الحديث.

ثم أروه قميصه ملطّخا بالدم ، فذلك قوله تعالى : (وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ؛) أي بدم كذب ، فلمّا نظر يعقوب إلى القميص قال : ما عهدت ذئبا حليما مثل هذا الذئب! فكيف أكل لحمه ولم يخرّق قميصه؟! ولو أنّهم كانوا مزّقوا قميصه حين لطّخوه بالدم ، كان ذلك أبعد عن التّهمة عنهم (١) ، ولكن لا بدّ في المعاصي أن يقترن بها الحزنان ، (قالَ ؛) يعقوب : كذبتم ، (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) أي زيّنت لكم أنفسكم في هلاك يوسف فضيّعتموه. ويقال : إن يعقوب كما قال لهم : لو أكله الذئب فشقّ قميصه! قالوا : لو قتله اللصوص لما تركوا قميصه ، هل يريدون إلا الثياب والمتاع ، فسكتوا متحيّرين.

قوله تعالى : (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ؛) أي فصبر جميل أولى من الجزع ، والصبر الجميل هو الذي لا شكوى فيه ، قوله تعالى : (وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) (١٨) ؛ أي معناه : أستعين بالله على الصبر في ما يقولون.

وروي : (أنّ شريحا كان جالسا للقضاء ، فجاءته امرأة تبكي وتشكو ، فقيل له : يوشك أن تكون هذه مظلومة ، فقال شريح : قد جاء إخوة يوسف أباهم عشاء يبكون وهم كذبة).

قوله تعالى : (وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ ؛) أي جاءت قافلة من المسافرين بعد أن مكث يوسف عليه‌السلام في الجب ثلاثة أيّام. يروى أنّهم جاءوا من قبل

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٤٤٩٢) عن الشعبي قال : ((ذبحوا جديا ولطّخوه من دمه ، فلمّا نظر يعقوب إلى القميص صحيحا ، عرف أنّ القوم كذبوه ، فقال لهم : إن كان هذا الذّئب لحليما ، حيث رحم القميص ولم يرحم ابني! فعرف أنّهم قد كذبوه)).

٤٧٢

مدين يريدون معرّفا خطر الطريق ، فتحيّروا وجعلوا يهيمون حتى وقعوا في الأرض التي فيها الجبّ ، فأرسل كلّ قوم منهم واردهم ، والوارد الذي يقوّم القوم لطلب الماء ، فوافق الجبّ مالك بن ذعر وهو رجل من العرب من أهل مدين ، (فَأَدْلى دَلْوَهُ) في البئر ، فتعلّق بها يوسف ، فلم يقدروا على نزعه ، فنظروا فرأوا غلاما قد تعلّق بالدّلو ، فنادى أصحابه ف (قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ ،) قال : ما ذاك يا مالك؟ قال : غلام أحسن ما يكون من الغلمان. فاجتمعوا عليه وأخرجوه.

قال كعب : (كان يوسف حسن الوجه جعد الشّعر ضخم العين مستوي البطن صغير السّرّة ، وكان إذا تبسّم رأيت النّور في ضواحكه ، لا يستطيع أحد وصفه ، وكان حسنه كضوء النّار وكان يشبه آدم يوم خلقه الله تعالى قبل أن يصيب المعصية). ويقال : إنه ورث ذلك الجمال من جدّته سارة ، وكانت قد أعطيت سدس الحسن.

وقوله تعالى : (قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ) من قرأ (يا بشري) أي بياء الإضافة ، فهو خطاب للفرح على القلب ، كما قال : يا فرحي يا طوباي ويا أسفي. ومن قرأ بغير ياء الإضافة فمعناه تبشير الأصحاب ، كما يقال : يا عجبا ويراد به يا أيّها القوم اعجبوا.

قوله تعالى : (وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً ؛) أي أسرّ الذين وجدوا يوسف من رفقائهم ومن القافلة مخافة أن يطلب أحد منهم الشّركة معهم في يوسف عليه‌السلام ، قوله : (وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً) نصب على المصدر ؛ أي قالوا في ما بينهم : إنّا نقول إن أهل الماء استبضعوك بضاعة ، ويجوز أن يكون (بِضاعَةً) نصبا على الحال على معنى أنّهم كتموه حين أعقدوا التجارة فيه.

ويقال : إن قوله (وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً) راجع إلى إخوة يوسف ، فإنه روي أنّهم جاؤا بعد ثلاثة أيّام فلم يجدوا في البئر ، فنظروا فإذا القوم نزول بقرب البئر ، فإذا هم بيوسف ، فقالوا لهم : هذا عبد آبق منذ ثلاثة أيام ، وقالوا ليوسف : لئن أنكرت أنّك عبد لنا فلنقتلنّك ، وقالوا للقوم : اشتروا منّا فذلك معنى قوله (وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً) بأن طلبوا من يوسف كتمان نسبه ، إلا أنّ القول الأوّل أقرب إلى ظاهر الآية. قوله تعالى : (وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ) (١٩) ؛ أي بيوسف ، وهذا يجري مجرى الوعيد.

٤٧٣

قوله تعالى : (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ ؛) أي باعوه إخوته من مالك بن ذعر بعشرين درهما ، فأصاب كلّ منهم درهمين فلم يأخذ يهودا نصيبه ، وأخذه الباقون ، وقال الضحّاك : (باعوه باثني عشر درهما). وقال ابن عبّاس : (معنى قوله (بِثَمَنٍ بَخْسٍ) أي بثمن حرام ؛ لأنّه سمّى البخس حراما ، وسمّى الحرام بخسا ؛ لأنّه لا بركة فيه). وقال الكلبيّ : (باعوه باثنين وعشرين درهما). وقوله تعالى : (مَعْدُودَةٍ) أي قليلة ، وذكر العدد عبارة عن القلّة.

قوله تعالى : (وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) (٢٠) ؛ أي لم يكن لهم فيه رغبة ولا في ردّه على أبيه ، ولم يعلموا منزلته من الله تعالى ، يعني : أنّ إخوة يوسف كانوا في يوسف من الزّاهدين ؛ لأنّهم لم يعرفوا كرامته على الله تعالى. وقيل : كانوا في يمنه من الزّاهدين أن عرضهم أن يغيّبوه عن أبيه ، وكتم يوسف شأنه مخافة أن يقتله إخوته ، و (شَرَوْهُ) أي باعوه ، قال الشاعر :

وشريت بردا ليتني

من بعد برد كنت هامه

أي بعت بردا وهو غلامه.

ثم انطلق مالك بن دعر وأصحابه بيوسف ومعهم إخوته يقولون : استوثقوا منه فإنه آبق سارق كاذب ، وقد برئنا إليكم من عيوبه. فحمله مالك بن دعر على ناقته وسار به نحو مصر ، وكان طريقهم على قبر أمه ، فلما بلغ قبر أمه أسقط نفسه من الناقة وهو يبكي ويقول : يا أماه ارفعي رأسك من الثّرى ، وانظري إلى ولدك يوسف وما لقي بعدك من البلايا ، يا أماه لو رأيتي ضعفي وذلّي ، يا أماه لو رأيتني ، نزعوا قميصي وشدّوني ، وفي الجب ألقوني وعلى حرّ وجهي لطموني ، وبالحجارة رجموني.

ثم فقده مالك بن ذعر فصاح في القافلة : ألا إنّ الغلام رجع إلى أهله ، فطلبوه فوجدوه ، فقال له رجل منهم : يا غلام قد أخبرنا مواليك أنك آبق سارق ، فلم نصدّق حتى رأيناك ، فقال : والله ما آبقت ، ولكنّكم مررتم على قبر أمّي ، فلم أتمالك أن رميت نفسي عليه ، فرفع يده فلطم وجهه حتى حمله على ناقته.

٤٧٤

وذهبوا به حتى قدموا مصر ، فأمره مالك بن ذعر حتى اغتسل ولبس ثوبا حسنا ، وعرضه على البيع ، فاشتراه قطفير بن رويحب لامرأته ، قال وهب : (ترافع النّاس في ثمنه وتزايدوا حتّى بلغ ثمنه وزنه مسكا وورقا ، فابتاعه قطفير بهذا الثمن وأتى به إلى منزله) (١).

قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ ؛) واسمها راعيل : (أَكْرِمِي مَثْواهُ ؛) أي أحسني طول مقامه عندنا ، (عَسى أَنْ يَنْفَعَنا ؛) في أمورنا ونبيع فنربح في ثمنه ، (أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً ؛) نسبناه ، وكان العزيز عقيما ، أو حصورا لا يولد له ، إنما قال لما رأى على يوسف من الجمال والعقل والهداية إلى الأمور.

قوله تعالى : (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ ؛) أي كما خلّصناه من البئر وإخوته كذلك مكّنّاه فيها حتى بلغ ما بلغ. قوله تعالى : (وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ ؛) أي لنعلّمه من ضروب العلوم ، (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ) أي لا يقدر أحد منكم دفع ما أراد من أمره ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٢١) ؛ أن الله غالب على أمره وهم المشركون.

قوله تعالى : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً ؛) قال ابن عبّاس : (لمّا بلغ ثماني عشرة سنة آتيناه النّبوّة والفقه ، وجعلناه حكيما عليما) ، قال : (والأشدّ من ثماني عشرة إلى ثلاثين سنة) (٢). ويقال : أقصاه اثنان وستّون سنة ، فأما الاستواء فهو أربعون سنة. وقال الحسن : (أعطي يوسف الرّسالة عند هذه الحالة ، وكان أعطي النّبوّة من قبل).

ويقال : معناه : وآتيناه حكما وعلما بين الناس ، فإذا الناس كانوا تحاكموا إلى العزيز ، أمره أن يحكم بينهم ؛ لما رأى من عقله وأمانته وعلمه. قوله تعالى : (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (٢٢) ؛ أي كما جزينا يوسف على صبره على المحن ، كذلك نجزي المحسنين في أقوالهم وأفعالهم.

__________________

(١) ينظر : الجامع لأحكام القرآن : ج ٩ ص ١٥٨.

(٢) ذكره الطبري في جامع البيان : تفسير الآية : الأثر (١٤٥٥١).

٤٧٥

قوله تعالى : (وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ ؛) أي راودته امرأة العزيز واسمها زليخا ، وكان يوسف من أحسن البشر ، وكان كضوء النّهار ونور الشّمس ، وكان بحيث لا يستطيع آدميّ أن يصفه ، فراودته أي طالبته لمرادها منه ، (وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ ؛) عليه وعليها وطلبت منه أن يواقعها ، قوله (وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ) قال المفسّرون أغلقت سبعة أبواب.

قوله تعالى : (وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ ؛) أي هلمّ إلى ما هيّء لك ، قرأ ابن كثير (هيت لك) بفتح الهاء وضمّ التاء ، وقرأ أهل المدينة والشام بكسرها وبفتح التاء ، وقرأ الباقون بفتح الهاء والتاء ، وهي قراءة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومعناه جميعا : هلمّ وأقبل ، قال مجاهد : (تدعوه إلى نفسها وهي كلمة حثّ) (١).

قوله تعالى : (قالَ مَعاذَ اللهِ ؛) أي أعوذ بالله أن أفعل ما لا يجوز لي فعله. وقيل : اعتصم بالله عن فعل ما تدعنّني إليه. قوله تعالى : (إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ ؛) ذهب أكثر المفسّرين إلى أنّ معناه : إنّ زوجك سيّدي أحسن تربيتي ومنزلتي مدّة مقامي عنده ، لا أخونه في أهله.

سمّاه ربّا للرقّ الذي كان ثبت له في الظاهر عليه. وقيل : معناه : إن الله تعالى ربي أحسن إليّ بتخليصي من البئر وما قصدني قومي من الهلاك ، (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) (٢٣) ؛ أي لا يأمن ولا ينجو من عذاب الله الذين يظلمون أنفسهم ، أراد بهم الزّناة ، ويجوز أن يكون أراد لو فعل ما دعته إليه لكان ظالما لزوجها في أهله.

وفي قوله (هَيْتَ) خلاف من فتح التاء فلسكونها وسكون الياء قبلها نحو : كيف وأين ، ومن ضمّ التاء فعلى أنّها مبنيّة على الضمّ نحو حيث ومنذ ، ومن قرأ بفتح الهاء وكسر التاء فلأنّ الأصل في التقاء السّاكنين حركة الكسر ، ويجوز أن يكون مبنيّا على الكسر مثل أمس وجير.

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٤٥٦٤) بمعناه ، وابن أبي حاتم في التفسير : الأثر (١١٤٦٤).

٤٧٦

قوله تعالى : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها ؛) قال الحسن : (أمّا همّها فأحبّ همّ وهو العزم على الفاحشة ، وأمّا همّه فهو ما طبع عليه الرّجال من شهوة النّساء من دون عزم على الزّنا).

واختلف أهل العلم في ذلك ، فروي عن ابن عبّاس أنه سئل : ما بلغ من أمر يوسف؟ قال : (حلّ الهميان (١) وجلس منها مجلس الخاتن) (٢). وعن ابن أبي مليكة قال : سألت ابن عبّاس : ما بلغ من أمر يوسف؟ قال : (استلقت له على قفاها وقعد بين رجليها ينزع ثيابه) (٣) وهو قول سعيد بن جبير والضحّاك والسديّ.

وروي عن ابن عبّاس : (أنّه لمّا راودت يوسف جعلت تذكر محاسنه وتشوّقه إلى نفسها ، فقالت : يا يوسف ما أحسن ماء عينيك؟ قال : هو أوّل ما سيل على الأرض من جسدي ، قالت : ما أحسن وجهك؟ قال : هو للتّراب يأكله ، قالت : ما أحسن شعرك ، قال : هو أوّل ستر من بدني ، قالت : ما أحسن صورتك ، قال : ربي صوّرني ، قالت : يا يوسف صورة وجهك أنحلت جسمي ، قال : إن الشيطان يعينك على ذلك ، قالت : فراش الحرير قد بسطته قم فاقض حاجتي ، قال : إذن يذهب نصيبي من الجنّة ، قالت : أدخل في الستر معي ، قال : ليس بشيء يسترني من ربي.

فلم تزل تدعوه إلى اللذة ، ويوسف شابّ مستقبل يجد من شبق الشباب ما يجد الرجل ، وهي حسناء جميلة حتى لان لها لما يرى من كلفها به وهمّ بها) (٤).

فهذه أقاويل أجلّة أهل التفسير ، وقال جماعة من المتأخّرين : (لا يليق هذا بالأنبياء) وأوّلوا الآية ، قال بعضهم : همّ بالفرار ، وهذا لا يصحّ لأن الفرار مذكّر ، وقيل : همّ بضربها ودفعها ومخاصمتها ، وقال بعضهم معنى قوله : (وَهَمَّ بِها) بمناها أن تكون له زوجة.

__________________

(١) الهميان : شداد السروايل.

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٤٥٨٦) و (١٤٥٩٢) عن سعيد بن جبير وابن عباس. وابن أبي حاتم في التفسير : الأثر (١١٤٧٨).

(٣) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٤٥٨٦) بأسانيد عديدة ، والأثر (١٤٥٩٠).

(٤) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٤٥٨٤) و (١٤٥٨٥) عن السدي. وابن أبي حاتم في التفسير : الأثر (١١٤٧٥).

٤٧٧

وقال أهل الحقائق : الهمّ همّان : همّ مقيم ثابت ، وهو إذا كان معه عزم وعقد ونيّة ورضى مثل همّ امرأة العزيز ، فالعبد مأخوذ به ، وهمّ عارض وارد وهو الخطرة والفكرة وحديث النّفس من غير اختيار ولا عزم مثل همّ يوسف ، والعبد غير مأخوذ به.

وفي الحديث عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : [إنّ الله تجاوز عن أمّتي ما حدّثت به أنفسها ما لم يتكلّموا أو يفعلوا به](١). عن ابن عبّاس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [ما من أحد يلقى الله قد همّ بخطيئة قد عملها ، إلّا يحيى بن زكريّا فإنّه لا يهمّ ولم يفعل](٢).

وقال بعضهم في قوله (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها) قال أبو العبّاس أحمد بن يحيى ثعلب : (همّت المرأة بالمعصية مصرّة على ذلك ، وهمّ يوسف بالمعصية ولم يأتها). وقيل : همّت المرأة عازمة على الزنى ، ويوسف عارضه ما يعارض الشباب من خطرات القلب وحديث النّفس ، فلم يلزمه ، وهذا الهمّ ليس ذنبا إذ الرجل الصائم يخطر بقلبه شراب الماء البارد ، فإذا لم يشرب كان غير مؤاخذ بما يحسّ في نفسه فيه.

وقال الزجّاج : (وهمّ بها وجلس منها مجلس الرّجل من المرأة ، إلّا أنّ الله تعالى تفضّل عليه بأن أراه البرهان ، ألا تراه قال : وما أبرّئ نفسي) (٣).

قوله تعالى : (لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ ؛) اختلفوا في هذا البرهان ، قال ابن عبّاس والحسن وابن جبير ومجاهد : (رأى صورة يعقوب عاضّا على أنامله) (٤) ،

__________________

(١) أخرجه الطبراني في الأوسط : ج ٤ ص ٣٨٨ : الحديث (٣٦٦١) عن أبي هريرة رضي الله عنه. والإمام أحمد في المسند : ج ٢ ص ٢٥٥ و ٤٢٥ و ٤٧٤. والبخاري في الصحيح : كتاب العتق : باب الخطأ والنسيان : الحديث (٢٥٢٨) ، وفي الإيمان : باب تجاوز الله عن حديث النفس : الحديث (٦٦٦٤). وأبو داود في السنن : كتاب الطلاق : باب ما جاء فيمن يحدث نفسه : الحديث (٢٢٠٩).

(٢) في الدر المنثور : ج ٤ ص ٤٨٨ ؛ قال السيوطي : ((أخرجه أحمد والحكيم الترمذي في نوادر الأصول والحاكم وابن مردويه)) وفي ص ٤٨٦ ؛ قال : ((أخرجه عبد الرزاق وأحمد في الزهد وعبد ابن حميد وابن أبي حاتم)). وقد تقدم.

(٣) قاله الزجاج في معاني القرآن وإعرابه : ج ٣ ص ٨٢.

(٤) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٤٦٠٠) عن سعيد ، و (١٤٦٠٢) عن مجاهد ، و (١٤٦٠٧) عن الحسن.

٤٧٨

وقال قتادة : (سمع صوتا : يا يوسف إنّه فعل السّفهاء ، وأنت مكتوب في ديوان الأنبياء) (١).

ويقال : خرج كفّ بينهما بلا جسد مكتوب فيه ثلاثة أسطر ؛ إحداها : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ)(٢) والثاني : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً)(٣) ، والثالث : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ. كِراماً كاتِبِينَ)(٤).

وعن محمّد بن كعب القرظي قال : (معنى (لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ :) لو لا ما علمه من قبيح الزّنى ، ووجوب العقوبة عليه) (٥) وهذا كلّه محذوف الجواب ، وجوابه : لو لا ذلك لعزم على القبح ، وعمل على مقتضى شهوته.

قوله تعالى : (كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ ؛) أي كما مكّنّا له في الأرض ، كذلك أريناه البرهان (لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ) أي الخيانة (وَالْفَحْشاءَ) يعني الزّنى. قوله تعالى : (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) (٢٤) ؛ الذين أخلصوا دينهم لله ، ومن قرأ بفتح اللام فمعناه : من عبادنا الذين أخلصناهم واصطفيناهم.

قوله تعالى : (وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ ؛) قال السديّ : (ذلك أنّ زليخا قالت ليوسف حين أغلقت الباب : ما أحسن شعرك رضي الله عنه إلى آخر الكلام) وقد تقدّم ذلك حتّى همّ بها ، فلمّا رأى البرهان قام مبادرا إلى الباب هاربا ، فاتّبعته المرأة فأدركته ، فلمّا أحسّت بقوّته مزّقت آخر قميصه مانعة له من الخروج. والقدّ قطع الشيء بأسره طولا.

قوله تعالى : (وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ ؛) صادفا زوجها عند الباب جالسا ، فلمّا رأته هابته ، و (قالَتْ) سابقة بإلقاء الذنب على يوسف : (ما جَزاءُ

__________________

(١) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير : الأثر (١١٤٨٣ و ١١٤٨٤).

(٢) البقرة / ٢٨١.

(٣) الإسراء / ٣٢.

(٤) الانفطار / ١٠ ـ ١١.

(٥) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير : الأثر (١١٤٨٩).

٤٧٩

مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً ؛) يعني الزّنى ، (إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ ؛) أن يودع في السجن ، أو ؛ يعذب ، (أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٢٥) ؛ يعني الضّرب الوجيع.

فلمّا قالت المرأة ذلك ، لم يجد يوسف بدّا من تبرئة نفسه ، (قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي ؛) أي طالبتني بمرادها من نفسي فأبيت وفررت منها ، فأدركتني وشقّت قميصي ، (وَشَهِدَ شاهِدٌ ،) وكان مع زوجها بالباب ، (مِنْ أَهْلِها ،) ابن عمّ لها حكيم ، فقال ابن عمّها : (إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ ؛) إن كان شقّ القميص من قدّامه ، (فَصَدَقَتْ ؛) فهي صادقة ، (وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٦) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (٢٧) ، وإن كان من خلفه فهو صادق ، وقال الضحّاك : (كان الشّاهد صبيّا في المهد فأنطقه الله تعالى) (١). قيل : كان ذلك الصبيّ ابن خال المرأة.

قوله تعالى : (فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ ؛) أي فلمّا رأى ابن عمّها قدّ القميص من خلف ، ويقال : فلمّا رأى زوجها ذلك ، (قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ ؛) أي قولها (ما جزاء من أراد بأهلك سوء) من مكركنّ ، (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) (٢٨).

ثم قال ليوسف بعدما ظهرت براءته : (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا ؛) يعني أمسك ذكره حتى لا ينتشر في البلد وفي ما بين الناس ، ثم أقبل عليها وقال : (وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ) (٢٩) ؛ فإن الخطاب كان منك ألقيته على يوسف.

وقد احتجّ مالك والحسن بن حيّ (٢) في الحكم بالعلامة بهذه الآية : أنّ اللّقطة إذا ادّعاها مدّع ووصفها وجب على الملتقط أن يدفعها إليه على مذهبهما. ولا حجّة

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٤٦٣٠).

(٢) الحسن بن حيّ ؛ هو : ابن صالح بن صالح بن حي ، وهو : حيّان بن شفي بن هني بن رافع الهمداني الثوري. قال البخاري : (يقال : حي لقب). واختلف القول فيه ؛ قال عنه أحمد : (الحسن ابن صالح صحيح الرواية ، متفقه ، صائن لنفسه الحديث والورع) ، وقال يحيى بن معين : (ثقة ، مأمون ، مستقيم الحديث ، يكتب رأي مالك ، والأوزاعي ، والحسن بن صالح هؤلاء ثقات). ترجم له ابن حجر في تهذيب التهذيب : الرقم (١٣٠٧) : ج ٢ ص ٢٦٤ ـ ٢٦٨.

٤٨٠