تفسير الثعالبي - ج ٣

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي

تفسير الثعالبي - ج ٣

المؤلف:

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٩

والأرض هنا أرض مصر ، ومتى ذكرت الأرض عموما ، فإنما يراد بها ما يناسب القصّة المتكلّم فيها ، واقتضبت هذه الآية قصص بني إسرائيل مع فرعون ، وإنما ذكرت عظم الأمر وخطيره ، وذلك طرفاه ؛ أراد فرعون غلبتهم وقتلهم ، وهذا كان بدء الأمر ؛ فأغرقه الله وجنوده ، وهذا كان نهاية الأمر ، ثم ذكر سبحانه أمر بني إسرائيل بعد إغراق فرعون بسكنى أرض الشام و (وَعْدُ الْآخِرَةِ) هو يوم القيامة ، «واللفيف» : الجمع المختلط الذي قد لفّ بعضه إلى بعض.

(وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (١٠٥) وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (١٠٦) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (١٠٧) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (١٠٨) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً)(١٠٩)

وقوله سبحانه : (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ) يعني القرآن نزل بالمصالح والسّداد للناس ، و (بِالْحَقِّ نَزَلَ) يريد : بالحقّ في أوامره ونواهيه وأخباره ، وقرأ جمهور (١) الناس : «فرقناه» بتخفيف الراء ، ومعناه : بيّنّاه وأوضحناه وجعلناه فرقانا ، وقرأ جماعة خارج السبع (٢) : «فرّقناه» بتشديد الراء ، أي : أنزلناه شيئا بعد شيء ، لا جملة واحدة ، ويتناسق هذا المعنى مع قوله : (لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ) ، وتأوّلت فرقة قوله : (عَلى مُكْثٍ) أي : على ترسّل في التلاوة ، وترتّل ، هذا قول مجاهد وابن عباس وابن جريج وابن زيد (٣) ، والتأويل الآخر ، أي على مكث وتطاول في المدة شيئا بعد شيء.

وقوله سبحانه : (قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا) فيه تحقير للكفّار ، وضرب من التوعّد ، و (الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ) : قالت فرقة : هم مؤمنو أهل الكتاب ، و (الْأَذْقانِ) : أسافل الوجوه حيث يجتمع اللّحيان.

__________________

(١) ينظر : «المحرر الوجيز» (٣ / ٤٩٠) ، و «البحر المحيط» (٦ / ٨٤) ، و «الدر المصون» (٤ / ٤٢٦)

(٢) وهي قراءة أبيّ ، وابن عباس ، ومجاهد ، وابن مسعود ، وعلي ، وأبي رجاء ، وقتادة ، والشعبي ، وحميد ، وعمرو بن فائد ، وزيد بن علي ، وعمرو بن ذر ، وعكرمة ، والحسين.

ينظر : «مختصر الشواذ» (٨١) ، و «المحتسب» (٢ / ٢٣) ، و «المحرر الوجيز» (٣ / ٤٩٠) ، و «البحر المحيط» (٦ / ٨٤) ، و «الدر المصون» (٤ / ٤٢٧)

(٣) أخرجه الطبري (٨ / ١٦٢) برقم : (٢٢٧٨٣) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٤٩١) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٣٧٢) ، وعزاه لابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم.

٥٠١

قال الواحديّ : (إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا) أي : بإنزال القرآن ، وبعث محمّد (لَمَفْعُولاً). انتهى.

وقوله سبحانه : (وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً) هذه مبالغة في صفتهم ، ومدح لهم وحضّ لكل من توسّم بالعلم ، وحصّل منه شيئا أن يجري إلى هذه الرتبة النفيسة وحكى الطبريّ عن التميميّ ؛ أن من أوتي من العلم ما لم يبكه لخليق ألّا يكون أوتي علما ينفعه ؛ لأن الله سبحانه نعت العلماء ، ثم تلا هذه الآية كلّها.

* ت* : وإنه والله لكذلك ، وإنما يخشى الله من عباده العلماء ، اللهمّ انفعنا بما علّمتنا ، ولا تجعله علينا حجّة بفضلك ، ونقل الغزّالي عن ابن عبّاس ؛ أنه قال : إذا قرأتم سجدة «سبحان» ، فلا تعجلوا بالسّجود حتى تبكوا ، فإن لم تبك عين أحدكم ، فليبك قلبه. قال الغزّالي : فإن لم يحضره حزن وبكاء ؛ كما يحضر أرباب القلوب الصافية فليبك على فقد الحزن والبكاء ، فإن ذلك من أعظم المصائب. قال الغزّاليّ : واعلم أنّ الخشوع ثمرة الإيمان ، ونتيجة / اليقين الحاصل بعظمة الله تعالى ، ومن رزق ذلك ، فإنه يكون خاشعا في الصلاة وغيرها ؛ فإن موجب الخشوع استشعار عظمة الله ، ومعرفة اطّلاعه على العبد ، ومعرفة تقصير العبد ، فمن هذه المعارف يتولّد الخشوع ، وليست مختصّة بالصلاة ، ثم قال : وقد دلّت الأخبار على أن الأصل في الصّلاة الخشوع ، وحضور القلب ، وأن مجرّد الحركات مع الغفلة قليل الجدوى في المعاد ، قال : وأعلم أنّ المعاني التي بها تتمّ حياة الصلاة تجمعها ستّ جمل ، وهي : حضور القلب ، والتفهّم ، والتعظيم ، والهيبة ، والرجاء ، والحياء ، فحضور القلب : أن يفرّغه من غير ما هو ملابس له ، والتفهّم : أمر زائد على الحضور ، وأما التعظيم ، فهو أمر وراء الحضور والفهم ، وأما الهيبة ، فأمر زائد علي التعظيم ، وهي عبارة عن خوف منشؤه التعظيم ، وأما التعظيم ، فهو حالة للقلب تتوّلد من معرفتين : إحداهما : معرفة جلال الله سبحانه وعظمته ، والثانية : معرفة حقارة النفس ، واعلم أنّ حضور القلب سببه الهمّة ، فإن قلبك تابع لهمّتك ، فلا يحضر إلا فيما أهمّك ، ومهما أهمّك أمر ، حضر القلب ، شاء أم أبى ، والقلب إذا لم يحضر في الصلاة ، لم يكن متعطّلا ؛ بل يكون حاضرا فيما الهمة مصروفة إليه. انتهى من «الإحياء».

(قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١١٠) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً)(١١١)

٥٠٢

وقوله سبحانه : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ ...) الآية : سبب نزول هذه الآية : أنّ بعض المشركين سمع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعو : يا الله يا رحمان ، فقالوا : كان محمّد يأمرنا بدعاء إله واحد ، وهو يدعو إلهين ، قاله ابن عباس (١) ، فنزلت الآية مبيّنة ، أنها أسماء لمسمّى واحد ، وتقدير الآية : أيّ الأسماء تدعو به ، فأنت مصيب ، فله الأسماء الحسنى ، وفي «صحيح البخاريّ» بسنده عن ابن عباس في قوله سبحانه : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها) قال : نزلت ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مختف بمكّة ، كان إذا صلّى بأصحابه ، رفع صوته بالقرآن ، فإذا سمعه المشركون ، سبّوا القرآن ، ومن أنزله ، ومن جاء به ، فقال الله تبارك وتعالى لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ) ، أي : بقراءتك ، فيسمع المشركون فيسبوا القرآن ، (وَلا تُخافِتْ بِها) عن أصحابك ؛ فلا تسمعهم ، (وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) (٢) ، وأسند البخاريّ عن عائشة : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها) قالت : أنزل ذلك في الدعاء انتهى (٣).

قال الغزّالي في «الإحياء» : وقد جاءت أحاديث تقتضي استحباب السّرّ بالقرآن ، وأحاديث تقتضي استحباب الجهر به ، والجمع بينهما أن يقال : إن التالي إذا خاف على نفسه الرّياء والتصنّع أو تشويش مصل ، / فالسر أفضل ، وإن أمن ذلك ، فالجهر أفضل ؛ لأن العمل فيه أكثر ؛ ولأن فائدته أيضا تتعدّى إلى غيره ؛ والخير المتعدّي أفضل من اللازم ؛ ولأنه يوقظ قلب القارئ ، ويجمع همّته إلى الفكر فيه ، ويصرف إليه سمعه ، ويطرد عنه النوم برفع صوته ، ولأنه يزيد في نشاطه في القراءة ، ويقلّل من كسله ؛ ولأنه يرجو بجهره تيقّظ نائم ، فيكون سببا في إعانته على الخير ، ويسمعه بطّال غافل ، فينشط بسببه ، ويشتاق لخدمة خالقه ، فمهما حضرت نيّة من هذه النيّات ، فالجهر أفضل ، وإن اجتمعت هذه النيّات ، تضاعف الأجر ، وبكثرة النيات يزكو عمل الأبرار وتتضاعف أجورهم. انتهى.

وقوله سبحانه : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِ) هذه الآية رادّة على كفرة العرب في

__________________

(١) أخرجه الطبري (٨ / ١٦٥) برقم : (٢٢٨٠١) ، وذكره البغوي (٣ / ١٤٢) ، وابن عطية (٣ / ٤٩٢) ، وابن كثير في «تفسيره» (٣ / ٦٨) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٣٧٣) ، وعزاه لابن جرير ، وابن مردويه.

(٢) أخرجه البخاري (. / ٢٥٧) ، كتاب «التفسير» باب : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها) ، حديث (٤٧٢٢)

(٣) أخرجه البخاري (٨ / ٢٥٧) كتاب «التفسير» باب : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها) ، حديث (٤٧٢٣)

٥٠٣

قولهم : لو لا أولياء الله ، لذلّ ـ تعالى الله عن قولهم ـ وقيد سبحانه نفي الولاية له بطريق الذّلّ ، وعلى جهة الانتصار ؛ إذ ولايته سبحانه موجودة بفضله ورحمته لمن والى من صالح عباده.

قال مجاهد : المعنى لم يخالف أحدا ولا ابتغى نصر أحد سبحانه ، لا إله إلا هو (١) وصلّى الله على سيّدنا ومولانا محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما.

__________________

(١) أخرجه الطبري (٨ / ١٧٢) برقم : (٢٢٨٥٠) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٤٩٣) ، وابن كثير في «تفسيره» (٣ / ٦٩) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٣٧٦) ، وعزاه لابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم.

٥٠٤

تفسير سورة الكهف

بسم الله الرّحمن الرّحيم

هذه السورة مكّيّة في قول جميع المفسّرين ، وروي عن قتادة أنّ أول السورة نزل بالمدينة إلى قوله : (جُرُزاً) والأول أصحّ ، وهي من أفضل سور القرآن (١) ، وروي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ألا أخبركم بسورة عظمها ما بين السّموات والأرض ، ولمن جاء بها من الأجر مثل ذلك؟ قالوا : أيّ سورة هي ، يا رسول الله؟ قال : سورة الكهف ، من قرأ بها يوم الجمعة ، غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى ، وزيادة ثلاثة أيّام» (٢) وفي رواية أنس : «من قرأ بها ، أعطي نورا بين السّماء والأرض ، ووقي بها فتنة القبر».

* ت* : وعن البراء بن عازب ، قال : كان رجل يقرأ سورة الكهف ، وإلى جانبه فرس مربوط بشطنين فغشيته سحابة ، فجعلت تدنو وتدنو ، وجعل فرسه ينفر ، فلما أصبح أتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكر ذلك له ، فقال : «تلك السّكينة نزلت بالقرآن» (٣) رواه البخاريّ ، واللفظ له ، ومسلم والترمذيّ والنسائيّ ، والرجل المبهم في الحديث هو أسيد بن حضير ، وفي الحديث الصحيح من طريق النّوّاس بن سمعان ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فمن أدرك الدّجّال منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف ...» وذكر الحديث. رواه مسلم (٤) وغيره ، زاد أبو داود : «فإنّها جوازكم من فتنته». وعن أبي الدرداء ؛ أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ عشر آيات من أوّل سورة الكهف ، عصم من الدّجّال» (٥) رواه مسلم وأبو داود والترمذيّ / والنسائي ، واللفظ

__________________

(١) ذكره ابن عطية (٣ / ٤٩٤)

(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٣٧٩) ، وعزاه إلى ابن مردويه ، عن عائشة.

(٣) تقدم تخريجه في أوائل التفسير.

(٤) تقدم تخريجه في أوائل التفسير.

(٥) أخرجه مسلم (١ / ٥٥٥) كتاب «صلاة المسافرين» باب : فضل سورة الكهف ، وآية الكرسي ، حديث (٢٥٧ / ٨٠٩) ، وأبو داود (٢ / ٥٢٠) كتاب «الملاحم» باب : في ذكر خروج الدجال ، حديث (٤٣٢٣) ، والنسائي في «عمل اليوم والليلة» برقم : (٩٥١) ، وأحمد (٥ / ١٩٦) ، (٦ / ٤٤٩) ، والحاكم (٢ / ٣٦٨) ، وابن حبان (٧٨٥ ـ ٧٨٦) ، والبيهقي (٣ / ٢٤٩) ، والبغوي في «شرح السنة» (٣ / ٢٥ ـ بتحقيقنا) من حديث أبي الدرداء.

٥٠٥

لمسلم ، وفي رواية لمسلم وأبي داود : «من آخر الكهف» ، وعن أبي سعيد الخدريّ ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : من قرأ سورة الكهف كما أنزلت ، كانت له نورا من مقامه إلى مكّة ، ومن قرأ بعشر آيات من آخرها ، فخرج الدّجّال ، لم يسلّط عليه (١) رواه الترمذيّ والحاكم في «المستدرك» والنسائيّ ، وقال الحاكم : صحيح على شرط مسلم ، وله في رواية : «من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النّور ما بين الجمعتين» (٢) ، وقال : صحيح الإسناد ، وأخرجه الدّارميّ في مسنده موقوفا ورواته (٣) متّفق على الاحتجاج بهم إلا أبا هاشم يحيى بن دينار الرّمّاني وقد وثّقه أحمد ويحيى وأبو زرعة وأبو حاتم. انتهى من «السلاح».

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (١) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (٢) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (٣) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً (٤) ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً)(٥)

قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ) كان حفص عن عاصم (٤) يسكت عند قوله : (عِوَجاً) سكتة خفيفة ، وعند (مَرْقَدِنا) في يس [يس : ٥٢] وسبب هذه البداءة في هذه السورة أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما سألته قريش عن المسائل الثّلاث : الرّوح ، وأصحاب الكهف ، وذي القرنين ، حسب ما أمرتهم به يهود ـ قال لهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «غدا أخبركم بجواب ما سألتم» ولم يقل : إن شاء الله ، فعاتبه الله عزوجل ، وأمسك عنه الوحي خمسة عشر يوما ، وأرجف به كفّار قريش ، وشقّ ذلك على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبلغ منه ، فلما انقضى الأمد الذي أراد الله عتاب نبيّه ، جاءه الوحي بجواب ما سألوه ، وغير ذلك ، فافتتح الوحي ب (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ) ، وهو القرآن.

وقوله : (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً) ، أي : لم ينزله عن طريق الاستقامة ، «والعوج» فقد الاستقامة ، ومعنى (قَيِّماً) ، أي : مستقيما ؛ قاله ابن (٥) عباس وغيره ، وقيل : معناه أنه قيّم

__________________

(١) أخرجه النسائي في «عمل اليوم والليلة» برقم : (٩٥٢ ، ٩٥٤) ، والحاكم (٢ / ٣٦٨) ، والبيهقي (٣ / ٢٤٩) ، عن أبي سعيد مرفوعا ، وقال الحاكم : صحيح الإسناد ، وأخرجه الدارمي (٢ / ٤٥٤) عن أبي سعيد موقوفا.

(٢) أخرجه الحاكم (٢ / ٣٦٨)

(٣) ينظر : «سنن الدارمي» (٢ / ٤٥٤)

(٤) ينظر : «العنوان» (١٢٢) ، و «شرح الطيبة» (٥ / ٣) ، و «شرح شعلة» (٤٦٨) ، و «إتحاف» (٢ / ٢٠٨)

(٥) ذكره الطبري (٨ / ١٧٣ ـ ١٧٤) ، وابن عطية (٣ / ٤٩٥) ، والبغوي (٣ / ١٤٤) ، بلفظ عدلا ، والسيوطي ـ

٥٠٦

على سائر الكتب بتصديقها ، ولم يرتضه* ع* (١) ، قال : ويصح أن يكون معنى «قيّم» قيامه بأمر الله على العالم وهذا معنى يؤيّده ما بعده من النّذارة والبشارة اللتين عمتا العالم ، «والبأس الشديد» عذاب الآخرة ، ويحتمل أن يندرج معه في النّذارة عذاب الدنيا ببدر وغيرها ، «و (مِنْ لَدُنْهُ)» ، أي : من عنده ، والمعنى : لينذر العالم و «الأجر الحسن» نعيم الجنة ، ويتقدّمه خير الدنيا.

وقوله تعالى : (إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً) ، أي : ما يقولون ، فهي النافية.

(فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (٦) إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (٧) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً)(٨)

وقوله سبحانه : (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ) هذه الآية تسلية للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والباخع نفسه هو مهلكها.

قال* ص* : «لعلّ» للترجّي في المحبوب ، وللإشفاق في المحذور ، وهي هنا للإشفاق. انتهى.

وقوله : (عَلى آثارِهِمْ) : استعارة فصيحة من حيث لهم إدبار وتباعد عن الإيمان ؛ فكأنهم من فرط إدبارهم قد بعدوا ، فهو في آثارهم يحزن عليهم.

وقوله : (بِهذَا / الْحَدِيثِ) ، أي : بالقرآن ، «والأسف» المبالغة في حزن أو غضب ، وهو في هذا الموضع الحزن ؛ لأنه على من لا يملك ، ولا هو تحت يد الآسف ، ولو كان الأسف من مقتدر على من هو في قبضته وملكه ، لكان غضبا ، كقوله تعالى : (فَلَمَّا آسَفُونا) [الزخرف : ٥٥] أي : أغضبونا. قال قتادة : (أَسَفاً) : حزنا (٢).

وقوله سبحانه : (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها ...) الآية : بسط في التسلية ، أي : لا تهتمّ بالدنيا وأهلها ، فإن أمرها وأمرهم أقلّ ؛ لفناء ذلك وذهابه ، فإنا إنما جعلنا ما على الأرض زينة وامتحانا واختبارا ، وفي معنى هذه الآية قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الدّنيا حلوة خضرة ،

__________________

ـ (٤ / ٣٨١ ـ ٣٨٢) بنحوه ، وعزاه لابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه من طريق علي.

(١) ينظر : «المحرر الوجيز» (٣ / ٤٩٥)

(٢) أخرجه الطبري (٨ / ١٧٧ ـ ١٧٨) برقم : (٢٢٨٧٣) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٤٩٦) ، وابن كثير (٣ / ٧٢) ، والسيوطي (٤ / ٣٨٢) ، وعزاه لعبد الرزاق ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم.

٥٠٧

وإنّ الله تعالى مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون ، فاتّقوا الدّنيا واتّقوا النّساء» (١) (لِنَبْلُوَهُمْ) أي : لنختبرهم ، وفي هذا وعيد ما.

قال سفيان الثّوريّ : أحسنهم عملا : أزهدهم فيها (٢) ، وقال أبو عاصم العسقلانيّ : (أَحْسَنُ عَمَلاً). الترك لها (٣).

قال* ع* (٤) : وكان أبي رحمه‌الله يقول : أحسن العمل : أخذ بحقّ ، وإنفاق في حقّ ، وأداء الفرائض ، واجتناب المحارم ، والإكثار من المندوب إليه.

وقوله سبحانه : (وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً) أي : يرجع ذلك كلّه ترابا ، «والجرز» : الأرض التي لا شيء فيها من عمارة وزينة ، فهي البلقع ، وهذه حالة الأرض العامرة لا بدّ لها من هذا في الدنيا جزءا جزءا من الأرض ، ثم يعمّها ذلك بأجمعها عند القيامة ، و «الصعيد» وجه الأرض ، وقيل : «الصّعيد» : التراب خاصّة.

(أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (٩) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً)(١٠)

وقوله سبحانه : (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً) ، أي : ليسوا بعجب من آيات الله ، أي : فلا يعظم ذلك عليك بحسب ما عظّمه السائلون ، فإن سائر آيات الله أعظم من قصتهم ، وهو قول ابن عباس (٥) وغيره ، واختلف الناس في (الرَّقِيمِ) ما هو؟ اختلافا كثيرا ، فقيل : «الرقيم» كتاب في لوح نحاس ، وقيل : في لوح رصاص ، وقيل : في لوح حجارة كتبوا فيه قصّة أهل الكهف ، وقيل غير هذا ، وروي عن ابن عباس ؛

__________________

(١) أخرجه مسلم (٤ / ٢٠٩٨) كتاب «الرقائق» باب : أكثر أهل الجنة الفقراء ، حديث (٩٩ / ٢٧٤٢) ، والترمذي (٤ / ٤٨٣) كتاب «الفتن» باب : ما جاء ما أخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه بما هو كائن إلى يوم القيامة ، حديث (٢١٩١) ، وابن ماجه (٢ / ١٣٢٥) كتاب «الفتن» باب : فتنة النساء ، حديث (٤٠٠٠) ، وأحمد (٣ / ١٩ ، ٢٢ ، ٤٦) ، وأبو يعلى (٢ / ٣٥٢ ـ ٣٥٣) برقم : (١١٠١) ، وابن حبان (٣٢٢١) من حديث أبي سعيد الخدري.

(٢) ذكره ابن عطية (٣ / ٤٩٧) ، والسيوطي (٤ / ٣٨٣) ، وعزاه لابن أبي حاتم.

(٣) أخرجه الطبري (٨ / ١٧٨) برقم : (٢٢٨٧٨) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٤٩٧)

(٤) ينظر : «المحرر الوجيز» (٣ / ٤٩٧)

(٥) أخرجه الطبري (٨ / ١٨٠) برقم : (٢٢٨٩٠) بنحوه ، وذكره ابن كثير (٣ / ٧٣) ، والسيوطي (٤ / ٣٨٤) بنحوه ، وعزاه لابن أبي حاتم.

٥٠٨

أنه قال : ما أدري ما الرّقيم (١)؟

قال* ع* (٢) : ويظهر من هذه الروايات ؛ أنهم كانوا قوما مؤرّخين ، وذلك من نبل المملكة ، وهو أمر مفيد.

وقوله سبحانه : (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ) : (الْفِتْيَةُ) ، فيما روي ؛ قوم من أبناء أشراف مدينة دقيوس الملك الكافر ، ويقال فيه «دقيانوس» ، وروي أنهم كانوا مطوّقين مسوّرين بالذهب ، وهم من الروم ، واتبعوا دين عيسى ، وقيل : كانوا قبل عيسى ، واختلف الرواة في قصصهم ، ونذكر من الخلاف عيونه ، وما لا تستغني الآية عنه : فروي عن مجاهد عن ابن عباس ، أن هؤلاء الفتية كانوا في دين ملك يعبد الأصنام (٣) ، فوقع للفتية علم من بعض الحواريّين ، حسبما ذكره النّقّاش ، أو من مؤمني الأمم قبلهم ، فآمنوا بالله ، ورأوا ببصائرهم قبيح فعل الناس ، فرفع أمرهم إلى الملك ، فاستحضرهم ، وأمرهم بالرجوع إلى دينه ، فقالوا / له فيما روي : (رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) [الكهف : ١٤] الآية ، فقال لهم الملك : إنّكم شبّان أغمار ، لا عقل لكم ، وأنا لا أعجل عليكم ، وضرب لهم أجلا ثم سافر خلال الأجل ، فتشاور الفتية في الهروب بأديانهم ، فقال لهم أحدهم : إني أعرف كهفا في جبل كذا ، فلنذهب إليه.

وروت فرقة أنّ أمر أصحاب الكهف إنما كان أنهم من أبناء الأشراف ، فحضر عيد لأهل المدينة ، فرأى الفتية ما ينتحله الناس في ذلك العيد من الكفر وعبادة الأصنام ، فوقع الإيمان في قلوبهم ، وأجمعوا على مفارقة دين الكفرة ، وروي أنهم خرجوا ، وهم يلعبون بالصّولجان والكرة ، وهم يدحرجونها إلى نحو طريقهم ؛ لئلّا يشعر الناس بهم ؛ حتى وصلوا إلى الكهف ، وأما الكلب فروي أنه كان كلب صيد لبعضهم ، وروي أنهم وجدوا في طريقهم راعيا له كلب ، فاتبعهم الراعي على رأيهم ، وذهب الكلب معهم ، فدخلوا الغار ، فروت فرقة أن الله سبحانه ضرب على آذانهم عند ذلك ، لما أراد من سترهم وخفي على أهل المملكة مكانهم ، وعجب الناس من غرابة فقدهم ، فأرّخوا ذلك ورقّموه في لوحين من رصاص أو نحاس ، وجعلوه على باب المدينة ، وقيل على الرواية : إن الملك بنى باب

__________________

(١) أخرجه الطبري (٨ / ١٨٢) برقم : (٢٢٩٠٥) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٤٩٨) ، وابن كثير (٣ / ٧٣) ، والسيوطي (٤ / ٣٨٤) ، وعزاه لابن جرير من طريق ابن جريج.

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٣ / ٤٩٧ ـ ٤٩٨)

(٣) ذكره ابن عطية (٣ / ٤٩٨)

٥٠٩

الغار ، وإنهم دفنوا ذلك في بناء الملك على الغار ، وروت فرقة ، أن الملك لما علم بذهاب الفتية ، أمر بقصّ آثارهم إلى باب الغار ، وأمر بالدخول عليهم ، فهاب الرجال ذلك ، فقال له بعض وزرائه : «ألست أيها الملك إن أخرجتهم قتلتهم؟ قال : نعم ، قال : فأيّ قتلة أبلغ من الجوع والعطش ، ابن عليهم باب الغار ، ودعهم يموتوا فيه ، ففعل ، وقد ضرب الله على آذانهم كما تقدّم ، ثم أخبر الله سبحانه عن الفتية أنهم لما أووا إلى الكهف ، أي : دخلوه وجعلوه مأوى لهم وموضع اعتصام دعوا الله تعالى بأن يؤتيهم من عنده رحمة ، وهي الرزق فيما ذكره المفسّرون ، وأن يهيّىء لهم من أمرهم رشدا ؛ خلاصا جميلا ، وهذا الدعاء منهم كان في أمر دنياهم ، وألفاظهم تقتضي ذلك ، وقد كانوا على ثقة من رشد الآخرة ورحمتها ، وينبغي لكلّ مؤمن أن يجعل دعاءه في أمر دنياه بهذه الآية الكريمة فقط ؛ فإنها كافية ، ويحتمل ذكر الرحمة أن يراد بها أمر الآخرة.

(فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (١١) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (١٢) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً)(١٣)

وقوله تعالى : (فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ ...) الآية : عبارة عن إلقاء الله تعالى النوم عليهم.

وقوله : (عَدَداً) نعت ل «السنين» والقصد به العبارة عن التكثير.

وقوله : (لِنَعْلَمَ) : عبارة عن خروج ذلك الشيء إلى الوجود ، أي : لنعلم ذلك موجودا وإلا فقد كان سبحانه علم أيّ الحزبين أحصى الأمد ، و «الحزبان» : الفريقان ، والظاهر من الآية أن الحزب الواحد هم الفتية ، إذ ظنوا لبثهم قليلا ، والحزب الثاني هم أهل المدينة الذين بعث الفتية على / عهدهم حين كان عندهم التاريخ بأمر الفتية ، وهذا قول الجمهور من المفسّرين ، وأما قوله : (أَحْصى) فالظاهر الجيد فيه أنّه فعل ماض ، و (أَمَداً) منصوب به على المفعول ، «والأمد» : الغاية ، ويأتي عبارة عن المدّة ، وقال الزّجّاج : (أَحْصى) هو «أفعل» ، ويعترض بأن «أفعل» لا يكون من فعل رباعيّ إلا في (١) الشاذّ ،

__________________

(١) يجوز فيه وجهان :

«أحدهما» : أنه أفعل تفضيل ، وهو خبر ل «أيّهم» ، و «أيّهم» استفهامية ، وهذه الجملة معلقة للعلم قبلها.

و (لِما لَبِثُوا) حال من «أمدا» ، لأنه لو تأخر عنه ، لكان نعتا له ، ويجوز أن تكون اللام على بابها من العلة ، أي : لأجل ، قاله أبو البقاء ، ويجوز أن تكون زائدة ، و «ما» مفعوله إما ب «أحصى» على رأي من يعمل أفعل التفضيل في المفعول به ، وإما بإضمار فعل ، و «أمدا» مفعول «لبثوا» أو منصوب بفعل مقدّر يدلّ عليه أفعل عند الجمهور ، أو منصوب بنفس أفعل عند من يرى ذلك.

٥١٠

و (أَحْصى) : فعل رباعيّ ؛ ويحتجّ لقول الزّجّاج بأن «أفعل» من الرباعيّ قد كثر كقولك : ما

__________________

«والوجه الثاني» : أن يكون «أحصى» فعلا ماضيا. و «أمدا» مفعوله ، و «لما لبثوا» متعلق به ، أو حال من «أمدا» واللام فيه مزيدة ، وعلى هذا ف «أمدا» منصوب ب «لبثوا» ، و «ما» مصدرية ، أو بمعنى الذي ، واختار الأول أعني كون «أحصى» للتفضيل الزجاج ، والتبريزي ، واختار الثاني أبو علي ، والزمخشري ، وابن عطية ، قال الزمخشري : فإن قلت فما تقول فيمن جعله أفعل تفضيل؟ قلت : ليس بالوجه السديد ، وذلك أنّ بناءه من غير الثلاثي المجرد ليس بقياس ، نحو : «أعدى من الجرب». و «أفلس من ابن المذلّق» شاذ ، والقياس على الشاذ في غير القرآن ممتنع ، فكيف به؟ ولأن «أمدا» إما أن ينتصب بأفعل وأفعل لا يعمل ، وإما أن ينتصب بـ «لبثوا» فلا يسد عليه المعنى ، فإن زعمت أني أنصبه بفعل مضمر ، كما أضمر في قوله :

 ..................

وأضرب منّا بالسّيوف القوانسا

فقد أبعدت عن المتناول ، حيث أردت أن يكون فعلا ، ثم رجعت مضطرا إليه ، وناقشه الشيخ ، فقال : أما دعواه أنه شاذ ، فمذهب سيبويه خلافه ، وذلك أن أفعل فيه ثلاثة مذاهب : الجائز مطلقا ، ويعزى لسيبويه. والمنع مطلقا ، وهو مذهب الفارسي. والتفصيل بين أن تكون همزته للتعدية فيمتنع ، وبين أن لا تكون ، فيجوز ، وهذا ليست الهمزة فيه للتعدية ، وأما قوله : أفعل لا يعمل فليس بصحيح ، لأنه لا يعمل في التمييز ، و «أمدا» تمييز لا مفعولا به كما تقول : زيدا أقطع النّاس سيفا ، وزيدا أقطع للهام سيفا. «قلت : الذي أحوج الزمخشري إلى عدم جعله تمييزا مع ظهوره في بادىء الرّأي عدم صحة معناه ، وذلك أنّ التمييز شرطه في هذا الباب أن يصح نسبة ذلك الوصف الذي قبله إليه ، ويتصف به ، ألا ترى إلى مثاله في قوله : «زيدا أقطع النّاس سيفا» كيف يصح أن يسند إليه ، فيقال : «زيد أقطع سيفه ، وسيفه قاطع» إلى غير ذلك ، وهنا ليس الإحصاء من صفة «الأمد» ولا يصح نسبته إليه ، وإنما هو من صفات الحزبين ، وهو دقيق ، وكان الشيخ نقل عن أبي البقاء نصبه على التمييز ، وأبو البقاء لم يذكر نصبه على التمييز حال جعله «أحصى» أفعل تفضيل ، وإنما ذكر ذلك حين ذكر أنه فعل ماض قال أبو البقاء : في «أحصى» وجهان :

«أحدهما» : هو فعل ماض ، و «أمدا» مفعول «لبثوا». وهو خطأ ، وإنما الوجه أن يكون تمييزا ، والتقدير : لما لبثوه.

«الوجه الثاني» : هو اسم ، و «أمدا» منصوب بفعل دلّ عليه الاسم ، فهذا تصريح بأن «أمدا» حال جعله «أحصى» اسما ليس تمييزا ، بل مفعولا به بفعل مقدّر ، وأنه جعله تمييزا عن «لبثوا».

ثم قال الشيخ : «وأما قوله : وأما أن ينصب ب «لبثوا» فلا يسد عليه المعنى ، أي : لا يكون معناه سديدا ، وقد ذهب الطبري إلى أنه منصوب ب «لبثوا». قال ابن عطية : وهو غير متّجه انتهى ، وقد يتجه ، وذلك أنّ الأمد هو الغاية ، ويكون عبارة عن المدّة ، من حيث إنّ المدة غاية في أمد المدة على الحقيقة ، و «ما» بمعنى الذي و «أمدا» منصوب على إسقاط الحرف ، وتقديره : لما لبثوا من أمد ، أي : من مدة ، ويصير «من أمد» تفسيرا لما أبهم من لفظ «ما» ، كقوله : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) ـ (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ) ، ولمّا سقط الحرف ، وصل إليه الفعل. قلت : يكفيه أن مثل ابن عطية جعله غير متجه ، وعلى تقدير ذلك ، فلا نسلم أنّ الطبري عنى نصبه ب «لبثوا» ، مفعولا به ، بل يجوز أن يكون عنى نصبه تمييزا ، كما قاله أبو البقاء ، ثم قال : وأما قوله : فإن زعمت إلى آخره ، فتقول : لا نحتاج إلى ذلك ، لأن لقائل ذلك أن يذهب مذهب الكوفيين ، في أنه ينصب القوانس بنفس «اضرب» ، ولذلك جعل بعض النحاة أنّ «أعلم» ـ

٥١١

أعطاه للمال ، وكقوله عليه الصلاة والسلام في صفة جهنّم : «أسود من القار» وفي صفة حوضه «أبيض من اللّبن» (١).

* ت* : وقد تقدّم أن «أسود» من «سود» ، وما في ذلك من النقد ، وقال مجاهد : (أَمَداً) معناه عددا (٢) ، وهذا تفسير بالمعنى.

وقوله سبحانه : (وَزِدْناهُمْ هُدىً) ، أي : يسّرناهم للعمل الصالح ، والانقطاع إلى الله عزوجل ، ومباعة الناس ، والزهد في الدنيا ، وهذه زيادات على الإيمان.

(وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (١٤) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً (١٥) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً)(١٦)

وقوله سبحانه : (وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ) : عبارة عن شدّة عزم ، وقوة صبر ، ولما كان الفزع وخور النفس يشبه بالتناسب الانحلال ، حسن في شدّة النفس ، وقوّة التصميم أن يشبه الربط ، ومنه يقال : فلان رابط الجأش ؛ إذا كان لا تفرق نفسه عند الفزع والحروب وغيرها ، ومنه الربط على قلب أمّ موسى.

وقوله تعالى : (إِذا قامُوا) يحتمل أن يكون وصف قيامهم بين يدي الملك الكافر ، فإنّه مقام يحتاج إلى الربط على القلب ، ويحتمل أن يعبر بالقيام على انبعاثهم بالعزم على

__________________

ـ ناصب ل «من» في قوله : (أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُ) ، وذلك لأنّ أفعل مضمرة لمعنى المصدر ، إذ التقدير : يريد ضربنا القوانس على ضرب غيرنا». قلت : هذا مرجوح ، وأفعل التفضيل ضعيف ، وإذا جعلنا «أحصى» اسما فجوّز الشيخ في «أيّ» أن تكون الموصولة ، و «أحصى» خبر لمبتدأ محذوف ، هو عائدها ، وأنّ الضمة للبناء على مذهب سيبويه ، لوجود شرط البناء ، وهو إضافتها لفظا ، وحذف صدر صلتها. وهذا إنما يكون على جعل العلم ، بمعنى العرفان ، لأنه ليس في الكلام إلّا مفعول واحد ، وتقدير آخر لا حاجة إليه ، إلّا أنّ إسناد «علم» بمعنى عرف إلى الله تعالى إشكالا ، تقدم تحريره في الأنفال وغيرها. وإذا جعلناه فعلا امتنع أن تكون موصولة ، إذ لا حاجة لبنائها حينئذ وهو حسن.

ينظر : «الدر المصون» (٤ / ٤٣٧ ـ ٤٣٨)

(١) أخرجه البخاري (١١ / ٤٧٤) كتاب «الرقاق» باب : الحوض ، حديث (٦٥٨١) ، والترمذي (٥ / ٤١٩) كتاب «التفسير» باب : ومن سورة الكوثر ، حديث (٣٣٦٠) ، من حديث أنس بن مالك.

(٢) أخرجه الطبري (٨ / ١٨٨) برقم : (٢٢٩١٧) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٥٠٠) ، والبغوي (٣ / ١٥٣) ، والسيوطي (٤ / ٣٨٩) ، وعزاه لابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم.

٥١٢

الهروب إلى الله ومنابذة النّاس ؛ كما تقول : قام فلان إلى أمر كذا ؛ إذا اعتزم عليه بغاية الجدّ ، وبهذه الألفاظ التي هي : (قامُوا فَقالُوا) ، تعلّقت الصوفيّة في القيام والقول ، «والشّطط» : الجور وتعدّي الحدّ والحقّ بحسب أمر أمر ، و «السلطان» : الحجة ، وقال قتادة : المعنى بعذر (١) بيّن ، ثم عظموا جرم الداعين مع الله غيره ، وظلمهم بقولهم : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) ، وقولهم : (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ ...) الآية : المعنى قال بعضهم لبعض ، وبهذا يترجّح أن قوله تعالى : (إِذْ قامُوا فَقالُوا) إنما المراد به إذ عزموا ونفذوا لأمرهم ، وفي مصحف ابن مسعود : «وما يعبدون من دون الله» ، ومضمّن هذه الآية الكريمة أن بعضهم قال لبعض : إذ قد فارقنا الكفّار ، وانفردنا بالله تعالى ، فلنجعل الكهف مأوى ، ونتكل على الله تعالى ، فإنه سيبسط علينا رحمته ، وينشرها علينا ويهيّيء لنا من أمرنا مرفقا ، وهذا كله دعاء بحسب الدنيا ، وهم على ثقة من الله في أمر آخرتهم ، وقرأ نافع وغيره : «مرفقا» بفتح الميم وكسر الفاء ، وقرأ حمزة وغيره بكسر الميم وفتح الفاء ، ويقالان معا في الأمر ، وفي الجارحة ، حكاه الزّجّاج (٢).

(وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (١٧) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً)(١٨)

وقوله سبحانه : (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ) و (تَزاوَرُ) ، أي : تميل ، و (تَقْرِضُهُمْ) معناه / تتركهم ، والمعنى : أنهم كانوا لا تصيبهم شمس البتة ، وهو قول ابن عباس (٣) ، وحكى الزّجّاج (٤) وغيره ، قال : كان باب الكهف ينظر إلى بنات نعش ، وذهب الزّجّاج (٥) إلى أن فعل الشمس كان آية من الله تعالى دون أن يكون باب الكهف إلى جهة توجب ذلك ، وال (فَجْوَةٍ) : المتّسع ، قال قتادة : في فضاء منه ؛ ومنه الحديث : «فإذا وجد فجوة نصّ» (٦).

__________________

(١) أخرجه الطبري (٨ / ١٩٠) برقم : (٢٢٩٢٣) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٥٠١)

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٣ / ٥٠٢)

(٣) أخرجه الطبري (٨ / ١٩٢) برقم : (٢٢٩٢٦ ـ ٢٢٩٢٧) بنحوه ، وذكره ابن عطية (٣ / ٥٠٣) ، وابن كثير (٣ / ٧٥) بنحوه ، والسيوطي (٤ / ٣٩١) بنحوه ، وعزاه لابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم.

(٤) أخرجه ابن عطية (٣ / ٥٠٣) ، والزجاج (٣ / ٢٧٣) ، والبغوي (٣ / ١٥٤)

(٥) أخرجه ابن عطية (٣ / ٥٠٣) ، والزجاج (٣ / ٢٧٤)

(٦) أخرجه الطبري (٨ / ١٩٣) ، برقم (٢٢٩٣٩) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٥٠٣)

٥١٣

وقوله سبحانه : (ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ) الإشارة إلى الأمر بجملته.

وقوله سبحانه : (وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ ...) الآية : ذكر بعض المفسّرين أن تقليبهم إنما كان حفظا من الأرض ، وروي عن ابن عبّاس ، أنه قال لو مسّتهم الشمس ، لأحرقتهم ، ولو لا التقليب ، لأكلتهم (١) الأرض ، وظاهر كلام المفسّرين أن التقليب كان بأمر الله وفعل ملائكته ، ويحتمل أن يكون ذلك بإقدار الله إياهم على ذلك ، وهم في غمرة النّوم.

وقوله : (وَكَلْبُهُمْ) : أكثر المفسّرين على أنه كلب حقيقة.

قال* ع (٢) * : وحدّثني أبي رحمه‌الله قال : سمعت أبا الفضل بن الجوهري في جامع مصر يقول على منبر وعظه سنة تسع وستّين وأربعمائة : من أحبّ أهل الخير ، نال من بركتهم ، كلب أحبّ أهل الفضل ، وصحبهم ، فذكره الله في محكم تنزيله.

و «الوصيد» العتبة التي لباب الكهف أو موضعها إن لم تكن ، وقال ابن عباس : «الوصيد» (٣) الباب والأول أصحّ ، والباب الموصد هو المغلق ، ثم ذكر سبحانه ما حفّهم به من الرّعب ، واكتنفهم من الهيبة ، حفظا منه سبحانه لهم ، فقال : (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ ...) الآية.

(وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (١٩) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (٢٠) وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً)(٢١)

وقوله سبحانه : (وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ) الإشارة ب «ذلك» إلى الأمر الذي ذكره الله في جهتهم ، والعبرة التي فعلها فيهم ، «والبعث» : التحريك عن سكون ، واللام في قوله : (لِيَتَساءَلُوا) لام الصيرورة ، وقول القائل : (كَمْ لَبِثْتُمْ) يقتضي أنه هجس في خاطره

__________________

(١) أخرجه الطبري (٨ / ١٩٤) برقم : (٢٢٩٤٤) بنحوه ، وذكره ابن عطية (٣ / ٥٠٤) ، وابن كثير (٣ / ٧٦) بنحوه.

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٣ / ٥٠٤)

(٣) أخرجه الطبري (٨ / ١٩٥) برقم : (٢٢٩٥٥) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٥٠٤) ، والبغوي (٣ / ١٥٤) ، وابن كثير (٣ / ٧٦) ، والسيوطي (٤ / ٣٩٢) ، وعزاه لابن جرير ، وابن المنذر.

٥١٤

طول نومهم ، واستشعر أنّ أمرهم خرج عن العادة بعض الخروج ، وظاهر أمرهم أنهم انتبهوا في حال من الوقت ، والهواء الزمانيّ لا يباين الحالة التي ناموا عليها ، وقولهم : (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ) يروى أنهم انتبهوا ، وهم جياع ، وأنّ المبعوث هو تمليخا ، وروي أن باب الكهف انهدم بناء الكفّار منه ؛ لطول السنين ، ويروى أن راعيا هدمه ؛ ليدخل فيه غنمه ، فأخذ تمليخا ثيابا رثّة منكرة ولبسها ، وخرج من الكهف ، فأنكر ذلك البناء المهدوم ؛ إذ لم يعرفه بالأمس ، ثم مشى ، فجعل ينكر الطريق والمعالم ، ويتحيّر وهو في ذلك لا يشعر شعورا تامّا ، بل يكذّب ظنه فيما تغيّر عنده حتى بلغ باب المدينة ، فرأى على بابها أمارة الإسلام ، فزادت حيرته ، وقال : كيف هذا ببلد دقيوس ، وبالأمس كنا معه تحت ما كنا ، فنهض إلى باب آخر ، فرأى نحوا من ذلك ؛ حتى مشى الأبواب كلّها ، فزادت حيرته ، ولم يميّز بشرا ، وسمع الناس يقسمون باسم عيسى ، فاستراب بنفسه ، وظنّ أنه جنّ ، أو انفسد عقله ، فبقي حيران يدعو الله تعالى ، ثم نهض إلى باب الطعام الذي أراد / اشتراءه ، فقال : يا عبد الله ، بعني من طعامك بهذه الورق ، فدفع إليه دراهم ، كأخفاف الربع فيما ذكر ، فعجب لها البائع ودفعها إلى آخر يعجّبه ، وتعاطاها النّاس ، وقالوا له : هذه دراهم عهد فلان الملك ، من أين أنت؟ وكيف وجدت هذا الكنز ، فجعل يبهت ويعجب ، وقد كان بالبلد مشهورا هو وبيته ، فقال : ما أعرف غير أنّي وأصحابي خرجنا بالأمس من هذه المدينة ، فقال النّاس : هذا مجنون ، اذهبوا به إلى الملك ، ففزع عند ذلك ، فذهب به حتى جيء به إلى الملك ، فلما لم ير دقيوس الكافر ، تأنّس ، وكان ذلك الملك مؤمنا فاضلا يسمّى تبدوسيس ، فقال له الملك : أين وجدت هذا الكنز؟ فقال له : إنما خرجت أنا وأصحابي أمس من هذه المدينة ، فأوينا إلى الكهف الذي في جبل أنجلوس ، فلما سمع الملك ذلك ، قال في بعض ما روي : لعلّ الله قد بعث لكم أيّها الناس آية فلنسر إلى الكهف ، حتى نرى أصحابه ، فساروا ، وروي أنه أو بعض جلسائه قال : هؤلاء هم الفتية الذين ورّخ أمرهم على عهد دقيوس الملك ، وكتب على لوح النّحاس بباب المدينة ، فسار الملك إليهم ، وسار الناس معه فلما انتهوا إلى الكهف ، قال تمليخا : أدخل عليهم لئلا يرعبوا ، فدخل عليهم ، فأعلمهم بالأمر ، وأن الأمة أمّة إسلام ، فروي أنهم سرّوا وخرجوا إلى الملك ، وعظّموه ، وعظّمهم ، ثم رجعوا إلى الكهف ، وأكثر الروايات على أنهم ماتوا حين حدّثهم تمليخا ، فانتظرهم النّاس ، فلما أبطأ خروجهم ، دخل الناس إليهم ، فرعب كلّ من دخل ، ثم أقدموا فوجدوهم موتى ، فتنازعوا بحسب ما يأتي ، وفي هذه القصص من الاختلاف ما تضيق به الصحف فاختصرته ، وذكرت المهم الذي به تتفسّر ألفاظ الآية ، واعتمدت الأصحّ والله المعين برحمته ، وفي هذا البعث بالورق جواز الوكالة ، وصحّتها.

٥١٥

و (أَزْكى) معناه : أكثر فيما ذكر عكرمة (١) ، وقال ابن جبير : المراد أحل (٢) ، وقولهم : (يَرْجُمُوكُمْ) قال الزجاج : بالحجارة ، وهو الأصح وقال حجّاج : «يرجموكم» معناه : بالقول وقوله سبحانه : (وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ) : الإشارة في قوله : (وَكَذلِكَ) إلى بعثهم ليتساءلوا ، أي : كما بعثناهم ، أعثرنا عليهم ، والضمير في قوله : (لِيَعْلَمُوا) يحتمل أن يعود على الأمّة المسلمة الذين بعث أهل الكهف على عهدهم ، وإلى هذا ذهب الطبريّ (٣) ؛ وذلك أنهم فيما روي دخلتهم حينئذ فتنة في أمر الحشر وبعث الأجساد من القبور ، فشكّ في ذلك بعض الناس ، واستبعدوه ، وقالوا : إنما تحشر الأرواح ، فشقّ ذلك على ملكهم ، وبقي حيران لا يدري كيف يبيّن أمره لهم ، حتى لبس المسوح ، وقعد على الرّماد وتضرّع إلى الله في حجّة وبيان ، فأعثرهم الله على أهل الكهف ، فلما / بعثهم الله ، وتبيّن الناس أمرهم ؛ سرّ الملك ، ورجع من كان شكّ في بعث الأجساد إلى اليقين به ، وإلى هذا وقعت الإشارة بقوله : (إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ) ؛ على هذا التأويل ، ويحتمل أن يعود الضمير في (لِيَعْلَمُوا) على أصحاب الكهف ، وقوله : (إِذْ يَتَنازَعُونَ) ؛ على هذا التأويل : ابتداء خبر عن القوم الذين بعثوا على عهدهم ، والتنازع على هذا التأويل إنما هو في أمر البناء أو المسجد ، لا في أمر القيامة ، وقد قيل : والتنازع إنما هو في أن اطلعوا عليهم ، فقال بعضهم : هم أموات ، وبعض : هم أحياء ، وروي أنّ بعض القوم ذهبوا إلى طمس الكهف عليهم ، وتركهم فيه مغيّبين ، فقالت الطائفة الغالبة على الأمر : (لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) ، فاتخذوه ، قال قتادة : (الَّذِينَ غَلَبُوا) هم الولاة (٤).

(سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً)(٢٢)

وقوله سبحانه : (سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ ...) الآية : الضمير في (سَيَقُولُونَ) يراد به أهل التوراة من معاصري نبيّنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذلك أنهم اختلفوا في عدد أهل الكهف.

__________________

(١) أخرجه الطبري (٨ / ٢٠٣) برقم : (٢٢٩٦١) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٥٠٦) ، والبغوي (٣ / ١٥٥)

(٢) أخرجه الطبري (٨ / ٢٠٣) برقم : (٢٢٩٦٣) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٥٠٦)

(٣) ينظر : «الطبري» (٨ / ٢٠٤)

(٤) ذكره ابن عطية (٣ / ٥٠٧) ، والسيوطي (٤ / ٣٩٢) بنحوه ، وعزاه لعبد الرزاق ، وابن أبي حاتم.

٥١٦

وقوله : (رَجْماً بِالْغَيْبِ) : معناه ظنّا وهو مستعار من الرجم ، كأن الإنسان يرمي الموضع المشكل المجهول عنده بظنه المرة بعد المرّة يرجمه به ، عسى أن يصيبه ، والواو في قوله : (وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) : طريق النحاة فيها أنها واو عطف دخلت في آخر الكلام ؛ إخبارا عن عددهم ، لتفصّل أمرهم ، وتدلّ على أن هذا نهاية ما قيل ، ولو سقطت ، لصح الكلام ، وتقول فرقة منهم ابن خالويه : هي (١) واو الثمانية ، وذكر ذلك الثعلبيّ عن أبي بكر بن عيّاش وأن قريشا كانت تقول في عددها : ستة ، سبعة وثمانية تسعة ، فتدخل الواو في الثمانية (٢).

قال* ع* (٣) : وهي في القرآن في قوله : (وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) [التوبة : ١١٢] وفي قوله : (وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) [الزمر : ٧٣] وأما قوله : (وَأَبْكاراً) [التحريم : ٥] وقوله : (وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ) [الحاقة : ٧] فليست بواو الثمانية بل هي لازمة إذ لا يستغني الكلام عنها ، وقد أمر الله سبحانه نبيّه في هذه الآية ، أن يرد علم عدّتهم إليه ، ثم قال : (ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ) يعني : من أهل الكتاب ، وكان ابن عبّاس ؛ يقول : أنا من ذلك القليل (٤) ، وكانوا سبعة ، وثامنهم كلبهم.

__________________

(١) في هذه الواو أوجه :

«أحدها» : أنها عاطفة ، عطفت هذه الجملة على جملة قوله : هم سبعة ، فيكونون قد أخبروا بخبرين : «أحدهما» : أنهم سبعة رجال على البت.

«والثاني» : أن ثامنهم كلبهم ، وهذا يؤذن بأن جملة قوله : (وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) من المتنازعين فيهم.

«والثاني» : أن الواو للاستئناف ، وأنه من كلام الله تعالى أخبر عنهم بذلك ، قال هذا القائل. وجيء بالواو لتعطي انقطاع هذا مما قبله.

«الثالث» : أنها الواو الداخلة على الصفة تأكيدا ، ودلالة على لصوق الصفة بالموصوف ، وإليه ذهب الزمخشري ، ونظره بقوله : (مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ).

وردّ الشيخ عليه «بأنّ أحدا من النّحاة لم يقله».

«الرابع» : أن هذه الواو تسمى واو الثمانية ، وأنّ لغة قريش إذا عدوا يقولون : خمسة ، ستة ، سبعة ، وثمانية ، تسعة ، فيدخلون الواو على عقد الثمانية خاصة. ذكر ذلك ابن خالويه ، وأبو بكر راوي عاصم. قلت : وقد قال ذلك بعضهم ، في قوله تعالى : (وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) في الزمر ، فقال : دخلت في أبواب الجنة ، لأنها ثمانية ، ولذلك لم يجأ بها في أبواب جهنم ، لأنها سبعة.

ينظر : «الدر المصون» (٤ / ٤٤٥ ـ ٤٤٦)

(٢) ذكره ابن عطية (٣ / ٥٠٨)

(٣) ينظر : «المحرر الوجيز» (٣ / ٥٠٨)

(٤) أخرجه الطبري (٨ / ٢٠٦) برقم : (٢٢٩٧٥) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٥٠٨) ، والبغوي (٣ / ١٥٦ ـ ١٥٧) ، وابن كثير (٣ / ٧٨) ، والسيوطي (٤ / ٣٩٣) ، وعزاه لعبد الرزاق ، والفريابي ، وابن سعد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم.

٥١٧

قال* ع* (١) : ويدلّ على هذا من الآية أنه سبحانه لمّا حكى قول من قال : ثلاثة ، وخمسة ، قرن بالقول ؛ أنه رجم بالغيب ، ثم حكى هذه المقالة ، ولم يقدح فيها بشيء ، وأيضا فيقوى ذلك على القول بواو الثمانية ؛ لأنها إنما تكون حيث عدد الثمانية صحيح.

وقوله سبحانه : (فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً) معناه على بعض الأقوال : أي : بظاهر ما أوحينا إليك ، وهو ردّ علم عدتهم إلى الله تعالى ، وقيل : معنى الظاهر ؛ أن يقول : ليس كما تقولون ، ونحو هذا ، ولا يحتجّ هو على أمر مقرّر في ذلك ، وقال التّبريزيّ : (ظاهِراً) معناه : ذاهبا وأنشد : [الطويل]

 ...................

وتلك شكاة ظاهر عنك عارها (٢)

ولم يبح له في هذه / الآية أن يماري ، ولكن قوله : (إِلَّا مِراءً) مجاز من حيث يماريه أهل الكتاب ، سمّيت مراجعته لهم مراء ، ثم قيد بأنه ظاهر ، ففارق المراء الحقيقيّ المذموم ، و «المراء» : مشتقّ من المرية ، وهو الشكّ ، فكأنه المشاككة.* ت* : وفي سماع ابن القاسم ، قال : كان سليمان بن يسار ، إذا ارتفع الصوت في مجلسه ، أو كان مراء ، أخذ نعليه ، ثم قام. قال ابن رشد : هذا من ورعه وفضله ، و «المراء» في العلم منهيّ عنه ، فقد جاء أنه لا تؤمن فتنته ، ولا تفهم حكمته انتهى من «البيان».

والضمير في قوله : (وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ) عائد على أهل الكهف ، وفي قوله : (مِنْهُمْ) عائد على أهل الكتاب.

وقوله : (فَلا تُمارِ فِيهِمْ) ، أي : في عدّتهم.

(وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (٢٣) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (٢٤) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (٢٥) قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً)(٢٦)

وقوله سبحانه : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) قد تقدّم

__________________

(١) ينظر : «المحرر الوجيز» (٣ / ٥٠٨)

(٢) عجز بيت لأبي ذؤيب وصدره :

وعيّرها الواشون أني أحبّها

 ..................

وهو في ديوانه (١ / ٢١) ، و «اللسان» (ظهر)

٥١٨

أن هذه الآية عتاب من الله تعالى لنبيّه حيث لم يستثن ، والتقدير : إلا أن تقول إلّا أن يشاء الله أو إلّا أن تقول : إن شاء الله ، والمعنى : إلا أن تذكر مشيئة الله.

وقوله سبحانه : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) قال ابن عباس (١) والحسن (٢) معناه : الإشارة به إلى الاستثناء ، أي : ولتستثن بعد مدّة إذا نسيت ، أو لا لتخرج من جملة من لم يعلّق فعله بمشيئة الله ، وقال عكرمة : واذكر ربّك إذا غضبت (٣) ، وعبارة الواحديّ : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) ، أي : إذا نسيت الاستثناء بمشيئة الله ، فاذكره وقله إذا تذكّرت. اه.

وقوله سبحانه : (وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي ...) الآية : الجمهور أنّ هذا دعاء مأمور به ، والمعنى : عسى أن يرشدني ربّي فيما أستقبل من أمري ، والآية خطاب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهي بعد تعمّ جميع أمته.

وقال الواحديّ : وقل عسى أن يهديني ، أي : يعطيني ربي الآيات من الدلالات على النبوّة ما يكون أقرب في الرشد ، وأدلّ من قصّة أصحاب الكهف ، ثم فعل الله له ذلك حيث آتاه علم غيوب المرسلين وخبرهم. انتهى.

وقوله سبحانه : (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ ...) الآية : قال قتادة وغيره : الآية حكاية عن بني إسرائيل (٤) ، أنهم قالوا ذلك ؛ واحتجوا بقراءة (٥) ابن مسعود وفي مصحفه : «وقالوا لبثوا في كهفهم» ، ثم أمر الله نبيّه بأن يردّ العلم إليه ؛ ردّا على مقالهم وتفنيدا لهم ، وقال المحقّقون : بل قوله تعالى : (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ...) الآية خبر من الله تعالى عن مدّة لبثهم ، وقوله تعالى : (قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا) ، أي : فليزل اختلافكم أيها المخرّصون ، وظاهر قوله سبحانه : (وَازْدَادُوا تِسْعاً) أنها أعوام.

__________________

(١) أخرجه الطبري (٨ / ٢٠٨) ، برقم : (٢٢٩٩٠) بنحوه ، وذكره ابن عطية (٣ / ٥٠٩) ، والبغوي (٣ / ١٥٧) ، وابن كثير (٣ / ٧٩) ، والسيوطي (٤ / ٣٩٤) ، وعزاه لسعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم ، وابن مردويه.

(٢) أخرجه الطبري (٨ / ٢٠٨) برقم : (٢٢٩٩٢) بنحوه ، وذكره ابن عطية (٣ / ٥٠٩) ، والبغوي (٣ / ١٥٧)

(٣) أخرجه الطبري (٨ / ٢٠٩) برقم : (٢٢٩٩٣) بلفظ : «عصيت» ، وذكره البغوي (٣ / ١٥٧) ، وابن كثير (٣ / ٧٩) ، والسيوطي (٤ / ٣٩٥) ، وعزاه لابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في «شعب الإيمان».

(٤) أخرجه الطبري (٨ / ٢١٠) برقم : (٢٢٩٩٦) بنحوه ، وذكره ابن عطية (٣ / ٥١٠) ، والبغوي (٣ / ١٥٧ ـ ١٥٨) ، وابن كثير (٣ / ٧٩) ، والسيوطي (٤ / ٣٩٦) ، وعزاه لابن أبي حاتم.

(٥) ينظر : «المحرر الوجيز» (٣ / ٥١٠)

٥١٩

وقوله سبحانه : (أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ) ، أي : ما أسمعه سبحانه ، وما أبصره ، قال قتادة : لا أحد أبصر من الله ، ولا أسمع (١).

قال* ع* (٢) وهذه عبارة عن الإدراك ، ويحتمل أن يكون المعنى : أبصر به أي : بوحيه وإرشاده ، هداك ، وحججك ، والحقّ من الأمور ، وأسمع به العالم ، فتكون اللفظتان / أمرين لا على وجه التعجّب.

وقوله سبحانه : (ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍ) : الضمير في (لَهُمْ) يحتمل أن يرجع إلى أهل الكهف ، ويحتمل أن يرجع إلى معاصري النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الكفّار ، ويكون في الآية تهديد لهم.

(وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٧) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً)(٢٨)

وقوله سبحانه : (اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ) ، أي : اتبع ، وقيل : اسرد بتلاوتك ما أوحي إليك من كتاب ربك ، لا نقض في قوله ، ولا مبدّل لكلماته ، وليس لك سواه جانب تميل إليه ، وتستند ، و «الملتحد» الجانب الذي يمال إليه ؛ ومنه اللّحد.

* ت* قال النوويّ : يستحبّ لتالي القرآن إذا كان منفردا أن يكون ختمه في الصّلاة ، ويستحبّ أن يكون ختمه أوّل الليل أو أول النهار ، وروّينا في مسند الإمام المجمع على حفظه وجلالته وإتقانه وبراعته أبي محمّد الدّارميّ رحمه‌الله تعالى ، عن سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه قال : إذا وافق ختم القرآن أوّل اللّيل ، صلّت عليه الملائكة حتّى يصبح ، وإن وافق ختمه أوّل النّهار صلّت عليه الملائكة حتّى يمسي (٣). قال الدارمي : هذا حديث حسن وعن طلحة بن مطرّف ، قال : من ختم القرآن أيّة ساعة كانت من النّهار ، صلّت عليه الملائكة حتّى يمسي ، وأيّة ساعة كانت من اللّيل ، صلّت عليه الملائكة حتّى يصبح ، وعن مجاهد نحوه انتهى.

__________________

(١) أخرجه الطبري (٨ / ٢١٢) برقم : (٢٣٠٠٦) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٥١٠) ، وابن كثير (٣ / ٨٠) ، والسيوطي (٤ / ٣٩٦) ، وعزاه لابن أبي حاتم.

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٣ / ٥١٠)

(٣) أخرجه الدارمي (٢ / ٤٧٠) كتاب «فضائل القرآن» باب : «في ختم القرآن».

٥٢٠