التفسير الكبير - ج ٣

سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني

التفسير الكبير - ج ٣

المؤلف:

سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني


المحقق: هشام البدراني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب الثقافي ـ الأردن / إربد
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-9957-02-1

الصفحات: ٥١٦

كتابه. قوله تعالى : (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ ؛) لذنوبهم (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (٧٤) في الجنّة بأن يطعمهم طعاما يصير كالمسك رشحا ولا يستحيل في أجوافهم نجوا (١).

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ) معناه : والذين آمنوا من بعد المهاجرين السّابقين ، وهاجروا إلى المدينة وجاهدوا معكم الكفار ، فأولئك منكم في الدّين والنّصرة.

قوله تعالى : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ ؛) أي أن الأقارب بعضهم أولى ببعض في الميراث من غيرهم ، هاجروا أو لم يهاجروا إذا كانوا مسلمين ، قوله تعالى : (فِي كِتابِ اللهِ ؛) يجوز أن يكون المراد بالكتاب القرآن ، ويجوز أن يكون معناه في اللوح المحفوظ ، ويجوز أن يراد بالكتاب الحكم ، كما قال الله تعالى : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَ)(٢) أي حكم الله ، وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٧٥) ؛ أي عليم بكلّ ما فرض من المواريث وغير ذلك.

قال قتادة : (وذلك أنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم آخى بين المهاجرين والأنصار ، وكانوا يتوارثون بالإسلام والهجرة ، وكان الرّجل يسلم ويهاجر ، وكان لا يرث أخاه) (٣) ، فنسخ الله ذلك بقوله : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) وصارت الوراثة بالقرابة كما ذكر الله في سورة النّساء ، وقال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [لا هجرة بعد الفتح ، ولكن جهاد ونيّة](٤).

__________________

(١) النّجو : ما يخرج من البطن و (استنجى) مسح موضع النّجو أو غسله.

(٢) المجادلة / ٢١.

(٣) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٢٧١١) مختصرا. وابن أبي حاتم في التفسير : الحديث (٩٢٠٦) عن الزبير بن العوام ، وفيه قصة ذلك.

(٤) رواه البخاري في الصحيح : كتاب الصيد : باب لا يحل القتال بمكة : الحديث (١٨٣٤) ، وفي كتاب الجهاد : باب فضائل الجهاد : الحديث (٢٧٨٣) ، وباب لا هجرة بعد الفتح : الحديث (٣٠٧٧). ومسلم في الصحيح : كتاب الحج : باب تحريم مكة وصيدها : الحديث (٤٤٥ / ١٣٥٣).

٢٨١

وعن أبيّ بن كعب : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [من قرأ سورة الأنفال والتّوبة فأنا له شفيع وشهيد يوم القيامة أنّه بريء من النّفاق ، وأعطي من الأجر بعدد كلّ منافق ومنافقة ، ورفع له بها عشر درجات](١).

آخر تفسير سورة (الأنفال) والحمد لله رب العالمين.

__________________

(١) تقدم ؛ وأنه لا يصح.

٢٨٢

سورة التّوبة

سورة التّوبة مدنيّة ؛ وهي عشرة آلاف وأربعمائة وثمانية وثمانون حرفا ، وأربعة آلاف وثمان وتسعون كلمة ، ومائة وثلاثون آية.

قوله عزوجل : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١) أي هذه من الله ، فيكون رفعا على الابتداء ، ويجوز أن يكون (براءة) رفعا بالابتداء ، وخبره : (إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ.) والبراءة : رفع العصمة ، يقال : فلان بريء من فلان ، وبرئ الله من المشركين. وإنما ذكر الله تعالى هذه الآية من العهد ؛ لأنّ المشركين كانوا ينقضون العهد قبل الأجل ، ويضمرون الغدر ، فأمر الله بنبذ العهد إليهم ، إما بخيانة مستورة ظهرت أمارتها منهم ، وإما أن يكون شرط النبيّ عليه‌السلام لنقضهم في العهد أن يقرّهم ما أقرّهم الله.

فأما ترك البسملة في أوّل هذه السّورة ، فقد روي أنّ أبيّ بن كعب سئل عن ذلك فقال : (لأنّها نزلت في آخر ما نزل من القرآن ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأمر أوّل كلّ سورة (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ولم يأمر في سورة البراءة بذلك ، فضمّت إلى الأنفال لشبهها بها) (١) يعني أنّ أمر العهود مذكور في الأنفال ، وهذه السّورة نزلت بنقض العهود. سئل عليّ رضي الله عنه عن هذا فقال : (لأنّ هذه السّورة نزلت في السّيف ، وليس للسّيف أمان ، وبسم الله الرّحمن الرّحيم من الأمان ، ولأنّ البسملة رحمة ، والرّحمة أمان ، وهذه السّورة نزلت بالسّيف ولا أمان فيه) (٢).

__________________

(١) هذا الأثر مروي أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما ؛ قال : (قلت لعثمان بن عفان رضي الله عنه : ما حملكم إلى أن عمدتم إلى الأنفال وهي المثاني وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا (بسم الله الرّحمن الرّحيم) ...). أخرجه الترمذي في الجامع : أبواب التفسير : الحديث (٣٠٨٦) ، وقال : حديث حسن.

(٢) أخرجه الحاكم في المستدرك : كتاب التفسير : سورة التوبة : الحديث (٣٣٢٦). وفي الدر المنثور :

٢٨٣

قوله تعالى : (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ؛) أي سيروا في الأرض على المهل وأقبلوا وأدبروا في الأرض إلى أن يمضي أربعة. وقيل : هو على الخطاب ؛ أي قل لهم سيروا في الأرض مقبلين ومدبرين آمنين غير خائفين من قتل ولا أسر ولا نهب.

ويقال : إن قوله : (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ) بيان أن هذا السّيح المذكور في أوّل هذه السورة إنّما هو بعد أربعة أشهر ، فإنّ عهد الكفّار باق إلى آخر هذه المدّة. قال الحسن : (أمر الله نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ينظر في عهود الكفّار ، فيقرّ من كان عهده أربعة أشهر على عهده أن يمضي ، ويحطّ من كان له عهد أكثر من أربعة أشهر ، ويرفع عهد من كان له عهد قبل أربعة أشهر فيجعله أربعة أشهر).

واختلفوا في هذه الأربعة أشهر ، قال بعضهم : من عشرين ذي القعدة إلى عشرين من ربيع الأوّل. وروي في الخبر : أنّ مكّة فتحت في سنة ثمان من الهجرة ، وولّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عتّاب بن أسيد الوقوف بالناس في الموسم ، واجتمع في تلك السّنة في الوقوف المسلمون والمشركون (١).

فلمّا كانت سنة تسع ولّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبا بكر وبعث معه عشر آيات من أوّل براءة أو تسع آيات ، وأمره أن يقرأها على أهل مكّة ، وينبذ إلى كلّ ذي عهد عهده

__________________

ـ ج ٤ ص ١٢٢ ؛ قال السيوطي : ((أخرجه أبو الشيخ وابن مردويه)). وذكره القرطبي في الجامع لأحكام القرآن : ج ٨ ص ٦٢ عن ابن عباس رضي الله عنهما.

(١) سبب اجتماعهم ما أخبر به الحسن قال : ((إنّما سمّي الحجّ الأكبر من أجل أنّه حجّ أبو بكر الحجّة الّتي حجّها ، واجتمع فيها المسلمون والمشركون ، فلذلك سمّي الحجّ الأكبر)). أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٢٧٧٧).

ووافق أيضا عيد اليهود والنصارى ، عن سمرة بن جندب رضي الله عنه : ((أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال زمن الفتح : [إنّه عام الحجّ الأكبر]. قال : اجتمع حج المسلمين وحج المشركين في ثلاثة أيام متتابعات ، فاجتمع حج المسلمين والمشركين والنصارى واليهود في ثلاثة أيام متتابعات ، ولم يجتمع منذ خلق الله السموات والأرض كذلك قبل العام ، ولا يجتمع قبل العام حتى تقوم الساعة)). في الدر المنثور : ج ٤ ص ١٢٨ ؛ قال السيوطي : (أخرجه الطبراني). وفي مجمع الزوائد : ج ٧ ص ٢٩ ؛ قال الهيثمي : (رواه الطبراني ورجاله موثوقون ولكن متنه منكر).

٢٨٤

كما وصف الله تعالى ، فلمّا خرج أبو بكر رضي الله عنه منها إلى مكّة ، نزل جبريل عليه‌السلام فقال للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [لا يبلّغ عنك إلّا رجل من أهل بيتك] فدعا عليّا رضي الله عنه وأمره بالذهاب إلى مكّة ، وقال : [كن أنت الّذي يقرأ هذه الآيات على أهل مكّة ، ومر أبا بكر فليصلّ بالنّاس]. فسار حتى لحق أبا بكر رضي الله عنه في الطريق ، فأخبره بذلك فمضيا ، وكان أبو بكر على الموسم.

فلمّا كان يوم النحر واجتمع المشركون ، قام عليّ رضي الله عنه عند جمرة العقبة وقال : (يا أيّها النّاس ؛ إنّي رسول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليكم) فقالوا : بم ذا؟ فقرأ عليهم (براءة من الله ورسوله إلى الّذين عاهدتّم ...) إلى آخر الآيات التي نزلت (١).

وكان الحجّ في السّنة التي قرأ عليّ رضي الله عنه فيها هذه السّورة في العاشر من ذي القعدة ، ثم صار الحجّ في السّنة الثانية في ذي الحجّة ، وكان السبب في تقديم الحجّ في سنة العهد ما كان يفعله بنو كنانة في النّسيء وهو التأخير. وذهب بعض المفسّرين إلى أنّ الأربعة الأشهر المذكورة في هذه الآية هي : شوّال وذو القعدة وذو الحجّة والمحرّم.

قوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ ؛) أي غير فائتين عن الله بعد الأربعة الأشهر ، فإنّكم إن أجّلتم هذه الأشهر فلن تفوتوا الله تعالى. وقوله تعالى : (وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ) (٢) ؛ أي معذّب الكافرين في الدّنيا بالقتل في الآخرة بالنار. والإخزاء : هو الإذلال على وجهه الأدون.

قوله تعالى : (وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ؛) أي وإعلام من الله ورسوله إلى الناس يوم الحجّ الأكبر وهو يوم النحر ، كذا روى ابن عبّاس ، وسمي يوم النحر يوم الحجّ الأكبر ؛ لأنه اتّفقت فيه الأعياد على قول أهل الملل. وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [أنّه يوم عرفة] ، قال قيس ابن مخرمة : خطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عشيّة عرفة فقال : [أمّا بعد ؛ فإنّ هذا يوم الحجّ الأكبر](٢).

__________________

(١) في هذه القصة غرابة ، فضلا عن الاضطراب في ترتيب أحداثها ، وما جاء في الأخبار الصحيحة يظهر خطأ فهم الخبر من الناقل ، أو تزوير المعنى ، بما يطول ذكره إن أثبتناه.

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٢٧٤٠).

٢٨٥

ويروى أنّ عليّا رضي الله عنه خرج يوم النّحر على بغلة بيضاء إلى الجبانة ، فجاءه رجل فأخذ بلجامها وسأله عن يوم الحجّ الأكبر ، فقال : (هو يومك هذا ، خلّ سبيله) (١). وسئل عبد الله بن أبي أوفى عن يوم الحجّ الأكبر ، فقال : (سبحان الله! هو يوم النّحر يوم يهراق فيه الدّماء ونحلق فيه الشّعر ويحلّ فيه المحرّم) (٢).

قوله تعالى : (وَأَذانٌ) عطف على قوله : (براءة). قوله تعالى : (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) أي أن الله ورسوله بريء من المشركين ، تقديره : أنّ الله بريء ورسوله أيضا بريء. ومن قرأ (ورسوله) بالنصب فعلى معنى وأن رسوله بريء.

قوله تعالى : (فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ؛) أي تبتم من الشّرك فهو خير لكم من الإقامة عليه. قوله تعالى : (وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ ؛) معناه : وإن أعرضتم ، (فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي ؛) فائتين عن ؛ (اللهِ.)

وقوله تعالى : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٣) ؛ تكرار للوعيد ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : (كنت مع عليّ رضي الله عنه حين بعثه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالبراءة إلى مكّة) فقيل لأبي هريرة : بم إذا كنتم تنادون؟ قال : (كنّا ننادي : أنّه لا يدخل الجنّة إلّا مؤمن ، ولا يحجّنّ هذا البيت بعد هذا العام مشرك ولا عريان ، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عهد فأجله إلى أربعة أشهر ، فإذا مضت أربعة أشهر فإنّ الله بريء من عهد المشركين ورسوله).

قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ ؛) استثناء من الله تعالى من قوله : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) وأراد بقوله : (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ) بني ضمرة وهم حيّ من بني كنانة عاهدهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عام الحديبية عند البيت ، وكان بقي لهم من عهدهم تسعة من بعد يوم النّحر من السّنة التي حجّ

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٢٧٤٨).

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : الآثار (١٢٧٦٦) الرابع منها والسادس.

٢٨٦

فيها أبو بكر رضي الله عنه ، وكانوا لم ينقضوا شيئا من عهودهم ، ولم يمالوا عدوّا على رسول الله عليه‌السلام ، فأمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ـ أبقى ـ لهم بعهدهم إلى آخر مدّتهم.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (٤) ؛ أي يرضى عمل الذين يتّقون نقض العهد. قرأ عطاء (ينقضوكم) بالضّاد المعجمة من نقض العهد.

قوله تعالى : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) إذا مضت الأشهر التي حرّم الله القتال بالعهد فيها ، (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ ؛) يقال أراد بذلك الأشهر الحرم المعروفة ؛ وهي : رجب وذو القعدة وذو الحجّة والمحرّم ، كأنه قال : فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم في الحلّ أو في الحرم ، وخذوهم ؛ أي أأسروهم ، (وَاحْصُرُوهُمْ ؛) أي احبسوهم ، ويقال : أراد بذلك أن يحال بينهم وبين البيت ؛ أي امنعوهم دخول مكّة. وقوله تعالى : (وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ؛) أي أقعدوا القتال على كلّ طريق يأخذون فيه إلى البيت أو إلى التجارة ، وهو أمر بتضييق السبيل عليهم.

قوله تعالى : (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) معناه : فإن تابوا عن الشّرك ، وقبلوا إقام الصلاة وإيتاء الزّكاة فأطلقوهم ، (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ ؛) لما سلف من شركهم ، (رَحِيمٌ) (٥) ؛ بهم حين قبل توبتهم.

قوله تعالى : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ؛) معناه : وإن أحد من المشركين استأمنك ليسمع دعوتك واحتجاجك بالعدل ، فأمّنه حتى يسمع كلام الله ، فإن أراد أن يسلم فردّه إلى موضع أمنه ، (ذلِكَ ؛) الأمان لهم ، (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ) (٦) ؛ أمر الله تعالى.

قوله تعالى : (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ) أي كيف يكون لهم عهد ، وهم يضمرون الغدر في عهودهم عند الله وعند رسوله ؛ أي لن يكون لهم عهد يجب الوفاء به ، (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ ؛) في وفاء العهد فلم ينقضوه كما نقض غيرهم ،

٢٨٧

(فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ ؛) بوفاء أجلهم ، (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (٧) ؛ لنقض العهد.

قوله تعالى : (كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً ؛) أي كيف يكون لهم العهد ، وقال الأخفش : (معناه : كيف لا يقاتلونكم وهم إن يظهروا عليكم لا يحفظوا فيكم قرابة ولا عهدا) ، وقال قتادة : (الإلّ : الحلف) ، قال السديّ : (هو العهد) (١) ولكنّه كرّره لما اختلف اللّفظان وإن كان معناهما واحد.

قال مجاهد : (الإلّ هو الله عزوجل) (٢) ومنه جبريل وميكائيل ، فإنّ معناهما عبد الله. وأبو بكر لمّا سمع كلام مسيلمة قال : (هذا كلام ليس هو إلّ) (٣) أي لم يتكلّم به الله. وقرأ عكرمة (إيلا) بالياء يعني الله عزوجل ، مثل جبريل وميكائيل (٤).

قوله تعالى : (يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ ؛) أي يتكلّمون بالعهد بأفواههم ، (وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ ؛) إلّا نقض العهد ، (وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ) (٨). أي متمادون في الكفر.

قوله تعالى : (اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً ؛) أي اختاروا على القرآن عرضا يسيرا من الدّنيا ، (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٩) فصرفوا الناس عن طاعة الله ، فبئس العمل عملهم ، وذلك أنّهم نقضوا العهد الذي بينهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأكلة أطعمهم إيّاها أبو سفيان.

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٢٨٢٥).

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٢٨١٦). وابن أبي حاتم في التفسير : الأثر (١٠٠٠٢).

(٣) في المخطوط : (وبال) وهو تصحيف. ينظر : المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية : ص ٨٢٧ : تفسير الآية. وعند البغوي في معالم التنزيل : ص ٥٤٢ : تفسير الآية ؛ قال : ((إن ناسا قدموا على أبي بكر من قوم مسيلمة الكذّاب ، فاستقرأهم أبو بكر كتاب مسيلمة ، فقرأوا ، فقال أبو بكر : (إن هذا الكلام لم يخرج من إلّ) ؛ أي من الله)).

(٤) في جامع البيان : مج ٦ ج ١٠ ص ١١٠ ؛ قال القرطبي : (والإلّ : اسم يشتمل معان ثلاثة : وهي العهد والعقد ، والحلف ، والقرابة ، وهو أيضا بمعنى الله. فإذا كانت الكلمة تشتمل هذه المعاني الثلاثة ، ولم يكن الله خص من ذلك معنى دون معنى ، فالصواب أن يعمّ ذلك كما عمّ بها جل ثناؤه معانيها الثلاثة ، فيقال : لا يرقبون في مؤمن الله ، ولا قرابة ، ولا عهدا ، ولا ميثاقا).

٢٨٨

قوله تعالى : (لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً ؛) فإن قيل : لم أعاد قوله تعالى : (لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً؟) قيل : ليس هذا بإعادة ؛ لأنّ الأول ورد في جميع الكفّار الذين نقضوا العهد ، والثاني إنّما ورد في طائفة من اليهود الذين كانوا ينقضون العهد ، فإنّ هذه الطائفة منهم الذين اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا ؛ فإنّهم كانوا يكتمون صفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشيء من المواكلة كانوا يأخذونها من سفلتهم ، وكانوا يأخذون الرّشاء على الحكم الباطل ، ويغيّرون أحكام الله التي أنزلها على أنبيائهم. وقوله تعالى : (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ) (١٠) ؛ يعني في نقض العهد.

قوله تعالى : (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ ؛) أي فإن تابوا عن الكفر وقبلوا إقامة الصّلاة وإيتاء الزّكاة ، فهم إخوانكم في دين الإسلام ، (وَنُفَصِّلُ ؛) ونأتي ب ، (الْآياتِ ؛) آية بعد آية ، (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (١١) ؛ أمر الله وأحكامه.

قوله تعالى : (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ ؛) أي نقضوا أيمانكم والحلف من بعد العهود التي عاهدتّهم أن لا يقاتلوك ولا يعينوا عليك ولا على حلفائك ، (وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ ؛) الإسلام وعابوه ، وذلك أنّهم قالوا : ليس دين محمّد بشيء ، (فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ ؛) أي رؤوس الكفر ، (إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ.)

قال ابن عباس : (نزلت في أبي سفيان والحارث بن هشام وسهيل بن عمرو وعكرمة بن أبي جهل وسائر رؤساء قريش الّذين ينقضون العهد ، وهم الّذين همّوا بإخراج الرّسول) (١). وقال مجاهد : (هم أهل فارس والرّوم) (٢).

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٢٨٣٢ و ١٢٨٣٣ و ١٢٨٣٧) عن قتادة. وابن أبي حاتم في التفسير : الأثر (١٠٠٢٢) عنه أيضا. والأثر (١٢٨٣١) عن ابن عباس من غير ذكر أسمائهم. وينظر : اللباب في علوم الكتاب : نقله عن ابن عباس أيضا. ومعالم التنزيل : ص ٥٤٢.

(٢) حكاه أهل التفسير ؛ ينظر : معالم التنزيل : ص ٥٤٣. واللباب في علوم الكتاب : ج ١٠ ص ٣٤. ويقوي معناه أثر حذيفة رضي الله عنه قال : ((ما قوتل أهل هذه الآية بعد)). أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٢٨٣٨). وابن أبي حاتم في التفسير : الأثر (١٠٠٢٤).

٢٨٩

وقوله تعالى (إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ) أي لا عهود لهم ؛ جمع يمين ، وقال قطرب : (لا وفاء لهم بالعهد). وقرأ الحسن وعطاء وابن عامر (لا إيمان) بكسر الهمزة ؛ أي لا تصديق لهم ، قال عطيّة : (لا دين لهم) أي هم قوم كفّار. وقيل : معناه : لا أمان لهم فلا تؤمّنوهم واقتلوهم حيث وجدتّموهم ، فيكون مصدر أمّنته إيمانا. قوله تعالى : (لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) (١٢) ؛ أي ليرجى منهم الانتهاء عن الكفر ونقض العهد.

وفي الآية بيان أنّ أهل العهد متى خالفوا أشياء مما عاهدوهم عليه فقد نقض العهد ، وأما إذا طعن واحد منهم في الإسلام : فإن كان شرط في عهودهم أن لا يذكروا كتاب الله ولا يذكرون محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما لا يجوز ، ولا يفتنوا مسلما عن دينه ولا يقطعوا عليه طريقا ولا يعينوا أهل الحرب بدلالة على المسلمين ، فإنّهم إذا فعلوا ذلك في عهودهم وطعنوا في القرآن وشتموا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ففيه خلاف بين الفقهاء.

قال أصحابنا : يعذرون ولا يقتلون ، واستدلّوا بما روى أنس بن مالك رضي الله عنه : أنّ امرأة يهوديّة أتت النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشاة مسمومة فأكل منها ، فجيء فقيل : ألا تقتلوها؟ قال : [لا](١). ولحديث عائشة : أنّ قوما من اليهود دخلوا على النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : السّام عليك! ففهمت عائشة فقالت : وعليكم السّام واللّعنة ، فقال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [مهلا يا عائشة! فإنّ الله عزوجل يحبّ الرّفق في الأمر كلّه] فقالت : يا رسول الله ألم تسمع ما قالوا؟! فقال : [بلى قد قلت : عليكم](٢) ولم يقتلهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك (٣). فذهب مالك إلى أنّ من شتم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من اليهود والنصارى قتل إلا أن يسلم.

قوله تعالى : (أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ؛) قال ابن عبّاس : (ذلك أنّ قريشا

__________________

(١) أخرجه البخاري في الصحيح : كتاب الهبة : باب قبول الهدية من المشركين : الحديث (٢٦١٧).

(٢) أخرجه البخاري في الصحيح : كتاب الاستتابة : باب إذا عرّض الذمي أو غيره بسب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الحديث (٦٩٢٧).

(٣) جاء في حديث أنس رضي الله عنه : أنّ اليهوديّ قال : السّام عليك ؛ فقالوا : يا رسول الله! ألا نقتله؟ قال : [لا ؛ إذا سلّم عليكم أهل الكتاب فقولوا : وعليكم]. أخرجه البخاري في الصحيح : الحديث (٦٩٢٦).

٢٩٠

أعانوا بني الوليد بن بكر وكانوا حلفاءهم على خزاعة ؛ وخزاعة حلفاء النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهزموا خزاعة ، فجاء وفد خزاعة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأخبره بالقصّة ، وناشدوا حلفه فقال قائلهم (١) :

يا رب إنّي ناشد محمّدا

حلف أبينا وأبيه الأتلدا

كنّا والدا وكنت ولدا (*)

ثمّت أسلمنا ولم ننزع يدا

فانصر هداك الله نصرا أبدا

وادع عباد الله يأتوا مددا

فيهم رسول الله قد تجرّدا

إنّ قريشا أخلفوك الموعدا

ونقضوا ميثاقك المؤكّدا

وبيّتونا بالوتير هجّدا

نتلوا القرآن ركّعا وسجّدا

فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [لا نصرت إن لم أنصركم] فقال أبو بكر رضي الله عنه : يا رسول الله أتنصرهم على قومنا؟! قال : [لا نصرت إن لم أنصركم] ثمّ أمر النّاس أن يتجهّزوا إلى فتح مكّة ، ففتحها الله تعالى على يديه.

وأحلّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يومئذ القتال لخزاعة ولم يحلّه لأحد غيرهم ، فذلك قوله تعالى : (أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ) أي نقضوا عهودهم يعني قريشا ، (وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ) من مكّة حين اجتمعوا على قتله في دار النّدوة (وهم بدءوكم أوّل مرّة) أي هم الذين بدأوا بنقض العهد حين قاتلوا خزاعة حلفاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (أَتَخْشَوْنَهُمْ ؛) أي تخافون أن ينالكم مكروه في قتالهم فتتركوا قتالهم ، (فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ ؛) تخافوه في ترككم لقتالهم ، (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (١٣) ؛ مصدّقين بعقاب الله وثوابه.

قوله تعالى : (قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ ؛) أي قاتلوا أهل مكّة يعذّبهم الله بأيديكم بالسّيف ، (وَيُخْزِهِمْ ؛) أي يذلّهم ، (وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ

__________________

(١) هو عمرو بن سالم ؛ في الدر المنثور : ج ٤ ص ١٣٨ ـ ١٣٩ ؛ قال السيوطي : ((أخرجه ابن اسحق والبيهقي في الدلائل عن مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة)) وفيه بعض اختلاف.

(*) في المخطوط : (ووالد لكنت وكنّا ولدا) ولا يستقيم المعنى.

٢٩١

وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) (١٤) ؛ يعني بني خزاعة يوم فتح مكّة الذين قاتلهم بنو بكر ، (وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ ؛) بني خزاعة ، فشفى الله صدور بني خزاعة وأذهب غيظ قلوبهم ؛ أي كربها ووجدها.

وقوله تعالى : (وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ ؛) استثناء كلام الله ؛ أي يتوب الله على من يشاء من أهل مكّة فيهديه للإسلام ، (وَاللهُ عَلِيمٌ ؛) بجميع الأشياء ، (حَكِيمٌ) (١٥) ؛ في جميع الأمور.

قوله تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً ؛) معناه : إن ظننتم أيّها المؤمنون أن تتركوا على الإقرار والتصديق فلا تؤمروا بالجهاد ، قوله : (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ) أي ولمّا ير الله جهادكم حين تجاهدون ، ولمّا ير الله الذين لم يتّخذوا منكم من الكفار بطانة يفشون إليهم سرّهم وأمرهم. وكان الله تعالى قد علم أمرهم بالقتال ، من يقاتل ممّن لا يقاتل ، ولكنّه يعلم ذلك عيانا ، وأراد العلم الذي يجازى عليه وهو علم المشاهدة ؛ لأنه يجازيهم على عملهم لا على علمه فيهم.

والوليجة : المدخل في القوم من غيرهم ؛ من ولج شيء يلج إذا دخل. والخطاب في الآية للمؤمنين حين شقّ على بعضهم القتال وكرهوا ، فأنزل الله هذه الآية (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا) فلا تؤمروا بالجهاد وتمتحنوا به ؛ ليظهر الصادق من الكاذب ، والمطيع من العاصي ، وقال قتادة : (معنى وليجة أي خيانة) ، وقال الضحّاك : (خديعة) ، وقال ابن الأنباريّ : (الوليجة : الدّخيلة) ، وقال عطاء : (أولياء) ، قال الحسن : (كفر ونفاق) (١). وقيل : الوليجة : الرجل من يختص يدخله مودّة دون الناس ، يقال : هو وليجة وهم وليجة ، للواحد والجمع. قوله تعالى : (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (١٦) ؛ أي عالم بأعمالكم ، وفي هذا تهديد للمنافقين وعظة للمخلصين.

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٢٨٥٤). وابن أبي حاتم في التفسير : الأثر (١٠٠٤٧).

٢٩٢

قوله تعالى : (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ ؛) قال ابن عبّاس : (لمّا أسر العبّاس يوم بدر ، أقبل عليه المسلمون يعيّرونه بالكفر وقطيعة الرّحم وعون المشركين على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأغلظ عليّ رضي الله عنه القول له ، فقال العبّاس : ما لكم تذكرون مساوءنا ولا تذكرون محاسننا؟! فقال له عليّ رضي الله عنه : ألكم محاسن؟! قال : نعم ؛ إن كنتم تجاهدون الأعداء مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنحن نعمر المسجد الحرام ، ونحجب الكعبة ، ونسقي الحاجّ ، ونفكّ الأسير ، فنحن أفضل منك أجرا. فأنزل الله هذه الآية ردّا على العبّاس) (١). ومعناها : ما كان للمشركين أن يقوموا بعمارة المسجد ، وأنّ المساجد لله. والعمارة على وجهين ؛ تذكر ويراد بها البناء وتجديد ما انهدم منها ، ويؤنّث ويراد بها الزيادة ، ومن ذلك العمرة ومعناها زيارة البيت ، فانتظمت الآية ، نهى المشركين عن بناء المساجد وعن عمارتها بالطاعة ، فإنّهم إنما يعمرونها بعبادة الأوثان ومعصية الله.

ومن قرأ (مسجد الله) على التوحيد أراد المسجد الحرام خاصّة وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو ومجاهد وسعيد بن جبير وقراءة ابن عبّاس ، وقرأ الباقون (مساجد) بالجمع ، وإنما قال (مساجد) لأنه قبلة المساجد كلّها. وقيل لعكرمة : لم تقرأ (مساجد) وإنّما هو مسجد واحد؟ فقال : (إنّ الصّفا والمروة من مساجد الله).

قوله تعالى : (شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ ؛) نصب (شاهدين) على الحال على معنى : ما كانت لهم عمارة المسجد في حال إقرارهم بالكفر ، وهم كانوا لا يقولون نحن كفّار ، ولكن كان كلامهم يدلّ على كفرهم ، وهذا كما يقال للرجل : كلامك يشهد أنّك ظالم ، وهو قول الحسن ، وقال السديّ : (شهادتهم على أنفسهم بالكفر ، أنّ اليهوديّ لو قلت له : ما أنت؟ قال : يهوديّ ، ويقول النّصرانيّ : هو نصرانيّ ، ويقول المجوسيّ : هو مجوسيّ) (٢).

وقيل : شهادتهم على أنفسهم بالكفر سجودهم لأصنامهم وإقرارهم أنّها مخلوقة. قوله تعالى : (أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ ؛) معناه : إنّ الكفر أذهب

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٢٨٦١).

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٢٨٥٦ و ١٢٨٥٧).

٢٩٣

ثواب أعمالهم وهي التي من جنس طاعة المسلمين. قوله تعالى : (وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ) (١٧) ؛ ظاهر المراد.

ثم بيّن الله تعالى من يكون أولى بعمارة المسجد الحرام : قوله تعالى : (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) (١٨) ؛ معناه : إنما يعمر مساجد الله بطاعة الله من كان في هذه الصّفة ، قوله : (وَأَقامَ الصَّلاةَ) يعني إقام الصلاة المفروضة (وَآتَى الزَّكاةَ) الواجبة في ماله ، وقوله تعالى : (وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ) أي لم يخف من غير الله ، ولم يرج إلا ثوابه. وكلمة عسى من الله واجبة ، والفائدة في ذكرها في آخر هذه الآية ليكون الإنسان على حذر من فعل ما يحبط ثواب عمله.

قوله تعالى : (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ؛) روي عن ابن عبّاس أنه قال : (قال العبّاس : لئن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد ، لقد كنّا نعمر المسجد الحرام ونسقي الحاجّ. فأنزل الله هذه الآية). يعني أنّ ذلك كان منكم في الشّرك ولا أقبل ما كان في الشرك. وروي أنّ المشركين قالوا : عمارة المسجد الحرام وقيام على السّقاية خير ممن آمن وجاهد. وكانوا يفتخرون بالحرم ، ويستكبرون به من أجل أنهم أهله وعمّاره ، فأنزل الله هذه الآية ، وأخبرهم أنّ عمارتهم المسجد الحرام وقيامهم على السّقاية لا ينفعهم عند الله من الشّرك بالله.

وقال الحسن : (نزلت هذه الآية في عليّ والعبّاس وطلحة بن شيبة من بني عبد الدّار ، وذلك أنّهم افتخروا ، فقال طلحة : أنا صاحب البيت ، بيديّ مفتاحه ، قال العبّاس : أنا صاحب السّقاية ، وقال عليّ : أنا صاحب الجهاد. فأنزل الله هذه الآية : (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ)(١) أي أجعلتم صاحب سقاية الحاجّ وصاحب عمارة المسجد الحرام كإيمان من آمن بالله واليوم الآخر ، (وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ ؛) وقيل : معناه : أجعلتم ساقي الحاجّ وعامر المسجد

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٢٨٦٤) عن محمّد بن كعب القرظي بتمامه ، وعن الحسن مختصرا.

٢٩٤

الحرام ، جعل السقاية بمعنى السّاقي ، والعمارة بمعنى العامر ، كقوله : (وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى)(١) أي للمتّقين.

وقرأ عبد الله بن الزّبير وأبي : (أجعلتم سقاة الحاجّ وعمرة المسجد الحرام) على جميع السّاقي والعامر (٢). قوله تعالى : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (١٩) ؛ أي لا يرشدهم إلى الحجّة ما داموا مصرّين على الكفر ، ولا يرشدهم إلى الجنّة والثواب.

قوله تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ ؛) معناه : الذين صدقوا بتوحيد الله ، وهاجروا من أوطانهم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجاهدوا العدوّ في طاعة الله أعظم درجة عند الله ، وهذا كقوله تعالى : (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً)(٣). قوله تعالى : (وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) (٢٠) ؛ معناه : إنّ المهاجرين هم الظّافرون بأمانهم من الخير ، النّاجون من النار.

قوله تعالى : (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ ؛) أي يبشّرهم ربّهم في الدّنيا على ألسنة الرّسل نجاة من العذاب في الآخرة ، ورضوان عنهم ويبشّرهم بجنات ، (لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ) (٢١) ؛ دائم لا يزول عنهم. وقوله تعالى : (خالِدِينَ فِيها أَبَداً ؛) أي دائمين فيها أبدا مع كون النّعيم مقيما لهم ، (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (٢٢) ؛ أي ثواب كثير في الجنّة.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ ؛) نزلت في المهاجرين ، ومعناه : لا تتّخذوا آباءكم وإخوانكم الذين بمكّة أولياء ، تنصرون بهم وتنصرونهم إن اختاروا الكفر على

__________________

(١) طه / ١٣٢.

(٢) في المحرر الوجيز : ص ٨٣٢ ؛ قال ابن عطية : ((وقرأ ابن الزبير وأبو وجزة ، ومحمد بن علي ، وأبو جعفر القارئ ، وقال : وقرأ الضحاك وأبو وجزة وأبو جعفر القارئ : (سقاية).))

(٣) الفرقان / ٢٤.

٢٩٥

الإيمان ، (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٢٣) ؛ إنما جعل الظالمين لموالاة الكفار ؛ لأنّ الراضي بالكفر يكون كافرا ، وعن الضحّاك : (لمّا أمر الله المؤمنين بالهجرة وكانوا قبل الفتح بمكّة من آمن ولم يهاجر ، لم يقبل الله إيمانه إلّا بمهاجرة الآباء والأقرباء أي بمجانبتهم إذا كانوا كفّارا ، فقال المسلمون : يا رسول الله! إن نحن اعتزلنا من خالفنا في الدّين ، انقطع آباؤنا وعشيرتنا ، وتذهب تجارتنا وتخرب ديارنا؟ فأنزل الله هذه الآية).

وقال الكلبيّ : (لمّا أمر الله النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالهجرة إلى المدينة ، جعل الرّجل يقول لأخيه وأبيه وامرأته وأقربائه : إنّا قد أمرنا بالهجرة إلى المدينة فاخرجوا معنا إليها ، فمنهم من يعجبه ذلك فينازع إليه معهم ، ومنهم من يأبى أن يهاجر فيقول الرّجل لهم : والله لا أنفعكم بشيء ولا أعطيكم ولا أنفق عليكم ، ومنهم من تتعلّق به زوجته وولده وعياله ، فيقولون له : ننشدك الله أن لا تضيّعنا ، فيرقّ ويجلس ويترك الهجرة ، فأنزل الله هذه الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ) أي أصدقاء فتفشون إليهم سرّكم وتؤثرون المقام معهم على الهجرة والجهاد إن استحبّوا الكفر على الإيمان ، ومن يتولّهم منكم فيطلعهم على عورة الإسلام وأهله ، ويؤثر المكث معهم على الهجرة ، (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) أي القاضون الواضعون الولاية في غير موضعها.

قوله عزوجل : (قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ ؛) أي قل يا محمّد للذين تركوا الهجرة إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم ونساؤكم وقراباتكم ، (وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها ؛) اكتسبتموها بمكّة وأصبتموها ، (وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها ؛) أي عدم نفاقها إذا اشتغلتم بطاعة الله ، (وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها ؛) ومنازل تعجبكم الإقامة بها بمكّة ، (أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ ؛) طاعة ، (اللهِ وَرَسُولِهِ ؛) بالهجرة إلى المدينة ، (وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ ،) وأحبّ إليكم من الجهاد في طاعة الله ، (فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ ،) أي فانتظروا حتى يأتي الله بفتح مكّة ، ويقال : حتى يأتي الله بعذاب عاجل أو آجل ، (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) (٢٤) ؛ أي لا يرشد الخارجين عن طاعته إلى معصيته ، ولا يهديهم إلى جنّته وثوابه.

٢٩٦

قوله تعالى : (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً ؛) وذلك أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج من مكّة بعد ما فتحها ، وكان انفتاحها في بقيّة أيّام رمضان ، فمكث بها حتّى دخل شوّال متوجّها إلى حنين ، وبعث رجلا من بني سليم عينا له يقال له عبد الله بن أبي حدرد ، فأتى حنينا فكان بينهم يسمع أخبارهم ، فسمع مالك بن عوف يقول لأصحابه : أنتم اليوم أربعة آلاف رجل ، فإذا لقيتم العدوّ فاحملوا عليهم حملة رجل واحد ، فو الله لا تضربون بأربعة آلاف سيف شيئا إلّا أفرج لكم. وكان مالك بن عوف على هوازن ، وكنانة بن عبد ياليل على ثقيف ، فأقبل ابن أبي حدرد حتّى أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره بمقالتهم ، فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم متوجّها إليهم في عشرة آلاف رجل ، كذا قال الكلبيّ.

وقال مقاتل : (كانوا أحد عشر ألفا وخمسمائة) (١) ، وقال قتادة : (خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى حنين لقتال هوازن وثقيف في اثنى عشر ألفا من المهاجرين والأنصار ، وألفين من الطّلقاء ، فقال رجل من المسلمين يقال له سلمة بن سلامة (٢) : يا رسول الله لا نغلب اليوم من قلّة ، فساءت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلمته وابتلى الله المسلمين بذلك ، فلمّا التقوا حمل العدوّ عليهم حملة واحد ، فلم يقوموا لهم حلب الشّاة أن انكشفوا وتبعهم القوم في أدبارهم.

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على بغلته البيضاء وأبو سفيان بن الحارث يقود به ، والعبّاس أخذ بالثّغر ، وحول رسول الله يومئذ نحو من ثلاثمائة رجل من المسلمين وانهزم سائر المسلمين عنه ، فجعل النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يركّض بغلته نحو الكفّار لا يأل ، وكانت بغلته شهباء وهو ينادي : [يا معشر المهاجرين ويا معشر الأنصار إليّ ، أين أصحاب الصّفّة] أي أصحاب سورة البقرة.

__________________

(١) في تفسير مقاتل بن سليمان : ج ٢ ص ٤٢.

(٢) سلمة بن سلامة بن وقش الأشهلي الأنصاري ، الصحابي ، شهد العقبة الأولى والعقبة الآخرة والمشاهد كلها ، واستعمله عمر على اليمامة ؛ وتوفي سنة خمس وأربعين بالمدينة وهو ابن سبعين سنة. ترجم له ابن عبد البر في الاستيعاب : الرقم (١٠٢٦).

٢٩٧

وكان العبّاس ينادي : يا معشر المهاجرين ، أين الّذين بايعوا تحت الشّجرة ، يا معشر الّذين آووا ونصروا ، هلمّوا فإنّ هذا رسول الله. وكان العبّاس صيّتا جهوريّ الصّوت ، يروي أنّه من شدّة صوته أنّه أغير يوما على مكّة فنادى واصبحاه ، فأسقطت كلّ حامل سمعت صوته.

فلمّا صاح بالمسلمين عطفوا حين سمعوا صوته عطفة البقر على أولادها ، وقال : لبّيك لبّيك ، وجاؤا عنقا واحدا لنصر دين الله ، وأقبل المشركون ليطفؤا نور الله ، فأنزل الله تعالى من السّماء جنودا لم تروها وعذّب الّذين كفروا وأظهر المسلمين عليهم ، وحمي الوطيس ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على بغلته يتطاول إلى قتالهم ، ثمّ أخذ كفّا من الحصى فرماهم به وقال : [شاهت الوجوه ، انهزموا ورب الكعبة] فو الله ما زال أمرهم مدبرا وجدّهم كليلا ، وهرب حينئذ آمرهم مالك بن عوف) (١).

وقال أبي اسحاق : (قلت للبراء (٢) : هل كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين ولّى المسلمون معهم مولّيا؟ قال : لا والّذي لا إله إلّا هو ، ما ولّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دبرا قطّ ، ولقد رأيته على بغلته البيضاء يركض نحو الكفّار وهو يقول : [أنا النّبيّ لا كذب ، أنا ابن عبد المطّلب] ثمّ قال للعبّاس : [ناد يا معشر الأنصار ، يا معشر المهاجرين] فعطف المسلمون عليه مسرعين ، فأنزل الله جنده ونصر عبده وهزم المشركين ونصر المسلمين) (٣).

قال سعيد بن جبير : (أمدّ الله نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بخمسة آلاف ملك) ، وقال الحسن ومجاهد : (كانوا ثمانية آلاف) ، قال قتادة : (كانوا ستّة عشر ألفا) ، وقال سعيد بن جبير :

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٢٨٧٤ و ١٢٨٧٥) عن قتادة ، والأثر (١٢٨٧٦) عن السدي ، والأثر (١٢٨٧٧) عن كثير بن عباس ، والأثر (١٢٨٧٨) عن سعيد بن المسيب. والحديث أخرجه مسلم في الصحيح : كتاب الجهاد : الحديث (٧٦ / ١٧٧٥).

(٢) عند البخاري في الصحيح : (قال رجل للبراء : ...) في الحديث (٢٨٦٤ و ٢٨٧٤ و ٢٩٣٠).

(٣) أخرجه البخاري في الصحيح : كتاب الجهاد : باب من قاد دابة غيره في الحرب : الحديث (٢٨٦٤). ومسلم في الصحيح : كتاب الجهاد : باب في غزوة حنين : الحديث (٧٨ / ١٧٧٦).

٢٩٨

(حدّثني رجل كان في المشركين يوم حنين ، قال : لمّا التقينا نحن وأصحاب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يقف لنا حلب شاة ، فلمّا كشفناهم جعلنا نسوقهم حتّى انتهينا إلى صاحب البغلة الشّهباء ـ يعني ـ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلقّانا رجال بيض الثّياب حسان الوجوه ، فقالوا : شاهت الوجوه ارجعوا ، فرجعنا وركبوا أكتافنا فكانت ايّاها) (١) يعني الملائكة.

وروي أن الملائكة قاتلت يومئذ ، في الخبر : أنّ رجلا من بني نضر بن معاوية قال للمؤمنين وهو في أيديهم : أين الخيل البلق؟ والرجال عليهم الثياب البيض؟ ما كنّا نراكم فيهم إلّا كهيئة الشّامة ، وما كان قتلنا إلا بأيديهم ، فأخبروا بذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : [تلك الملائكة](٢).

قال : فلما هرب أمير المشركين مالك بن عوف انهزم المشركون وولّوا مدبرين ، وانطلق المسلمون حتى أتوا أوطاسا بها عيال المشركين وأموالهم ، فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على المسلمين رجلا من الأشعريّين أمّره عليهم يقال له أبو عامر ، فسار معهم إلى أوطاس فقاتل أهلها حتى هزمهم الله وسبى المسلمون عيال المشركين ، وهرب مالك ابن عوف حتى أتى إلى الطائف فتحصّن بها ، وأخذ ماله وأهله في من أخذ ، وقتل أبو عامر رضي الله عنه. ثم أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الطائف فحاصرهم بقيّة ذلك الشهر ، فلما دخل ذو القعدة وهو شهر حرام لا يحلّ فيه القتال ، رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الجعرانة فأحرم منها بعمرة ، وقسّم بها السّبي والمال وغنائم حنين وأوطاس.

وتألّف أناس منهم أبو سفيان بن حرب ، وسهل بن عمرو ، والأقرع بن حابس ، فأعطاهم وجعل يعطي الرجل منهم الخمسين والمائة من الإبل ، فقال طائفة من الأنصار : منّ الرجل وآثر قومه بالعجب ، إنّ أسيافنا تقطر من دمائهم وغنائمنا تردّ عليهم. فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجمعهم وقال : [يا معشر الأنصار ما هذا الّذي بلغني عنكم؟] فقالوا : هو الّذي بلغك ، وكانوا يكذبون ، فقال : [ألم تكونوا ضلّالا فهداكم الله بي؟ وكنتم أذلّة فأعزّكم الله بي؟ وكنتم وكنتم؟].

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٢٨٨٢) عن سعيد مختصرا ، والأثر (١٢٨٨١) عن عبد الرحمن مولى أم برثن.

(٢) ينظر : معالم التنزيل : ص ٥٤٨ ، وزاد فيه : أن اسم الرجل (شجرة).

٢٩٩

فقال سعد بن عبادة : ائذن لي أتكلّم يا رسول الله؟ قال : [تكلّم] قال : أمّا قولك [كنتم ضلّالا فهداكم الله بي] بحقّ كنّا كذلك ، وأمّا قولك : [كنتم أذلّة فأعزّكم الله بي] فقد علمت العرب أنّه ما كان حيّ من أحياء العرب أمنع لما وراء ظهورهم منّا ، فقال عمر : يا سعد أتدري من تكلّم؟ قال : نعم يا عمر أكلّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [والّذي نفسي بيده لو سلكت الأنصار واديا وسلكت النّاس واديا لسلكت وادي الأنصار ، الأنصار كرشي وعيبتي ، فاقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم] ثمّ قال : [يا معشر الأنصار أما ترضون أن ينقلب النّاس بالشّاة والإبل وتنقلبون برسول الله إلى بيوتكم؟] قالوا : بلى رضينا يا رسول الله ، والله ما قلنا ذلك إلّا محبّة لله ولرسوله ، فقال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [إنّ الله ورسوله يصدّقانكم ويعذرانكم](١). فلما قدم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قام خطيبا فقال : [أمّا خطيب الأنصار ؛ ولو قال : كنت طريدا فآويناك ، وكنت خائفا فآمنّاك ، وكنت مخذولا فنصرناك ، وكنت وكنت ، لكان قد صدق] فبكت الأنصار. بل الله ورسوله أعظم منّا علينا (٢).

وذكر لنا : أن ضئر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم التي أرضعته من بني سعد أتته يوم حنين فسأله سبايا حنين ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [إنّي لا أملككم وإنّما أملك نصيبي منهم ، ولكن ائتيني غدا فسلني والنّاس عندي ، فإذا أعطيتك حصّتي أعطاك النّاس] فجاءت من الغد ، فبسط لها ثوبه فقعدت عليه ، ثم سألته ذلك فأعطاها نصيبه ، فلما رأى ذلك الناس أعطوها أنصباءهم (٣). قال الزهريّ وابن المسيّب : (إنّهم أصابوا يومئذ ألفي سبيّ ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أمر مناديا فنادى يوم أوطاس : [أن لا توطأ الحبالى حتّى يضعن ، والحيالى حتّى تستبرئن بحيضة) (٤).

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الحديث (١٢٨٧٤) عن قتادة.

(٢) السيرة النبوية لابن هشام : ج ٣ ص ١٤٢ ـ ١٤٣.

(٣) ينظر : الجامع لأحكام القرآن : ج ٨ ص ١٠٢ ؛ قال : (وقال قتادة : وذكر لنا ... وذكره)). وذكر ابن هشام قصة الشيماء في السيرة النبوية : ج ٣ ص ١٠٠ ـ ١٠١.

(٤) أخرجه ابو داود في السنن : كتاب النكاح : باب في وطء السبايا : الحديث (٢١٥٥) و (٢١٥٧) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، وقال : هو صحيح من حديث أبي سعيد.

٣٠٠